ابو اميمة محمد
10-08-2010, 11:06 PM
من فقه الإمام الألباني
في مسائل الصيام
مستلة من كتاب "نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد"
لعبد اللطيف بن محمد بن أبي ربيع
إن الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله ؛ فلا مضل له ، ومن يضلل ؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد ؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد r ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
أما بعد :
فهذه فوائد من فقه الإمام الألباني - رحمه الله – حول بعض مسائل الصيام ، نقلتها من كتاب "نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد" لعبد اللطيف بن محمد بن أبي ربيع - جزاه الله خيراً - ، أسأل الله أن ينفع بها .
باب / وجوب الصوم والفطر مع الجماعة
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال : p الصوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون ، والأضحى يوم تضحون i.
صحيح . "الصحيحة" برقم (224) .
* فقه الحديث :
قال الترمذي عقب الحديث : ( وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث ، فقال : إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس ) .
وقال الصنعاني في "سبل السلام" (2/72) : ( فيه دليل على أن يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس ، وأن المتفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ، ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية ) .
وذكر معنى هذا ابن القيم - رحمه الله - في "تهذيب السنن" (3/214) ، وقال : ( وقيل : فيه الرد على من يقول : إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل ؛ جاز له أن يصوم ويفطر ؛ دون من لم يعلم ، وقيل : إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ، ولم يحكم القاضي بشهادته ، أنه لا يكون هذا له صوماً ، كما لم يكن للناس ) .
وقال أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجة" بعد أن ذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي :
( والظاهر أن معناه أن هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل ، وليس لهم التفرد فيها ، بل الأمر فيها إلى الإمام والجماعة ، ويجب على الآحاد اتباعهم للإمام والجماعة ، وعلى هذا ؛ فإذا رأى أحد الهلال ، ورد الإمام شهادته ؛ ينبغي أن لا يثبت في حقه شيء من هذه الأمور ، ويجب عليه أن يتبع الجماعة في ذلك ) .
قلت : وهذا المعنى المتبادر من الحديث ، ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق حين امتنع من صيام عرفة ؛ خشية أن يكون يوم النحر ، فبينت له أنه لا عبرة برأيه ، وأن عليه اتباع الجماعة، فقالت : ( النحر يوم ينحر الناس ، والفطر يوم يفطر الناس ) .
قلت : وهذا هو اللائق بالشريعة السمحة التي من غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم ، وإبعادهم عن كل ما يفرق جمعهم من الآراء الفردية ، فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد - ولو كان صواباً من وجهة نظره - في عبادة جماعية كالصوم والتعييد وصلاة الجماعة ، ألا ترى أن الصحابة - رضي الله عنهم - كان يصلي بعضهم وراء بعض وفيهم من يرى أن مس المرأة والعضو وخروج الدم من نواقض الوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يتم في السفر، ومنهم من يقصر؟!
فلم يكن اختلافهم هذا وغيره ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإمام الواحد ، والاعتداد بها ، وذلك لعلمهم بأن التفرق في الدين شر من الاختلاف في بعض الآراء ، ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأي المخالف لرأي الإمام الأعظم في المجتمع الأكبر كـــ ( منى ) ، إلى حد ترك العمل برأيه إطلاقاً في ذلك المجتمع ، فراراً مما قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه ، فروى أبو داود (1/307) أن عثمان - رضي الله عنه - صلى بمنى أربعاً ، فقال عبد الله بن
مسعود منكراً عليه : صليت مع النبي r ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها ، ثم تفرقت بكم الطرق ، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين .
ثم إن ابن مسعود صلى أربعاً ! فقيل له : عبت على عثمان ثم صليت أربعاً ؟ ! قال : الخلاف شر . وسنده صحيح .
وروى أحمد (5/155) نحو هذا عن أبي ذر - رضي الله عنهم أجمعين - .
فليتأمل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور أولئك الذين لا يزالون يتفرقون في صلواتهم ، ولا يقتدون ببعض أئمة المساجد ، وخاصة في صلاة الوتر في رمضان ، بحجة كونهم على خلاف مذهبهم ! وبعض أولئك الذين يدعون العلم بالفلك ممن يصوم وحده ويفطر وحده ؛ متقدماً أو متأخراً على جماعة المسلمين ، معتداً برأيه وعلمه، غير مبال بالخروج عنهم .
فليتأمل هؤلاء جميعاً فيما ذكرناه من العلم، لعلهم يجدون شفاء لما في نفوسهم من جهل وغرور، فيكونون صفاً واحداً مع إخوانهم المسلمين ؛ فإن يد الله مع الجماعة .
باب / متى يجوز صوم الفرض بنية النهار ؟
عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ؛ أن النبي r قال لرجل : مِن أسْلمَ : p أذن في قومك أو في الناس يوم عاشوراء : من ( كان ) أكل فليصم بقية يومه ( إلى الليل ) ، ومن لم يكن أكل فليصم i .
صحيح . "الصحيحة" برقم (2624) .
* من فقه الحديث :
في هذا الحديث فائدتان هامتان :
الأولى : أن صوم يوم عاشوراء كان في أول الأمر فرضاً ، وذلك ظاهر في الاهتمام به الوارد فيه ، والمتمثل في إعلان الأمر بصيامه ، والإمساك عن الطعام لمن كان أكل فيه ، وأمره بصيام بقية يومه ، فإن صوم التطوع لا يتصور فيه إمساك بعد الفطر كما قال ابن القيم - رحمه الله - في "تهذيب السنن" (3/327) .
وهناك أحاديث أخرى تؤكد أنه كان فرضاً ، وأنه لما فرض صيام شهر رمضان كان هو الفريضة كما في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما ، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" برقم (2110) .
والأخرى : أن من وجب عليه الصوم نهاراً ، كالمجنون يفيق ، والصبي يحتلم ، والكافر يسلم ، وكمن بلغه الخبر بأن هلال رمضان رؤي البارحة ، فهؤلاء يجزيهم النية من النهار حين الوجوب ، ولو بعد أن أكلوا أو شربوا ، فتكون هذه الحالة مستثناة من عموم قوله r : p من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له i ، وهو حديث صحيح كما حققته في "صحيح أبو داود" (2118) .
وإلى هذا الذي أفاده حديث الترجمة ذهب ابن حزم وابن تيمية والشوكاني وغيرهم من المحققين .
فإن قيل : الحديث ورد في صوم عاشوراء والدعوى أعم .
قلت : نعم ، وذلك بجامع الاشتراك في الفريضة ، ألست ترى أن الحنفية استدلوا به على جواز صوم رمضان بنية من نهار ، مع إمكان النية في الليل طبقاً لحديث أبي داود ، فالاستدلال به لما قلنا أولى كما لا يخفى على أولي النهى .
ولذلك قال المحقق أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجة" (1/528-529) ما مختصره :
( الأحاديث دالة على أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا ًمن جملتها هذا الحديث فإن هذا الاهتمام يقتضي الافتراض نعم ، الافتراض منسوخ بالاتفاق وشهادة الأحاديث على النسخ .
واستدل به على جواز صوم الفرض بنية من النهار ، لا يقال صوم عاشوراء منسوخ فلا يصح الاستدلال به . لأنّـا نقول : دل الحديث على شيئين : أحدهما : وجوب صوم عاشوراء ، والثاني : أن الصوم واجب في يوم بنية من نهار ، والمنسوخ هو الأول ، ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني ، ولا دليل على نسخه أيضاً .
بقي فيه بحث : وهو أن الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلوماً من الليل ، وإنما عُلِمَ من النهار ، وحينئذ صار اعتبار النية من النهار في حقهم ضرورياً ، كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشك ، فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة ) اهـ .
قلت : وهذا هو الحق الذي به تجتمع النصوص ، وهو خلاصة ما قال ابن حزم رحمه الله في "المحلى" (6/166) وقال عقبه :
( وبه قال جماعة من السلف كما روينا من طريق .. عبد الكريم الجزري أن قوماً شهدوا على الهلال بعد ما أصبح الناس ، فقال عمر بن عبد العزيز : من أكل فليمسك عن الطعام ، ومن لم يأكل فليصم بقية يومه ) .
قلت : وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/69) وسنده صحيح على شرط الشيخين .
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقال في "الاختيارات العلمية" (4/63- الكردي) :
( ويصح صوم الفرض بنية النهار إذا لم يعلم وجوبه بالليل ، كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار ، فإنه يتم بقية يومه ولا يلزمه قضاء وإن كان أكل ) .
وتبعه على ذلك المحقق ابن القيم ، والشوكاني ، فمن شاء زيادة بيان وتفصيل فليراجع "مجموع الفتاوى" لابن تيمية
(25/109 و117-118) ، و "زاد المعاد" لابن القيم (1/235) ، و "تهذيب السنن" له (3/328) ، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/167) .
وإذا تبين ما ذكرنا ، فإنه تزول مشكلة كبرى من مشاكل المسلمين اليوم ، ألا وهي اختلافهم في إثبات هلال رمضان بسبب اختلاف المطالع ؛ فإن من المعلوم أن الهلال حين يُرى في مكان فليس من الممكن أن يُرى في كل مكان ، كما إذا رؤي في المغرب فإنه لا يمكن أن يرى في المشرق ، وإذا كان الراجح عند العلماء أن حديث p صوموا لرؤيته . . i
إنما هو على عمومه، وأنه لا يصح تقييده باختلاف المطالع ، لأن هذه المطالع غير محددة ولا معينة ، لا شرعاً ولا قدراً، فالتقييد بمثله لا يصح ، وبناء على ذلك فمن الممكن اليوم تبليغ الرؤية إلى كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعة ونحوها ، وحينئذ فعَلَى كل من بلغته الرؤية أن يصوم ، ولو بلغته قبل غروب الشمس بقليل ، ولا قضاء عليه ، لأنه قد قام
بالواجب في حدود استطاعته ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والأمر بالقضاء لم يثبت كما سبقت الإشارة إليه ، ونرى أن من الواجب على الحكومات الإسلامية أن يوحدوا يوم صيامهم ويوم فطرهم ، كما يوحدون يوم حجهم ، ولريثما يتفقون على ذلك ، فلا نرى لشعوبهم أن يتفرقوا بينهم ، فبعضهم يصوم مع دولته ، وبعضهم مع الدولة الأخرى ، وذلك من باب درء المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما هو مقرر في علم الأصول . والله تعالى ولي التوفيق .
باب / صفة الفجر الذي يوجب الإمساك
عن طلق بن علي - رضي الله عنه - ؛ أن النبي r قال :
p كلوا واشربوا ، ولا يهيدنكم الساطع المصعد ، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر i .
حسن ، "الصحيحة" برقم (2031) .
* غريب الحديث :
قوله : p ولا يهيدنكم i : أي لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمتنعوا به عن السحور ؛ فإنه الصبح الكاذب .
وأصل ( الهيد ) : الحركة . "نهاية" .
* فائدة :
واعلم أنه لا منافاة بين وصفه r لضوء الفجر الصادق بــ ( الأحمر ) ، ووصفه - تعالى - إياه بقوله : الخيط الأبيض . . ؛ لأن المراد - والله أعلم - بياض مشوب بحمرة ، أو تارة يكون أبيض ، وتارة يكون أحمر ، يختلف ذلك باختلاف الفصول والمطالع .
وقد رأيت ذلك بنفسي مراراً من داري في ( جبل هملان ) جنوب شرق ( عمَّان ) ، ومكنني ذلك من التأكد من صحة ما ذكره بعض الغيورين على تصحيح عبادة المسلمين ، أن أذان الفجر في بعض البلاد العربية يُرفع قبل الفجر الصادق بزمن يتراوح بين العشرين والثلاثين دقيقة ، أي قبل الفجر الكاذب أيضاً ! وكثيراً ما سمعت إقامة صلاة الفجر من بعض المساجد مع طلوع الفجر الصادق ، وهم يؤذنون قبلها بنحو نصف ساعة ، وعلى ذلك فقد صلوا سنة الفجر قبل وقتها ، وقد يستعجلون بأداء الفريضة أيضاً قبل وقتها في شهر رمضان ، كما سمعته من إذاعة دمشق وأنا أتسحر رمضان الماضي (1406)، وفي ذلك تضييق على الناس بالتعجيل بالإمساك عن الطعام، وتعرض لصلاة الفجر للبطلان ، وما ذلك إلا بسبب اعتمادهم على التوقيت الفلكي ، وإعراضهم عن الطريق الشرعي : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، p فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر i ، وهذه ذكرى ، والذكرى تنفع المؤمنين .
باب / من السنة إفطار الصائم على لقيمات والمبادرة إلى صلاة المغرب
حديث : p ثلاث ليس عليهم حساب فيما طعموا إذا كان حلالاً ، الصائم ، والمتسحر ، والمرابط في سبيل الله i.
موضوع . "الضعيفة" برقم (631) .
* فائدة :
ولعل من آثار هذا الحديث السيئة ما عليه حال أكثر المسلمين اليوم ، فإنهم إذا جلسوا في رمضان للإفطار لا يعرف أحدهم أن يقوم عن الطعام إلا قبيل العشاء لكثرة ما يلتهم من أنواع الأطعمة والأشربة والفواكه والحلوى !
كيف لا والحديث يقول : إنه من الثلاثة الذين لا حساب عليهم فيما طعموا ! فجمعوا بسبب ذلك بين الإسراف المنهي عنه في الكتاب والسنة ، وبين تأخير صلاة المغرب المنهي عنه في قوله r : p لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم i صححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا ؛ فإن له طرقاً وشواهد أشرت إليها في "صحيح سنن أبي داود" (رقم 444) .
نعم، جاء الحض على تعجيل الفطر أيضاً في أحاديث كثيرة منها قوله r لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر i.
فيجب العمل بالحديثين بصورة لا يلزم منها تعطيل أحدهما من أجل الآخر ، وذلك بالمبادرة إلى الإفطار على لقيمات يسكن بها جوعه ثم يقوم إلى الصلاة ، ثم إن شاء عاد إلى الطعام حتى يقضي حاجته منه ، وقد جاء شيء من هذا في السنة العملية فقال أنس : p كان رسول الله r يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء i. رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، وهو في "صحيح أبي داود" برقم
(2040) ، وما قبله . متفق عليه ، وهو مخرج في "الإرواء" (899) .
باب / ما يستحب الإفطار عليه
عن أنس - رضي الله عنه - قال : p كان النبي r يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء i.
صحيح . "الصحيحة" برقم (2840) .
* فائدة :
والغرض من ذكري للحديث مع الإيجاز في التخريج إنما هو التذكير بهذه السنة التي أهملها أكثر الصائمين ، وبخاصة في الدعوات العامة التي يهيأ فيه ما لذ وطاب من الطعام والشراب ، أما الرطب أو التمر على الأقل فليس له ذكر .
وأنكر من ذلك ؛ إهمالهم الإفطار على حسوات من ماء ! فطوبى لمن كان من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب (الزمر:18) .
باب / نسخ النهي عن صوم الجنب
عن عبد الله بن عمرو القارئ قال : سمعت أبا هريرة يقول :
( لا ورب هذا البيت ، ما أنا قلت : p من أصبح جنبا فلا يصوم i . محمد ورب البيت قاله ، ما أنا نهيت عن صيام يوم الجمعة ، محمد نهى عنه ورب البيت ) .
صحيح "الصحيحة" تحت الحديث رقم (1112) .
* فائدة :
والنهي عن صوم الجنب منسوخ كما هو مبين في محله ، من كتب السنة وغيرها .
باب / عدم جواز الصوم في السفر إذا كان يضر بالصائم
عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال : مر النبي r برجل يقلب ظهره لبطنه ، فسأل عنه ، فقال : صائم يا نبي الله ! فأمره أن يفطر فقال : p أما يكفيك في سبيل الله ، ومع رسول الله r حتى تصوم ؟! i.
صحيح "الصحيحة" برقم (2595) .
* فائدة :
وفي الحديث دلالة ظاهرة على أنه لا يجوز الصوم في السفر إذا كان يضر بالصائم ، وعليه يحمل قوله r : p ليس من البر الصوم في السفر i، وقوله : p أولئك هم العصاة i ، وفيما سوى ذلك فهو مخير إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وهذا خلاصة ما تدل عليه أحاديث الباب ، فلا تعارض بينها والحمد لله .
باب / فضل المفطر على الصائم في السفر
(1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :
أُتي النبي r بطعام وهو بــ " مَر الظهران " ، فقال لأبي بكر وعمر : p ادنوا فكلا i، فقالا : إنا صائمان . فقال : p ارْحَلُوا لصاحبيكم ! واعملوا لصاحبيكم ! ادنوا فكُلا i .
صحيح . "الصحيحة" برقم (85) .
* فائدة :
والغرض من قوله r : p ارْحَلُوا لصاحبيكم . . i : الإنكار ، وبيان أن الأفضل أن يُفطرا ، ولا يُحْوِجا الناس إلى خدمتهما .
ويبين ذلك ما روى الفريابي (67/1) عن أبن عمر - رضي الله عنهما - قال : ( لا تصم في السفر ؛ فإنهم إذا أكلوا طعاماً ؛ قالوا : ارفعوا للصائم ! وإذا عملوا عملاً ؛ قالوا : اكفلوا للصائم ! فيذهبوا بأجرك ) . ورجاله ثقات .
قلت : ففي الحديث توجيه كريم إلى خُلُق قويم ، وهو الاعتماد على النفس ، وترك التواكل على الغير أو حملهم على خدمته ، ولو لسبب مشروع كالصيام .
أفليس في الحديث إذن رد واضح على أولئك الذين يستغلون علمهم ، فيحملون الناس على التسارع في خدمتهم ، حتى في حمل نعالهم ؟ !
ولئن قال بعضهم : لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يخدمون رسول الله r أحسن خدمة ، حتى كان فيهم من يحمل نعليه r ، وهو عبد الله بن مسعود .
فجوابنا : نعم ؛ ولكن هل احتجاجهم بهذا لأنفسهم إلا تزكية منهم لها ، واعتراف بأنهم ينظرون إليها على أنهم ورثته r في العلم حتى يصح لهم هذا القياس ؟ !
وإيم الله ؛ لو كان لديهم نص على أنهم الورثة ، لم يجز لهم هذا القياس ؛ فهؤلاء أصحابه r المشهود لهم بالخيرية
- وخاصة منهم العشرة المبشرين بالجنة - فقد كانوا خدام أنفسهم ، ولم يكن واحد منهم يُخْدَم من غيره عُشْر معشار ما يُخْدَم أولئك المعنيون من تلامذتهم ومريديهم ! فكيف وهم لا نص عندهم بذلك ؟ !
ولذلك فإني أقول : إن هذا القياس فاسد الاعتبار من أصله .
هدانا الله - تعالى - جميعاً سبيل التواضع والرشاد.
(2) عن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنهم - ؛ أنه قال : يا رسول الله ! أجد بي قوى على الصيام في السفر ؛ فهل على جناح ؟ فقال رسول الله r : p هي رخصة ( يعني : الفطر في السفر ) من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم ؛ فلا جناح عليه i .
صحيح . "الصحيحة" برقم (192) .
* فائدة :
قال مجد الدين ابن تيمية في "المنتقى" : ( وهو قوي الدلالة على فضيلة الفطر ) .
قلت : ووجه الدلالة قوله في الصائم : p فلا جناح عليه i؛ أي : لا أثم عليه ؛ فإنه يُشعر بمرجوحية الصيام كما هو ظاهر ، لا سيما مع مقابلته بقوله في الفطر : p فحسن i ، لكن هذا الظاهر غير مراد عندي ، والله أعلم ، وذلك لأن رفع الجناح في نص ما عن أمر ما لا يدل على أنه يجوز فعله وأنه لا حرج على فاعله ، وأما هل هذا الفعل مما يثاب عليه فاعله أو لا ، فشيء آخر ، لا يمكن أخذه من النص ذاته ، بل من نصوص أخرى خارجة عنه ، وهذا شيء معروف عند تتبع الأمور التي ورد رفع الجناح عن فاعلها ، وهي على قسمين :
أ - قسم منها يراد بها رفع الحرج فقط ، مع استواء الفعل والترك ، وهذا هو الغالب ، ومن أمثلته قوله r :
p خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحداة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور i .
صحيح . "الصحيحة" برقم (193) .
ومن الواضح أن المراد من رفع الجناح في هذا الحديث هو تجويز القتل ، ولا يفهم منه أن القتل مستحب أو واجب أو تركه أولى .
ب - وقسم يراد به رفع الحرج عن الفعل ، مع كونه في نفسه مشروعاً له فضيلة ، بل قد يكون واجباً ، وإنما يأتي النص برفع الحرج في هذا القسم دفعاً لوهم أو زعم من قد يظن الحرج في فعله ، ومن أمثلة هذا ما روى الزهري عن عروة قال : ( سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت لها : أرأيت قول الله - تعالى - : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة !
قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي ! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت : لا جناح عليه أن لا يطوف بهما ! ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل ، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فلما أسلموا ؛ سألوا رسول الله r عن ذلك ؛ قالوا : يا رسول الله ! إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوَّفَ بهما ، قالت - رضي الله عنها - : وقد سن رسول الله r الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) . أخرجه البخاري (1/414) ، وأحمد (6/144 و 227) .
إذا تبين هذا ؛ فقوله r في الحديث : p ومن أحب أن يصوم ؛ فلا جناح عليه i ؛ لا يدل إلا على رفع الإثم عن الصائم ، وليس فيه ما يدل على ترجيح الإفطار على الصيام .
ولكن إذا كان من المعلوم أن صوم رمضان في السفر عبادة ؛ بدليل صيامه r فيه ؛ فمن البديهي حينئذ أنه أمر مشروع حسن ، وإذا كان كذلك ؛ فإن وصف الإفطار في الحديث بأنه حسن لا يدل على أنه أحسن من الصيام ؛ لأن الصيام أيضاً حسن كما عرفت ، وحينئذ لا يدل على أفضلية الفطر المدعاة ، بل على أنه والصيام متماثلان .
ويؤكد ذلك حديث حمزة بن عمرو من رواية عائشة - رضي الله عنها - : أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله r فقال :يا رسول الله! إني رجل أسرد الصوم، فأصوم في السفر؟ قال صم إن شئت ، وأفطر إن شئت i.
صحيح . "الصحيحة" برقم (194) .
قلت : فخيره r بين الأمرين ، ولم يفضل أحدهما على الآخر ، والقصة واحدة ، فدل على أن الحديث ليس فيه الأفضلية المذكورة .
ويقابل هذه الدعوى قول الشيخ علي القاري في "المرقاة" إن الحديث دليل على أفضلية الصوم ، ثم تكلف في توجيه ذلك .
والحق أن الحديث يفيد التخيير لا التفضيل ، على ما ذكرناه من التفصيل .
نعم ؛ يمكن الاستدلال لتفضيل الإفطار على الصيام بالأحاديث التي تقول : p إن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يكره أن تُوتى معصيته ( وفي رواية : كما يحب أن تؤتى عزائمه ) i.
وهذا لا مناص من القول به ، لكن يمكن أن يقيد ذلك بمن لا يتحرج بالقضاء ، وليس عليه حرج في الأداء ، وإلا عادت الرخصة عليه بخلاف المقصود . فتأمل .
وأما حديث : p من أفطر ( يعني : في السفر ) فرخصة ، ومن صام فالصوم أفضل i فهو حديث شاذ لا يصح ، والصواب أنه موقوف على أنس ؛ كما بينته في "الأحاديث الضعيفة" (برقم 936) ، ولو صح ؛ لكان نصاً في محل النزاع لا يقبل الخلاف ، وهيهات ؛ فلا بد حينئذ من الاجتهاد والاستنباط ، وهو يقتضي خلاف ما أطلقه هذا الحديث الموقوف ، وهو التفصيل الذي ذكرته . والله الموفق .
(3) يُذكر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ؛ أن رسول الله r قال :
p من أفطر ( يعني في السفر ) فرخصة ، ومن صام فالصوم افضل i.
ضعيف شاذ ، "الضعيفة" برقم (932) .
* فائدة :
وقد أختلف العلماء ، في صوم رمضان في السفر على أقوال معروفة ، ولا شك أن الإفطار فيه رخصة ، والأخذ بها أحب إلينا إذا كان المفطر لا يتحرج من القضاء ، وإلا فالأحب لدينا حينئذ الصيام ، والله أعلم .
ومن شاء التوسع في هذه المسألة فليراجع "نيل الأوطار" أو غيره من كتب أهل العلم والتحقيق .
باب / سبب تخيير المسافر بين الصوم والإفطار
عن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - :
أنه سأل رسول الله r عن الصيام في السفر ؟ فقال : p أي ذلك عليك أيسر فافعل i يعني إفطار رمضان أو صيامه في السفر .
صحيح . "الصحيحة" برقم (2884) .
* فائدة :
وإنما آثرت تخريج هذا اللفظ هنا لعزة مصدره أولاً ، ولتضمنه سبب ترخيصه r وتخييره للمسافر بالصوم أو الإفطار ثانياً، وهو التيسير، والناس يختلفون في ذلك كل الاختلاف كما هو مشاهد ومعلوم من تباين قدراتهم وطبائعهم ، فبعضهم الأيسر له أن يصوم مع الناس ، ولا يقضي حين يكونون مفطرين ، وبعضهم لا يهمه ذلك فيفطر ترخصاً ثم يقضي، فصلى الله على النبي الأمي الذي أنزل عليه : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة :158) .
باب / مشروعية الاستياك للصائم في أي وقت شاء
حديث : p كان يستاك آخر النهار وهو صائم i.
باطل . "الضعيفة" برقم (402) .
* فائدة :
ويغني عن هذا الحديث في مشروعية السواك للصائم في أي وقت شاء أول النهار أو آخره عموم قوله r : p لولا أن أشق على أمتي ، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة i .
متفق عليه ، وهو مخرج في "الإرواء" رقم (70) .
وما أحسن ما روى الطبراني في "الكبير" (20/70/133) ، وفي "مسند الشاميين" (2250) بإسناد يحتمل التحسين عن عبد الرحمن بن غنم قال :
( سألت معاذ بن جبل : أأتسوك وأنا صائم ؟
قال : نعم . قال : أي النهار أتسوك ؟
قال : أي النهار شئت غدوة أو عشية .
قلت : إن الناس يكرهونه عشية ، ويقولون : إن رسول الله r قال لخلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك i؟
فقال : سبحان الله ! لقد أمرهم بالسواك ، وهو يعلم أنه لا بد أن يكون بفي الصائم خلوف وإن استاك ، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً ، ما في ذلك من الخير شيء ، بل فيه شر ، إلا من ابتلي ببلاء لا يجد منه بداً .
قلت : والغبار في سبيل الله أيضاً كذلك ؛ إنما يؤجر من اضطر إليه ، ولا يجد عنه محيصاً ؟
قال : نعم ، فأما من ألقى نفسه في البلاء عمداً ، فما له في ذلك من أجر ) .
وقال الحافظ في "التلخيص" (ص193) : ( إسناده جيد ) .
ثم قال الزيلعي :
( ويدخل فيه أيضاً من تكلف الدوران ، وكثرة المشي إلى المساجد ، بالنسبة إلى قوله r : p وكثرة الخُطا إلى المساجد i ، ومن يصنع في طلوع الشيب في شعره بالنسبة إلى قوله r : p من شاب شيبة في الإسلام i ؛ إنما يؤجر عليها من بلي بهما ) .
باب / هل الكحل والحقنة ( الإبرة ) من المفطرات ؟
يروى عن معبد بن هوذة - رضي الله عنه - عن النبي r قال :
ليتقه الصائم . يعني الكحل .
منكر . "الضعيفة" برقم (1014) .
* فائدة :
وقد ثبت عن أنس - رضي الله عنه - ؛ أنه كان يكتحل وهو صائم .أخرجه أبو داود بسند حسن .
وقال الحافظ في "التلخيص" (189) : ( لا بأس به ) .
وفي معناه أحاديث مرفوعة لا يصح منها شيء - كما قال الترمذي وغيره - ؛ ولكنها موافقة للبراءة الأصلية ، فلا ينقل عنها إلا بناقل صحيح ، وهذا مما لا وجود له ، وقد اختلف العلماء في الكحل للصائم ، وكذا الحقنة ونحوها ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "الصيام" (ص47) :
( فمنهم من لم يفطّر بشيء من ذلك ؛ ومنهم من فطر بالجميع إلا الكحل .
والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك ؛ فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام ، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها ، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه ، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي r في ذلك حديثاً صحيحاً مسنداً ولا مرسلاً ، عُلِم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك ، والحديث المروي في الكحل ضعيف ، رواه أبو داود ، ولم يروه غيره ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب ) .
ثم ساق هذا الحديث ، ثم قال :
( والذين قالوا : إن هذه الأمور تُفطر ، لم يكن معهم حجة عن النبي r وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس ، وأقوى ما احتجوا به قوله r : وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ، قالوا : فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يُفطّر الصائم إذا كان يفعله .
وعلى القياس : كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه .
والذين استثنوا الكحل قالوا: العين ليست كالقبُل والدُّبر ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء).
ثم قال : ( وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يَجُزْ إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه :
أحدها : إن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته ، فقد قلنا في"الأصول" :
إن الأحكام الشرعية بينتها النصوص أيضاً ، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية .
فإذا علمنا أن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه ، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب ، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد ، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء فعلمنا أنها ليست مُفطرة .
الثاني : أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول r بياناً عاماً ، ولا بد أن تنقلها الأمة ، فإذا انتفى هذا ، عُلِم أن هذا ليس من دينه .
وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان ، ولا حج ببيت غير البيت الحرام ، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس . وإن كان في مظنته خروج الخارج ، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة ، كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت .
وبهذه الطرق يُعلم أيضاً أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ، ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين ، من لم ينقل أحد عنه r بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك ، مع العلم بأن الناس كانوا ولا يزالون يحتجمون ويتقيؤون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك ، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد ، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك ) ( قال ) :
( فإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى ، لا بد أن يبنها الرسول r بياناً عاماً ، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك ، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى ، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب ، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي r كما بين الإفطار بغيره . فلما لم يبين ذلك ، علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن , والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ ، وينعقد أجساماً ، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ، ويتقوى به الإنسان ، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة ، فلما لم يُنهَ الصائم عن ذلك ، دل على جواز تطيبه وتبخره وادهانه ، وكذلك اكتحاله .
الوجه الثالث : إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحاً وذلك إما قياس على بابه الجامع ، وإما بإلغاء الفارق ، وإما أن يدل دليل على العلة في الأصل معد لها إلى الفرع ، وإما أن يُعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع ، وهذا القياس هنا منتف . وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن ما كان داخلاً من منفذ أو واصلاً إلى الجوف ، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله .
الوجه الرابع : إن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم إذا سبرنا أوصاف الأصل ، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين .
( قال ) : فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول بالحكم بهذا دون هذا .
ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض . والنبي r قد نهى المتوضىء عن المبالغة في الإستنشاق إذا كان صائماً، وقياسهم على الإستنشاق أقوى حججهم كما تقدم . وهو قياس ضعيف لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه ، وإلى جوفه ، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفم ، ويغذي بدنه من ذلك الماء ، ويزول العطش ، ويُطْبَخُ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء فلو لم يرد النص بذلك ، لَعُلِمَ بالعقل أن هذا من جنس الشرب، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم ، وذلك غير معتبر ، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يُفطّر ، فليس هو مُفطراً ولا جزءاً من المفطر لعدم تأثيره ، بل هو طريق إلى الفطر وليس كذلك الكحل والحقنة ، فإن الكحل لا يغذي ألبتة ، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا من فمه ، وكذلك الحقنة لا تغذي ، بل تستفرغ ما في البدن ، كما لو شم شيئاً من المسهلات ، أو فزِع فزعاً أوجب استطلاق جوفه ، وهي لا تصل إلى المعدة .
فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع ، فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما
ذكروه من الأوصاف ، معارض لهذه الأوصاف ، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة ، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا .
الوجه الخامس : أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع ، وقد ثبت عن النبي r أنه قال : ن الشيطان يجري من إبن أدم مجرى الدم ( 1 ). ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب . وإذا أكل وشرب اتسعت مجاري الشياطين ، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات ، وإلى ترك المنكرات ، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب ، والحكم ثابت على وفقه ، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره ، وهذا منتف في الحقنة والكحل وغير ذلك .
فإن قيل : بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دماً ؟
قيل : هذا كما قد يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دماً ، وكالدهن الذي يشربه الجسم. والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دماً ويتوزع على البدن .
الوجه السادس : ونجعل هذا وجهاً سادساً ( الأصل خامساً ) فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك ، لجامع ما يشتركان فيه ، مع أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن ويستحيل في المعدة دماً . وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مفطرة . وهذا موجود في محل النزاع " .
هذا كله من كلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - مع شيء من الاختصار ، أثرت نقله على ما فيه من بسط وتطويل ، لما فيه من الفوائد والتحقيقات التي لا توجد عند غيره ، فجزاه الله خيراً .
ومنه يتبين أن الصواب أن الكحل لا يفطر الصائم ، فهو بالنسبة إليه كالسواك يجوز أن يتعاطاه في أي وقت شاء ، خلافاً لما دل عليه هذا الحديث الضعيف الذي كان سببا مباشراً لصرف كثير من الناس عن الأخذ بالصواب الذي دل عليه التحقيق العلمي ، ولذلك عُنيت ببيان حال إسناده ، ومخالفته للفقه الصحيح ، والله الموفق .
ومما سبق يمكننا أن نأخذ حكم ما كثير السؤال عنه في هذا العصر، وطال النزاع فيه ، ألا وهو حكم الحقنة (الإبرة) في العضل أو العِرق، فالذي نرجحه أنه لا يفطر شيء من ذلك ، إلا ما كان المقصود منه تغذية المريض ، فهذه وحدها هي التي تفطر والله أعلم .
باب / قبول صوم رمضان غير متوقف على إخراج صدقة الفطر
يُذكر عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - أن النبي r قال :
شهر رمضان معلق بين السماء والأرض ، ولا يُرفع إلى الله ؛ إلا بزكاة الفطر .
ضعيف . "الضعيفة" برقم (43) .
* فائدة :
ثم إن الحديث لو صح لكان ظاهر الدلالة على أن قبول صوم رمضان متوقف على إخراج صدقة الفطر ، فمن لم يخرجها لم يقبل صومه ، ولا أعلم أحداً من أهل العلم يقول به ، والتأويل الذي نقلته آنفاً عن المقدسي بعيد جداً عن ظاهر الحديث ، على أن التأويل فرع التصحيح ، والحديث ليس بصحيح .
أقول هذا ، وأنا أعلم أن بعض المفتين ينشر هذا الحديث على الناس كلما أتى شهر رمضان ، وذلك من التساهل الذي كنا نطمع في أن يحذوا الناس منه ، فضلاً عن أن يقعوا فيه هم أنفسهم ! .
باب / الإفطار بغير عذر أثناء قضاء رمضان
عن أم هانىء - رضي الله عنها - : أن رسول الله r شرب شراباً ، فناولها لتشرب ، فقالت : إني صائمة ، ولكن كرهت أن أرد سؤرك ، فقال : إن كان قضاء من رمضان فاقضي يوماً مكانه ، وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضي ، وإن شئت فلا تقضي .
حسن . "الصحيحة" برقم (2802) .
* فائدة :
إنما خرجت هذا اللفظ هنا للنظر فيما ذكره الشوكاني حوله من الفقه ، فقد ذكر في "السيل الجرار" (2/151) عن صاحب "حدائق الأزهار" أنه قال فيمن يقضي ما عليه من الصيام فأفطر: أنه يأثم ، فرد عليه الشوكاني بهذا الحديث، فقال : ( وفيه دليل على جواز إفطار القاضي ويقضي يوماً مكانه ، وإن كان فيه المقال المتقدم ، ولكن الدليل على من قال : إنه لا يجوز إفطار القاضي ) .
وأقول :
أولاً : ليس في الحديث ما ادعاه من الجواز ، والأمر بالقضاء لا يستلزم جواز الإفطار فيه ، كما لا يخفى - إن شاء الله - تعالى - ، ألا ترى أنه لا يجوز الإفطار في رمضان بالجماع اتفاقاً ، ومع ذلك أمر r الذي أفطر به أن يقضي يوماً مكانه مع الكفارة ، وهو ثابت بمجوع طرقه كما بينته في "صحيح أبي داود" (2073) ، ولذلك قواه الحافظ وتبعه الشوكاني نفسه في "النيل" (4/184-185) وفي "السيل" (2/120-121) ، فأمْرُه r بالقضاء لأم هانىء لو كانت أفطرت منه لا يعني جواز ما فعلت ، فكيف وإفطارها كان من تطوع ؟
ثانياً : أنها قالت في رواية للترمذي وغيره :
( إني أذنبت فاستغفر لي ) ، فقال : وما ذاك ؟ ، قالت : ( كنت صائمة فأفطرتُ ) . فقال : أمِنْ قضاء كنت تقضينه ؟ ، قالت : ( لا ) .
فإذا اعترفت بخطئها في ظنها لم يبق مجال لينكر عليها إفطارها - ولو كان من القضاء - ولم يبق إلا أن يبين لها وجوب إعادته ، وهذا هو ما دل عليه الحديث .
وزاد أبو داود في رواية عَقِب ما تقدم : قال : فلا يضرك إن كان تطوعاً .
ومفهومه أنه يضرها لو كان قضاء , وهذا واضح إن شاء الله .
ثالثاً : الدليل هو اعتبار الأصل ، فكما لا يجوز إبطال الصيام في رمضان بدون عذر، فكذلك لا يجوز إفطار قضائه، ومن فرق فعليه الدليل .
رابعاً : لقد سلم الشوكاني في "النيل" (4/220) بصواب قول ابن المنير : ( ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله - تعالى - : ولا تبطلوا أعمالكم ، إلا أن الخاص يقدم على العام ، كحديث
سلمان . . ) .
إذا كان الأمر كذلك فتكون الآية بعمومها دليلاً واضحاً لنا عليه ، لعدم وجود الدليل المخصص لها فيما نحن فيه .
والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
باب / صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة
(1) كان يصلي في شهر رمضان في غير جماعة بعشرين ركعة والوتر .
موضوع . "الضعيفة" برقم (560) .
(2) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - :
أن النبي r لما أحيا بالناس ليلة في رمضان صلى ثماني ركعات ، وأوتر .
صحيح ، تحت حديث الترجمة الموضوع .
(3) وعن عائشة - رضي الله عنها - : ( أن رسول الله r خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد ، وصلى رجال بصلاته ، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه ، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله r فصلى بصلاته ) . الحديث نحو حديث جابر وفيه : ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها .
صحيح . تحت حديث الترجمة الموضوع .
* فائدة :
دل حديث عائشة وحديث جابر على مشروعية صلاة التراويح مع الجماعة ، وعلى أنها إحدى عشرة ركعة مع الوتر . وللأستاذ نسيب الرفاعي رسالة نافعة في تأييد ذلك اسمها "أوضح البيان فيما ثبت في السنة في قيام رمضان"
فننصح بالاطلاع عليها من شاء الوقوف على الحقيقة .
ثم إن أحد المنتصرين لصلاة العشرين ركعة - أصلحه الله - قام بالرد على الرسالة المذكورة في وريقات سماها "الإصابة في الانتصار للخلفاء الراشدين والصحابة" حشاها بالافتراءات ، والأحاديث الضعيفة بل الموضوعة ، والأقوال الواهية، الأمر الذي حملنا على تأليف رد عليه أسميته "تسديد الإصابة إلى من زعم نصرة الخلفاء الراشدين والصحابة" وقد قسمته إلى ستة رسائل طبع منها :
الأولى : في بيان الافتراءات المشار إليها .
الثانية : في "صلاة التراويح". وهي رسالة جامعة لكل ما يتعلق بهذه العبادة ، وقد بينت فيها ضعف ما يروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر بصلاة التراويح عشرين ركعة ، وأن الصحيح عنه أنه أمر بصلاتها إحدى عشرة ركعة وفقاً للسنة الصحيحة ، وأن أحداً من الصحابة لم يثبت عنه خلافها فلتراجع فإنها مهمة جداً وإنما علينا التذكير والنصيحة ( 1 ) .
باب / أين يعتكف المسلم ؟
عن أبي وائل قال : قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - لعبد الله ( يعني ابن مسعود - رضي الله عنه - ) :
(( قوم ) عُكُوفٌ بين دارك ودار أبي موسى لا تغيّر ( وفي رواية : لا تنهاهم )؟! وقد علمت أن رسول الله r قال : لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة .
فقال عبد الله : لعلك نسيت وحفظوا ، أو أخطأت وأصابوا ) .
صحيح . "الصحيحة" برقم (2786) .
* فائدة :
وقول ابن مسعود ليس نصاً في تخطئته لحذيفة في روايته للفظ الحديث ، بل لعله خطّأه في استدلاله به على العكوف الذي أنكره حذيفة ، لاحتمال أن يكون معنى الحديث عند ابن مسعود : لا اعتكاف كاملاً ، لقوله r : لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له والله أعلم .
واعلم أن العلماء اختلفوا في شرطية المسجد للاعتكاف وصفته كما تراه مبسوطاً في "الُمصَنَّفَيْن" المذكورين
( "مصنف عبد الرزاق (347-348/8016) و "مصنف" ابن أبي شيبة (3/91)) و "المحلى" وغيرها ، وليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله - تعالى - : وأنتم عاكفون في المساجد (البقرة :187) ، وهذا الحديث الصحيح ، والآية عامة ، والحديث خاص ، ومقتضى الأصول أن يُحْمَلَ العام على الخاص ، وعليه فالحديث مخصص للآية ومبين لها ، وعليه يدل كلام حذيفة وحديثه ، والآثار في ذلك مختلفة أيضاً ، فالأولى الأخذ بما وافق الحديث منها كقول سعيد بن المسيب : ( لا اعتكاف إلا في مسجد نبي ) .
أخرجه ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عنه .
ثم رأيت الذهبي قد روى الحديث في "سير أعلام النبلاء" (15/80) من طريق محمود بن آدم المروزي : حدثنا سفيان به مرفوعاً ، وقال : ( صحيح غريب الحال ) .
وعلق عليه الشيخ شعيب بعد ما عزاه للبيهقي وسعيد بن منصور بقوله : ( وقد انفرد حذيفة بتخصيص الاعتكاف في المساجد الثلاثة ) !
وهذا يبطله قول ابن المسيب المذكور فتنبه .
على أن قوله هذا يوهم أن الحديث موقوف على حذيفة ، وليس كذلك كما سبق تحقيقه ، فلا تغتر بمن لا غَيْرة له على حديث رسول الله r أن يُخالَف ، والله عز وجل يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (النور:63) .
في مسائل الصيام
مستلة من كتاب "نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد"
لعبد اللطيف بن محمد بن أبي ربيع
إن الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله ؛ فلا مضل له ، ومن يضلل ؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد ؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد r ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
أما بعد :
فهذه فوائد من فقه الإمام الألباني - رحمه الله – حول بعض مسائل الصيام ، نقلتها من كتاب "نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد" لعبد اللطيف بن محمد بن أبي ربيع - جزاه الله خيراً - ، أسأل الله أن ينفع بها .
باب / وجوب الصوم والفطر مع الجماعة
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال : p الصوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون ، والأضحى يوم تضحون i.
صحيح . "الصحيحة" برقم (224) .
* فقه الحديث :
قال الترمذي عقب الحديث : ( وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث ، فقال : إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس ) .
وقال الصنعاني في "سبل السلام" (2/72) : ( فيه دليل على أن يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس ، وأن المتفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ، ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية ) .
وذكر معنى هذا ابن القيم - رحمه الله - في "تهذيب السنن" (3/214) ، وقال : ( وقيل : فيه الرد على من يقول : إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل ؛ جاز له أن يصوم ويفطر ؛ دون من لم يعلم ، وقيل : إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ، ولم يحكم القاضي بشهادته ، أنه لا يكون هذا له صوماً ، كما لم يكن للناس ) .
وقال أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجة" بعد أن ذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي :
( والظاهر أن معناه أن هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل ، وليس لهم التفرد فيها ، بل الأمر فيها إلى الإمام والجماعة ، ويجب على الآحاد اتباعهم للإمام والجماعة ، وعلى هذا ؛ فإذا رأى أحد الهلال ، ورد الإمام شهادته ؛ ينبغي أن لا يثبت في حقه شيء من هذه الأمور ، ويجب عليه أن يتبع الجماعة في ذلك ) .
قلت : وهذا المعنى المتبادر من الحديث ، ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق حين امتنع من صيام عرفة ؛ خشية أن يكون يوم النحر ، فبينت له أنه لا عبرة برأيه ، وأن عليه اتباع الجماعة، فقالت : ( النحر يوم ينحر الناس ، والفطر يوم يفطر الناس ) .
قلت : وهذا هو اللائق بالشريعة السمحة التي من غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم ، وإبعادهم عن كل ما يفرق جمعهم من الآراء الفردية ، فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد - ولو كان صواباً من وجهة نظره - في عبادة جماعية كالصوم والتعييد وصلاة الجماعة ، ألا ترى أن الصحابة - رضي الله عنهم - كان يصلي بعضهم وراء بعض وفيهم من يرى أن مس المرأة والعضو وخروج الدم من نواقض الوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يتم في السفر، ومنهم من يقصر؟!
فلم يكن اختلافهم هذا وغيره ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإمام الواحد ، والاعتداد بها ، وذلك لعلمهم بأن التفرق في الدين شر من الاختلاف في بعض الآراء ، ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأي المخالف لرأي الإمام الأعظم في المجتمع الأكبر كـــ ( منى ) ، إلى حد ترك العمل برأيه إطلاقاً في ذلك المجتمع ، فراراً مما قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه ، فروى أبو داود (1/307) أن عثمان - رضي الله عنه - صلى بمنى أربعاً ، فقال عبد الله بن
مسعود منكراً عليه : صليت مع النبي r ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها ، ثم تفرقت بكم الطرق ، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين .
ثم إن ابن مسعود صلى أربعاً ! فقيل له : عبت على عثمان ثم صليت أربعاً ؟ ! قال : الخلاف شر . وسنده صحيح .
وروى أحمد (5/155) نحو هذا عن أبي ذر - رضي الله عنهم أجمعين - .
فليتأمل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور أولئك الذين لا يزالون يتفرقون في صلواتهم ، ولا يقتدون ببعض أئمة المساجد ، وخاصة في صلاة الوتر في رمضان ، بحجة كونهم على خلاف مذهبهم ! وبعض أولئك الذين يدعون العلم بالفلك ممن يصوم وحده ويفطر وحده ؛ متقدماً أو متأخراً على جماعة المسلمين ، معتداً برأيه وعلمه، غير مبال بالخروج عنهم .
فليتأمل هؤلاء جميعاً فيما ذكرناه من العلم، لعلهم يجدون شفاء لما في نفوسهم من جهل وغرور، فيكونون صفاً واحداً مع إخوانهم المسلمين ؛ فإن يد الله مع الجماعة .
باب / متى يجوز صوم الفرض بنية النهار ؟
عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ؛ أن النبي r قال لرجل : مِن أسْلمَ : p أذن في قومك أو في الناس يوم عاشوراء : من ( كان ) أكل فليصم بقية يومه ( إلى الليل ) ، ومن لم يكن أكل فليصم i .
صحيح . "الصحيحة" برقم (2624) .
* من فقه الحديث :
في هذا الحديث فائدتان هامتان :
الأولى : أن صوم يوم عاشوراء كان في أول الأمر فرضاً ، وذلك ظاهر في الاهتمام به الوارد فيه ، والمتمثل في إعلان الأمر بصيامه ، والإمساك عن الطعام لمن كان أكل فيه ، وأمره بصيام بقية يومه ، فإن صوم التطوع لا يتصور فيه إمساك بعد الفطر كما قال ابن القيم - رحمه الله - في "تهذيب السنن" (3/327) .
وهناك أحاديث أخرى تؤكد أنه كان فرضاً ، وأنه لما فرض صيام شهر رمضان كان هو الفريضة كما في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما ، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" برقم (2110) .
والأخرى : أن من وجب عليه الصوم نهاراً ، كالمجنون يفيق ، والصبي يحتلم ، والكافر يسلم ، وكمن بلغه الخبر بأن هلال رمضان رؤي البارحة ، فهؤلاء يجزيهم النية من النهار حين الوجوب ، ولو بعد أن أكلوا أو شربوا ، فتكون هذه الحالة مستثناة من عموم قوله r : p من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له i ، وهو حديث صحيح كما حققته في "صحيح أبو داود" (2118) .
وإلى هذا الذي أفاده حديث الترجمة ذهب ابن حزم وابن تيمية والشوكاني وغيرهم من المحققين .
فإن قيل : الحديث ورد في صوم عاشوراء والدعوى أعم .
قلت : نعم ، وذلك بجامع الاشتراك في الفريضة ، ألست ترى أن الحنفية استدلوا به على جواز صوم رمضان بنية من نهار ، مع إمكان النية في الليل طبقاً لحديث أبي داود ، فالاستدلال به لما قلنا أولى كما لا يخفى على أولي النهى .
ولذلك قال المحقق أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجة" (1/528-529) ما مختصره :
( الأحاديث دالة على أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا ًمن جملتها هذا الحديث فإن هذا الاهتمام يقتضي الافتراض نعم ، الافتراض منسوخ بالاتفاق وشهادة الأحاديث على النسخ .
واستدل به على جواز صوم الفرض بنية من النهار ، لا يقال صوم عاشوراء منسوخ فلا يصح الاستدلال به . لأنّـا نقول : دل الحديث على شيئين : أحدهما : وجوب صوم عاشوراء ، والثاني : أن الصوم واجب في يوم بنية من نهار ، والمنسوخ هو الأول ، ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني ، ولا دليل على نسخه أيضاً .
بقي فيه بحث : وهو أن الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلوماً من الليل ، وإنما عُلِمَ من النهار ، وحينئذ صار اعتبار النية من النهار في حقهم ضرورياً ، كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشك ، فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة ) اهـ .
قلت : وهذا هو الحق الذي به تجتمع النصوص ، وهو خلاصة ما قال ابن حزم رحمه الله في "المحلى" (6/166) وقال عقبه :
( وبه قال جماعة من السلف كما روينا من طريق .. عبد الكريم الجزري أن قوماً شهدوا على الهلال بعد ما أصبح الناس ، فقال عمر بن عبد العزيز : من أكل فليمسك عن الطعام ، ومن لم يأكل فليصم بقية يومه ) .
قلت : وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/69) وسنده صحيح على شرط الشيخين .
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقال في "الاختيارات العلمية" (4/63- الكردي) :
( ويصح صوم الفرض بنية النهار إذا لم يعلم وجوبه بالليل ، كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار ، فإنه يتم بقية يومه ولا يلزمه قضاء وإن كان أكل ) .
وتبعه على ذلك المحقق ابن القيم ، والشوكاني ، فمن شاء زيادة بيان وتفصيل فليراجع "مجموع الفتاوى" لابن تيمية
(25/109 و117-118) ، و "زاد المعاد" لابن القيم (1/235) ، و "تهذيب السنن" له (3/328) ، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/167) .
وإذا تبين ما ذكرنا ، فإنه تزول مشكلة كبرى من مشاكل المسلمين اليوم ، ألا وهي اختلافهم في إثبات هلال رمضان بسبب اختلاف المطالع ؛ فإن من المعلوم أن الهلال حين يُرى في مكان فليس من الممكن أن يُرى في كل مكان ، كما إذا رؤي في المغرب فإنه لا يمكن أن يرى في المشرق ، وإذا كان الراجح عند العلماء أن حديث p صوموا لرؤيته . . i
إنما هو على عمومه، وأنه لا يصح تقييده باختلاف المطالع ، لأن هذه المطالع غير محددة ولا معينة ، لا شرعاً ولا قدراً، فالتقييد بمثله لا يصح ، وبناء على ذلك فمن الممكن اليوم تبليغ الرؤية إلى كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعة ونحوها ، وحينئذ فعَلَى كل من بلغته الرؤية أن يصوم ، ولو بلغته قبل غروب الشمس بقليل ، ولا قضاء عليه ، لأنه قد قام
بالواجب في حدود استطاعته ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والأمر بالقضاء لم يثبت كما سبقت الإشارة إليه ، ونرى أن من الواجب على الحكومات الإسلامية أن يوحدوا يوم صيامهم ويوم فطرهم ، كما يوحدون يوم حجهم ، ولريثما يتفقون على ذلك ، فلا نرى لشعوبهم أن يتفرقوا بينهم ، فبعضهم يصوم مع دولته ، وبعضهم مع الدولة الأخرى ، وذلك من باب درء المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما هو مقرر في علم الأصول . والله تعالى ولي التوفيق .
باب / صفة الفجر الذي يوجب الإمساك
عن طلق بن علي - رضي الله عنه - ؛ أن النبي r قال :
p كلوا واشربوا ، ولا يهيدنكم الساطع المصعد ، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر i .
حسن ، "الصحيحة" برقم (2031) .
* غريب الحديث :
قوله : p ولا يهيدنكم i : أي لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمتنعوا به عن السحور ؛ فإنه الصبح الكاذب .
وأصل ( الهيد ) : الحركة . "نهاية" .
* فائدة :
واعلم أنه لا منافاة بين وصفه r لضوء الفجر الصادق بــ ( الأحمر ) ، ووصفه - تعالى - إياه بقوله : الخيط الأبيض . . ؛ لأن المراد - والله أعلم - بياض مشوب بحمرة ، أو تارة يكون أبيض ، وتارة يكون أحمر ، يختلف ذلك باختلاف الفصول والمطالع .
وقد رأيت ذلك بنفسي مراراً من داري في ( جبل هملان ) جنوب شرق ( عمَّان ) ، ومكنني ذلك من التأكد من صحة ما ذكره بعض الغيورين على تصحيح عبادة المسلمين ، أن أذان الفجر في بعض البلاد العربية يُرفع قبل الفجر الصادق بزمن يتراوح بين العشرين والثلاثين دقيقة ، أي قبل الفجر الكاذب أيضاً ! وكثيراً ما سمعت إقامة صلاة الفجر من بعض المساجد مع طلوع الفجر الصادق ، وهم يؤذنون قبلها بنحو نصف ساعة ، وعلى ذلك فقد صلوا سنة الفجر قبل وقتها ، وقد يستعجلون بأداء الفريضة أيضاً قبل وقتها في شهر رمضان ، كما سمعته من إذاعة دمشق وأنا أتسحر رمضان الماضي (1406)، وفي ذلك تضييق على الناس بالتعجيل بالإمساك عن الطعام، وتعرض لصلاة الفجر للبطلان ، وما ذلك إلا بسبب اعتمادهم على التوقيت الفلكي ، وإعراضهم عن الطريق الشرعي : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، p فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر i ، وهذه ذكرى ، والذكرى تنفع المؤمنين .
باب / من السنة إفطار الصائم على لقيمات والمبادرة إلى صلاة المغرب
حديث : p ثلاث ليس عليهم حساب فيما طعموا إذا كان حلالاً ، الصائم ، والمتسحر ، والمرابط في سبيل الله i.
موضوع . "الضعيفة" برقم (631) .
* فائدة :
ولعل من آثار هذا الحديث السيئة ما عليه حال أكثر المسلمين اليوم ، فإنهم إذا جلسوا في رمضان للإفطار لا يعرف أحدهم أن يقوم عن الطعام إلا قبيل العشاء لكثرة ما يلتهم من أنواع الأطعمة والأشربة والفواكه والحلوى !
كيف لا والحديث يقول : إنه من الثلاثة الذين لا حساب عليهم فيما طعموا ! فجمعوا بسبب ذلك بين الإسراف المنهي عنه في الكتاب والسنة ، وبين تأخير صلاة المغرب المنهي عنه في قوله r : p لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم i صححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا ؛ فإن له طرقاً وشواهد أشرت إليها في "صحيح سنن أبي داود" (رقم 444) .
نعم، جاء الحض على تعجيل الفطر أيضاً في أحاديث كثيرة منها قوله r لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر i.
فيجب العمل بالحديثين بصورة لا يلزم منها تعطيل أحدهما من أجل الآخر ، وذلك بالمبادرة إلى الإفطار على لقيمات يسكن بها جوعه ثم يقوم إلى الصلاة ، ثم إن شاء عاد إلى الطعام حتى يقضي حاجته منه ، وقد جاء شيء من هذا في السنة العملية فقال أنس : p كان رسول الله r يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء i. رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، وهو في "صحيح أبي داود" برقم
(2040) ، وما قبله . متفق عليه ، وهو مخرج في "الإرواء" (899) .
باب / ما يستحب الإفطار عليه
عن أنس - رضي الله عنه - قال : p كان النبي r يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء i.
صحيح . "الصحيحة" برقم (2840) .
* فائدة :
والغرض من ذكري للحديث مع الإيجاز في التخريج إنما هو التذكير بهذه السنة التي أهملها أكثر الصائمين ، وبخاصة في الدعوات العامة التي يهيأ فيه ما لذ وطاب من الطعام والشراب ، أما الرطب أو التمر على الأقل فليس له ذكر .
وأنكر من ذلك ؛ إهمالهم الإفطار على حسوات من ماء ! فطوبى لمن كان من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب (الزمر:18) .
باب / نسخ النهي عن صوم الجنب
عن عبد الله بن عمرو القارئ قال : سمعت أبا هريرة يقول :
( لا ورب هذا البيت ، ما أنا قلت : p من أصبح جنبا فلا يصوم i . محمد ورب البيت قاله ، ما أنا نهيت عن صيام يوم الجمعة ، محمد نهى عنه ورب البيت ) .
صحيح "الصحيحة" تحت الحديث رقم (1112) .
* فائدة :
والنهي عن صوم الجنب منسوخ كما هو مبين في محله ، من كتب السنة وغيرها .
باب / عدم جواز الصوم في السفر إذا كان يضر بالصائم
عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال : مر النبي r برجل يقلب ظهره لبطنه ، فسأل عنه ، فقال : صائم يا نبي الله ! فأمره أن يفطر فقال : p أما يكفيك في سبيل الله ، ومع رسول الله r حتى تصوم ؟! i.
صحيح "الصحيحة" برقم (2595) .
* فائدة :
وفي الحديث دلالة ظاهرة على أنه لا يجوز الصوم في السفر إذا كان يضر بالصائم ، وعليه يحمل قوله r : p ليس من البر الصوم في السفر i، وقوله : p أولئك هم العصاة i ، وفيما سوى ذلك فهو مخير إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وهذا خلاصة ما تدل عليه أحاديث الباب ، فلا تعارض بينها والحمد لله .
باب / فضل المفطر على الصائم في السفر
(1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :
أُتي النبي r بطعام وهو بــ " مَر الظهران " ، فقال لأبي بكر وعمر : p ادنوا فكلا i، فقالا : إنا صائمان . فقال : p ارْحَلُوا لصاحبيكم ! واعملوا لصاحبيكم ! ادنوا فكُلا i .
صحيح . "الصحيحة" برقم (85) .
* فائدة :
والغرض من قوله r : p ارْحَلُوا لصاحبيكم . . i : الإنكار ، وبيان أن الأفضل أن يُفطرا ، ولا يُحْوِجا الناس إلى خدمتهما .
ويبين ذلك ما روى الفريابي (67/1) عن أبن عمر - رضي الله عنهما - قال : ( لا تصم في السفر ؛ فإنهم إذا أكلوا طعاماً ؛ قالوا : ارفعوا للصائم ! وإذا عملوا عملاً ؛ قالوا : اكفلوا للصائم ! فيذهبوا بأجرك ) . ورجاله ثقات .
قلت : ففي الحديث توجيه كريم إلى خُلُق قويم ، وهو الاعتماد على النفس ، وترك التواكل على الغير أو حملهم على خدمته ، ولو لسبب مشروع كالصيام .
أفليس في الحديث إذن رد واضح على أولئك الذين يستغلون علمهم ، فيحملون الناس على التسارع في خدمتهم ، حتى في حمل نعالهم ؟ !
ولئن قال بعضهم : لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يخدمون رسول الله r أحسن خدمة ، حتى كان فيهم من يحمل نعليه r ، وهو عبد الله بن مسعود .
فجوابنا : نعم ؛ ولكن هل احتجاجهم بهذا لأنفسهم إلا تزكية منهم لها ، واعتراف بأنهم ينظرون إليها على أنهم ورثته r في العلم حتى يصح لهم هذا القياس ؟ !
وإيم الله ؛ لو كان لديهم نص على أنهم الورثة ، لم يجز لهم هذا القياس ؛ فهؤلاء أصحابه r المشهود لهم بالخيرية
- وخاصة منهم العشرة المبشرين بالجنة - فقد كانوا خدام أنفسهم ، ولم يكن واحد منهم يُخْدَم من غيره عُشْر معشار ما يُخْدَم أولئك المعنيون من تلامذتهم ومريديهم ! فكيف وهم لا نص عندهم بذلك ؟ !
ولذلك فإني أقول : إن هذا القياس فاسد الاعتبار من أصله .
هدانا الله - تعالى - جميعاً سبيل التواضع والرشاد.
(2) عن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنهم - ؛ أنه قال : يا رسول الله ! أجد بي قوى على الصيام في السفر ؛ فهل على جناح ؟ فقال رسول الله r : p هي رخصة ( يعني : الفطر في السفر ) من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم ؛ فلا جناح عليه i .
صحيح . "الصحيحة" برقم (192) .
* فائدة :
قال مجد الدين ابن تيمية في "المنتقى" : ( وهو قوي الدلالة على فضيلة الفطر ) .
قلت : ووجه الدلالة قوله في الصائم : p فلا جناح عليه i؛ أي : لا أثم عليه ؛ فإنه يُشعر بمرجوحية الصيام كما هو ظاهر ، لا سيما مع مقابلته بقوله في الفطر : p فحسن i ، لكن هذا الظاهر غير مراد عندي ، والله أعلم ، وذلك لأن رفع الجناح في نص ما عن أمر ما لا يدل على أنه يجوز فعله وأنه لا حرج على فاعله ، وأما هل هذا الفعل مما يثاب عليه فاعله أو لا ، فشيء آخر ، لا يمكن أخذه من النص ذاته ، بل من نصوص أخرى خارجة عنه ، وهذا شيء معروف عند تتبع الأمور التي ورد رفع الجناح عن فاعلها ، وهي على قسمين :
أ - قسم منها يراد بها رفع الحرج فقط ، مع استواء الفعل والترك ، وهذا هو الغالب ، ومن أمثلته قوله r :
p خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحداة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور i .
صحيح . "الصحيحة" برقم (193) .
ومن الواضح أن المراد من رفع الجناح في هذا الحديث هو تجويز القتل ، ولا يفهم منه أن القتل مستحب أو واجب أو تركه أولى .
ب - وقسم يراد به رفع الحرج عن الفعل ، مع كونه في نفسه مشروعاً له فضيلة ، بل قد يكون واجباً ، وإنما يأتي النص برفع الحرج في هذا القسم دفعاً لوهم أو زعم من قد يظن الحرج في فعله ، ومن أمثلة هذا ما روى الزهري عن عروة قال : ( سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت لها : أرأيت قول الله - تعالى - : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة !
قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي ! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت : لا جناح عليه أن لا يطوف بهما ! ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل ، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فلما أسلموا ؛ سألوا رسول الله r عن ذلك ؛ قالوا : يا رسول الله ! إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوَّفَ بهما ، قالت - رضي الله عنها - : وقد سن رسول الله r الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) . أخرجه البخاري (1/414) ، وأحمد (6/144 و 227) .
إذا تبين هذا ؛ فقوله r في الحديث : p ومن أحب أن يصوم ؛ فلا جناح عليه i ؛ لا يدل إلا على رفع الإثم عن الصائم ، وليس فيه ما يدل على ترجيح الإفطار على الصيام .
ولكن إذا كان من المعلوم أن صوم رمضان في السفر عبادة ؛ بدليل صيامه r فيه ؛ فمن البديهي حينئذ أنه أمر مشروع حسن ، وإذا كان كذلك ؛ فإن وصف الإفطار في الحديث بأنه حسن لا يدل على أنه أحسن من الصيام ؛ لأن الصيام أيضاً حسن كما عرفت ، وحينئذ لا يدل على أفضلية الفطر المدعاة ، بل على أنه والصيام متماثلان .
ويؤكد ذلك حديث حمزة بن عمرو من رواية عائشة - رضي الله عنها - : أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله r فقال :يا رسول الله! إني رجل أسرد الصوم، فأصوم في السفر؟ قال صم إن شئت ، وأفطر إن شئت i.
صحيح . "الصحيحة" برقم (194) .
قلت : فخيره r بين الأمرين ، ولم يفضل أحدهما على الآخر ، والقصة واحدة ، فدل على أن الحديث ليس فيه الأفضلية المذكورة .
ويقابل هذه الدعوى قول الشيخ علي القاري في "المرقاة" إن الحديث دليل على أفضلية الصوم ، ثم تكلف في توجيه ذلك .
والحق أن الحديث يفيد التخيير لا التفضيل ، على ما ذكرناه من التفصيل .
نعم ؛ يمكن الاستدلال لتفضيل الإفطار على الصيام بالأحاديث التي تقول : p إن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يكره أن تُوتى معصيته ( وفي رواية : كما يحب أن تؤتى عزائمه ) i.
وهذا لا مناص من القول به ، لكن يمكن أن يقيد ذلك بمن لا يتحرج بالقضاء ، وليس عليه حرج في الأداء ، وإلا عادت الرخصة عليه بخلاف المقصود . فتأمل .
وأما حديث : p من أفطر ( يعني : في السفر ) فرخصة ، ومن صام فالصوم أفضل i فهو حديث شاذ لا يصح ، والصواب أنه موقوف على أنس ؛ كما بينته في "الأحاديث الضعيفة" (برقم 936) ، ولو صح ؛ لكان نصاً في محل النزاع لا يقبل الخلاف ، وهيهات ؛ فلا بد حينئذ من الاجتهاد والاستنباط ، وهو يقتضي خلاف ما أطلقه هذا الحديث الموقوف ، وهو التفصيل الذي ذكرته . والله الموفق .
(3) يُذكر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ؛ أن رسول الله r قال :
p من أفطر ( يعني في السفر ) فرخصة ، ومن صام فالصوم افضل i.
ضعيف شاذ ، "الضعيفة" برقم (932) .
* فائدة :
وقد أختلف العلماء ، في صوم رمضان في السفر على أقوال معروفة ، ولا شك أن الإفطار فيه رخصة ، والأخذ بها أحب إلينا إذا كان المفطر لا يتحرج من القضاء ، وإلا فالأحب لدينا حينئذ الصيام ، والله أعلم .
ومن شاء التوسع في هذه المسألة فليراجع "نيل الأوطار" أو غيره من كتب أهل العلم والتحقيق .
باب / سبب تخيير المسافر بين الصوم والإفطار
عن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - :
أنه سأل رسول الله r عن الصيام في السفر ؟ فقال : p أي ذلك عليك أيسر فافعل i يعني إفطار رمضان أو صيامه في السفر .
صحيح . "الصحيحة" برقم (2884) .
* فائدة :
وإنما آثرت تخريج هذا اللفظ هنا لعزة مصدره أولاً ، ولتضمنه سبب ترخيصه r وتخييره للمسافر بالصوم أو الإفطار ثانياً، وهو التيسير، والناس يختلفون في ذلك كل الاختلاف كما هو مشاهد ومعلوم من تباين قدراتهم وطبائعهم ، فبعضهم الأيسر له أن يصوم مع الناس ، ولا يقضي حين يكونون مفطرين ، وبعضهم لا يهمه ذلك فيفطر ترخصاً ثم يقضي، فصلى الله على النبي الأمي الذي أنزل عليه : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة :158) .
باب / مشروعية الاستياك للصائم في أي وقت شاء
حديث : p كان يستاك آخر النهار وهو صائم i.
باطل . "الضعيفة" برقم (402) .
* فائدة :
ويغني عن هذا الحديث في مشروعية السواك للصائم في أي وقت شاء أول النهار أو آخره عموم قوله r : p لولا أن أشق على أمتي ، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة i .
متفق عليه ، وهو مخرج في "الإرواء" رقم (70) .
وما أحسن ما روى الطبراني في "الكبير" (20/70/133) ، وفي "مسند الشاميين" (2250) بإسناد يحتمل التحسين عن عبد الرحمن بن غنم قال :
( سألت معاذ بن جبل : أأتسوك وأنا صائم ؟
قال : نعم . قال : أي النهار أتسوك ؟
قال : أي النهار شئت غدوة أو عشية .
قلت : إن الناس يكرهونه عشية ، ويقولون : إن رسول الله r قال لخلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك i؟
فقال : سبحان الله ! لقد أمرهم بالسواك ، وهو يعلم أنه لا بد أن يكون بفي الصائم خلوف وإن استاك ، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً ، ما في ذلك من الخير شيء ، بل فيه شر ، إلا من ابتلي ببلاء لا يجد منه بداً .
قلت : والغبار في سبيل الله أيضاً كذلك ؛ إنما يؤجر من اضطر إليه ، ولا يجد عنه محيصاً ؟
قال : نعم ، فأما من ألقى نفسه في البلاء عمداً ، فما له في ذلك من أجر ) .
وقال الحافظ في "التلخيص" (ص193) : ( إسناده جيد ) .
ثم قال الزيلعي :
( ويدخل فيه أيضاً من تكلف الدوران ، وكثرة المشي إلى المساجد ، بالنسبة إلى قوله r : p وكثرة الخُطا إلى المساجد i ، ومن يصنع في طلوع الشيب في شعره بالنسبة إلى قوله r : p من شاب شيبة في الإسلام i ؛ إنما يؤجر عليها من بلي بهما ) .
باب / هل الكحل والحقنة ( الإبرة ) من المفطرات ؟
يروى عن معبد بن هوذة - رضي الله عنه - عن النبي r قال :
ليتقه الصائم . يعني الكحل .
منكر . "الضعيفة" برقم (1014) .
* فائدة :
وقد ثبت عن أنس - رضي الله عنه - ؛ أنه كان يكتحل وهو صائم .أخرجه أبو داود بسند حسن .
وقال الحافظ في "التلخيص" (189) : ( لا بأس به ) .
وفي معناه أحاديث مرفوعة لا يصح منها شيء - كما قال الترمذي وغيره - ؛ ولكنها موافقة للبراءة الأصلية ، فلا ينقل عنها إلا بناقل صحيح ، وهذا مما لا وجود له ، وقد اختلف العلماء في الكحل للصائم ، وكذا الحقنة ونحوها ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "الصيام" (ص47) :
( فمنهم من لم يفطّر بشيء من ذلك ؛ ومنهم من فطر بالجميع إلا الكحل .
والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك ؛ فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام ، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها ، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه ، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي r في ذلك حديثاً صحيحاً مسنداً ولا مرسلاً ، عُلِم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك ، والحديث المروي في الكحل ضعيف ، رواه أبو داود ، ولم يروه غيره ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب ) .
ثم ساق هذا الحديث ، ثم قال :
( والذين قالوا : إن هذه الأمور تُفطر ، لم يكن معهم حجة عن النبي r وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس ، وأقوى ما احتجوا به قوله r : وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ، قالوا : فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يُفطّر الصائم إذا كان يفعله .
وعلى القياس : كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه .
والذين استثنوا الكحل قالوا: العين ليست كالقبُل والدُّبر ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء).
ثم قال : ( وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يَجُزْ إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه :
أحدها : إن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته ، فقد قلنا في"الأصول" :
إن الأحكام الشرعية بينتها النصوص أيضاً ، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية .
فإذا علمنا أن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه ، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب ، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد ، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء فعلمنا أنها ليست مُفطرة .
الثاني : أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول r بياناً عاماً ، ولا بد أن تنقلها الأمة ، فإذا انتفى هذا ، عُلِم أن هذا ليس من دينه .
وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان ، ولا حج ببيت غير البيت الحرام ، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس . وإن كان في مظنته خروج الخارج ، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة ، كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت .
وبهذه الطرق يُعلم أيضاً أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ، ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين ، من لم ينقل أحد عنه r بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك ، مع العلم بأن الناس كانوا ولا يزالون يحتجمون ويتقيؤون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك ، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد ، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك ) ( قال ) :
( فإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى ، لا بد أن يبنها الرسول r بياناً عاماً ، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك ، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى ، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب ، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي r كما بين الإفطار بغيره . فلما لم يبين ذلك ، علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن , والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ ، وينعقد أجساماً ، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ، ويتقوى به الإنسان ، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة ، فلما لم يُنهَ الصائم عن ذلك ، دل على جواز تطيبه وتبخره وادهانه ، وكذلك اكتحاله .
الوجه الثالث : إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحاً وذلك إما قياس على بابه الجامع ، وإما بإلغاء الفارق ، وإما أن يدل دليل على العلة في الأصل معد لها إلى الفرع ، وإما أن يُعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع ، وهذا القياس هنا منتف . وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن ما كان داخلاً من منفذ أو واصلاً إلى الجوف ، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله .
الوجه الرابع : إن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم إذا سبرنا أوصاف الأصل ، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين .
( قال ) : فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول بالحكم بهذا دون هذا .
ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض . والنبي r قد نهى المتوضىء عن المبالغة في الإستنشاق إذا كان صائماً، وقياسهم على الإستنشاق أقوى حججهم كما تقدم . وهو قياس ضعيف لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه ، وإلى جوفه ، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفم ، ويغذي بدنه من ذلك الماء ، ويزول العطش ، ويُطْبَخُ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء فلو لم يرد النص بذلك ، لَعُلِمَ بالعقل أن هذا من جنس الشرب، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم ، وذلك غير معتبر ، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يُفطّر ، فليس هو مُفطراً ولا جزءاً من المفطر لعدم تأثيره ، بل هو طريق إلى الفطر وليس كذلك الكحل والحقنة ، فإن الكحل لا يغذي ألبتة ، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا من فمه ، وكذلك الحقنة لا تغذي ، بل تستفرغ ما في البدن ، كما لو شم شيئاً من المسهلات ، أو فزِع فزعاً أوجب استطلاق جوفه ، وهي لا تصل إلى المعدة .
فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع ، فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما
ذكروه من الأوصاف ، معارض لهذه الأوصاف ، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة ، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا .
الوجه الخامس : أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع ، وقد ثبت عن النبي r أنه قال : ن الشيطان يجري من إبن أدم مجرى الدم ( 1 ). ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب . وإذا أكل وشرب اتسعت مجاري الشياطين ، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات ، وإلى ترك المنكرات ، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب ، والحكم ثابت على وفقه ، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره ، وهذا منتف في الحقنة والكحل وغير ذلك .
فإن قيل : بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دماً ؟
قيل : هذا كما قد يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دماً ، وكالدهن الذي يشربه الجسم. والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دماً ويتوزع على البدن .
الوجه السادس : ونجعل هذا وجهاً سادساً ( الأصل خامساً ) فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك ، لجامع ما يشتركان فيه ، مع أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن ويستحيل في المعدة دماً . وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مفطرة . وهذا موجود في محل النزاع " .
هذا كله من كلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - مع شيء من الاختصار ، أثرت نقله على ما فيه من بسط وتطويل ، لما فيه من الفوائد والتحقيقات التي لا توجد عند غيره ، فجزاه الله خيراً .
ومنه يتبين أن الصواب أن الكحل لا يفطر الصائم ، فهو بالنسبة إليه كالسواك يجوز أن يتعاطاه في أي وقت شاء ، خلافاً لما دل عليه هذا الحديث الضعيف الذي كان سببا مباشراً لصرف كثير من الناس عن الأخذ بالصواب الذي دل عليه التحقيق العلمي ، ولذلك عُنيت ببيان حال إسناده ، ومخالفته للفقه الصحيح ، والله الموفق .
ومما سبق يمكننا أن نأخذ حكم ما كثير السؤال عنه في هذا العصر، وطال النزاع فيه ، ألا وهو حكم الحقنة (الإبرة) في العضل أو العِرق، فالذي نرجحه أنه لا يفطر شيء من ذلك ، إلا ما كان المقصود منه تغذية المريض ، فهذه وحدها هي التي تفطر والله أعلم .
باب / قبول صوم رمضان غير متوقف على إخراج صدقة الفطر
يُذكر عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - أن النبي r قال :
شهر رمضان معلق بين السماء والأرض ، ولا يُرفع إلى الله ؛ إلا بزكاة الفطر .
ضعيف . "الضعيفة" برقم (43) .
* فائدة :
ثم إن الحديث لو صح لكان ظاهر الدلالة على أن قبول صوم رمضان متوقف على إخراج صدقة الفطر ، فمن لم يخرجها لم يقبل صومه ، ولا أعلم أحداً من أهل العلم يقول به ، والتأويل الذي نقلته آنفاً عن المقدسي بعيد جداً عن ظاهر الحديث ، على أن التأويل فرع التصحيح ، والحديث ليس بصحيح .
أقول هذا ، وأنا أعلم أن بعض المفتين ينشر هذا الحديث على الناس كلما أتى شهر رمضان ، وذلك من التساهل الذي كنا نطمع في أن يحذوا الناس منه ، فضلاً عن أن يقعوا فيه هم أنفسهم ! .
باب / الإفطار بغير عذر أثناء قضاء رمضان
عن أم هانىء - رضي الله عنها - : أن رسول الله r شرب شراباً ، فناولها لتشرب ، فقالت : إني صائمة ، ولكن كرهت أن أرد سؤرك ، فقال : إن كان قضاء من رمضان فاقضي يوماً مكانه ، وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضي ، وإن شئت فلا تقضي .
حسن . "الصحيحة" برقم (2802) .
* فائدة :
إنما خرجت هذا اللفظ هنا للنظر فيما ذكره الشوكاني حوله من الفقه ، فقد ذكر في "السيل الجرار" (2/151) عن صاحب "حدائق الأزهار" أنه قال فيمن يقضي ما عليه من الصيام فأفطر: أنه يأثم ، فرد عليه الشوكاني بهذا الحديث، فقال : ( وفيه دليل على جواز إفطار القاضي ويقضي يوماً مكانه ، وإن كان فيه المقال المتقدم ، ولكن الدليل على من قال : إنه لا يجوز إفطار القاضي ) .
وأقول :
أولاً : ليس في الحديث ما ادعاه من الجواز ، والأمر بالقضاء لا يستلزم جواز الإفطار فيه ، كما لا يخفى - إن شاء الله - تعالى - ، ألا ترى أنه لا يجوز الإفطار في رمضان بالجماع اتفاقاً ، ومع ذلك أمر r الذي أفطر به أن يقضي يوماً مكانه مع الكفارة ، وهو ثابت بمجوع طرقه كما بينته في "صحيح أبي داود" (2073) ، ولذلك قواه الحافظ وتبعه الشوكاني نفسه في "النيل" (4/184-185) وفي "السيل" (2/120-121) ، فأمْرُه r بالقضاء لأم هانىء لو كانت أفطرت منه لا يعني جواز ما فعلت ، فكيف وإفطارها كان من تطوع ؟
ثانياً : أنها قالت في رواية للترمذي وغيره :
( إني أذنبت فاستغفر لي ) ، فقال : وما ذاك ؟ ، قالت : ( كنت صائمة فأفطرتُ ) . فقال : أمِنْ قضاء كنت تقضينه ؟ ، قالت : ( لا ) .
فإذا اعترفت بخطئها في ظنها لم يبق مجال لينكر عليها إفطارها - ولو كان من القضاء - ولم يبق إلا أن يبين لها وجوب إعادته ، وهذا هو ما دل عليه الحديث .
وزاد أبو داود في رواية عَقِب ما تقدم : قال : فلا يضرك إن كان تطوعاً .
ومفهومه أنه يضرها لو كان قضاء , وهذا واضح إن شاء الله .
ثالثاً : الدليل هو اعتبار الأصل ، فكما لا يجوز إبطال الصيام في رمضان بدون عذر، فكذلك لا يجوز إفطار قضائه، ومن فرق فعليه الدليل .
رابعاً : لقد سلم الشوكاني في "النيل" (4/220) بصواب قول ابن المنير : ( ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله - تعالى - : ولا تبطلوا أعمالكم ، إلا أن الخاص يقدم على العام ، كحديث
سلمان . . ) .
إذا كان الأمر كذلك فتكون الآية بعمومها دليلاً واضحاً لنا عليه ، لعدم وجود الدليل المخصص لها فيما نحن فيه .
والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
باب / صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة
(1) كان يصلي في شهر رمضان في غير جماعة بعشرين ركعة والوتر .
موضوع . "الضعيفة" برقم (560) .
(2) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - :
أن النبي r لما أحيا بالناس ليلة في رمضان صلى ثماني ركعات ، وأوتر .
صحيح ، تحت حديث الترجمة الموضوع .
(3) وعن عائشة - رضي الله عنها - : ( أن رسول الله r خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد ، وصلى رجال بصلاته ، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه ، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله r فصلى بصلاته ) . الحديث نحو حديث جابر وفيه : ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها .
صحيح . تحت حديث الترجمة الموضوع .
* فائدة :
دل حديث عائشة وحديث جابر على مشروعية صلاة التراويح مع الجماعة ، وعلى أنها إحدى عشرة ركعة مع الوتر . وللأستاذ نسيب الرفاعي رسالة نافعة في تأييد ذلك اسمها "أوضح البيان فيما ثبت في السنة في قيام رمضان"
فننصح بالاطلاع عليها من شاء الوقوف على الحقيقة .
ثم إن أحد المنتصرين لصلاة العشرين ركعة - أصلحه الله - قام بالرد على الرسالة المذكورة في وريقات سماها "الإصابة في الانتصار للخلفاء الراشدين والصحابة" حشاها بالافتراءات ، والأحاديث الضعيفة بل الموضوعة ، والأقوال الواهية، الأمر الذي حملنا على تأليف رد عليه أسميته "تسديد الإصابة إلى من زعم نصرة الخلفاء الراشدين والصحابة" وقد قسمته إلى ستة رسائل طبع منها :
الأولى : في بيان الافتراءات المشار إليها .
الثانية : في "صلاة التراويح". وهي رسالة جامعة لكل ما يتعلق بهذه العبادة ، وقد بينت فيها ضعف ما يروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر بصلاة التراويح عشرين ركعة ، وأن الصحيح عنه أنه أمر بصلاتها إحدى عشرة ركعة وفقاً للسنة الصحيحة ، وأن أحداً من الصحابة لم يثبت عنه خلافها فلتراجع فإنها مهمة جداً وإنما علينا التذكير والنصيحة ( 1 ) .
باب / أين يعتكف المسلم ؟
عن أبي وائل قال : قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - لعبد الله ( يعني ابن مسعود - رضي الله عنه - ) :
(( قوم ) عُكُوفٌ بين دارك ودار أبي موسى لا تغيّر ( وفي رواية : لا تنهاهم )؟! وقد علمت أن رسول الله r قال : لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة .
فقال عبد الله : لعلك نسيت وحفظوا ، أو أخطأت وأصابوا ) .
صحيح . "الصحيحة" برقم (2786) .
* فائدة :
وقول ابن مسعود ليس نصاً في تخطئته لحذيفة في روايته للفظ الحديث ، بل لعله خطّأه في استدلاله به على العكوف الذي أنكره حذيفة ، لاحتمال أن يكون معنى الحديث عند ابن مسعود : لا اعتكاف كاملاً ، لقوله r : لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له والله أعلم .
واعلم أن العلماء اختلفوا في شرطية المسجد للاعتكاف وصفته كما تراه مبسوطاً في "الُمصَنَّفَيْن" المذكورين
( "مصنف عبد الرزاق (347-348/8016) و "مصنف" ابن أبي شيبة (3/91)) و "المحلى" وغيرها ، وليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله - تعالى - : وأنتم عاكفون في المساجد (البقرة :187) ، وهذا الحديث الصحيح ، والآية عامة ، والحديث خاص ، ومقتضى الأصول أن يُحْمَلَ العام على الخاص ، وعليه فالحديث مخصص للآية ومبين لها ، وعليه يدل كلام حذيفة وحديثه ، والآثار في ذلك مختلفة أيضاً ، فالأولى الأخذ بما وافق الحديث منها كقول سعيد بن المسيب : ( لا اعتكاف إلا في مسجد نبي ) .
أخرجه ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عنه .
ثم رأيت الذهبي قد روى الحديث في "سير أعلام النبلاء" (15/80) من طريق محمود بن آدم المروزي : حدثنا سفيان به مرفوعاً ، وقال : ( صحيح غريب الحال ) .
وعلق عليه الشيخ شعيب بعد ما عزاه للبيهقي وسعيد بن منصور بقوله : ( وقد انفرد حذيفة بتخصيص الاعتكاف في المساجد الثلاثة ) !
وهذا يبطله قول ابن المسيب المذكور فتنبه .
على أن قوله هذا يوهم أن الحديث موقوف على حذيفة ، وليس كذلك كما سبق تحقيقه ، فلا تغتر بمن لا غَيْرة له على حديث رسول الله r أن يُخالَف ، والله عز وجل يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (النور:63) .