أبــويـحـيـى
19-01-2011, 08:50 PM
المقامَة الأدبيّة
) أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (
أنظم الشعر ولازم مذهبي .......... في اطراح الرفد فالدنيا أقل
فهو عنوان على الفضل ..........وماأحسن الشعر إذا لم يبتذل
قال الراوي : سمرنا ليلة مع جماعة أبية ، لهم شوق إلى المقامات الأدبية ، والأشعار العربيّة ،
فقالوا حدثنا عن الأدب ، فإنه ديوان العرب ، ومنتهى الأرب ، ونهاية الطلب .
قلنا : حباً وكرامة ، وتحية وسلامة ، فقد رضعت الآداب ، وجالست الأعراب ،
وحفظت الشعر من عصر الشباب ، فالشعر عندي سمير ، وهو لنفسي روضة وغدير .
وحديثه السحر الحلال لو أنه.......لم يجن قتل المسلم المتحـرّزِ
إن طال لم يملّ وإن أوجزته..........ودّ المحـدث أنه لـم يوجـزِ
فقال أحد السُّمار ، من محبي الأشعار ، أفض علينا من القصائد الغراء ،
التي قالها على البديهة الشعراء ، قلت : هذا فن طويل الذيل ، يأخذ في كل سبيل ،
ولكن سوف أورد بعض الشواهد ، والشوارد ، والأوابد .
فهذا أبو جعفر المنصور تحدى الشعراء بقافية ،
قال : من أجازها فله الجائزة وافية ، إذ يقول ، وفكره يجول :
وهاجرة وقفت بها قلوصي...........يقطع حرها ظهر الغطايَه
فقام الشعراء على ركبهم جاثين ، كلهم يريد الجائزة من أمير المؤمنين ، فقال بشار بن برد ، وكان سريع الردّ :
وقفت بها القلوص فسال دمعي......على خدي واقصر واعظايَه
فأخذ بردة أبي جعفر ، وكانت من خز أصفر .
وهذا أبو تمام ، وهو شاعر مقدام ، مدح المعتصم ، فما تعثر وما وهم ، يقول :
إقدام عمرو في سماحة حاتم......في حلم أحنف في ذكاء إيـاسِ
فقال الحارث الكندي ، ما لك قدر عندي ، أما تخاف ، تصف أمير المؤمنين بالأجلاف ،
فانهد أبو تمام كالسيل معتذراً عما قيل :
لا تنكروا ضربي له من دونه......مثلاً شروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقل لنـوره......مثلاً من المشكـاة والنبراسِ
حكم النعمان ، على نابغة ذبيان ، بالإعدام ، بعد ما اتهمه ببعض الاتهام ،
فأنشده البائيَّة الرائعة الذائعة :
فإنك شمس والملوك كواكب......إذا طلعتْ لم يبْدُ منهن كوكبُ
فعفا عنه وحباه ، وقربه واجتباه .
وأهدر البشير النذير ،دم كعب بن زهير، فعاد إليه ، ووضع يده بين يديه ،وأنشده :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.......متيم إثرها لم يُفد مقبولُ
فحلم عليه وصفح ، وعفا عنه وسمح ، واستقام حاله وصلح .
وأصدر حاكم اليمن ، قراراً بإعدام سبعين من أهل العلم والسنن ، والفقه والفطن ،
فأنشده البيحاني ، قصيدة بديعة المعاني ، هزّ بها أعطافه ، واستدر بها ألطافه ، أولها :
يا أبا المجد يا ابن ماء السماء......يا سليل النجوم في الظلماء
فأكرم مثواه ، وعفا عن السبعين من العلماء والقضاة .
وكاد معاوية أن يفر من صفين ، يوم وقف بين الصفين ، فذكر قول ابن الأطنابة، فأوقف ركابَه :
أقول لها وقد جشأت وجاشت......مكانك تحمدي أو تستريحي
وأوشك المتنبي الشاعر الهدّار ، أن يولي الأدبار ، ويجد في الفرار ،
فكرر عليه غلامه ، أبياتاً ثبتت أقدامه ، حيث يقول :
الخيل والليل والبيداء تعرفنـي......والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
فرجع مقبلا ، فقتل مجندلا . وقتل عضد الدولة الوزير ابن بقية ، ولم تردعه تقيّة ،
فأنشد ابن الأنباري قصيدة كأنها برقية ، أو رواية شرقية ، اسمع مطلعها ، وما أبدعها :
علو في الحياة وفي الممات.......بحق أنت إحدى المعجزات
فسمعها عضد الدولة فتأسف ، وقال حبذا ذاك الموقف . ولما قتل محمّد بن حميد ،
بكاه أبو تمام بذاك القصيد ، ورثاه بذاك النشيد :
كذا فليجل الخطب وليفـدح الأمرُ......فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
وسب أحد الأمراء ، المعري أبا العلاء ، وهجاه أشد هجاء ، وسب أستاذه سيد الشعراء ،
فقال أبو العلاء : لا تسبه أيها الأمير ، فإنه شاعر قدير ، ولم يكن له إلا قصيدة،
لك يا منازل في القلوب منازل......أقفرت أنت و هن منك أواهل
ففهم الأمير ماذا يريد ، لأنه قصد آخر القصيد ، وهي قوله :
وإذا أتتـك مذمتي من ناقصٍ.........فهي الشهـادة لي بأني كامـلُ
ولما زار أبو جعفر المنصور المدينة طلب شيخاً كبيرا ، وجعله عنده أجيرا ،
يخبره ببيوت المهاجرين والأنصار ، فدار به إلى آخر النهار ، ولم يعطه مالا ، ونسيه إهمالا ،
فقال الشيخ يا أمير المؤمنين : هذا بيت الأحوص الشاعر المبين القائل :
يا بيت عاتكة الذي اتعزل.......حذر العدا وبك الفؤاد موكّل
فتذكر أبو جعفر القصيدة ، وهي فريدة مجيدة ، يقول في آخرها :
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم.......مذق الكلام يقول ما لا يفعلُ
ففهم المراد ، وأعطى الشيخ الزاد .
أقبل عالم كبير القدر ، ظاهر الأمر ، على شاعر قاعد ، فقام لهذا العالِم الوافد ،
وكان العالم يرى أن القيام للقادم باطل ، ولو أن القادم رجل كامل ،
فقال للشاعر دع القيام ، فأنت لا تلام ، فقال الشاعر :
قيامي والإله إليـك حق.......وترك الحق ما لا يستقيمُ
وهل رجل له لب وعقل.......يراك تسير إليه ولا يقومُ
وفد شاعر على وزير خطير ، بالمكرمات شهير ، فلما أبصر جلبابه ،
وشاهد حُجّابه ورأى أصحابه هابه ، فأراد أن يقول مساك الله بالخير ،
قال من شدة الخجل ، ومن دهشة الوجل : صبحك الله بالخير ،
فقال الأمير : أصباح هذا أم مساء ، أم تريد الاستهزاء ، فقال الشاعر بلا إبطاء :
صبحته عند المساء فقال لي.....ماذا الصباح وظنَّ ذاك مزاحا
فأجبتُه إشراق وجهك غرني........حتى تبينت المسـاء صبـاحا
وأنا مُحدّث لا حداثي ، من مكة مركبي وأثاثي ، ومن المدينة ميراثي ،
أصل الحداثيين من البلاشفة الحمر الكفرة ، كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة .
لا تتبلد ، أرسلناك إلى المربد ، بالحق تنشد ، وبالإسلام تغرد ، فذهبت تعربد .
اسمك محمد فلا تزد في الحروف ، لتصبح محمدوف ، لأن محمد شرعي ، ومحمدوف شيوعي ،
ديوان المتنبي مجلد لطيف خفيف ، فيه لفظ منيف ، ومعنى شريف ، أنصت لشعره الدهر ،
وعبر البر والبحر ، وسار غدوه شهر ورواحه شهر . وبعض الشعراء المولّدين ، لكل منهم عشرة دواوين ،
كل ديوان ككيس الأسمنت ، إذا قرأت منها قصيدة سكتّ وصمتّ ، وبُهتّ وخُفتَ ثم مُتّ ،
تعبنا من ركاكة الكلام ، ومن هذا الركام ، إذا سألناهم عن المعنى أكثروا من الهمز والغمز ، وقال هذا شعر الرمز ،
فيه إيجاز ، وألغاز وإعجاز ، والصحيح أنه هراء وطلسمة ، وشعاب مظلمة ، وتمتمة ، وهمهمة ، وغمغمة .
وقد حكم رسولنا r في الشعر وقد رضينا حكمه فقال : (إن من الشعر لحكمة) وهو الشعر المحمود ، الذي يوافق المقصود ، وليس فيه بذاء ، ولا هجاء ، ولا ازدراء ، وكان فيه لطف بلا سخف ، مع صدق في الوصف ،
وليس فيه تبذل ولا إغراب ، ولا كذب ولا إعجاب ،
مع إشراق في العبارة ، ولطف في الإشارة ومتانة في السبك ، وجمال في الحبك ،
فإذا كان كما وصفنا ، وصار كما عرّفنا ، فهو السحر الحلال ، وهو فيض من الجمال ،
وهالة من الجلال ، يبهج العاقل ، وينبّه الغافل
واعلم أن في الشعر مختارات ، وفي القصائد أمهات ، مثل المعلقات ، وما اختاره أصحاب الحماسات ،
ولا تنس الفريدة الحسناء ،
هذا الذي تعرف البطحاء
وإن تعجب فيحق لك العجب ، من قصيدة :
السيف أصدق إنباء من الكتب
وأجمل المراثي الرائعات :
علو في الحياة وفي المماتْ
أو ابن زيدون وهو يشجينا :
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
أو الشريف الرضي في روعة البيان ، يوم أنشد :
يـــــــــــــا ظبيــــــــــــة الـــبـــــــــــــــــــ ــان
وواعجباه ،
من
واحـــــــــــــر قــــــــــــلبــــــــــ ــاه
وما أبهى تاج الكلام ،
تفت فؤادك الأيام
وأبو البقاء الراوندي يوم اهتم ، فقال :
لكل شيء إذا ما تم
واعلم رحمك الله أن في الشعر تِبْر وتراب ، وذهب وأخشاب ، ولا يخدعنك قولهم فلانٌ شاعر موّار ،
فقد لا يساوي شعره ربع دينار ، فإن من الشعر مسك وعنبر ، ولؤلؤ وجوهر ،
يسافر إلى سويداء قلبك ويبحر ، وينادي إنما نحن فتنة فلا تكفر .
وفي الشعر شعير ، وروث بعير ، فيه نذالة وجهالة ورذاله ، فويل لمن أشغل الناس،
وسوّد القرطاس ، وجلب الوسواس ، وحاس وداس ، وفي ديار القلوب جاس ،
يصيبك من شعره تثاؤب وعطاس ، ونوم ونعاس ، فإذا رأيته فقل له : لا مساس ، ولا باس عليك منه لا باس .
وهذا الصنف لا يردّه عقل ، ولا يردعه نقل ، جائزته بصل وفجل ، لأنه أُشرب في قلبه العجل .
إذا قام أحدهم في النوادي ، صاح المنادي : هذا شاعر الحواضر والبوادي ، وبلبل النادي ،
فيصدق المسكين ، قطع بلعومه بالسكين ، فيتمايل طربا ، ويتيه عجبا ،
ويقول للحضور : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، فإذا ألقى القصيدة ، فكأنه يأكل عصيدة ،
يلوِّي راسه ، ويكظم أنفاسه ، كأنما يتخبطه الشيطان من المس ،
حتى ينادي الجمهور : بس بس ، فليت قارئاً يبرك على صدره ، ويضع يده على نحره ،
ويرش وجهه بماء من تبسي ، ويقرأ عليه آية الكرسي .
فإذا خرج شيطان الشعر الرخيص ، وعلم أنه ليس له محيص ، قام هذا الغبي ، كأنه صبي ،
ليترك الأشعار ، لأهل الاقتدار ،
ويقصد البيع والإيجارة ، أو البناء والنجارة ، أو يصلح عقاره ، ويهجر القوافي ، لكل فصيح وافي .
وليت الناس سلكوا مذهبَهم ، فقد علم كل أناس مشربهم ،
ويا من اشتغل بالأشعار، عليك بالأذكار ، وإدمان الاستغفار ، والخوف من القهار ،
فإن اللسان ثعبان ، وأمامك قبر وميزان ، ونجاة وخسران ، ولا يكن لسانك كالمقراض للأعراض ،
ولا يكن كالمقباض للأغراض ، فإن الأنفاس تكتب عليك ، وعملك منك وإليك .
وويل لمن أطلق لسانه ، وأرضى شيطانه ، وأجرى في اللهو حصانه ،
من يوم تشيب فيه النواصي ، ويندم فيه كل عاصي ، ويهابه كل دانٍ وقاصي .
ويا شعراء المجون ، مالكم في الغي تلجون ، وفي النوادي تصجّون ، ولكل رأس تشجّون .
ألا عقل يردع ، ألا أذن تسمع ، ألا قلب يخشع ، ألا عين تدمع ،
أشغلتم القلوب ، وأنسيتم الناس علام الغيوب ، ودللتم الأمة على المعاصي والذنوب ،
أشعلتم النفوس الهائجة ، أحرقتم القلوب المائجة ، لأن بضاعتكم على الأراذل رائجة ،
أتظنون أنه لا حساب ولا عقاب ، ولا عذاب ولا ثواب ،
الموقف أصعب مما تظنون ، والمشهد أعظم مما تتصوّرون ،
إذا بعثر ما في القبور ، وحصّل ما في الصدور ، وفار التنور ، وقصمت الظهور ، وطار الكبر والغرور .
إذا جـــــــــــــار الوزيـر وكاتبــــــــــــاه.......وق ضي الأرض أجحف في القضاءِ
فويـل ثم ويـــــــــــــــــــل ثـم ويــــــــــل.......لقاضي الأرض من قاضي السماءِ
يا شعراء المجون ، ويا أتباع كل غاو مفتون ، وهائم مجنون ،
ويل لكم مما كتبت أيديكم ، وويل لكم مما تكسبون .
مقتطفات من كتاب مقامات القرني
) أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (
أنظم الشعر ولازم مذهبي .......... في اطراح الرفد فالدنيا أقل
فهو عنوان على الفضل ..........وماأحسن الشعر إذا لم يبتذل
قال الراوي : سمرنا ليلة مع جماعة أبية ، لهم شوق إلى المقامات الأدبية ، والأشعار العربيّة ،
فقالوا حدثنا عن الأدب ، فإنه ديوان العرب ، ومنتهى الأرب ، ونهاية الطلب .
قلنا : حباً وكرامة ، وتحية وسلامة ، فقد رضعت الآداب ، وجالست الأعراب ،
وحفظت الشعر من عصر الشباب ، فالشعر عندي سمير ، وهو لنفسي روضة وغدير .
وحديثه السحر الحلال لو أنه.......لم يجن قتل المسلم المتحـرّزِ
إن طال لم يملّ وإن أوجزته..........ودّ المحـدث أنه لـم يوجـزِ
فقال أحد السُّمار ، من محبي الأشعار ، أفض علينا من القصائد الغراء ،
التي قالها على البديهة الشعراء ، قلت : هذا فن طويل الذيل ، يأخذ في كل سبيل ،
ولكن سوف أورد بعض الشواهد ، والشوارد ، والأوابد .
فهذا أبو جعفر المنصور تحدى الشعراء بقافية ،
قال : من أجازها فله الجائزة وافية ، إذ يقول ، وفكره يجول :
وهاجرة وقفت بها قلوصي...........يقطع حرها ظهر الغطايَه
فقام الشعراء على ركبهم جاثين ، كلهم يريد الجائزة من أمير المؤمنين ، فقال بشار بن برد ، وكان سريع الردّ :
وقفت بها القلوص فسال دمعي......على خدي واقصر واعظايَه
فأخذ بردة أبي جعفر ، وكانت من خز أصفر .
وهذا أبو تمام ، وهو شاعر مقدام ، مدح المعتصم ، فما تعثر وما وهم ، يقول :
إقدام عمرو في سماحة حاتم......في حلم أحنف في ذكاء إيـاسِ
فقال الحارث الكندي ، ما لك قدر عندي ، أما تخاف ، تصف أمير المؤمنين بالأجلاف ،
فانهد أبو تمام كالسيل معتذراً عما قيل :
لا تنكروا ضربي له من دونه......مثلاً شروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقل لنـوره......مثلاً من المشكـاة والنبراسِ
حكم النعمان ، على نابغة ذبيان ، بالإعدام ، بعد ما اتهمه ببعض الاتهام ،
فأنشده البائيَّة الرائعة الذائعة :
فإنك شمس والملوك كواكب......إذا طلعتْ لم يبْدُ منهن كوكبُ
فعفا عنه وحباه ، وقربه واجتباه .
وأهدر البشير النذير ،دم كعب بن زهير، فعاد إليه ، ووضع يده بين يديه ،وأنشده :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.......متيم إثرها لم يُفد مقبولُ
فحلم عليه وصفح ، وعفا عنه وسمح ، واستقام حاله وصلح .
وأصدر حاكم اليمن ، قراراً بإعدام سبعين من أهل العلم والسنن ، والفقه والفطن ،
فأنشده البيحاني ، قصيدة بديعة المعاني ، هزّ بها أعطافه ، واستدر بها ألطافه ، أولها :
يا أبا المجد يا ابن ماء السماء......يا سليل النجوم في الظلماء
فأكرم مثواه ، وعفا عن السبعين من العلماء والقضاة .
وكاد معاوية أن يفر من صفين ، يوم وقف بين الصفين ، فذكر قول ابن الأطنابة، فأوقف ركابَه :
أقول لها وقد جشأت وجاشت......مكانك تحمدي أو تستريحي
وأوشك المتنبي الشاعر الهدّار ، أن يولي الأدبار ، ويجد في الفرار ،
فكرر عليه غلامه ، أبياتاً ثبتت أقدامه ، حيث يقول :
الخيل والليل والبيداء تعرفنـي......والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
فرجع مقبلا ، فقتل مجندلا . وقتل عضد الدولة الوزير ابن بقية ، ولم تردعه تقيّة ،
فأنشد ابن الأنباري قصيدة كأنها برقية ، أو رواية شرقية ، اسمع مطلعها ، وما أبدعها :
علو في الحياة وفي الممات.......بحق أنت إحدى المعجزات
فسمعها عضد الدولة فتأسف ، وقال حبذا ذاك الموقف . ولما قتل محمّد بن حميد ،
بكاه أبو تمام بذاك القصيد ، ورثاه بذاك النشيد :
كذا فليجل الخطب وليفـدح الأمرُ......فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
وسب أحد الأمراء ، المعري أبا العلاء ، وهجاه أشد هجاء ، وسب أستاذه سيد الشعراء ،
فقال أبو العلاء : لا تسبه أيها الأمير ، فإنه شاعر قدير ، ولم يكن له إلا قصيدة،
لك يا منازل في القلوب منازل......أقفرت أنت و هن منك أواهل
ففهم الأمير ماذا يريد ، لأنه قصد آخر القصيد ، وهي قوله :
وإذا أتتـك مذمتي من ناقصٍ.........فهي الشهـادة لي بأني كامـلُ
ولما زار أبو جعفر المنصور المدينة طلب شيخاً كبيرا ، وجعله عنده أجيرا ،
يخبره ببيوت المهاجرين والأنصار ، فدار به إلى آخر النهار ، ولم يعطه مالا ، ونسيه إهمالا ،
فقال الشيخ يا أمير المؤمنين : هذا بيت الأحوص الشاعر المبين القائل :
يا بيت عاتكة الذي اتعزل.......حذر العدا وبك الفؤاد موكّل
فتذكر أبو جعفر القصيدة ، وهي فريدة مجيدة ، يقول في آخرها :
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم.......مذق الكلام يقول ما لا يفعلُ
ففهم المراد ، وأعطى الشيخ الزاد .
أقبل عالم كبير القدر ، ظاهر الأمر ، على شاعر قاعد ، فقام لهذا العالِم الوافد ،
وكان العالم يرى أن القيام للقادم باطل ، ولو أن القادم رجل كامل ،
فقال للشاعر دع القيام ، فأنت لا تلام ، فقال الشاعر :
قيامي والإله إليـك حق.......وترك الحق ما لا يستقيمُ
وهل رجل له لب وعقل.......يراك تسير إليه ولا يقومُ
وفد شاعر على وزير خطير ، بالمكرمات شهير ، فلما أبصر جلبابه ،
وشاهد حُجّابه ورأى أصحابه هابه ، فأراد أن يقول مساك الله بالخير ،
قال من شدة الخجل ، ومن دهشة الوجل : صبحك الله بالخير ،
فقال الأمير : أصباح هذا أم مساء ، أم تريد الاستهزاء ، فقال الشاعر بلا إبطاء :
صبحته عند المساء فقال لي.....ماذا الصباح وظنَّ ذاك مزاحا
فأجبتُه إشراق وجهك غرني........حتى تبينت المسـاء صبـاحا
وأنا مُحدّث لا حداثي ، من مكة مركبي وأثاثي ، ومن المدينة ميراثي ،
أصل الحداثيين من البلاشفة الحمر الكفرة ، كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة .
لا تتبلد ، أرسلناك إلى المربد ، بالحق تنشد ، وبالإسلام تغرد ، فذهبت تعربد .
اسمك محمد فلا تزد في الحروف ، لتصبح محمدوف ، لأن محمد شرعي ، ومحمدوف شيوعي ،
ديوان المتنبي مجلد لطيف خفيف ، فيه لفظ منيف ، ومعنى شريف ، أنصت لشعره الدهر ،
وعبر البر والبحر ، وسار غدوه شهر ورواحه شهر . وبعض الشعراء المولّدين ، لكل منهم عشرة دواوين ،
كل ديوان ككيس الأسمنت ، إذا قرأت منها قصيدة سكتّ وصمتّ ، وبُهتّ وخُفتَ ثم مُتّ ،
تعبنا من ركاكة الكلام ، ومن هذا الركام ، إذا سألناهم عن المعنى أكثروا من الهمز والغمز ، وقال هذا شعر الرمز ،
فيه إيجاز ، وألغاز وإعجاز ، والصحيح أنه هراء وطلسمة ، وشعاب مظلمة ، وتمتمة ، وهمهمة ، وغمغمة .
وقد حكم رسولنا r في الشعر وقد رضينا حكمه فقال : (إن من الشعر لحكمة) وهو الشعر المحمود ، الذي يوافق المقصود ، وليس فيه بذاء ، ولا هجاء ، ولا ازدراء ، وكان فيه لطف بلا سخف ، مع صدق في الوصف ،
وليس فيه تبذل ولا إغراب ، ولا كذب ولا إعجاب ،
مع إشراق في العبارة ، ولطف في الإشارة ومتانة في السبك ، وجمال في الحبك ،
فإذا كان كما وصفنا ، وصار كما عرّفنا ، فهو السحر الحلال ، وهو فيض من الجمال ،
وهالة من الجلال ، يبهج العاقل ، وينبّه الغافل
واعلم أن في الشعر مختارات ، وفي القصائد أمهات ، مثل المعلقات ، وما اختاره أصحاب الحماسات ،
ولا تنس الفريدة الحسناء ،
هذا الذي تعرف البطحاء
وإن تعجب فيحق لك العجب ، من قصيدة :
السيف أصدق إنباء من الكتب
وأجمل المراثي الرائعات :
علو في الحياة وفي المماتْ
أو ابن زيدون وهو يشجينا :
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
أو الشريف الرضي في روعة البيان ، يوم أنشد :
يـــــــــــــا ظبيــــــــــــة الـــبـــــــــــــــــــ ــان
وواعجباه ،
من
واحـــــــــــــر قــــــــــــلبــــــــــ ــاه
وما أبهى تاج الكلام ،
تفت فؤادك الأيام
وأبو البقاء الراوندي يوم اهتم ، فقال :
لكل شيء إذا ما تم
واعلم رحمك الله أن في الشعر تِبْر وتراب ، وذهب وأخشاب ، ولا يخدعنك قولهم فلانٌ شاعر موّار ،
فقد لا يساوي شعره ربع دينار ، فإن من الشعر مسك وعنبر ، ولؤلؤ وجوهر ،
يسافر إلى سويداء قلبك ويبحر ، وينادي إنما نحن فتنة فلا تكفر .
وفي الشعر شعير ، وروث بعير ، فيه نذالة وجهالة ورذاله ، فويل لمن أشغل الناس،
وسوّد القرطاس ، وجلب الوسواس ، وحاس وداس ، وفي ديار القلوب جاس ،
يصيبك من شعره تثاؤب وعطاس ، ونوم ونعاس ، فإذا رأيته فقل له : لا مساس ، ولا باس عليك منه لا باس .
وهذا الصنف لا يردّه عقل ، ولا يردعه نقل ، جائزته بصل وفجل ، لأنه أُشرب في قلبه العجل .
إذا قام أحدهم في النوادي ، صاح المنادي : هذا شاعر الحواضر والبوادي ، وبلبل النادي ،
فيصدق المسكين ، قطع بلعومه بالسكين ، فيتمايل طربا ، ويتيه عجبا ،
ويقول للحضور : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، فإذا ألقى القصيدة ، فكأنه يأكل عصيدة ،
يلوِّي راسه ، ويكظم أنفاسه ، كأنما يتخبطه الشيطان من المس ،
حتى ينادي الجمهور : بس بس ، فليت قارئاً يبرك على صدره ، ويضع يده على نحره ،
ويرش وجهه بماء من تبسي ، ويقرأ عليه آية الكرسي .
فإذا خرج شيطان الشعر الرخيص ، وعلم أنه ليس له محيص ، قام هذا الغبي ، كأنه صبي ،
ليترك الأشعار ، لأهل الاقتدار ،
ويقصد البيع والإيجارة ، أو البناء والنجارة ، أو يصلح عقاره ، ويهجر القوافي ، لكل فصيح وافي .
وليت الناس سلكوا مذهبَهم ، فقد علم كل أناس مشربهم ،
ويا من اشتغل بالأشعار، عليك بالأذكار ، وإدمان الاستغفار ، والخوف من القهار ،
فإن اللسان ثعبان ، وأمامك قبر وميزان ، ونجاة وخسران ، ولا يكن لسانك كالمقراض للأعراض ،
ولا يكن كالمقباض للأغراض ، فإن الأنفاس تكتب عليك ، وعملك منك وإليك .
وويل لمن أطلق لسانه ، وأرضى شيطانه ، وأجرى في اللهو حصانه ،
من يوم تشيب فيه النواصي ، ويندم فيه كل عاصي ، ويهابه كل دانٍ وقاصي .
ويا شعراء المجون ، مالكم في الغي تلجون ، وفي النوادي تصجّون ، ولكل رأس تشجّون .
ألا عقل يردع ، ألا أذن تسمع ، ألا قلب يخشع ، ألا عين تدمع ،
أشغلتم القلوب ، وأنسيتم الناس علام الغيوب ، ودللتم الأمة على المعاصي والذنوب ،
أشعلتم النفوس الهائجة ، أحرقتم القلوب المائجة ، لأن بضاعتكم على الأراذل رائجة ،
أتظنون أنه لا حساب ولا عقاب ، ولا عذاب ولا ثواب ،
الموقف أصعب مما تظنون ، والمشهد أعظم مما تتصوّرون ،
إذا بعثر ما في القبور ، وحصّل ما في الصدور ، وفار التنور ، وقصمت الظهور ، وطار الكبر والغرور .
إذا جـــــــــــــار الوزيـر وكاتبــــــــــــاه.......وق ضي الأرض أجحف في القضاءِ
فويـل ثم ويـــــــــــــــــــل ثـم ويــــــــــل.......لقاضي الأرض من قاضي السماءِ
يا شعراء المجون ، ويا أتباع كل غاو مفتون ، وهائم مجنون ،
ويل لكم مما كتبت أيديكم ، وويل لكم مما تكسبون .
مقتطفات من كتاب مقامات القرني