محمود عفيفى
12-07-2010, 10:11 PM
فيروس "أبي زيد"
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيروس غامض أصاب "نصر حامد أبو زيد" ظل بعدها طريح الفراش إلى أن جاءته سكرة الحق بالحق، ومن عجائب التدبير الإلهي أن يصيب هذا الفيروس مِن هذا الرجل دماغه الذي عارض به الوحي، وظل هذا الفيروس الغامض يأكل خلايا المخ حتى دمرها جميعًا في سابقة طبية عجيبة.
وكان من الطبيعي في المشاهير أمثاله أن تشيع جنازته في القاهرة، إلا أنه يبدو أن المحيطين به علموا أن أحدًا من رموز المجتمع لن يحضر، لا سيما ونحن على أعتاب انتخابات برلمانية لا يوجد مَنْ يريد أن يعادي "دين" الأمة بحضور جنازة واحد من أحد أبرز الطاعنين في دين الله في العصر الحديث، حتى الليبراليون المتأمركون -المحليون منهم والعالميون- استعملوا التقية السياسية، وعزفوا عن تشييع جنازته!
ذهبت الجنازة إلى البسطاء أملاً في أن يخرجوا إليها فرحة أن مِنْ قريتهم رجلاً مشهورًا، ولكن هل يمكن أن يحزن الناس على رجل نال شهرته من البول في ماء زمزم كحال الأعرابي الأحمق؟!
قاطع الناس جنازته، مع أن هؤلاء الناس قد يخرج بعضهم في جنازة عصاة من مغنيين وممثلين، مما يدل على أن الزنادقة أحقر عند الله وعند الناس من الفساق.
وكنا نود أن نكتفي بهذه العظة التي تتحدث عن نفسها دون أن نعيد النكت في كنيف أفكار الرجل؛ إلا أن بعض "سدنة البيت العالماني" أفزعهم هذا المصير المذل لصاحب لهم، فدبَّجوا المقالات في مدحه والثناء عليه، ونعي الرجل الذي أراد أن يحررنا من سلطان النص؛ فحاربه الإرهابيون واختطفه الموت، وكأنهم يريدون أن يردوا إليه بعض الاعتبار!
ونحن نقول لهم:
إذا استطعتم أن تنبشوا عليه قبره، فتخرجوه منه، وتصنعوا له جنازة عسكرية، وتدعوا إليها أهل الأرض جميعًا؛ فهل ترون ذلك ينفعه؟!
ألن تردوه إلى القبر ثانية؟!
ألن تتركوه وحيدًا ليس معه إلا ما قدَّم؟!
بل إن استطعتم أن تقيموا له حفلات تأبين، وأن تعيدوا نشر أعماله، وأن تحركوا الجهات الغربية المشبوهة التي منحته جوائزها في حياته أن يمنحوه كل جوائز الدنيا -"نوبل" فما دونها-؛ فلن يزيده ذلك إلا مضاعفة لسيئاته؛ فإن (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) (رواه مسلم).
عفوًا معشر العالمانيين..
انقطع عمل الرجل، وانقطعت علائقه بالدنيا، فلم يعد يصله منها إلا ثواب دعوة إلى الخير تجري، أو وزر دعوة شر تجري.
لو كانوا يحبون صاحبهم؛ لكفوا عن نشر سيئاته، وأمسكوا عنه حتى لا يُضاعفوا عليه العذاب، ولكنهم لا يهمهم صاحبهم بقدر ما تهمهم أنفسهم؛ فإنه ما من شيء يثير الرعب في نفس العالماني والمادي مثل: الموت، ولِمَ لا يخاف من الموت وهو لا يدري ماذا سيكون بعده؟! إذ أن عقله المريض قد منعه من الاستفادة بنور النص، فبقي حائرًا تائهًا "ليس يدري" كما قالها كبير لهم في قصيدة "لست أدري"، كلمات يمكن أن تصور لنا حيرته واضطرابه وعدم درايته بشيء!
ولكن المؤمنين المسلِّمين لنصوص الكتاب والسنة يدرون -بفضل الله- أن أرواحهم بيد الله؛ إن شاء قبضها، وإن شاء بسطها، بل يدركون أنهم يعاينون الوفاة الصغرى في كل يوم؛ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر:42).
ومن ثمَّ يقولون عند النوم -كما سنَّ لهم نبيهم-: (بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) (متفق عليه).
ويقولون عند الاستيقاظ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (متفق عليه).
والمؤمن يعرف أن لحظة النهاية لا بد وأن تأتى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران:185).
أهل المؤمنين لا يستعملون عبارات من جنس: "اختطفه الموت" ونحوها مما يقولها من لا يعرفون أن الأرواح يقبضها "مللك الموت" بأمر مالك الملك، ورب الأملاك -عز وجل-.
المؤمن يعرف أنِ القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
المؤمن يعرف أن السبيل بعد إما إلى جنة وإما إلى نار: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) (الشعراء:90-91).
هذه حقائق يعرفها عوام المسلمين منذ نعومة أظفارهم -بفضل الله تعالى-؛ فمنهم من يعمل لها فيُرجى له النجاة التامة، وتراه لا يخاف الموت إذا أتاه على فراش المرض، وجدته يواسي أهله بدلاً من أن يواسوه، ويعظهم بدلاً من أن يعظوه، ويوصيهم بآخرتهم وينهاهم عن أن يبكوا على دنياه!
وكم من مسلم من عامة المسلمين فضلاً عن عوامهم ألمَّ به داء عضال، حتى إذا أتاه أجله وجد المحيطون به نشاطًا، فقام وتوضأ وصلى وشهد الشهادتين وأوصى بأهله خيرًا، ثم أسلم الروح إلى بارئها!
فإذا سمع إخوانه جاءوه مشيعين مستغفرين؛ لأنهم يعرفون إلى أين يذهب، فيصلون عليه، ويقفون عند قبره، ويسألون الله له التثبيت، وأما هؤلاء الذين يشيعهم المتشككون فبماذا ينفعونهم؛ وهم لا يدرون، وربما ينكرون ما هم فيه، ولا يعرفون أن استغفار العبد لأخيه ينفعه -بفضل الله-؟!
بل إن عصاة المسلمين ممن علم هذه الحقائق وقصَّر في طاعة ربه كثيرًا ما يرزق توبة قبل الموت -بفضل الله تعالى-، وكثيرًا ما يتمكن من نطق الشهادتين في فراش الموت مرات مما يُرجى له معه المغفرة.
يا هؤلاء.. أنتم لا تخافون على صاحبكم؛ وإنما تفزعون حينما تدركون حجمكم الحقيقي عند الناس، عندما يتخلى عنكم من ورَّطكم في معاداة دينكم، كحال الشيطان تمامًا: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر:16).
يا هؤلاء.. فلتنفخوا في ذكر صاحبكم ما شئتم؛ فلن يزيده ذلك إلا خسارًا، ولن يزيدكم ذلك إلا قلقًا واضطرابًا!
ذهب "أبو زيد" ولم يسترشد بالنص الديني الذي عاداه؛ فلم يَعرف ما هو مقدم عليه، ولو كنا عند قبره لسألناه: "يا نصر أبا زيد، هل وجدت ما وعدك الله حقًا فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا؟!".
نعم وجدنا ما وعدنا ربنا -عز وجل- حقًا حين قال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون:8).
ووجدنا ما وعدنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حقًا حين قال: (وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
ووجدنا ما وعدنا ربنا حقًا حين قال: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ) (المدثر:31).
ألم يرسل الله عليك فيروسًا غامضًا -أسأل الله أن يسموه إذا علموه بفيروس أبي زيد-؟!
يا نصر أبو زيد.. "الجزاء من جنس العمل"؛ لقد كنتَ فيروسًا ينهش في قلب الأمة، ويسعى إلى تشكيك أبنائها في مصدر غذائهم ودوائهم، وهو: "القرآن الكريم"؛ إذ زعمتَ أنه بشري الصياغة والتأويل، ودعوت إلى نقده وتفنيده!
ولو أنك كنتَ متسميًا "بيتر" أو "بيريز" أو "مايكل" أو غيرها؛ لكنتَ في حس الأمة من الفيروسات المعروفة التي يعرفها جهاز المناعة، ويقاومها في منتهى السهولة، ولكنكَ تسللت في أسماء المسلمين، واعتليت كرسي التدريس لأبناء المسلمين في الجامعة.
ويعلم الله كم من طالب حديث السن غض الإهاب قد ناظرك وأفحمك على الملأ، ونافح عن دين الله؛ فما وجد منكَ غير الشتم والسب، والطرد من المحاضرة، ثم التربص في امتحان آخر العام، وهي وقائع معروفة لمن عاصر هذا الرجل مدرسًا في الجامعة.
حتى حاولت الترقي إلى درجة أستاذ؛ فسلط الله عليك من فضح عورك، وبيَّن عداوتك لدين الله -تعالى- وطعنك في كتابه، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
يا نصر أبو زيد.. أردت أن تكون فيروسًا فتاكًا لدين الأمة؛ فأرسل الله عليك "فيروسًا" من خلقه؛ ففتك بك، والعالم ينظر، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الأحزاب:62).
وأما معشر العالمانيين.. إذا كان مصيركم إلى القبر كما هو مصير كل الخلق، وربما كان الموت قبلها بفيروس، أو بانتحار، أو حتى بالسكتة القلبية، ونحن نقول لكم: إننا ندري -بحمد الله تعالى- ما يكون بعد هذا الموت، وأنتم لا تدرون، ولا أمل لكم أن تدروا؛ فلا ندري أي الفريقين أحق بالأمن؟! (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنعام:81)، ولا ندري مَنْ يتبع مَنْ: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم:43)؟!
قد تقولون: وما أدرانا أن الذي تدعون إليه هو الحق؟!
قلنا: إن كنتم مسلمين قلبًا وقالبًا فيلزمكم التصديق بالكتاب والسنة، وفيهما الإجابة على كل ما تهيمون في كل الأودية بحثًا عن إجابة له، وإن كنتم غير ذلك؛ دعوناكم إلى تدبر القرآن: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء:82).
من كان منكم من أهل الأدب والبلاغة؛ فلينظر إلى نظمه وبلاغته، وحسنه وطلاوته؛ يسري فيه إيقاع آخذ كالشعر مع أنه غير محصور الأغراض مثله، فهو يناظر وينافح، ويقرر ويجادل، ويجيب عن موضوعات حار الفلاسفة في جوابها، ويقرر أحكامًا حار العقلاء في تقريرها!
ومَنْ كان منكم من أهل الفلسفة؛ فليتدبر في أنه المصدر الوحيد الذي فيه ادعاء الإجابة عن يقين -لا عن ظن وتخمين- فيما كان قبل وجودنا وفيما يكون بعدها.
ومَنْ كان مشغولاً بإصلاح أحوال العباد؛ فلينظر في تشريعاته التي تزداد الأهمية إليها كلما تقدم بها الزمان: كتحريم الربا، والمقامرة، وبيع الغرر، الذي لو طبق؛ لعصم الدنيا من الأزمات العالمية، على خلاف المذاهب الوضعية التي يذهب بهاؤها ويظهر عورها كلما بعدنا عن الظروف التي وضعت فيها.
فيا معشر العالمانيين.. توبوا إلى ربكم، وأنيبوا إليه من قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيقول: ربِّ ارجعون.
وإذا قال قائل: بأي مستند حكمتم على الرجل بالزندقة؟!
قلنا: من أقواله المثبتة المدونة، والتي ثَبَتَ عليها حتى حكمت المحكمة بِردته؛ لما تضمنته كتبه مِن الطعن الصريح في القرآن، وادعاء أنه بشري الصياغة والتأويل، وإن تجمل وزعم أنه إلهي التنزيل؛ فجعل القرآن من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم نفى عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى في البلاغ؛ مما تترتب عليه ادعاؤه أن القرآن كلام بشري! -وهذا كفر بإجماع المسلمين-، وأن قائله ومفسره هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو عنده بشر يخطئ ويصيب حتى في إبلاغ الدين -وهذا كفر بإجماع المسلمين-.
وإننا لنعجب ممن يصر على أن خصوم الرجل هم الإرهابيون الظلاميون، مع أن التقرير الذي أدانه كتبه أساتذة في جامعة الأزهر؛ ألا تزعمون دائمًا أنكم تريدون رد المتطرفين إلى الفكر الوسطى الأزهري، أم أن حقيقة الأمر أنكم تريدون ردهم إلى الشك والحيرة والطعن في القرآن والسنة؟!
ثم إن الذي أصدر الحكم بكفره قضاءً يزعمون ليل نهار احترام أحكامه، ثم اتضح أنه لا يُطبق إلا على البسطاء، وعلى الإسلاميين، وأما العالمانيين؛ فيسخرون ويتهكمون على أحكام القضاء صراحة، حتى إن أحدهم أصر على عدم دفع غرامة موقعة عليه في قضية تشهير بداعية إسلامي احتجاجًا على هذا الحكم، وأما الكنيسة فتغيِّر القانون؛ ليوافق المتغيرات التي تطرأ على مواقف قادتها، ولا يبقى إلا الإسلاميون تُطبق عليهم القوانين الطبيعية والاستثنائية، ومع هذا فهم الموسومون عند العالمانيين بالظلاميين!
وقد يقول قائل: وهل ناظره أحد أو ناقشه؟!
نقول: إن العالمانيين يتسترون بأسوارهم العالية، يلقون زبالتهم من ورائها، ومهما ناديت عليهم أن كفوا عنا زبالتكم؛ امتنعوا عن الإجابة، أو زعموا أنك ظلامي لا تستطيع التمييز بين الغث والسمين، وأن الذي يلقون إليك هو الشهد بعينه الوارد مباشرة من الفلسفة اليونانية والرومانية، وأن إيمانك بالنص هو الذي صوَّر لك هذا الشهد زبلاً!
ومع هذا.. فالشخص المذكور خاصة ناظره من هم دونه في السن والتمرس في البحث العلمي من طلابه في الجامعة مرات وأفحموه؛ فما كان من هذا المستنير إلا طردهم وترسيبهم في امتحانات أخر العام.
ثم أتته الفرصة في أثناء محاكمته أن يبين كيف يجمع بين انتسابه المزعوم للإسلام والطعن في القرآن، بل امتنع في ساحة المحكمة حتى من النطق بالشهادتين مع أن النطق بها في حالة مَن يطعن في القرآن أو النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينفعه إلا بالتوبة من هذا الطعن.
وأما إذا أصر على طعنه فالمناقشة معه ومع كل كافر بالإسلام مثله حول القرآن وإعجازه تعج بها كتب ودراسات قديمة وحديثة؛ أعمى الله قلبه عن تدبرها!
وربما قال قائل: لعله قد تاب قبل الممات!
والجواب: إننا لم نؤمر أن نفتش عن قلوب الخلق، وهذا الرجل وأمثاله كثيرًا ما ينهون عن وجود محاكم تفتيش تفتش عن الاعتقادات المضمرة لمن يَمثل أمامها، وهذا في الجانبين وليس في جانب واحد، ومن ثمَّ فنحن لا ننسب مسلمًا لم يظهر منه طعن في الدين إلى النفاق، ولا ننسب طاعنًا في الدين لم تظهر منه توبة إلى أنه ربما يكون قد تاب؛ لا سيما إذا لم يبدُ عليه شيء من أمارات التوبة، ومع هذا فلو وجدنا أن المدافعين عنه باحتمال توبته قد نصحوا للأمة بأن كتبه فيها من الباطل والزور والمنكر ما فيها، وأنهم يرجون أن يكون قد تاب منها؛ لربما تركنا لهم الفرصة لكي ينصحوا للأمة ويحاولوا التقليل من جرم صاحبهم، وأما إذا كان المطلوب هو نشر هذه الزندقة؛ فلابد من التصدي لها.
وعلى أيٍّ؛ إذا مات الشخص ووري التراب لم يعد في محاكمته كشخصٍ كبيرُ فائدة، وصارت المحاكمة لفكره، حتى الذين تبين رجوعهم عن باطل قالوه ولكنه بقي بعدهم وجب على الأمة إنكار هذا الباطل مع ذكر توبة صاحبه منه.
ومما يُستشكل في حالة هذا المرض الغامض الذي أصاب هذا الرجل أن يقال: إنه المرض يصيب الصالح والطالح!
قلنا: نعم، ولكنه لا يكون إلا لذنب: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)، بيد أنه يُرجى للمؤمن أن يكون تخليصًا لذنوبه، حتى يلقى الله وليس عليه ذنب كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-.
وبالنسبة للمنافقين والزنادقة بل والفساق يكون من قبيل قوله -تعالى-: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة:21)، والعذاب الأدنى في الدنيا والقبر، ولذلك صار عذاب الدنيا جزءً منه لا كله، والعذاب الأكبر هو عذاب الآخرة.
ثم إن علامات حسن الخاتمة وسوئها لا تخفى على متأمل؛ فالمؤمن الذي يُبتلى بمرض عند موته يلهمه الله وأهله الصبر والشكر واليقين ونطق الشهادتين.
وأما الزنادقة؛ فيكون منهم وممن حولهم: الضجر والضيق والجزع والشكوى من تيار الموت الذي جرف صاحبهم واختطفه من أيديهم.
نسأل الله أن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين، وأن يرزقنا توبة نصوحًا قبل لقاء رب العالمين.
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيروس غامض أصاب "نصر حامد أبو زيد" ظل بعدها طريح الفراش إلى أن جاءته سكرة الحق بالحق، ومن عجائب التدبير الإلهي أن يصيب هذا الفيروس مِن هذا الرجل دماغه الذي عارض به الوحي، وظل هذا الفيروس الغامض يأكل خلايا المخ حتى دمرها جميعًا في سابقة طبية عجيبة.
وكان من الطبيعي في المشاهير أمثاله أن تشيع جنازته في القاهرة، إلا أنه يبدو أن المحيطين به علموا أن أحدًا من رموز المجتمع لن يحضر، لا سيما ونحن على أعتاب انتخابات برلمانية لا يوجد مَنْ يريد أن يعادي "دين" الأمة بحضور جنازة واحد من أحد أبرز الطاعنين في دين الله في العصر الحديث، حتى الليبراليون المتأمركون -المحليون منهم والعالميون- استعملوا التقية السياسية، وعزفوا عن تشييع جنازته!
ذهبت الجنازة إلى البسطاء أملاً في أن يخرجوا إليها فرحة أن مِنْ قريتهم رجلاً مشهورًا، ولكن هل يمكن أن يحزن الناس على رجل نال شهرته من البول في ماء زمزم كحال الأعرابي الأحمق؟!
قاطع الناس جنازته، مع أن هؤلاء الناس قد يخرج بعضهم في جنازة عصاة من مغنيين وممثلين، مما يدل على أن الزنادقة أحقر عند الله وعند الناس من الفساق.
وكنا نود أن نكتفي بهذه العظة التي تتحدث عن نفسها دون أن نعيد النكت في كنيف أفكار الرجل؛ إلا أن بعض "سدنة البيت العالماني" أفزعهم هذا المصير المذل لصاحب لهم، فدبَّجوا المقالات في مدحه والثناء عليه، ونعي الرجل الذي أراد أن يحررنا من سلطان النص؛ فحاربه الإرهابيون واختطفه الموت، وكأنهم يريدون أن يردوا إليه بعض الاعتبار!
ونحن نقول لهم:
إذا استطعتم أن تنبشوا عليه قبره، فتخرجوه منه، وتصنعوا له جنازة عسكرية، وتدعوا إليها أهل الأرض جميعًا؛ فهل ترون ذلك ينفعه؟!
ألن تردوه إلى القبر ثانية؟!
ألن تتركوه وحيدًا ليس معه إلا ما قدَّم؟!
بل إن استطعتم أن تقيموا له حفلات تأبين، وأن تعيدوا نشر أعماله، وأن تحركوا الجهات الغربية المشبوهة التي منحته جوائزها في حياته أن يمنحوه كل جوائز الدنيا -"نوبل" فما دونها-؛ فلن يزيده ذلك إلا مضاعفة لسيئاته؛ فإن (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) (رواه مسلم).
عفوًا معشر العالمانيين..
انقطع عمل الرجل، وانقطعت علائقه بالدنيا، فلم يعد يصله منها إلا ثواب دعوة إلى الخير تجري، أو وزر دعوة شر تجري.
لو كانوا يحبون صاحبهم؛ لكفوا عن نشر سيئاته، وأمسكوا عنه حتى لا يُضاعفوا عليه العذاب، ولكنهم لا يهمهم صاحبهم بقدر ما تهمهم أنفسهم؛ فإنه ما من شيء يثير الرعب في نفس العالماني والمادي مثل: الموت، ولِمَ لا يخاف من الموت وهو لا يدري ماذا سيكون بعده؟! إذ أن عقله المريض قد منعه من الاستفادة بنور النص، فبقي حائرًا تائهًا "ليس يدري" كما قالها كبير لهم في قصيدة "لست أدري"، كلمات يمكن أن تصور لنا حيرته واضطرابه وعدم درايته بشيء!
ولكن المؤمنين المسلِّمين لنصوص الكتاب والسنة يدرون -بفضل الله- أن أرواحهم بيد الله؛ إن شاء قبضها، وإن شاء بسطها، بل يدركون أنهم يعاينون الوفاة الصغرى في كل يوم؛ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر:42).
ومن ثمَّ يقولون عند النوم -كما سنَّ لهم نبيهم-: (بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) (متفق عليه).
ويقولون عند الاستيقاظ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (متفق عليه).
والمؤمن يعرف أن لحظة النهاية لا بد وأن تأتى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران:185).
أهل المؤمنين لا يستعملون عبارات من جنس: "اختطفه الموت" ونحوها مما يقولها من لا يعرفون أن الأرواح يقبضها "مللك الموت" بأمر مالك الملك، ورب الأملاك -عز وجل-.
المؤمن يعرف أنِ القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
المؤمن يعرف أن السبيل بعد إما إلى جنة وإما إلى نار: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) (الشعراء:90-91).
هذه حقائق يعرفها عوام المسلمين منذ نعومة أظفارهم -بفضل الله تعالى-؛ فمنهم من يعمل لها فيُرجى له النجاة التامة، وتراه لا يخاف الموت إذا أتاه على فراش المرض، وجدته يواسي أهله بدلاً من أن يواسوه، ويعظهم بدلاً من أن يعظوه، ويوصيهم بآخرتهم وينهاهم عن أن يبكوا على دنياه!
وكم من مسلم من عامة المسلمين فضلاً عن عوامهم ألمَّ به داء عضال، حتى إذا أتاه أجله وجد المحيطون به نشاطًا، فقام وتوضأ وصلى وشهد الشهادتين وأوصى بأهله خيرًا، ثم أسلم الروح إلى بارئها!
فإذا سمع إخوانه جاءوه مشيعين مستغفرين؛ لأنهم يعرفون إلى أين يذهب، فيصلون عليه، ويقفون عند قبره، ويسألون الله له التثبيت، وأما هؤلاء الذين يشيعهم المتشككون فبماذا ينفعونهم؛ وهم لا يدرون، وربما ينكرون ما هم فيه، ولا يعرفون أن استغفار العبد لأخيه ينفعه -بفضل الله-؟!
بل إن عصاة المسلمين ممن علم هذه الحقائق وقصَّر في طاعة ربه كثيرًا ما يرزق توبة قبل الموت -بفضل الله تعالى-، وكثيرًا ما يتمكن من نطق الشهادتين في فراش الموت مرات مما يُرجى له معه المغفرة.
يا هؤلاء.. أنتم لا تخافون على صاحبكم؛ وإنما تفزعون حينما تدركون حجمكم الحقيقي عند الناس، عندما يتخلى عنكم من ورَّطكم في معاداة دينكم، كحال الشيطان تمامًا: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر:16).
يا هؤلاء.. فلتنفخوا في ذكر صاحبكم ما شئتم؛ فلن يزيده ذلك إلا خسارًا، ولن يزيدكم ذلك إلا قلقًا واضطرابًا!
ذهب "أبو زيد" ولم يسترشد بالنص الديني الذي عاداه؛ فلم يَعرف ما هو مقدم عليه، ولو كنا عند قبره لسألناه: "يا نصر أبا زيد، هل وجدت ما وعدك الله حقًا فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا؟!".
نعم وجدنا ما وعدنا ربنا -عز وجل- حقًا حين قال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون:8).
ووجدنا ما وعدنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حقًا حين قال: (وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
ووجدنا ما وعدنا ربنا حقًا حين قال: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ) (المدثر:31).
ألم يرسل الله عليك فيروسًا غامضًا -أسأل الله أن يسموه إذا علموه بفيروس أبي زيد-؟!
يا نصر أبو زيد.. "الجزاء من جنس العمل"؛ لقد كنتَ فيروسًا ينهش في قلب الأمة، ويسعى إلى تشكيك أبنائها في مصدر غذائهم ودوائهم، وهو: "القرآن الكريم"؛ إذ زعمتَ أنه بشري الصياغة والتأويل، ودعوت إلى نقده وتفنيده!
ولو أنك كنتَ متسميًا "بيتر" أو "بيريز" أو "مايكل" أو غيرها؛ لكنتَ في حس الأمة من الفيروسات المعروفة التي يعرفها جهاز المناعة، ويقاومها في منتهى السهولة، ولكنكَ تسللت في أسماء المسلمين، واعتليت كرسي التدريس لأبناء المسلمين في الجامعة.
ويعلم الله كم من طالب حديث السن غض الإهاب قد ناظرك وأفحمك على الملأ، ونافح عن دين الله؛ فما وجد منكَ غير الشتم والسب، والطرد من المحاضرة، ثم التربص في امتحان آخر العام، وهي وقائع معروفة لمن عاصر هذا الرجل مدرسًا في الجامعة.
حتى حاولت الترقي إلى درجة أستاذ؛ فسلط الله عليك من فضح عورك، وبيَّن عداوتك لدين الله -تعالى- وطعنك في كتابه، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
يا نصر أبو زيد.. أردت أن تكون فيروسًا فتاكًا لدين الأمة؛ فأرسل الله عليك "فيروسًا" من خلقه؛ ففتك بك، والعالم ينظر، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الأحزاب:62).
وأما معشر العالمانيين.. إذا كان مصيركم إلى القبر كما هو مصير كل الخلق، وربما كان الموت قبلها بفيروس، أو بانتحار، أو حتى بالسكتة القلبية، ونحن نقول لكم: إننا ندري -بحمد الله تعالى- ما يكون بعد هذا الموت، وأنتم لا تدرون، ولا أمل لكم أن تدروا؛ فلا ندري أي الفريقين أحق بالأمن؟! (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنعام:81)، ولا ندري مَنْ يتبع مَنْ: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم:43)؟!
قد تقولون: وما أدرانا أن الذي تدعون إليه هو الحق؟!
قلنا: إن كنتم مسلمين قلبًا وقالبًا فيلزمكم التصديق بالكتاب والسنة، وفيهما الإجابة على كل ما تهيمون في كل الأودية بحثًا عن إجابة له، وإن كنتم غير ذلك؛ دعوناكم إلى تدبر القرآن: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء:82).
من كان منكم من أهل الأدب والبلاغة؛ فلينظر إلى نظمه وبلاغته، وحسنه وطلاوته؛ يسري فيه إيقاع آخذ كالشعر مع أنه غير محصور الأغراض مثله، فهو يناظر وينافح، ويقرر ويجادل، ويجيب عن موضوعات حار الفلاسفة في جوابها، ويقرر أحكامًا حار العقلاء في تقريرها!
ومَنْ كان منكم من أهل الفلسفة؛ فليتدبر في أنه المصدر الوحيد الذي فيه ادعاء الإجابة عن يقين -لا عن ظن وتخمين- فيما كان قبل وجودنا وفيما يكون بعدها.
ومَنْ كان مشغولاً بإصلاح أحوال العباد؛ فلينظر في تشريعاته التي تزداد الأهمية إليها كلما تقدم بها الزمان: كتحريم الربا، والمقامرة، وبيع الغرر، الذي لو طبق؛ لعصم الدنيا من الأزمات العالمية، على خلاف المذاهب الوضعية التي يذهب بهاؤها ويظهر عورها كلما بعدنا عن الظروف التي وضعت فيها.
فيا معشر العالمانيين.. توبوا إلى ربكم، وأنيبوا إليه من قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيقول: ربِّ ارجعون.
وإذا قال قائل: بأي مستند حكمتم على الرجل بالزندقة؟!
قلنا: من أقواله المثبتة المدونة، والتي ثَبَتَ عليها حتى حكمت المحكمة بِردته؛ لما تضمنته كتبه مِن الطعن الصريح في القرآن، وادعاء أنه بشري الصياغة والتأويل، وإن تجمل وزعم أنه إلهي التنزيل؛ فجعل القرآن من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم نفى عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى في البلاغ؛ مما تترتب عليه ادعاؤه أن القرآن كلام بشري! -وهذا كفر بإجماع المسلمين-، وأن قائله ومفسره هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو عنده بشر يخطئ ويصيب حتى في إبلاغ الدين -وهذا كفر بإجماع المسلمين-.
وإننا لنعجب ممن يصر على أن خصوم الرجل هم الإرهابيون الظلاميون، مع أن التقرير الذي أدانه كتبه أساتذة في جامعة الأزهر؛ ألا تزعمون دائمًا أنكم تريدون رد المتطرفين إلى الفكر الوسطى الأزهري، أم أن حقيقة الأمر أنكم تريدون ردهم إلى الشك والحيرة والطعن في القرآن والسنة؟!
ثم إن الذي أصدر الحكم بكفره قضاءً يزعمون ليل نهار احترام أحكامه، ثم اتضح أنه لا يُطبق إلا على البسطاء، وعلى الإسلاميين، وأما العالمانيين؛ فيسخرون ويتهكمون على أحكام القضاء صراحة، حتى إن أحدهم أصر على عدم دفع غرامة موقعة عليه في قضية تشهير بداعية إسلامي احتجاجًا على هذا الحكم، وأما الكنيسة فتغيِّر القانون؛ ليوافق المتغيرات التي تطرأ على مواقف قادتها، ولا يبقى إلا الإسلاميون تُطبق عليهم القوانين الطبيعية والاستثنائية، ومع هذا فهم الموسومون عند العالمانيين بالظلاميين!
وقد يقول قائل: وهل ناظره أحد أو ناقشه؟!
نقول: إن العالمانيين يتسترون بأسوارهم العالية، يلقون زبالتهم من ورائها، ومهما ناديت عليهم أن كفوا عنا زبالتكم؛ امتنعوا عن الإجابة، أو زعموا أنك ظلامي لا تستطيع التمييز بين الغث والسمين، وأن الذي يلقون إليك هو الشهد بعينه الوارد مباشرة من الفلسفة اليونانية والرومانية، وأن إيمانك بالنص هو الذي صوَّر لك هذا الشهد زبلاً!
ومع هذا.. فالشخص المذكور خاصة ناظره من هم دونه في السن والتمرس في البحث العلمي من طلابه في الجامعة مرات وأفحموه؛ فما كان من هذا المستنير إلا طردهم وترسيبهم في امتحانات أخر العام.
ثم أتته الفرصة في أثناء محاكمته أن يبين كيف يجمع بين انتسابه المزعوم للإسلام والطعن في القرآن، بل امتنع في ساحة المحكمة حتى من النطق بالشهادتين مع أن النطق بها في حالة مَن يطعن في القرآن أو النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينفعه إلا بالتوبة من هذا الطعن.
وأما إذا أصر على طعنه فالمناقشة معه ومع كل كافر بالإسلام مثله حول القرآن وإعجازه تعج بها كتب ودراسات قديمة وحديثة؛ أعمى الله قلبه عن تدبرها!
وربما قال قائل: لعله قد تاب قبل الممات!
والجواب: إننا لم نؤمر أن نفتش عن قلوب الخلق، وهذا الرجل وأمثاله كثيرًا ما ينهون عن وجود محاكم تفتيش تفتش عن الاعتقادات المضمرة لمن يَمثل أمامها، وهذا في الجانبين وليس في جانب واحد، ومن ثمَّ فنحن لا ننسب مسلمًا لم يظهر منه طعن في الدين إلى النفاق، ولا ننسب طاعنًا في الدين لم تظهر منه توبة إلى أنه ربما يكون قد تاب؛ لا سيما إذا لم يبدُ عليه شيء من أمارات التوبة، ومع هذا فلو وجدنا أن المدافعين عنه باحتمال توبته قد نصحوا للأمة بأن كتبه فيها من الباطل والزور والمنكر ما فيها، وأنهم يرجون أن يكون قد تاب منها؛ لربما تركنا لهم الفرصة لكي ينصحوا للأمة ويحاولوا التقليل من جرم صاحبهم، وأما إذا كان المطلوب هو نشر هذه الزندقة؛ فلابد من التصدي لها.
وعلى أيٍّ؛ إذا مات الشخص ووري التراب لم يعد في محاكمته كشخصٍ كبيرُ فائدة، وصارت المحاكمة لفكره، حتى الذين تبين رجوعهم عن باطل قالوه ولكنه بقي بعدهم وجب على الأمة إنكار هذا الباطل مع ذكر توبة صاحبه منه.
ومما يُستشكل في حالة هذا المرض الغامض الذي أصاب هذا الرجل أن يقال: إنه المرض يصيب الصالح والطالح!
قلنا: نعم، ولكنه لا يكون إلا لذنب: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)، بيد أنه يُرجى للمؤمن أن يكون تخليصًا لذنوبه، حتى يلقى الله وليس عليه ذنب كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-.
وبالنسبة للمنافقين والزنادقة بل والفساق يكون من قبيل قوله -تعالى-: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة:21)، والعذاب الأدنى في الدنيا والقبر، ولذلك صار عذاب الدنيا جزءً منه لا كله، والعذاب الأكبر هو عذاب الآخرة.
ثم إن علامات حسن الخاتمة وسوئها لا تخفى على متأمل؛ فالمؤمن الذي يُبتلى بمرض عند موته يلهمه الله وأهله الصبر والشكر واليقين ونطق الشهادتين.
وأما الزنادقة؛ فيكون منهم وممن حولهم: الضجر والضيق والجزع والشكوى من تيار الموت الذي جرف صاحبهم واختطفه من أيديهم.
نسأل الله أن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين، وأن يرزقنا توبة نصوحًا قبل لقاء رب العالمين.