أبــويـحـيـى
15-01-2011, 09:09 PM
http://www.picmool.com/images/944_4.gif
الإهــداء
إلى رحابك دبجّنا رسائلنا=تكاد تُحرق من أشواقنا لهبا
يا قارئ الحرف أهديناك أحرفنا=وقبلها قد بعثنا الدمع منسكبا
شوقاً إليك فهل ترضى محبتنا=مهراً وإلا بعثنا القلب والهدَبا
فغيرنا بمداد الحبر قد كتبوا=ومن دمانا كتبنا الشعر والخطبا
عنــوان الـمؤلـــف
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن=أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
وفي ربى مكة تأريخ ملحمة=على ثراها بنينا العالم الثاني
في طيبة المصطفى عهدي وموعظتي=هناك ينسج تاريخي وعرفاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا=بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي=وفي الجزائر إخواني وتطواني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا=بدايتي وبه قد شع قرآني
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت=آياتاها فاقرؤوا يا قوم عنواني
فأينما ذكر اسم الله في بلدٍ=عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
مـقـدمـــة المقـامَــات
بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا
الحمد لله وليّ النعمة ، دافع النقمة ، ما غرّد طائر بنغمة ، وهبّ صبح بنسمة، وتلألأت على ثغرٍ بسمة ، والصلاة والسلام على من زيّن ببيانه الكلام ، وأذهل بفصاحته الأنام، وطرق بوعظه الأيام ، سلالة النجب ، وصفوة العرب، أجلّ من خطب ، صاحب الحسب والنسب ، محطم الأصنام والنصب ، وعلى آله والأصحاب ، ما لمع سراب ، وهمع سحاب ، وقرئ كتاب ، وبعد :
فقد أشار عليّ الشيخ الأريب ، والشاعر الأديب ، الدكتور / أحمد بن علي القرني الأستاذ بالجامعة الإسلامية بكتابة مقامات ، هي على الفضل علامات ، فقلت له صاحب ذلك قدْ مات ، ولم يبق إلا حاسد وشمّات .
فذكرني بشريط مصارع العشّاق ، وقال : كلّ لمثله مشتاق ، فإنه للقلوب ترياق ، وليس لك عذر ولو التفت الساق بالساق ، وأحضر لي من حرصه الدفاتر ، والخاطر قبل مجيئه فاتر ، فأجّلت تفكيري ، وقد اشتعل في ليل رأسي صبح نذيري ، وقد سبقني لهذا الهمداني والحريري ، ولكن على الله المعوّل ، وكما قال الأول :
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة=لكنتُ شفيت النفس قبل التندمِ
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا=بكاها مكان الفضل للمتقدّمِ
وقد قلت لصاحبنا لا جرم أنك استسمنت ذا ورم ، وهذه سنة أهل الكرم ، والخاطر شذر مذر ، من شجون لا تبقي ولا تذر ،
ولا أقول بعدت علينا الشقة ، ولكن كما قال أبو الطيب : لولا المشقة ، واعرف أن من البشر ، كشجرة العشر ،
أعدى من السوس ، وأشأم من البسوس ، يأتي على غرة ، ويبحث عن العثرة ، ويقص الجُرّة ، ولو اعتذرت لنا عنده سبعين مرة .
فأقول للمادحين ، كونوا ناصحين ، وكما قيل فعين الرضا ، والمحب يمشي على جمر الغضا ،
وأقول للقادحين ، كونوا مازحين ، وتذكروا : وإذا أتتك مذمتي ، واجعلوا الخطأ في ذمتي ، فقد شابت لمتي
، فإن عثر جواد بياني ، وتلعثم لساني ، فالعيب من زماني ، فما أدركت حسّان ، وما صاحبت سحبان ، وما دخلت على النعمان ،
وما لقيت صُنّاع الألفاظ ، في سوق عكاظ . ولكنني مع أقوام ، على الأدب أيتام ،
كلما لمع فيهم متكلم وظهر ، وقال إن الله مبتليكم من البيان بنهر ، قالوا إنما يعلمه بشر ، ولولا سواه ما اشتهر ،
فيقول الحال : لكل عين قذى ، ولن يضروكم إلا أذى ، فجِدّوا كما جَدّوا ، أو سُدوا المكان الذي سَدوا .
فكم نال الحساد صاحب الأدب ، وأنه ليس له في البلاغة نسب ، وما له في الفصاحة حسب ، وجاءوا على قميصه بدم كذب .
وكم انبعث من أهل البلادة أشقاها ، فصاح بهم رسول البيان ناقة الله وسقياها . وعسى عصا موسى البيان ، تكسر رأس فرعون الطغيان .
وإذا ألقى قميص يوسف الملاحة ، على بصر يعقوب الفصاحة ، نادى لسان حال المتكلمين : ادخلوا مصر الإبداع آمنين .
وقد طاولت بهذه المقامات قامات ، ولامست بها هامات ، وكلما قابلني هامّات وطامّات ، قلت : أعوذ بكلمات الله التامّات .
وسوف يقرؤها صاحب ورع بارد ، وذهن جامد فيتأفف ، ويتأسف ، ويقول الرجل تكلّف وتعسّف ،
فأقول : ماذا بعشك يا حمامة فادرجي ، فقد جعلت القلم واللسان أوسي وخزرجي ،
وعلمت أنه مع كل بانٍ هادم ، ومن راقب الناس فهو النادم ، وقد عاب المخلوق الخالق فقال تعالى : ( يسبني ابن آدم ) .
وإذا أراد الله لعمل بشر أن ينتشر ، قيض الله له أهل خير وشر ، فصاحب الخير له نصير ، وظهير ، وخفير ، ووزير .
وصاحب الشر سبّاب عيّاب ، له من الحسد ناب ، وله من العداوة مخلاب .
وانظر إلى المعصوم ، كيف ابتلي بالخصوم ، شق الله له القمر ، فقالوا هذا سحر مستمر ،
ولما جمع قريشاً وخطبها ، قالوا أساطير الأولين اكتتبها
ولقد سبقني إلى هذا الفن أعلام ، لهم في الحكمة أقدام ، وفي حومة البيان أعلام ، وفي طروس الفصاحة أقلام .
فمنهم من خص بمقاماته الأدب ، وثانٍ في ذكر من ذهب ، وثالثٌ في الحب ، ورابعٌ في الطب .
أما أنا فأطلقت للقلم زمامه ، وسَرَّحت خطامه ، وأزحت لثامه ، ليكتب في فنون ، ويسيل في شجون ،
ذاكراً من سلف ومن خلف ، آخذاً من كل حكمة بطرف ، وربما لمحت في المقال ، بعض الخيال ، فلا تُبدِ لنا قسوة ، فلي في ذلك أسوة ،
فإن الأمم استنطقت الجمادات ، واستفهمت العجماوات ، وقوّلت الكلامَ الحيوانات ، وكلّمت الأطلال ،
ونسبت الحديث إلى الشجر والتلال ، تعريضاً وتلميحا، ونسبة وتصريحا .
وللعجم من ذلك ما يبهر ، ككتب بزجر جمهر ، وللروم في ذلك تآليف ، وللهنود في هذا الفن تصانيف ،
ورأيت كتب اليونان ، وصاحب الإيوان ، والمانوية من أسلاف اليابان ، كلها تنسب القول للحيوان
، وتضيف وتنقل الخطاب بغير الإنسان ، حُبّاً للسلامة ، وخوفاً من الندامة .
ثم جاء العرب ، روّاد الأدب ، فأطربونا بكلام الحمام ، في الحب والغرام ، ونقلوا في الأمالي ، عتاب الطلل البالي ،
وأتحفونا بحِوار الأطيار ، وإظهار أسرار الديار ، حتى أسندوا الأخبار للأشجار .
فيا صاحب الدراية ، إن رأيت في هذه المقامات رواية ، فقد قصدت النفع ، ومن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل ،
وقد أحلتك على ما سلف ، ومن أحيل على مليء فليحتل.
وقد جانبت في هذه المقامات التجريح ، سواءً بالتلميح أو بالتصريح ، ودبجتها بالثناء والمديح ،
لأن القول اللين ، والخلق الهين ، يجلب الود ، ويزيل الصد ، وكسر القلوب غلط ، وجرح المخاطَب شطط ،
فهنا ملاينة لا مداهنة ، وليس الخبر كالمعاينة ، ومداراة لا مجاراة ، ولي في هذه المقامات رسائل ، ومن العلم مسائل .
وفيها عبر وسير ، وأشعار وأخبار ، وشجون وفنون ، وفكاهات وملاطفات ، ومشجيات ومبكيات ، ومحفوظات وعظات ،
فلا تحكم بمقامة على كل المقامات ، بل طالع الجميع ليكون حكمك موات ، فإن الروض ألوان ، والشجر صنوان وغير صنوان ،
والتنويع مدعاة لإثارة الذهن البارد ، ولن نصبر على طعام واحد .
وقد جانبت فيها الهمز ، والغمز واللمز ، فلا مصلحة لنا في التعرض للأشخاص والأجناس ، أو تتبع عثرات الناس ،
بل نحن أحوج إلى جبر القلوب ، ودفن العيوب ، لأن مرد الكل إلى علام الغيوب . ومن وجد نقصاً فليعف عنا ، ومن غشنا فليس منا .
خذها من القلب لو أن الدجى صبغت=ثيابه بسناها المشرق الغالي
لصار نوراً كأن الشمس طلعته=والبدر وَمْضته في حُسْن إجلالي
وقد قرأت هذه المقامات على علماء وأدباء ، وشعراء وفضلاء ، طلباً للاستفادة ، وحرصاً على الزيادة ،
وقد استفدت من كل جمع ضم مجلسنا ، وشاورت كل صاحبٍ كان يؤنسنا ، لأن مشاورة الأخيار ، تلقيح للأفكار ،
وفي يوم الثلاثاء 21/5/1420هـ اجتمعنا بشيخنا العلامة الفطين ، صاحب الدر الثمين ، محمد الصالح بن عثيمين ،
وكان اللقاء في الرياض ، والأنس قد فاض ، فقرأت عليه مقدمة المقامات ، فاستحسن ما أوردته من كلمات ،
ثم قرأت عليه المقامة النحوية ، وبها لطائف نديّة ، فأضاف بعض الإضافات ، وأتحفنا ببيت من المحفوظات . نقلته في تلك المقامة ، من ذلك العلامة .
وعسى ربي أن ينفعني بما كتبت ، وأن يحقق لي ما أمّلت ، من الفوز برضوانه ، وسكنى جنانه ، فقد اتصف بالعفو وكتبه ، ورحمته سبقت غضبه :
ولو سُفكت منا الدماء بحبكم=لطِرنا مع الأشواق من لذة القتل
وأسأل الله أن يجعل هذه المقامات ، بكل فضل ملمّات ، وأن يجعلها بالحسن رائعة ، وبالفضل ذائعة ، وبالبر شائعة ، وبالأنس ماتعة ،
وبالنور ساطعة ، وبالجمال لامعة ، ولكل خير جامعة ، وعن كل سوء مانعة ، وللجدل قاطعة .
محلاة بالفوائد ، مزينة بالقلائد ، متوّجة بالفرائد ، مزدانة بالشوارد ، كالماء الزلال لكل صادر ووارد ،
تضمرها العقائد ، وتنشرها القصائد ، وصلى الله وسلم على صفوة الحواضر والبوادي ، الذي تشرفت بذكره النوادي ،
فهو الهادي ، وإلى كل فضل منادي ، وعلى آله البررة ، والأربعة الخيرة ، وبقية العشرة ، وأهل الشجرة
((مـــحـــبــكــــم أبــــــــــــــويــــحــ ـيـــــى))
الإهــداء
إلى رحابك دبجّنا رسائلنا=تكاد تُحرق من أشواقنا لهبا
يا قارئ الحرف أهديناك أحرفنا=وقبلها قد بعثنا الدمع منسكبا
شوقاً إليك فهل ترضى محبتنا=مهراً وإلا بعثنا القلب والهدَبا
فغيرنا بمداد الحبر قد كتبوا=ومن دمانا كتبنا الشعر والخطبا
عنــوان الـمؤلـــف
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن=أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
وفي ربى مكة تأريخ ملحمة=على ثراها بنينا العالم الثاني
في طيبة المصطفى عهدي وموعظتي=هناك ينسج تاريخي وعرفاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا=بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي=وفي الجزائر إخواني وتطواني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا=بدايتي وبه قد شع قرآني
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت=آياتاها فاقرؤوا يا قوم عنواني
فأينما ذكر اسم الله في بلدٍ=عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
مـقـدمـــة المقـامَــات
بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا
الحمد لله وليّ النعمة ، دافع النقمة ، ما غرّد طائر بنغمة ، وهبّ صبح بنسمة، وتلألأت على ثغرٍ بسمة ، والصلاة والسلام على من زيّن ببيانه الكلام ، وأذهل بفصاحته الأنام، وطرق بوعظه الأيام ، سلالة النجب ، وصفوة العرب، أجلّ من خطب ، صاحب الحسب والنسب ، محطم الأصنام والنصب ، وعلى آله والأصحاب ، ما لمع سراب ، وهمع سحاب ، وقرئ كتاب ، وبعد :
فقد أشار عليّ الشيخ الأريب ، والشاعر الأديب ، الدكتور / أحمد بن علي القرني الأستاذ بالجامعة الإسلامية بكتابة مقامات ، هي على الفضل علامات ، فقلت له صاحب ذلك قدْ مات ، ولم يبق إلا حاسد وشمّات .
فذكرني بشريط مصارع العشّاق ، وقال : كلّ لمثله مشتاق ، فإنه للقلوب ترياق ، وليس لك عذر ولو التفت الساق بالساق ، وأحضر لي من حرصه الدفاتر ، والخاطر قبل مجيئه فاتر ، فأجّلت تفكيري ، وقد اشتعل في ليل رأسي صبح نذيري ، وقد سبقني لهذا الهمداني والحريري ، ولكن على الله المعوّل ، وكما قال الأول :
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة=لكنتُ شفيت النفس قبل التندمِ
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا=بكاها مكان الفضل للمتقدّمِ
وقد قلت لصاحبنا لا جرم أنك استسمنت ذا ورم ، وهذه سنة أهل الكرم ، والخاطر شذر مذر ، من شجون لا تبقي ولا تذر ،
ولا أقول بعدت علينا الشقة ، ولكن كما قال أبو الطيب : لولا المشقة ، واعرف أن من البشر ، كشجرة العشر ،
أعدى من السوس ، وأشأم من البسوس ، يأتي على غرة ، ويبحث عن العثرة ، ويقص الجُرّة ، ولو اعتذرت لنا عنده سبعين مرة .
فأقول للمادحين ، كونوا ناصحين ، وكما قيل فعين الرضا ، والمحب يمشي على جمر الغضا ،
وأقول للقادحين ، كونوا مازحين ، وتذكروا : وإذا أتتك مذمتي ، واجعلوا الخطأ في ذمتي ، فقد شابت لمتي
، فإن عثر جواد بياني ، وتلعثم لساني ، فالعيب من زماني ، فما أدركت حسّان ، وما صاحبت سحبان ، وما دخلت على النعمان ،
وما لقيت صُنّاع الألفاظ ، في سوق عكاظ . ولكنني مع أقوام ، على الأدب أيتام ،
كلما لمع فيهم متكلم وظهر ، وقال إن الله مبتليكم من البيان بنهر ، قالوا إنما يعلمه بشر ، ولولا سواه ما اشتهر ،
فيقول الحال : لكل عين قذى ، ولن يضروكم إلا أذى ، فجِدّوا كما جَدّوا ، أو سُدوا المكان الذي سَدوا .
فكم نال الحساد صاحب الأدب ، وأنه ليس له في البلاغة نسب ، وما له في الفصاحة حسب ، وجاءوا على قميصه بدم كذب .
وكم انبعث من أهل البلادة أشقاها ، فصاح بهم رسول البيان ناقة الله وسقياها . وعسى عصا موسى البيان ، تكسر رأس فرعون الطغيان .
وإذا ألقى قميص يوسف الملاحة ، على بصر يعقوب الفصاحة ، نادى لسان حال المتكلمين : ادخلوا مصر الإبداع آمنين .
وقد طاولت بهذه المقامات قامات ، ولامست بها هامات ، وكلما قابلني هامّات وطامّات ، قلت : أعوذ بكلمات الله التامّات .
وسوف يقرؤها صاحب ورع بارد ، وذهن جامد فيتأفف ، ويتأسف ، ويقول الرجل تكلّف وتعسّف ،
فأقول : ماذا بعشك يا حمامة فادرجي ، فقد جعلت القلم واللسان أوسي وخزرجي ،
وعلمت أنه مع كل بانٍ هادم ، ومن راقب الناس فهو النادم ، وقد عاب المخلوق الخالق فقال تعالى : ( يسبني ابن آدم ) .
وإذا أراد الله لعمل بشر أن ينتشر ، قيض الله له أهل خير وشر ، فصاحب الخير له نصير ، وظهير ، وخفير ، ووزير .
وصاحب الشر سبّاب عيّاب ، له من الحسد ناب ، وله من العداوة مخلاب .
وانظر إلى المعصوم ، كيف ابتلي بالخصوم ، شق الله له القمر ، فقالوا هذا سحر مستمر ،
ولما جمع قريشاً وخطبها ، قالوا أساطير الأولين اكتتبها
ولقد سبقني إلى هذا الفن أعلام ، لهم في الحكمة أقدام ، وفي حومة البيان أعلام ، وفي طروس الفصاحة أقلام .
فمنهم من خص بمقاماته الأدب ، وثانٍ في ذكر من ذهب ، وثالثٌ في الحب ، ورابعٌ في الطب .
أما أنا فأطلقت للقلم زمامه ، وسَرَّحت خطامه ، وأزحت لثامه ، ليكتب في فنون ، ويسيل في شجون ،
ذاكراً من سلف ومن خلف ، آخذاً من كل حكمة بطرف ، وربما لمحت في المقال ، بعض الخيال ، فلا تُبدِ لنا قسوة ، فلي في ذلك أسوة ،
فإن الأمم استنطقت الجمادات ، واستفهمت العجماوات ، وقوّلت الكلامَ الحيوانات ، وكلّمت الأطلال ،
ونسبت الحديث إلى الشجر والتلال ، تعريضاً وتلميحا، ونسبة وتصريحا .
وللعجم من ذلك ما يبهر ، ككتب بزجر جمهر ، وللروم في ذلك تآليف ، وللهنود في هذا الفن تصانيف ،
ورأيت كتب اليونان ، وصاحب الإيوان ، والمانوية من أسلاف اليابان ، كلها تنسب القول للحيوان
، وتضيف وتنقل الخطاب بغير الإنسان ، حُبّاً للسلامة ، وخوفاً من الندامة .
ثم جاء العرب ، روّاد الأدب ، فأطربونا بكلام الحمام ، في الحب والغرام ، ونقلوا في الأمالي ، عتاب الطلل البالي ،
وأتحفونا بحِوار الأطيار ، وإظهار أسرار الديار ، حتى أسندوا الأخبار للأشجار .
فيا صاحب الدراية ، إن رأيت في هذه المقامات رواية ، فقد قصدت النفع ، ومن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل ،
وقد أحلتك على ما سلف ، ومن أحيل على مليء فليحتل.
وقد جانبت في هذه المقامات التجريح ، سواءً بالتلميح أو بالتصريح ، ودبجتها بالثناء والمديح ،
لأن القول اللين ، والخلق الهين ، يجلب الود ، ويزيل الصد ، وكسر القلوب غلط ، وجرح المخاطَب شطط ،
فهنا ملاينة لا مداهنة ، وليس الخبر كالمعاينة ، ومداراة لا مجاراة ، ولي في هذه المقامات رسائل ، ومن العلم مسائل .
وفيها عبر وسير ، وأشعار وأخبار ، وشجون وفنون ، وفكاهات وملاطفات ، ومشجيات ومبكيات ، ومحفوظات وعظات ،
فلا تحكم بمقامة على كل المقامات ، بل طالع الجميع ليكون حكمك موات ، فإن الروض ألوان ، والشجر صنوان وغير صنوان ،
والتنويع مدعاة لإثارة الذهن البارد ، ولن نصبر على طعام واحد .
وقد جانبت فيها الهمز ، والغمز واللمز ، فلا مصلحة لنا في التعرض للأشخاص والأجناس ، أو تتبع عثرات الناس ،
بل نحن أحوج إلى جبر القلوب ، ودفن العيوب ، لأن مرد الكل إلى علام الغيوب . ومن وجد نقصاً فليعف عنا ، ومن غشنا فليس منا .
خذها من القلب لو أن الدجى صبغت=ثيابه بسناها المشرق الغالي
لصار نوراً كأن الشمس طلعته=والبدر وَمْضته في حُسْن إجلالي
وقد قرأت هذه المقامات على علماء وأدباء ، وشعراء وفضلاء ، طلباً للاستفادة ، وحرصاً على الزيادة ،
وقد استفدت من كل جمع ضم مجلسنا ، وشاورت كل صاحبٍ كان يؤنسنا ، لأن مشاورة الأخيار ، تلقيح للأفكار ،
وفي يوم الثلاثاء 21/5/1420هـ اجتمعنا بشيخنا العلامة الفطين ، صاحب الدر الثمين ، محمد الصالح بن عثيمين ،
وكان اللقاء في الرياض ، والأنس قد فاض ، فقرأت عليه مقدمة المقامات ، فاستحسن ما أوردته من كلمات ،
ثم قرأت عليه المقامة النحوية ، وبها لطائف نديّة ، فأضاف بعض الإضافات ، وأتحفنا ببيت من المحفوظات . نقلته في تلك المقامة ، من ذلك العلامة .
وعسى ربي أن ينفعني بما كتبت ، وأن يحقق لي ما أمّلت ، من الفوز برضوانه ، وسكنى جنانه ، فقد اتصف بالعفو وكتبه ، ورحمته سبقت غضبه :
ولو سُفكت منا الدماء بحبكم=لطِرنا مع الأشواق من لذة القتل
وأسأل الله أن يجعل هذه المقامات ، بكل فضل ملمّات ، وأن يجعلها بالحسن رائعة ، وبالفضل ذائعة ، وبالبر شائعة ، وبالأنس ماتعة ،
وبالنور ساطعة ، وبالجمال لامعة ، ولكل خير جامعة ، وعن كل سوء مانعة ، وللجدل قاطعة .
محلاة بالفوائد ، مزينة بالقلائد ، متوّجة بالفرائد ، مزدانة بالشوارد ، كالماء الزلال لكل صادر ووارد ،
تضمرها العقائد ، وتنشرها القصائد ، وصلى الله وسلم على صفوة الحواضر والبوادي ، الذي تشرفت بذكره النوادي ،
فهو الهادي ، وإلى كل فضل منادي ، وعلى آله البررة ، والأربعة الخيرة ، وبقية العشرة ، وأهل الشجرة
((مـــحـــبــكــــم أبــــــــــــــويــــحــ ـيـــــى))