المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وفاة الدكتور الشاعر عمر حيدر أمين عبهري


أبو يوسف
10-07-2011, 04:34 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

إنتقل اليوم إلى رحمته تعالى أخ عزيز وشاعر قدير وهو الدكتور عمر حيدر أمين عبهري والتي تربطني به علاقة نسب ؛ وأول مرة إلتقيته عند حماتي والتي تكون عمته فقد كانت رحمها الله تحب جمع العائلة ؛ وقد كنت أعرفه سابقا كونه طبيب ...

وقد تجلت شاعريته إذ اعتبر شاعر الجامعة في مصر بالإسكندرية عام 1964 عن قصيدة له في المديح النبوي مطلعها : -

ألله أكبر رددتها البيد ..

وبعد ان أنهى الطب عين في الأردن طبيبا في وكالة الغوث الدولية ثم رئيسا للقسم الطبي في وكالة الغوث ؛ والذي أنهى خدمته بها ثم أقعده المرض لعدة سنوات واليوم إنتقل إلى رحمته تعالى


يلخص الشاعر تجربة شعرية فريدة من نوعها فهو مؤمن بارتباط الشعر بالناس والحياة والوطن ؛ أي أن الشعر عنده ليس شعرا ذاتيا ينغلق على نفسه ويعبر عن تجربة ذاتية مغلقة ؛ وإنما هو تعبير عن الحياة المتجددة المتحركة المرتبطة بحركة الناس في اضطرابها وامتدادها وارتدادها ؛ فمن هذه الحركة يولد الشعر ، قبل أن يهجس به القلب وقبل أن يتجمع في هيئة كلمات على شفتي الشاعر أو في دفاتره الغامضة

لقد عبر الدكتور عمر حيدر أمين من حقل الطب ومشاغله الطبية والإنسانية إلى فضاء الشعر وما يحمله من آفاق رحبة تعانق الغاية الإنسانية في الطب وتتعاون معها في حماية الإنسان وصيانته من الشرور .

ولم يقف الدكتور عمر حيدر أمين عند حدود الهواية في الشعر وإنما تجاوز ذلك إلى آفاق الإبداع المتجدد وآية ذلك شعره المتوقد النابع من مقدرة فذة في الإلتزام بشروط الشعر ، ونواميس الفن وكأنه قد عزم على أن يخوض في الشعر خوض المتقنين المقتدرين .

ومن يطلع على تجربة شاعرنا لا بد سينتبه إلى ما يمتاز به شعره من جودة السبك ومتانة اللغة والتراكيب ومقدار عناية الشاعر بالإيقاع والموسيقى سواء أكانت القصيدة ضمن الشكل العمودي أم خرجت إلى الشكل الحديث (التفعيلة) قهو في كل حال يعتني بقصيدته ويحاول أن يوفر لها سائر ما يلزمها من ضروب التفنن والجمال وحسن الصياغة والصناعة

والتنبيه إلى عناية الشاعر باللغة فهو متقن لها وله بعض المؤلفات كعين الفعل الثلاثي وله بعض المخطوطات لم تر النور لمرضه فالدكتور اعتنى باللغة مما لها من أهمية إذا ما تذكرنا العواصف العاتية التي ضربت لغة الشعر الحديث وعصفت بها فقد ارتبكت ألسن الشعراء ، وتلعثمت بالحروف فاستحار الكلام وغمض المعنى ، لا بحثا عن العمق ولا تعبيرا عن رؤية معقدة وإنما جهلا بأصول اللغة وبعدا عن معاقلها ، فصارت لغة الشعر مهلهلة مفزعة ، مع أن اللغة أساس الشعر ومادته الأولى ، وشعر عمر حيدر أمين يقدم نموذجا مشرفا للغة الحقة التي ينبغي للشعر أن يتقصدها ويؤم قبلتها لما فيه من روعة البيان وجمال النسيج وإشراق الدلالة ؛ وهذه بعض أبيات قصيدة طويلة قالها حين استشهاد محمد الدرة : -

يا ايها السارون ..ذاك محمّد ..قد عقّه الأخوال والأعمام
نثروه تحت العاديات مجرّداً .. تحتزّه الحسرات والآلام
في خلف برميل يبابٍ ، ما به .. نفطٌ ، ولا تحت الغطاء طعام
وأبوك يحتضن الرصاص لعلّه ..يحميك مما يبيّت الإجرام
ويميل رأسك في يديه مضرّجاً .. وفؤاده فوق الحطام حطام
ويغيب في الأفق البعيد لعلّه ..يأتي بوجهك يا حبيب منام
وتضيق أسئلة الحياة بأهلها .. وتفرّ من ساعاتها الأيام
إلى ان يقول :-

عيناك تقتلني وتفضح خيبتي .. وتصيح : أين العرب والإسلام
في كلّ آه خنجر في أضلعي .. وبكل عرق جذوة وضرام
إني أرى يحيى أتاك مرحباَ ... وسط النعيم ، وهلّل القسّام
وينهي قصيدته :

إني حملتك في ضميري شاهداَ .. أن السّلام مع الطغاة حرام
هذا التراب أعزّ في ذرّاته ..من أن يدنّس طهره حاخام
--------------------
وهناك علامات أخرى لا تقل عن أهمية اللغة والموسيقى في المعمار الشعري ، ومنها هذه المعاني الكبرى التي يعبر عنها ؛ فالوطن دائما حاضرا في شعره يدافع عنه بحرارة وإيمان وصدق ويكشف عن عوامل الخلل وأسباب الضياع ، وفي أحيان اخرى يعبر عن شوقه ووجده كما في قصيدته المميزه (البرتقالة الحزينة) ولنا أن نتصور كيف أشعلت البرتقاله القادمه من حيفا روح الشاعر وقدحت زناد القصيدة ، فما الذي يجعل برتقالة وحيدة تفعل كل هذا ؟؟ أليس ارتباطها بالوطن ، وتذكيرها به ، مع أن الشاعر يدرك ان الوطن ليس برتقالة وليس حقلا فقط ، وإنما يطلب لذاته ، ولما فيه من رمز وواقع وحق :

قطفوها خلسة عن فرعها ... وأسرّوها لكي تُهْدى إليّ
فبدت ذابلة أوراقها ...وهي تلقي نظرة حيرى عليّ
عرفتني في ثنايا حزنها ..فأراحت وجهها في راحتيّ
وأحاطت بشذاها عنقي .. وأزاحت دمعها من مقلتيّ
تحمل الكرمل في أحنائها ... لتراه ساكناً في ناظريّ
وغفت تقرأ أحلامي وهل ... ترك التسهيد أحلاما لديّ
منذ خمسين زمانا لم تنم ..وهي تقضي العمر في ليتٍ وكيّ
وأنا ما زلت أسعى بالنّوى ..ودروب القهر تّدمي مقلتيّ
وتساءلتُ وما بي سِنَةٌ .. وشفاه الوجد تعلو شفتيّ
أين كنعان وعمروٌ والألى ..زرعوا روح الثّرى في ساعديّ
والحواكير وأترابي معي .. وأغاريد النّدى في مسمعيّ
وخطا القسّام في تلك الربى ..فأجابت : ها هنا ..والكل حيّ
لا تزال القدس في إيمانهم ..قبسا يسعى بهم في كل حيّ
لا تقل : يا بعدُ إني ظاعنٌ ...رغم أن القيد يدمي معصميّ
وغفت تحتضن الأقصى وقد .. تركت أحلامها بين يديّ

وعند الدكتور روح ساخرة تنقلنا إلى أطياف من التهكم الفني الذي لا يتقصد الإضحاك لكنه (المضحكات المبكيات) وقد تبدى ذلك في قصيدة حمار الحيّ وقصيدة الكسوف وقصيدة الخطيب والجمهور وهبنّقة الذي كلن يرعى الغنم ويضع قلادة في رقبته ويضع الغنم السمان في المكان الخصيب والعجاف في المكان الجدب : -

قالـوا : لقـد ضيّعـت جُــلَّ خِرافـنـا....ومنعت عنهـا العُشـب والأمواهـا
واختَرْت للمرْعى السِّمـان فَطُبِّقـت....شَحْمـاً وضــاق بأكلـهـا مرعـاهـا
أفــــلا تــســاوي بـيـنـهـا بـعـدالــة....وتـضــمّ يـسـراهـا إلـــى يـمـنـاهـا
فـمـشـى يُـزَيّــن صــــدْره بِــقــلادة...ويُـشـيــرُ نــحــو خِــرافــةٍ تـيّـاهــا
"إنْ كـانَ ربّـكَ قـد قضـى بِهُزالهـا.......أأنـــا أُغــيِّــرُ خِـلْـقَــةً سَــوّاهــا"
لـو كـان للغـنـمِ العِـجـافِ مخـالـبٌ......ما كان يَرْعى في الخصيب سِواها


وأنهي سيرة الشاعر رحمه الله بكلام شاعر لا اعرف إسمه ولكنه يكنى بأبي بشار : -


الواقع حاقن أكبر ،والكاتب بطل يطل من ركام المأساة حاملا القلم والحلم ،نافضا جناحيه متجها صوب الأمل ،ومنابع النور متحولا الى طائر الطموح الأزرق ،منشدا جداول ذلك الأمل !

وأكمل ..ولسان حاله يقول : -
_ جمد الأين طريقي /فاقترب مني رفيقي /انني مثلك قولي لست أدري ما طريقي !
لكن شاعرنا يعرف حقا هذا الطريق ،المنسرب من الحدقات والأفواه !
ونحن اليوم في ضيافته ..ضيافة شاعر طموح خلاق ، واءم بين العلم والأدب ،فتوأمهما ،مخترقا ذلك الحاجز الوهمي المفترض بينهما ظلما وعدوانا ،مثبتا تكاملهما الا محدود ،وجناحيه التي تحفظ للجسم توازنه الرائع الصحي .. فشاعرنا يملك قامة شعرية فاعلة ،تملك أدواتها بثقة واقتدار ، اعتبر الأدب رئة ثالثة لها ،تتنفس منها نافضة غضبها ،معلنة تمردها على الواقع المترهل المزيف اللائذ بالخوف والمحتمي في الجبن !!
استطاع الدكتور الأديب ،والشاعر الطبيب : عمر حيدر أمين العبهري ،تحقيق المعادلة الصعبة ، اذ أوجز فابدع ،مطبقا مقولة :اذا لم تكن شاعرا كبيرا فالصمت أولى بك ..
وشاعرنا العبهري، كبيرعلى أكثر من مستوى ،فهو كبير في اللغة والموضوع ،عباراته الشعرية منتقاة مكثفة موجزة مموسقة ، تنصب في قالب عروضي رائع موفق يخدم ألايقاع ليخدم المعنى بل اكثر من هذا ،اذ تتسربل بسخرية مرة رفيعة تدغدغك واضعة النقاط على الحروف ! .
سأضف الى ذلك انتقائية عالية للموضوع المهم ذي ألأولوية ،وطنيا وقوميا وتراثيا مؤطرا بواقعية تنقل نبض ألاحساس الجمعي ،وكأني به يفرض الشعار المعروف :الشاعر ضمير ألأمة وناقوسها ألأمين ..
ومن حق القاريء علينا أن نفصل القول، ان شاعرنا العبهري ،استطاع أن يثبت صوته الشعري بهدوء على خارطة الشعر العربي المعاصر ، رغم ما صدر له من دواوين ثلاثة بعشرات القصائد عمودية في معظمها ، تطرقت الى موضوعات قليلة رغم ثمانة ما تناولته . كل هذا في غياب ألأنا التي ارهقت جسمنا الشعري العربي
فشكلت له مراكب نقص وصمته فأعمته وحدت من بصيرته فأغشتها عن الموضوع ألأهم ،ذلك الموضوع الجمعي كالوطني السيادي ..ونحن ألامة المنهوبة الموزعة المهدرة !
ففي احدث اصدار لشاعرنا ،جمع فيه احدى وأربعين قصيدة مختارة من دواوينه الثلاثة : حكاية اجبر / أطلت الكسوف لأني / ماذا لو / والتي واكبت رحلته مع فن العربية دون منازع ( الشعر ) عبر عقوده الخمسة ، ابتداء بستينات القرن الماضي ، جائت بمثابة ( أيقونات ) تحمل شموع التحرر من كل زيف ودرن وتفتح أبواب ألأمل ألمنشود ومنافذه ، مشرعة للحلم آفاقا رحبة ، وفق رؤية وحدوية طموحة متحدية واثقة بربها ونفسها وأمتها وموروثها ، أمسها وغدها نافية حاضرها المهيض الراسف في قيود الجهل وأغلال الظلم والظلمات .
فاستمع اليه متسائلا . بمرارة التطلع لغده :
- فأين ألقى جدة الحروف ؟ وأين ألقى سعة الحروف ؟
- فما وجدت في دقائق اللغات / مسافة تختصر الزمان أو تطلق اللسان في اللسان
- أو قوله متميزا :
- أنالا أدب مع الجموع مسلما تقتادني العادات والأعراف
- سأسير في لفح الهجير ولو بدا أن النسيم مع الجموع رخاء
- راويا للعالم قصة شعبه المأساوية :
- هي قصة المأساة يروي هولها في كل يوم الشتات دفين
- صارخا من جديد على ضياع الحقوق :
وطني وهل ينسى النزيف دماءه ؟ والنجم هل يغفو عن الدوران ؟
وعند شاعرنا الأديب العالم ، نظرته الثاقبة الموفقة للشعر واشتراطاته له .
فالشعر عنده هو : ما بشر بالحياة ، وطمح للجمال وغنى للحرية ، ولعلنا ننصف هذا الصوت المتميز عذوبة والما معا.
فنقول : انه أشبه بلفح الحمم تعلو القمم ، لشدة أوارها ، مطر الاحساس ينسكب في أعتى الظروف !.
وربما يقودنا استعراض لسيمياء عنونته ، بسهولة الى ما دلنا عليه فيما مضى .. فمن حوار مع النفس واصفا نفسه بالنورس المهموم ، والذرة المسجونة على الشاطيء ! اذ يقول:
والنورس المهموم يحمل سيرتي والموج مصلوب الشراع أمامي
.. الى : رؤيا، مودعا سر الصمود الأسطوري والتعلق بالوطن ، الى عرس أريحا ، واستراحة المحارب
وخالد حتى الحجر ، وحلم السلام ، وحكاية أجبر ! فمن حكاية أجبر ( االمسحوق )
ما الذي يبكيك يا أجبر في هذا الظلام ؟
فالنواطير نيام ...وذيول الليل في الليل تنام فاسرق الليل ونم مثل النيام


رحم الله الشاعر ونسأل الله أن يدخله فسيح جنانه

حيدرصبح
21-07-2011, 07:14 PM
أحسن الله عزاءكم وإنا لله وإنا إليه راجعون