المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فتية الكهف


مستزيد
03-11-2008, 02:20 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
فتية الكهف



[الكاتب : أبو سعد العاملي]


وقفات تربوية مع سورة الكهف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد...

بعد هذه المقدمة المستفيضة [1]، نُقبل على تفصيل مواضيع القصص الواردة في سورة الكهف، قصة قصة، نقف وقفات تربوية عند أهم المحطات فيها، ونحاول استخلاص الدروس والعبر لنصحبها معنا في مسيرة الدعوة والتحرك بهذا الدين، وتلك هي الأهداف المتوخاة وراء ذكر هذه القصص القرآني، {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.

التميز والتحدي والمفاصلة والثبات والتضحية، تلك هي أهم الشعارات التي تميز القصة، ويتميز بها أبطالها في زمن قلَ فيه النصير، وكثر فيه الأعداء، سنقف عند كل عنوان على حدة، لأنها نفس الشارات والرايات التي يرفعها أصحاب الحق في مواجهة أهل الباطل في كل زمان ومكان..

التميز:

يتمثل في قوله تعالى: {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى}، لقد تميزوا عن قومهم بالإيمان بالله واعتناق عقيدة التوحيد المخالفة لدين قومهم، مهما كثر من حولهم ومهما قل عددهم هم في مواجهة ما يؤمن به المخالفون من حولهم، فالنفوس المؤمنة تكون قلة في بداية الأمر ثم ما تلبث أن تتكاثر وتتجذر في المحيط الذي تتحرك فيه.

حينما يلجأ المؤمن إلى ربه ويؤمن به وحده، وهو في موقف الضعف، فإن الله تعالى يقف إلى جانب عبده ليقويه ويثبته وينير له الطريق، فيزيده هدى الثبات والاستقامة على هدى الإيمان.

لقد تميز الفتية عن قومهم بأن فارقوا دين آبائهم وأجدادهم، ودين قومهم بالرغم من أنهم كانوا من علية القوم، ولم يكن ينقصهم متاع الحياة الدنيا الذي يتنافس عليه الناس ويتصارعون من أجله.

تلك هي الخطوة الأولى في طريق التغيير، لابد من أن تتميز بعقيدتك وأخلاقك وتعاملاتك، فذلك بمثابة تأسيس النواة التي سيحوم حولها المؤمنون معك وكل الأنصار القادمين.

التحدي:

بعد التميز تأتي استفزازات المخالفين لك في العقيدة والانتماء، فتبدأ سلسلة مواجهات كلامية - في بداية الأمر - لكي تغير قناعاتك وتتنازل عن معتقداتك فتعود إلى ما عليه القوم، لأن في ذلك انتصار لمذهبهم وحفاظ على مكتسباتهم واستمرار لسلطتهم، ولكن المؤمن الصادق لا يسعه إلا أن يقابل هذه الاستفزازات بتحد صارخ لا يقبل المساومة، ولا يترك مجالاً للعودة إلى الوراء، بل هو إعلان للبراءة مما يخالف عقيدته؛ {إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده}.

وقد قالها فتية الكهف في مواجهة قومهم {وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً، لقد قلنا إذاً شططاً}.

تثبيت لألوهية الله عز وجل وربوبيته في هذا الكون ووحدانيته، ونفي كل شريك معه، ويترتب على هذا التصريح بالكفر بما سواه، ويترجم هذا بالخروج عن القوانين الوضعية وعدم التحاكم إليها، والسعي الحثيث لإزالتها واستبدالها بشريعة الله عز وجل المنزلة. وقد يتولد على هذا التحدي مجموعة تبعات لابد من تحملها والقيام بها على أحسن وجه، مهما كلف ذلك من تضحيات وخسائر.

إن الإيمان حينما يخالط بشاشته القلوب المؤمنة، فإن أصحابها لا يأبهون بما يتبع ذلك، فهم يستمدون قوتهم وثباتهم من الله عز وجل، ويتقدمون إلى الأمام للإعلان عن هذا الميلاد الجديد، وعن هذه الحياة الجديدة، ويحاولون نشر هذا النور ليعم في الآفاق، وهم يعلمون علم اليقين أن الناس من حولهم مجرد عبيد، ضعفاء لا يملكون أن يحجبوا هذا النور الساطع مهما أوتوا من قوة وبطش وبأس شديد.

بل إن صاحب الإيمان يستعلي بإيمانه عن كل الحواجز والعقبات، ويسعى جاهداً لإيصال هذا النور إلى الناس من حوله، وحينما يعترض طريقه معترض، فإنه سيحاول إزالته بكل الوسائل الممكنة، وفي حدود طاقته، لتعبيد طريق الدعوة لمن يأتي بعده.

الثبات:

لعل أهم ما يميز طريق المؤمن هو كثرة العقبات والأشواك و تنوعها، مما يحتم على المؤمن أن يكون ذو همة عالية وصبر قوي ونفس طويل، وهو ما يمكننا جمعه في كلمة واحدة ألا وهو الثبات أو الاستقامة على الأمر [2].

فالاستقامة درجة أعلى من درجة الإيمان، لأنها تطالب صاحبها أن يكون دائم الطاعة والإتباع، لما في ذلك من مخالفة للهوى والأعراف والقوانين، وما يتبع ذلك من حرمان وأذى وفوات لمصالح مادية عديدة، وهو أمر قاس على النفس، يحتاج صاحبها إلى امتلاك إرادة قوية، وتوفيق من الله وتسديد.

والمؤمن بحاجة إلى الاستقامة في اليسر والعسر، حيث أن كثيراً من الناس يستطيعون تحقيق الاستقامة على أمر الله في حالات الرخاء والسعة، بينما تراهم يتزعزعون ويرتبكون ويضعفون في حالات الشدة والضيق، وهي الأكثر حضوراً في هذا الزمان، حيث أن الإسلام وأهله يعيشون تحت حصار شامل ومتواصل من قبل أعداء الله، بغية ردهم عن دينهم وفتنتهم عن عقيدتهم، وهذا يحتاج منا معشر المسلمين والمؤمنين أن نتسلح بسلاح الاستقامة والثبات على ديننا مهما اشتد هذا الضيق واتسع هذا الحصار.

لقد ثبت الفتية من قبلنا على دينهم، وهم لنا في هذا المجال أسوة حسنة، بالرغم من قلة عددهم وضعف عدتهم، ولقد قاوموا إغراءات قومهم وتهديداتهم، فانتصروا بإيمانهم وعقيدتهم، ونحن مطالبون بأن نحذو حذوهم في هذا الزمان لنحقق ما حققوه، فنجمع صفات الإيمان والتميز والتحدي والثبات إلى جانب صفات الدعوة والجهاد [3].

المفاصلة:

{وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله، فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً}.

وهي نوعان، مفاصلة معنوية شعورية ومفاصلة حركية مادية. فأما المفاصلة الشعورية فيحققها المؤمنون بمجرد انتمائهم لدين الله عز وجل، حيث يهجرون معتقدات القوم وعاداتهم الباطلة، ويعكفون على عبادة الله وحده وطاعته في كل صغيرة وكبيرة، كما أنهم يغسلون أفكارهم من كل الشوائب الجاهلية فتصفو وترتقي إلى معالي الأمور، لا هم لها سوى السعي إلى تعبيد الناس لربهم والقضاء على عبودية البشر للبشر والأهواء.

أما المفاصلة المادية الحركية، فتكون بالانتقال من مكان المعصية أو الكفر إلى مكان الطاعة والإيمان، وهذا ما يصطلح عليه شرعاً بالهجرة. وتأتي الهجرة كآخر حل للمؤمنين للنجاة بدينهم والحفاظ على عقيدتهم، خوفاً من الفتنة والعودة إلى الكفر بعدما خرجوا منه.

وتكون الهجرة أولاً بالانتماء إلى التجمع الإيماني، والسعي إلى تقويض النظام الجاهلي لا المصالحة معه، وذلك بالعمل المتواصل الدءوب والمنظم داخل المجتمع المراد تغييره، حتى إذا أغلقت الأبواب وسدت كل الطرق في وجه التجمع الإيماني، فإنه حينئذ وحينئذ فقط، يلجأ إلى الهجرة، وهو الانتقال إلى مكان آمن يستطيع أن يواصل فيه إعداده لعملية التغيير داخل مجتمعه.

لقد هاجر فتية الكهف مجتمعهم بعدما أحسوا بعدم القدرة على مواجهة قومهم، حيث كان هناك عدم تكافئ واضح في موازين القوة، فقد كانوا أفراداً معدودين لا يمكنهم مواجهة نظام قائم بعدته وعتاده. كما أن الله تعالى لم يكتب عليهم هذه المواجهة لحكمة يعلمها سبحانه. قد يكون من بينها تحقيق معجزات وكرامات لهؤلاء الفتية ما كانت لتتحقق لو أنهم دخلوا في مواجهة مباشرة مع قومهم.

كما أود أم أنبه على حقيقة مهمة في مفهوم النصر، ذلك أن الغلبة والتمكين يكون للمبادئ والقيم، أما انتصار الأشخاص فلا يكون هو الصورة الوحيدة للنصر، ذلك ليعلم المؤمنون أن ذهاب الأرواح في سبيل الله، وفي سبيل نصرة العقيدة هو قمة الانتصار والتمكين وليس العكس.

إن المفاصلة ضرورة حتمية يحتاجها أصحاب الحق، لكي يتمكنوا من إعداد العدة في أجواء مناسبة، بعيداً عن أعين الأعداء. كما أن المفاصلة وسيلة فعالة لأصحاب الحق للتميز و من ثم استقطاب أعضاء جدد لدعوتهم.

تجمع جديد مستقل، وإعلان البراءة من المجتمع الجاهلي الذي يراد تغييره، ثم هو إعلان عن بدء عملية التغيير الشاملة والجذرية.

كما أن عملية المفاصلة تكون دائما مرافقة لمعية الله تعالى ومدده وحفظه؛ {فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً}.

وكما سبق القول، فإن صورة الكهف تتغير من زمن لآخر بحيث يؤدي دوره المتمثل في الحفاظ على المؤمنين وحمايتهم من بطش أعدائهم. ففي يومنا هذا يتمثل في هذه الجماعات المجاهدة التي تتناثر عبر عالمنا الإسلامي العريض، فهي التي يأوي إليها المجاهدون، أو الفرارون بدينهم، في انتظار انبعاثهم لمقاومة أهل الباطل من حولهم.

كما أن كهف العصر يتمثل اليوم في هذه الجبهات الجهادية التي فتحت على أيدي المؤمنين، ولقد أوى إليها المئات إن لم يكن الآلاف من فتية العصر، بعدما انقطعت بهم السبل في أوطانهم وبين أقوامهم، آثروا اللجوء إلى هذه الكهوف الجهادية فراراً بدينهم وحفاظاً على عقيدتهم، ولكن أيضاً استجابة لنداء إخوانهم المستضعفين، الذين يرزحون تحت نير الاحتلال الكافر والمرتد.

إن الكهوف المعاصرة تعتبر أماكن مثالية للإعداد الشامل، قبل أن يبعث الله هؤلاء الفتية من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل في عقر ديارهم التي خرجوا منها.

وهي تشكل خطراً كبيراً وعظيماً على أهل الباطل، لذلك تراهم ينفقون الجهود المضنية والأموال الطائلة لمنع تدفق فتية الجهاد إليها، ووضع الحواجز المتنوعة في طريقها.

إن فترة الإعداد ضرورية وحتمية لمسيرة الجهاد، وقد تطول هذه الفترة أو تقصر بحسب نوعية الموطن ونوعية الفئة المجاهدة كذلك [4].

وخلال فترة الإعداد يحيط الله تعالى عباده بالرعاية اللازمة ويعمي عنهم الأبصار حتى تتم إرادته وقدره على أيدي هؤلاء الفتية. وكما حمى فتية الكهف لمدة ثلاثمائة وتسع سنين دون أن يكشف أمرهم أحد، فإنه سبحانه قادر على حفظ فتية الجهاد في كل وقت، بالرغم من محاصرتهم وتهجيرهم في الأرض على أيدي الطغاة الظالمين.

{فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً، وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرظهم ذات الشمال وهم في فجوة منه، ذلك من آيات الله، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً}.

يحيطهم سبحانه بعنايته الواسعة، إلى حين انبعاثهم من أجل إقامة الحجة على الناس بالجهر بالحق ومقاومة الباطل من حولهم.

وحينما تأتي ساعة الحسم ويأذن الله للفتية بالخروج، فإنه سبحانه يهيئ الظروف المناسبة - المعنوية والمادية - لكي يتحقق وعد الله تعالى لعباده بالنصر والتمكين.

إن مجرد الخروج وإعلان البراءة من القيم الجاهلية القائمة والكفر بالقوانين الوضعية السائدة، هو في حد ذاته نصر كبير للقيم الإسلامية وتمكين لشرع الله تعالى في نفوس أصحابه أولاً، ثم في نفوس العديد من الأنصار ثانياً.

لقد انتصر فتية الكهف على قومهم حينما تمسكوا وثبتوا على عقيدتهم، وانتصروا على النظام القائم حينما لم يخضعوا لقوانينه، وخضعوا لله وحده ولو في كهف مظلم منعزل، وهذا لعمري هو النصر الحقيقي الذي يقهر الطغاة والظالمين في كل زمان.

وحينما يعجز الظالمون عن تركيع أهل الحق لأهوائهم وشرائعهم، فإنهم يلجأون إلى أساليب التخويف والترهيب من تهجير وسجن وتقتيل، عسى أن يحققوا أهدافهم، ولكن الله جل وعلا يأبى إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته ويهلك عدوه بأيدي المؤمنين.

وهكذا ينتصر فتية الكهف على رجالات القصر، ولم تنفعهم حصونهم ولا عتادهم في مواجهة فتية آمنوا بربهم فزادهم تقوى وثباتاً وصبراً، ولا استطاعوا أن يوقفوا مسيرة الإيمان بالرغم من غياب أصحابها عن الساحة، ليعلم أهل الحق أن الله ناصرهم وناشر دعوته في النفوس لمجرد ثبات أصحابها عليها.

لقد طالت مدة غيابهم عن الساحة، وكانت هذه الغيبة بمثابة وفاة لهم، أو بالتعبير القرآني الدقيق، شهادة في سبيل الله، تركوا وراءهم مواقف إيمانية عالية، أثرت في الناس من بعدهم، وتدارسوا سيرتهم جيلاً بعد جيل، حتى تحولوا إلى رموز للحق، وبعث الله تعالى من حمل رسالتهم وسار على نهجهم حتى أحق الله الحق وأبطل الباطل. وهكذا يكون أمر الشهداء، أحياء بين الناس بسيرتهم ومواقفهم حتى وإن غابوا بأجسادهم، كما يكون أمر السجناء والمعتقلين كذلك، فالثبات على الحق والاستقامة على المنهج كفيلان بنشر الدعوة والتأثير في الناس ولو كان الداعية غائباً عن الساحة.

أسأل الله سبحانه وتعالى في ختام هذا المقال أن يوفقنا لتجسيد هذه الصفات في أنفسنا لكي نكون من فتية العصر، ويلهمنا الصواب لنهتدي إلى كهف العصر.


والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه


كتبه الفقير إلى عفو ربه
أبو سعد العاملي
جمادى الآخر، 1426 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر مقال الكاتب؛ "وقفات تربوية مع سورة الكهف؛ قصة أصحاب الجنتين".

[2] أنظر مقالنا: "آمن ثم استقم"، مجلة الأنصار، عدد 20.

[3] أنظرمقالنا: "فتية الكهف وفتية الصف"، مجلة الأنصار.

[4] أنظر مقالنا: "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة".

abohmam
03-11-2008, 12:43 PM
جزاك الله خيرا أخى الفاضل على نقل هذه المواضيع المفيدة

وفعلا قصة أصحاب الكهف آية ومعجزة إلاهية للعبرة والعظة

بارك الله فيك

مستزيد
04-11-2008, 02:10 AM
جزاك الله خير فــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ القصص عبرة ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــي