خضر صبح
30-04-2011, 08:24 PM
المفكر الإسلامي الكبير أنور الجندي:
أكثر من 300 كتاب في خدمة الإسلام والردّ على دعاة التغريب
القاهرة/إحسان سيد
أشهر قلمه في معركة التصدي لدعاوى التغريب والاستشراق والتنصير والعلمانية، ولم يتأثر بالجحود والنكران؛ لأنه كان يريد الجائزة من ملك الملوك، كما كان يقول.
قدّم للمكتبة الإسلامية مئات الكتب والمؤلفات والبحوث في مختلف قضايا المعرفة الإنسانية لتصحيح المفاهيم، وتنوير العقول، وتقديم البديل الإسلامي الأصيل، كان له من اسمه أوفى نصيب، فهو جندي من جنود الله في معركة النور أو التنوير بمنظار الإسلام، عاش في هدوء، ورحل في هدوء، بعد أن أدى رسالته التي نذر لها عمره خدمة لدينه، وتصحيحاً للفهم، وتنويراً للعقول.
وقال عن رسالته في الحياة: «أنا محامٍ في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة، أعدّ لها الدفوع، وأقدّم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة وعهد عليَّ بيع النفس لله».
إنه المفكر الراحل الكبير أنور الجندي الذي تمر ثماني سنوات على رحيله.. وتلك فرصة للتذكير بسيرته وعطائه.
في بيت عائلة العلم
ولد مفكرنا الكبير في مدينة ديروط بصعيد مصر سنة 1917م في عائلة عرفت بالعلم، فكان جده لوالدته قاضياً شرعياً اعتنى بتحقيق التراث، وكان والده مولعاً بالثقافة الإسلامية، حفظ القرآن مبكراً. وبعد أن حصل على شهادة متوسطة ألحقه والده بالعمل في وظيفة ببنك مصر، ثم واصل دراسته أثناء عمله، حيث التحق بالجامعة في الفترة المسائية ودرس الاقتصاد وإدارة الأعمال. وتخرّج من الجامعة الأمريكية بعد أن أجاد اللغة الإنجليزية، التي أصر على دراستها ليطّلع على شبهات الغربيين التي تطعن في الإسلام ثم يرد عليها.
بدأ الكتابة في مرحلة مبكرة من حياته. كتب في مجلة «أبوللو» وهو دون الثامنة عشرة؛ مما فتح له الباب للكتابة في أشهر المجلات والصحف آنذاك: مثل البلاغ، وكوكب الشرق، والرسالة، وغيرها. تزوج من قريبة له ورزق منها ببنت واحدة، درست وتخرجت في جامعة الأزهر، وتزوجت وأنجبت له حفيدتين.
تقول عنه ابنته السيد فائزة الجندي: «كان والدي منظماً جداً، وبسيطاً جداً، ومؤمناً جداً – ولا نزكيه على الله. كانت حياته عملاً، ولم يكن لديه وقت يضيعه، كان ينام بعد صلاة العشاء ساعتين أو ثلاثاً، ثم يستيقظ ليصلي قيام الليل، وبعد صلاة الفجر ينام ساعتين، ثم يستيقظ لقضاء حاجاتنا اليومية، فقد كان يخدم نفسه بنفسه، ويقوم على رعايتنا وخدمتنا. وكان أبي (رحمه الله) يشعر بالمسؤولية تجاه كل من حوله، حتى إنه كان يملأ للجيران (دلاء المياه) حين تنقطع عن المنطقة، ويتركها لهم أمام شقتهم قبل الفجر حتى يمكنهم الوضوء لأداء الصلاة».
كان رجلاً ربانياً وثيق الصلة بالله تعالى، فكانت حياته بين صلاتي الحاجة والشكر، وكان حريصاً على أن يظل متوضئاً، فلا يأكل إلا وهو متوضئ، ولا يكتب سطراً إلا وهو متوضئ.
وتضيف «كانت البساطة عنوان حياته، سواءً في مسكنه أو ملبسه، فقد كان عازفاً عن الثراء والشهرة والترف، متعففاً لا يتقاضى أجراً عن محاضراته. كما كان يرفض الجوائز التي تعرض عليه أو يرشح لها، ويقول: «أنا أعمل للحصول على الجائزة من الله ملك الملوك»، لكنه نال جائزة الدولة التقديرية سنة 1960».
وقد شارك الأستاذ أنور الجندي في العديد من المؤتمرات الإسلامية، وحاضر في عدد من الجامعات الإسلامية أيضاً.
وقد ظل يجاهد بقلمه رغم آلامه وتكالب أمراض الشيخوخة عليه حتى إنه كان يصلي في أواخر أيامه، وهو مضطجع على شقه الأيمن حتى لقي ربه على ذلك الوضع مساء الاثنين 15 ذي القعدة 1422هـ/28 كانون الثاني/يناير 2002، عن عمر ناهز 85 عاماً بعد رحلة عطاء وجهاد.
نبوغ وعطاء
تعددت مواهب المفكر الإسلامي الكبير أنور الجندي، وتنوعت مجالات عطائه، فقد كان مفكراً وعالماً وكاتباً وأديباً وباحثاً، أحسن استيعاب مفاهيم وقضايا عصره، فأثرى المكتبة العربية والإسلامية بأكثر من 300 كتاب، فضلاً عن مئات البحوث والمقالات المنشورة في مختلف قضايا المعرفة والثقافة الإسلامية، وظّفها جميعاً في خدمة الإسلام، وعالمية دعوته، والتصدي لمحاولات تشويهه.
اتسمت كتاباته بالبساطة وسهولة اللفظ وتقريب الثقافة العامة لجمهور القراء، وبخاصة فئة الشباب الذين وجّه لهم موسوعته «معلمة الإسلام» التي ضمّت 100 مصطلح في مختلف أبواب الثقافة والحضارة والعلوم والآداب والشرائع، بغية تحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية التي تسعى لاقتلاعهم من جذورهم.
وكان للأستاذ أنور الجندي من اسمه أوفى نصيب، فقد كانت حياته الفكرية تدور حول محورين: النور أو التنوير، والجندية. فكان جندياً في ساحة الدفاع عن الإسلام، يمسك بالعلم، ويحمل مشعل النور أو التنوير الحقيقي الذي يردّ الأمّة إلى النور الحق وهو نور الله، وكانت مقاومة التغريب أهم معالم هذا التنوير، فقد وقف بالمرصاد لكل دعاة التغريب يكشف زيف مزاعمهم.
كان عام 1940 فارقاً في حياته، فقد قرأ ملخصاً لكتاب «وجهة الإسلام» لعدد من المستشرقين، لفت نظره إلى مؤامرة التغريب التي تحاك ضد الإسلام، فقدّم خطة كاملة لمقاومة التغريب والغزو الفكري، ثم اتجه إلى العمل على أسلمة العلوم والمناهج وتأصيل الفكر الإسلامي.
كما تصدى المفكر الكبير لاختراق ميدان الأدب، وتولى الرد على دعاة التغريب في هذا الميدان أمثال: طه حسين، وسلامة موسى، وجورجي زيدان. وأقام لهم محاكمة عادلة بميزان الإسلام، ووضع عشرات الكتب في تصحيح الفكرة، منها: «أضواء على الأدب العربي المعاصر»، «الأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والتجمع والحرية»، «إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام». لكنه في الوقت نفسه أنصف أصحاب الفكر الإسلامي الصحيح، أمثال: الرافعي، علي أحمد باكثير، والسحار، والكيلاني، ومحمود تيمور وغيرهم. وفي هذا قال «أستطيع أن أقول إنني عشت مرحلة نقد المجتمع من 1940 – 1950، ثم عشت مرحلة معالجة الواقع من 1950 – 1960، وتناولت قضايانا الوطنية والقومية، وهي مرحلة تقبلت فيها بعض المفاهيم المطروحة قبل أن تتبين لي خفاياها، ثم بدأت بعد 1964 مرحلة تصحيح المفاهيم بعد أن سيطرت الشيوعية على بعض بلدان العالم الإسلامي».
ومن أهم القضايا التي شغلت حيّزاً كبيراً من فكر الأستاذ أنور الجندي: قضية تحكيم الشريعة والحفاظ على الهوية الإسلامية الأصيلة، وردّ الشبهات الباطلة، والأقاويل المضللة، كذلك ناقش قضايا الصحوة الإسلامية، وتصحيح المفاهيم بإيقاظ الفكر العربي وأسلمة العلوم، وتصدى للتحديات التي تواجه الدعوة، والتربية وبناء الأجيال والمد الإسلامي وعالمية الرسالة، وقضايا القومية العربية والوحدة وأفرد لها كتابات مستقلة متبنياً رؤية موسوعية متكاملة قال عنها: «يجب ألا تستغرقنا التفاصيل والجزئيات، وأن نظل قادرين على امتلاك ناصية الأصول العامة، والمسائل الرئيسة، والمواقف الأساسية، وجمع الخطوط الكبرى في تكوين متكامل يجعلنا قادرين على الرؤية الكلية الدائمة، وهذا هو مفهوم التكامل الذي علمنا الإسلام إياه».
رائد مدرسة الأصالة
عُرف (رحمه الله) بأنه كان رائد مدرسة الأصالة الفكرية الإسلامية التي تنطلق من رؤية مفادها أن الفكر الإسلامي فكر جامع، وعلى الباحث المسلم أن يكون ملماً بجميع عناصره، فإذا كان له تخصص في واحد منها بعد ذلك، أي بعد إلمامه بكل الفروع، فلا مانع، لذا كان يرفض النظرية التي تقول بتطوير الإسلام أو تلقيمه بأفكار أخرى، مشيراً إلى أن الإسلام ذاتية متميزة لها من عوامل الثبات ما يكفل لها استمرار العطاء على مدى العصور، والثبات مع سماحة التغيير في الفروع.
ويمكن القول: إن الأستاذ كان أميناً على الثقافة الإسلامية لأربعة أجيال متعاقبة، جيل البناء والتأسيس، جيل الصبر والجهاد، جيل التكوين والانتشار، ثم جيل التربية والمستقبل. ولم تتوقف ريادته لمدرسة الأصالة على الأدب فحسب، فقد نبغ كذلك في مجال الاجتماع، حيث كشف زيف مقولات فرويد وماركس وداروين ودوركايم. وفي الفلسفة أنصف الغزالي وابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرهم. وفي التاريخ هدف إلى تحرير التاريخ الإسلامي من التفسيرات المادية والوافدة، سواءً كانت غربية أو ماركسية، وكشف الشبهات التي أثيرت في هذا المجال. كما كانت له باع طويلة في ميدان تصحيح المفاهيم؛ إذ واجه الأطروحات التغريبية التي قدّمها الاستشراق بما فيها من سموم، وخاصة في مجال القرآن والسنة والسيرة والشريعة وغيرها من المجالات، وأهمها ميدان التربية.
وقد ظل الأستاذ أنور الجندي (رحمه الله) ممسكاً بالقلم، يشهره في خدمة دعوته وصيانة عقيدته، ليس فقط في مجال التأليف، إنما أيضاً في مجال الصحافة الذي ظل يصول ويجول فيه على مدار ستين عاماً حتى لقّبه البعض برائد الصحافة الإسلامية.
ميراث الأنبياء
كما قال (صلى الله عليه وسلم)، ورث الأستاذ أنور الجندي العلم –ميراث الأنبياء– عن جده ووالده، ممثلاً في مكتبة الأسرة الهائلة الزاخرة بأمهات الكتب، فكان من الطبيعي أن يورث العلم من بعده؛ لذا فقد أوصى قبل موته بأن تصبح مكتبته بما فيها من كنوز العلم والمعرفة وقفاً لله، وأن تصنّف وتتاح لجمهور القراء والباحثين. وبالفعل قامت كريمته بالحفاظ على هذه المكتبة عملاً بوصية الوالد الكريم؛ لتكون المكتبة عوناً لطلاب العلم، ومرجعاً نقياً للاطلاع على أصالة الفكر الإسلامي في القضايا كافة، كما تبنّت مشروعاً لحفظ تراثه الذي تمثّل أهم ملامحه في:
- ترتيب مكتبته الشخصية من مؤلفات وموسوعات وبحوث ومقالات، وغيرها من الدراسات التي تناولت فكره وأدبه ومنهجه.
- ترتيب المكتبة الخاصة به، التي تضم آلاف الكتب والمرجع في شتى مناحي الفكر والثقافة والعلوم اللغوية والشرعية.
- فضلاً عن أرشيف الموضوعات السياسية والثقافية والفكرية التي نشرتها الصحف عنه وله.
- فهرسة مؤلفاته بمختلف أنواعها.
- إنشاء موقع خاص به على الشبكة العنكبوتية، وإنشاء جمعية أدبية فكرية باسمه.
- نشر ما لم ينشر من مؤلفاته، وإعادة نشر ما يمكن من مؤلفاته بعد تحقيقها.
وهكذا يظل المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي –رغم رحيله– قامة فكرية سامقة، ورمزاً أصيلاً للمثقف المسلم الذي يعيش هموم أمته وينتصر لهويتها، ويذود عن عقيدتها؛ ليكون من الرجال الذين عبر عنهم المفكر والمؤرخ الإسلامي عبد الرحمن الكواكبي بقوله: «ينبّهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون».
أكثر من 300 كتاب في خدمة الإسلام والردّ على دعاة التغريب
القاهرة/إحسان سيد
أشهر قلمه في معركة التصدي لدعاوى التغريب والاستشراق والتنصير والعلمانية، ولم يتأثر بالجحود والنكران؛ لأنه كان يريد الجائزة من ملك الملوك، كما كان يقول.
قدّم للمكتبة الإسلامية مئات الكتب والمؤلفات والبحوث في مختلف قضايا المعرفة الإنسانية لتصحيح المفاهيم، وتنوير العقول، وتقديم البديل الإسلامي الأصيل، كان له من اسمه أوفى نصيب، فهو جندي من جنود الله في معركة النور أو التنوير بمنظار الإسلام، عاش في هدوء، ورحل في هدوء، بعد أن أدى رسالته التي نذر لها عمره خدمة لدينه، وتصحيحاً للفهم، وتنويراً للعقول.
وقال عن رسالته في الحياة: «أنا محامٍ في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة، أعدّ لها الدفوع، وأقدّم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة وعهد عليَّ بيع النفس لله».
إنه المفكر الراحل الكبير أنور الجندي الذي تمر ثماني سنوات على رحيله.. وتلك فرصة للتذكير بسيرته وعطائه.
في بيت عائلة العلم
ولد مفكرنا الكبير في مدينة ديروط بصعيد مصر سنة 1917م في عائلة عرفت بالعلم، فكان جده لوالدته قاضياً شرعياً اعتنى بتحقيق التراث، وكان والده مولعاً بالثقافة الإسلامية، حفظ القرآن مبكراً. وبعد أن حصل على شهادة متوسطة ألحقه والده بالعمل في وظيفة ببنك مصر، ثم واصل دراسته أثناء عمله، حيث التحق بالجامعة في الفترة المسائية ودرس الاقتصاد وإدارة الأعمال. وتخرّج من الجامعة الأمريكية بعد أن أجاد اللغة الإنجليزية، التي أصر على دراستها ليطّلع على شبهات الغربيين التي تطعن في الإسلام ثم يرد عليها.
بدأ الكتابة في مرحلة مبكرة من حياته. كتب في مجلة «أبوللو» وهو دون الثامنة عشرة؛ مما فتح له الباب للكتابة في أشهر المجلات والصحف آنذاك: مثل البلاغ، وكوكب الشرق، والرسالة، وغيرها. تزوج من قريبة له ورزق منها ببنت واحدة، درست وتخرجت في جامعة الأزهر، وتزوجت وأنجبت له حفيدتين.
تقول عنه ابنته السيد فائزة الجندي: «كان والدي منظماً جداً، وبسيطاً جداً، ومؤمناً جداً – ولا نزكيه على الله. كانت حياته عملاً، ولم يكن لديه وقت يضيعه، كان ينام بعد صلاة العشاء ساعتين أو ثلاثاً، ثم يستيقظ ليصلي قيام الليل، وبعد صلاة الفجر ينام ساعتين، ثم يستيقظ لقضاء حاجاتنا اليومية، فقد كان يخدم نفسه بنفسه، ويقوم على رعايتنا وخدمتنا. وكان أبي (رحمه الله) يشعر بالمسؤولية تجاه كل من حوله، حتى إنه كان يملأ للجيران (دلاء المياه) حين تنقطع عن المنطقة، ويتركها لهم أمام شقتهم قبل الفجر حتى يمكنهم الوضوء لأداء الصلاة».
كان رجلاً ربانياً وثيق الصلة بالله تعالى، فكانت حياته بين صلاتي الحاجة والشكر، وكان حريصاً على أن يظل متوضئاً، فلا يأكل إلا وهو متوضئ، ولا يكتب سطراً إلا وهو متوضئ.
وتضيف «كانت البساطة عنوان حياته، سواءً في مسكنه أو ملبسه، فقد كان عازفاً عن الثراء والشهرة والترف، متعففاً لا يتقاضى أجراً عن محاضراته. كما كان يرفض الجوائز التي تعرض عليه أو يرشح لها، ويقول: «أنا أعمل للحصول على الجائزة من الله ملك الملوك»، لكنه نال جائزة الدولة التقديرية سنة 1960».
وقد شارك الأستاذ أنور الجندي في العديد من المؤتمرات الإسلامية، وحاضر في عدد من الجامعات الإسلامية أيضاً.
وقد ظل يجاهد بقلمه رغم آلامه وتكالب أمراض الشيخوخة عليه حتى إنه كان يصلي في أواخر أيامه، وهو مضطجع على شقه الأيمن حتى لقي ربه على ذلك الوضع مساء الاثنين 15 ذي القعدة 1422هـ/28 كانون الثاني/يناير 2002، عن عمر ناهز 85 عاماً بعد رحلة عطاء وجهاد.
نبوغ وعطاء
تعددت مواهب المفكر الإسلامي الكبير أنور الجندي، وتنوعت مجالات عطائه، فقد كان مفكراً وعالماً وكاتباً وأديباً وباحثاً، أحسن استيعاب مفاهيم وقضايا عصره، فأثرى المكتبة العربية والإسلامية بأكثر من 300 كتاب، فضلاً عن مئات البحوث والمقالات المنشورة في مختلف قضايا المعرفة والثقافة الإسلامية، وظّفها جميعاً في خدمة الإسلام، وعالمية دعوته، والتصدي لمحاولات تشويهه.
اتسمت كتاباته بالبساطة وسهولة اللفظ وتقريب الثقافة العامة لجمهور القراء، وبخاصة فئة الشباب الذين وجّه لهم موسوعته «معلمة الإسلام» التي ضمّت 100 مصطلح في مختلف أبواب الثقافة والحضارة والعلوم والآداب والشرائع، بغية تحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية التي تسعى لاقتلاعهم من جذورهم.
وكان للأستاذ أنور الجندي من اسمه أوفى نصيب، فقد كانت حياته الفكرية تدور حول محورين: النور أو التنوير، والجندية. فكان جندياً في ساحة الدفاع عن الإسلام، يمسك بالعلم، ويحمل مشعل النور أو التنوير الحقيقي الذي يردّ الأمّة إلى النور الحق وهو نور الله، وكانت مقاومة التغريب أهم معالم هذا التنوير، فقد وقف بالمرصاد لكل دعاة التغريب يكشف زيف مزاعمهم.
كان عام 1940 فارقاً في حياته، فقد قرأ ملخصاً لكتاب «وجهة الإسلام» لعدد من المستشرقين، لفت نظره إلى مؤامرة التغريب التي تحاك ضد الإسلام، فقدّم خطة كاملة لمقاومة التغريب والغزو الفكري، ثم اتجه إلى العمل على أسلمة العلوم والمناهج وتأصيل الفكر الإسلامي.
كما تصدى المفكر الكبير لاختراق ميدان الأدب، وتولى الرد على دعاة التغريب في هذا الميدان أمثال: طه حسين، وسلامة موسى، وجورجي زيدان. وأقام لهم محاكمة عادلة بميزان الإسلام، ووضع عشرات الكتب في تصحيح الفكرة، منها: «أضواء على الأدب العربي المعاصر»، «الأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والتجمع والحرية»، «إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام». لكنه في الوقت نفسه أنصف أصحاب الفكر الإسلامي الصحيح، أمثال: الرافعي، علي أحمد باكثير، والسحار، والكيلاني، ومحمود تيمور وغيرهم. وفي هذا قال «أستطيع أن أقول إنني عشت مرحلة نقد المجتمع من 1940 – 1950، ثم عشت مرحلة معالجة الواقع من 1950 – 1960، وتناولت قضايانا الوطنية والقومية، وهي مرحلة تقبلت فيها بعض المفاهيم المطروحة قبل أن تتبين لي خفاياها، ثم بدأت بعد 1964 مرحلة تصحيح المفاهيم بعد أن سيطرت الشيوعية على بعض بلدان العالم الإسلامي».
ومن أهم القضايا التي شغلت حيّزاً كبيراً من فكر الأستاذ أنور الجندي: قضية تحكيم الشريعة والحفاظ على الهوية الإسلامية الأصيلة، وردّ الشبهات الباطلة، والأقاويل المضللة، كذلك ناقش قضايا الصحوة الإسلامية، وتصحيح المفاهيم بإيقاظ الفكر العربي وأسلمة العلوم، وتصدى للتحديات التي تواجه الدعوة، والتربية وبناء الأجيال والمد الإسلامي وعالمية الرسالة، وقضايا القومية العربية والوحدة وأفرد لها كتابات مستقلة متبنياً رؤية موسوعية متكاملة قال عنها: «يجب ألا تستغرقنا التفاصيل والجزئيات، وأن نظل قادرين على امتلاك ناصية الأصول العامة، والمسائل الرئيسة، والمواقف الأساسية، وجمع الخطوط الكبرى في تكوين متكامل يجعلنا قادرين على الرؤية الكلية الدائمة، وهذا هو مفهوم التكامل الذي علمنا الإسلام إياه».
رائد مدرسة الأصالة
عُرف (رحمه الله) بأنه كان رائد مدرسة الأصالة الفكرية الإسلامية التي تنطلق من رؤية مفادها أن الفكر الإسلامي فكر جامع، وعلى الباحث المسلم أن يكون ملماً بجميع عناصره، فإذا كان له تخصص في واحد منها بعد ذلك، أي بعد إلمامه بكل الفروع، فلا مانع، لذا كان يرفض النظرية التي تقول بتطوير الإسلام أو تلقيمه بأفكار أخرى، مشيراً إلى أن الإسلام ذاتية متميزة لها من عوامل الثبات ما يكفل لها استمرار العطاء على مدى العصور، والثبات مع سماحة التغيير في الفروع.
ويمكن القول: إن الأستاذ كان أميناً على الثقافة الإسلامية لأربعة أجيال متعاقبة، جيل البناء والتأسيس، جيل الصبر والجهاد، جيل التكوين والانتشار، ثم جيل التربية والمستقبل. ولم تتوقف ريادته لمدرسة الأصالة على الأدب فحسب، فقد نبغ كذلك في مجال الاجتماع، حيث كشف زيف مقولات فرويد وماركس وداروين ودوركايم. وفي الفلسفة أنصف الغزالي وابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرهم. وفي التاريخ هدف إلى تحرير التاريخ الإسلامي من التفسيرات المادية والوافدة، سواءً كانت غربية أو ماركسية، وكشف الشبهات التي أثيرت في هذا المجال. كما كانت له باع طويلة في ميدان تصحيح المفاهيم؛ إذ واجه الأطروحات التغريبية التي قدّمها الاستشراق بما فيها من سموم، وخاصة في مجال القرآن والسنة والسيرة والشريعة وغيرها من المجالات، وأهمها ميدان التربية.
وقد ظل الأستاذ أنور الجندي (رحمه الله) ممسكاً بالقلم، يشهره في خدمة دعوته وصيانة عقيدته، ليس فقط في مجال التأليف، إنما أيضاً في مجال الصحافة الذي ظل يصول ويجول فيه على مدار ستين عاماً حتى لقّبه البعض برائد الصحافة الإسلامية.
ميراث الأنبياء
كما قال (صلى الله عليه وسلم)، ورث الأستاذ أنور الجندي العلم –ميراث الأنبياء– عن جده ووالده، ممثلاً في مكتبة الأسرة الهائلة الزاخرة بأمهات الكتب، فكان من الطبيعي أن يورث العلم من بعده؛ لذا فقد أوصى قبل موته بأن تصبح مكتبته بما فيها من كنوز العلم والمعرفة وقفاً لله، وأن تصنّف وتتاح لجمهور القراء والباحثين. وبالفعل قامت كريمته بالحفاظ على هذه المكتبة عملاً بوصية الوالد الكريم؛ لتكون المكتبة عوناً لطلاب العلم، ومرجعاً نقياً للاطلاع على أصالة الفكر الإسلامي في القضايا كافة، كما تبنّت مشروعاً لحفظ تراثه الذي تمثّل أهم ملامحه في:
- ترتيب مكتبته الشخصية من مؤلفات وموسوعات وبحوث ومقالات، وغيرها من الدراسات التي تناولت فكره وأدبه ومنهجه.
- ترتيب المكتبة الخاصة به، التي تضم آلاف الكتب والمرجع في شتى مناحي الفكر والثقافة والعلوم اللغوية والشرعية.
- فضلاً عن أرشيف الموضوعات السياسية والثقافية والفكرية التي نشرتها الصحف عنه وله.
- فهرسة مؤلفاته بمختلف أنواعها.
- إنشاء موقع خاص به على الشبكة العنكبوتية، وإنشاء جمعية أدبية فكرية باسمه.
- نشر ما لم ينشر من مؤلفاته، وإعادة نشر ما يمكن من مؤلفاته بعد تحقيقها.
وهكذا يظل المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي –رغم رحيله– قامة فكرية سامقة، ورمزاً أصيلاً للمثقف المسلم الذي يعيش هموم أمته وينتصر لهويتها، ويذود عن عقيدتها؛ ليكون من الرجال الذين عبر عنهم المفكر والمؤرخ الإسلامي عبد الرحمن الكواكبي بقوله: «ينبّهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون».