خضر صبح
21-08-2011, 08:36 AM
ليلة صـــراع
قصة قصيرة
بقلم:خضر صبح
أهدي هذه القصة لـخضر صبح
راجيا نقد هذه القصة ووضع صورة مناسبة لانني سأعمل على نشرها في كتاب
صفق باب المطبخ خلفه مبددا سكون المكان ومضى يسير بخطى ثقيلة نحو مكتبه وضع فوقه كوب القهوة الكبير ... أزاح الكرسي الحديدي مثبتا فوقه قطعة الإسفنج ثم جلس عليها ... تناول الكتاب بين يديه ... نزع فردتي (الشبشب ) من قدميه اللتين رفعهما فوق طاولة المكتب كعادته إذا تأخر في السهر للدراسة .
سمع من الغرفة المجاورة محمودا يخاطب خالدا:
_ لا تنس إذا استيقظت مبكرا أن توقظني معك.
ثم رفع صوته :
_ بشير ،لا تنس أن تغلق الباب الخلفي وتطفئ الكهرباء قبل أن تنام .
شعر بشير بالامتعاض؛ لأنه إذا رفع قدميه على المكتب يكره أن ينزلهما...تناول كوب القهوة ...وارتشف رشفة ونظر إلى الكتاب بين يديه .
ارتكز بقدميه كلتيهما على حافة المكتب دافعا الكرسي الذي تحته... دس قدميه في داخل (الشبشب ) ثم وقف متجها إلى الباب الخلفي ،فأوصده بالمزلاج الحديدي وعاد مرة أخرى .
تجاوزت الساعة الثانية عشرة ...
يتنفس الظلام في كل مكان ، وسكان شارع السلام بمدينة الخليل أطفؤوا الأنوار إلا من بضع بيوت هنا وهناك تحدوا كتل الليل بمصابيح بيوتهم .
بشير لا يزال يطالع في الكتاب الذي بين يديه ... تمر عيناه على الكلمات وهو لا يكاد يقرا شيئا ... فتح فاه على آخره متثائبا ... فضغط فكيه بكلتا يديه مغلقا المذكور ... سقط الكتاب وأخذته سنة من النوم .
تراءى له انه يسمع صوتا وهمهمة مكبوتة من الباب الخلفي الذي أغلقه من الداخل بإحكام قبل جلوسه . بدا الخوف يتسلل إلى أعماق نفسه ... فكل زملائه في السكن الطلابي يغطّون في سبات عميق... لم يدر ماذا يفعل.
سمع دبيبا غريبا قادما نحوه من نفس المكان ،تجمدت أطرافه من شدة الخوف ... فهو وحيد الآن، لكن يجب أن يفعل شيئا.
تردد السؤال في عقله الذي يستعيد تركيزه في بطء , وبدأ يشعر بالخوف الزائد وهو يتابع حواره الصامت مع نفسه
ماذا يفعل؟
دارت عيناه في محجريهما ... ثم مد يدا مرتجفة إلى صندوق قرطاسيته ، واخرج مسطرة حديدية .. امسكها بقوة من طرفها... وحاول النهوض فلم يستطع .
جمع شتات قوته واخذ يدفع الكرسي الذي انزاح مخرجا صوتا عاليا... ضغط شفته السفلى بأسنانه فكاد يدميها ... نظر إلى الكرسي بشيء من السخط ، فرأى فوقه قطعة قماش صغيرة من لون بنطاله ، فوضع يده على قفاه ... فعلم حيث العلم لا يجدي الفتى أن البنطال قد أعطاه عمره .
وقف مكانه هادئا ظاهره ، ثائرا داخله يصيغ السمع ،فلم يسمع شيئا ،فحرك قدمه بهدوء وطفق يسير على رؤوس أصابعه يقدم خطوة ويؤخر أخرى حتى وصل باب الغرفة .
اخرج طرف رأسه ونظر بعين واحدة مكان الصوت فلم ير شيئا... أدار وجهه هنا وهناك وخرج بكامل جسمه وقد استعاد بعضا من رباطة جأشه ؟
فجأة سمع دويا هائلا أعقبته حركة غريبة جعلت قلبه يقفز من بين ضلوعه... لقد كان الصوت منبعثا من المطبخ .
كتم أنفاسه ولبث في مكانه برهة ثم سار نحوه، نظر من فرجة الباب فرأى زجاجا متناثرا فوق أرضه.. رفع رأسه ينظر لمكان كانت فيه بعض الأواني الزجاجية فرأى جرذا ضخما ينظر إليه مهدوا.
هاله ما رأى ...فاتسعت عيناه على آخرهما والتصق بالحائط يرتجف من شدة الخوف ... أراد أن يعود أدراجه ، حرك قدمه ببطء إلى الوراء واستدار برأسه ففوجئ بفئران ثلاثة يسرن متتابعات كأنهن في عرض عسكري
طار قلبه هلعا، أراد أن يصرخ لكن صرخته غاصت في حلقه...
النجدة.
بحث عن صوته فلم يجده بسبب انفعاله وخوفه، فجأة سمع صيحة فظيعة ارتجّت لها أركان الغرفة، بحث عن مصدرها بطرف عينه، فتنبه بعد لحظات أن مصدر الصرخة حنجرته هو فاخذ يصيح:
النجدة .النجدة ...جرذان جرذان .
هرع من في السكن من الطلاب إلى المكانس والأحذية يهاجمهم النعاس وهم يهاجمون الجرذان ... صدت الجرذان الهجوم الطلابي الباهت، بهجوم فئراني مضاد... مرغمة إياهم على الفرار.
تراجع الطلاب واعتلوا الأسرة بتغيير تكتيكي لطبيعة المعركة من حالة الهجوم إلى حالة التحصن داخل الغرف .
قفز بشير فوق الخزانة حتى يظل بعيدا عن براثن الجرذان التي اقتحم احدها الغرفة واخذ يتمايل فوق أرضها ... فشعر خالد بكثير من الغضب فرماه بحذائه .. الحذاء ارتطم بالأرض محدثا فرقعة مثل فرقعة الرصاص.
ومع صوت الفرقعة عادت إلى بشير بقايا رجولته وولّى عنه الفزع ... فهو الآن ليس وحده .... قفز من فوق الخزانة على الجرذ بكل ثقله ... فخرجت أمعاء الجرذ من بين جنبيه ... دار حول نفسه ثمّ خرّ على الأرض صريعا .
هاج السكن وماج وسمعت من هنا وهناك عبارات الثناء للعمل البطولي الذي أقدم عليه بشير ... أخذت عيون الطلاب تنظر إليه بامتنان وإعجاب .
شعر بهم يلتفون حوله وينتظرون منه شيئا جديدا
عمل عقله بسرعة .. وعيناه تدوران في المكان بسرعة لا تنافسها إلا سرعة الفئران التي تدمر بالمنزل في حين الجم التوتر السنة زملائه
ارتفع صوته وهو يقول في صرامة
ينبغي أن نقسم أنفسنا الى قسمين ونطرد الفئران القذرة من محلنا
اخذ المبادرة وقسم الطلاب إلى فريقين، احدهما للهجوم والثاني للدفاع. تخيّر العناصر الهجومية ممن توخى فيهم الخفة وسرعة الحركة حتى يكونوا الأقدر على الكرّ والفرّ وكان هو على رأسها .. فحملوا عصيّ المكانس وبعض أواني المطبخ وانتظموا ميمنة وميسرة ووسطا واخذوا أهبة الاستعداد
وتسلحت الفرق الدفاعية بالأحذية والكتب الثقيلة كسلاح تكتيكي يضمن التغطية الجوية للفرق الهجومية.
أشار بشير للفرق الدفاعية فبدأت المعركة بقصف مكثف بالأحذية استطاعت أن تفتح في صفوف الجرذان ثغرة استغلتها الفرق الهجومية بان شنت هجوما سريعا على الجرذان .
تصدت الجرذان لهجوم الطلاب بان شنت هجوما مضادا ودارت معركة شرسة... التفّت ميمنة الطلاب وميسرتهم حول الجرذان ، وتلقّت نصيبها من الإصابات البليغة ، و في نفس الوقت استمر قصف الأحذية المكثف من قبل المدافعين .
لم يستطع الوسط الطلابي الثبات أمام زحف الفئران... فاخذ بالتقهقر ... لكن بشيرا الذي كان على رأس الوسط ثبت في وجه الزحف كجلمود صخر لا يتزحزح... لا يبالي بأنياب الفئران بل يمسك الفأر والفأرين والثلاثة من ذيولها ويلفّها حول نفسها ثم يلقيها في وجه غيرها من الفئران وكان يستعمل كلتا يديه ورجليه.
عادت فلول الوسط تؤجّج رحى المعركة وتزيد من حدتها خصوصا بعد أن ركّزت فرق الدفاع قصفها المساند لفرق الوسط.
تراجعت الجرذان وهمّت بالفرار من السكن ... وكان الجيران في الخارج قد تجمعوا بسبب الجلبة الشديدة والقلق على الطلاب .
اطلّ جرذ برأسه من الباب ففوجئ بحجر يرتطم بالباب فوق رأسه كالقنبلة ... ففر إلى الداخل تتبعه فلول الجرذان ...
تصدت الفرق لها التي كانت لا تزال تضرب بعنف وقوة.ناوشتها الجرذان ثم عادت تفر إلى الخارج حيث وقعت بين نارين .
ولله در بشير فقد أبلى بلاء وأي بلاء...
كان يتقدم الجموع ويكيل الصاع تلو الصاع،
يدور ويضرب يتقدم ولا يتراجع
يكرّ ولا يفرّ.
فعمّ الصخب المكان وتطايرت الأحذية والأحجار وانتشر الغبار .
مضت ثلث ساعة...
وبدا الغبار ينقشع مؤذنا بانتهاء المعركة وانتصار الطلاب انتصار ساحقا ...
تقدّم أبو الأديب من بشير ومدّ يده مصافحا وهو يقول:
أبارك لكم يا أبنائي السلامة والنصر.. ونحن جاهزون عند الحاجة
أسبل بشير جفنيه , ثم ابتسم متمتما وهو يقول:
هذا بفضل الله سبحانه ثم بفضل جهدكم ووحدتكم
أشار أبو الأديب إلى الجيران فبدؤوا العودة إلى مساكنهم ..يتحدثون عن الظاهرة الغريبة .. وقوف الطلاب بهذا الاستبسال وتدخل الجيران المباشر.. ظل الطلاب واقفين حتى انقطع الصوت
عاد الطلاب إلى السكن مرتدين ثوب النصر ... وكل منهم يبرز عضلاته... ويبرم شنبيه ويحدث عن بطولاته .
شرع الطلاب يبحثون عن أحذيتهم التي تناثرت في كل مكان
- محمود هذه فردة حذائك
التقط محمود حذاءه وطفق يبحث بعينه عن الأخرى فلم يجدها فصرخ في وجه سعيد :
لقد رايتك تحملها قبل المواجهة فأنت المسؤول الأول والأخير عنها .
ظهرت في وجه سعيد علامات الاستنكار وردّ بصوت خافت:
( اقسم أنني لا اذكر حملها، وان كان فمصيرها مصير باقي الأحذية فلعلها تكون في مكان ما ).
لم يجد بشير مناصا من التدخل فاقترب من زياد قائلا :
هل رأيت الحذاء يا زياد ؟
ابتسم زياد بخبث وقال :
لقد شاهدت فارا يلبسه أثناء المعركة ويجري فارا به .
دوّى المكان صوت صفعة هائلة وجهها محمود إلى فك زياد الذي اتقدت عيناه شررا فرد الصفعة بلكمة قوية دفعت محمود إلى الخلف فارتطم بالحائط وسقط أرضا .
صرخ خالد صرخة بدت أشبه بحمم ملتهبة تفجرت من بركان ثائر في الأعماق:
سألقنك درسا لن تنساه ما حييت.
ثم اندفع نحو زياد وغرس قدمه في بطنه فصرخ زياد من الألم واستدار حول نفسه ثم سقط أرضا . لم يتمالك سعيد نفسه فاندفع يريد الانتقام . وقف بشير في طريقه يحاول منعه فدفعه بعيدا حتى وصل خالدا . وأخذا يتبادلان اللكمات والركلات .
حاول بشير التدخل فتلقى صفعة على فمه شقّت شفته السفلى وأعادته إلى الخلف عدة خطوات ... انضم باقي الطلاب إلى المعركة فدارت رحاها اشدّ من الأولى وأشرس.
حاول بشير التدخل مرة أخرى للحد من الخلاف ... فتلقى عدة ضربات فتنحى جانبا ...
واستمر القتال .
لمح بشير الجرذان تتسلل إلى داخل السكن وتسرق الأحذية . صرخ بالطلاب محذرا ...
الجرذان تعود الى السّكن!
أحاط الطلاب به من كل جانب وانهالوا عليه ضربا وهم يصرخون :
ألا تريد أن تصمت ؟
سقط أرضا وكأنه قطعة خشب ...
لقد تفاجأ تماما ...
حاول أن يحرك يده أو قدمه لكنهم كبلوا حركته تماما
أراد أن يصرخ لكنهم كمموا فمه...
أمال رأسه جانبا فرأى من خلال أهدابه الجرذان تعيث بالسكن فسادا .
شعر بالنار تحرق أعضاء جسمه
إنها تنزف...
عشرات الأيدي تضغط على عنقه تخنقه ...
يسمع صوتا رخيما يناديه:
بشير بشير .
لا بد أنها الملائكة
أيد تهزه برفق.
فتح عينيه بهدوء فطالعه كتاب النحو العربي ثم سمع صوت صديقه محمود من خلفه يقول له:
لم أر في حياتي نوما عميقا مثل هذا النوم
إذا أردت النوم فاستلق على سريرك.
شكر بشير محمودا ونهض متجها نحو السرير هتف به محمود:
لم تبارك لي بالحذاء الجديد.
نظر بشير إلى حذاء محمود
واخذ ينظر في أطراف الغرفة.
قصة قصيرة
بقلم:خضر صبح
أهدي هذه القصة لـخضر صبح
راجيا نقد هذه القصة ووضع صورة مناسبة لانني سأعمل على نشرها في كتاب
صفق باب المطبخ خلفه مبددا سكون المكان ومضى يسير بخطى ثقيلة نحو مكتبه وضع فوقه كوب القهوة الكبير ... أزاح الكرسي الحديدي مثبتا فوقه قطعة الإسفنج ثم جلس عليها ... تناول الكتاب بين يديه ... نزع فردتي (الشبشب ) من قدميه اللتين رفعهما فوق طاولة المكتب كعادته إذا تأخر في السهر للدراسة .
سمع من الغرفة المجاورة محمودا يخاطب خالدا:
_ لا تنس إذا استيقظت مبكرا أن توقظني معك.
ثم رفع صوته :
_ بشير ،لا تنس أن تغلق الباب الخلفي وتطفئ الكهرباء قبل أن تنام .
شعر بشير بالامتعاض؛ لأنه إذا رفع قدميه على المكتب يكره أن ينزلهما...تناول كوب القهوة ...وارتشف رشفة ونظر إلى الكتاب بين يديه .
ارتكز بقدميه كلتيهما على حافة المكتب دافعا الكرسي الذي تحته... دس قدميه في داخل (الشبشب ) ثم وقف متجها إلى الباب الخلفي ،فأوصده بالمزلاج الحديدي وعاد مرة أخرى .
تجاوزت الساعة الثانية عشرة ...
يتنفس الظلام في كل مكان ، وسكان شارع السلام بمدينة الخليل أطفؤوا الأنوار إلا من بضع بيوت هنا وهناك تحدوا كتل الليل بمصابيح بيوتهم .
بشير لا يزال يطالع في الكتاب الذي بين يديه ... تمر عيناه على الكلمات وهو لا يكاد يقرا شيئا ... فتح فاه على آخره متثائبا ... فضغط فكيه بكلتا يديه مغلقا المذكور ... سقط الكتاب وأخذته سنة من النوم .
تراءى له انه يسمع صوتا وهمهمة مكبوتة من الباب الخلفي الذي أغلقه من الداخل بإحكام قبل جلوسه . بدا الخوف يتسلل إلى أعماق نفسه ... فكل زملائه في السكن الطلابي يغطّون في سبات عميق... لم يدر ماذا يفعل.
سمع دبيبا غريبا قادما نحوه من نفس المكان ،تجمدت أطرافه من شدة الخوف ... فهو وحيد الآن، لكن يجب أن يفعل شيئا.
تردد السؤال في عقله الذي يستعيد تركيزه في بطء , وبدأ يشعر بالخوف الزائد وهو يتابع حواره الصامت مع نفسه
ماذا يفعل؟
دارت عيناه في محجريهما ... ثم مد يدا مرتجفة إلى صندوق قرطاسيته ، واخرج مسطرة حديدية .. امسكها بقوة من طرفها... وحاول النهوض فلم يستطع .
جمع شتات قوته واخذ يدفع الكرسي الذي انزاح مخرجا صوتا عاليا... ضغط شفته السفلى بأسنانه فكاد يدميها ... نظر إلى الكرسي بشيء من السخط ، فرأى فوقه قطعة قماش صغيرة من لون بنطاله ، فوضع يده على قفاه ... فعلم حيث العلم لا يجدي الفتى أن البنطال قد أعطاه عمره .
وقف مكانه هادئا ظاهره ، ثائرا داخله يصيغ السمع ،فلم يسمع شيئا ،فحرك قدمه بهدوء وطفق يسير على رؤوس أصابعه يقدم خطوة ويؤخر أخرى حتى وصل باب الغرفة .
اخرج طرف رأسه ونظر بعين واحدة مكان الصوت فلم ير شيئا... أدار وجهه هنا وهناك وخرج بكامل جسمه وقد استعاد بعضا من رباطة جأشه ؟
فجأة سمع دويا هائلا أعقبته حركة غريبة جعلت قلبه يقفز من بين ضلوعه... لقد كان الصوت منبعثا من المطبخ .
كتم أنفاسه ولبث في مكانه برهة ثم سار نحوه، نظر من فرجة الباب فرأى زجاجا متناثرا فوق أرضه.. رفع رأسه ينظر لمكان كانت فيه بعض الأواني الزجاجية فرأى جرذا ضخما ينظر إليه مهدوا.
هاله ما رأى ...فاتسعت عيناه على آخرهما والتصق بالحائط يرتجف من شدة الخوف ... أراد أن يعود أدراجه ، حرك قدمه ببطء إلى الوراء واستدار برأسه ففوجئ بفئران ثلاثة يسرن متتابعات كأنهن في عرض عسكري
طار قلبه هلعا، أراد أن يصرخ لكن صرخته غاصت في حلقه...
النجدة.
بحث عن صوته فلم يجده بسبب انفعاله وخوفه، فجأة سمع صيحة فظيعة ارتجّت لها أركان الغرفة، بحث عن مصدرها بطرف عينه، فتنبه بعد لحظات أن مصدر الصرخة حنجرته هو فاخذ يصيح:
النجدة .النجدة ...جرذان جرذان .
هرع من في السكن من الطلاب إلى المكانس والأحذية يهاجمهم النعاس وهم يهاجمون الجرذان ... صدت الجرذان الهجوم الطلابي الباهت، بهجوم فئراني مضاد... مرغمة إياهم على الفرار.
تراجع الطلاب واعتلوا الأسرة بتغيير تكتيكي لطبيعة المعركة من حالة الهجوم إلى حالة التحصن داخل الغرف .
قفز بشير فوق الخزانة حتى يظل بعيدا عن براثن الجرذان التي اقتحم احدها الغرفة واخذ يتمايل فوق أرضها ... فشعر خالد بكثير من الغضب فرماه بحذائه .. الحذاء ارتطم بالأرض محدثا فرقعة مثل فرقعة الرصاص.
ومع صوت الفرقعة عادت إلى بشير بقايا رجولته وولّى عنه الفزع ... فهو الآن ليس وحده .... قفز من فوق الخزانة على الجرذ بكل ثقله ... فخرجت أمعاء الجرذ من بين جنبيه ... دار حول نفسه ثمّ خرّ على الأرض صريعا .
هاج السكن وماج وسمعت من هنا وهناك عبارات الثناء للعمل البطولي الذي أقدم عليه بشير ... أخذت عيون الطلاب تنظر إليه بامتنان وإعجاب .
شعر بهم يلتفون حوله وينتظرون منه شيئا جديدا
عمل عقله بسرعة .. وعيناه تدوران في المكان بسرعة لا تنافسها إلا سرعة الفئران التي تدمر بالمنزل في حين الجم التوتر السنة زملائه
ارتفع صوته وهو يقول في صرامة
ينبغي أن نقسم أنفسنا الى قسمين ونطرد الفئران القذرة من محلنا
اخذ المبادرة وقسم الطلاب إلى فريقين، احدهما للهجوم والثاني للدفاع. تخيّر العناصر الهجومية ممن توخى فيهم الخفة وسرعة الحركة حتى يكونوا الأقدر على الكرّ والفرّ وكان هو على رأسها .. فحملوا عصيّ المكانس وبعض أواني المطبخ وانتظموا ميمنة وميسرة ووسطا واخذوا أهبة الاستعداد
وتسلحت الفرق الدفاعية بالأحذية والكتب الثقيلة كسلاح تكتيكي يضمن التغطية الجوية للفرق الهجومية.
أشار بشير للفرق الدفاعية فبدأت المعركة بقصف مكثف بالأحذية استطاعت أن تفتح في صفوف الجرذان ثغرة استغلتها الفرق الهجومية بان شنت هجوما سريعا على الجرذان .
تصدت الجرذان لهجوم الطلاب بان شنت هجوما مضادا ودارت معركة شرسة... التفّت ميمنة الطلاب وميسرتهم حول الجرذان ، وتلقّت نصيبها من الإصابات البليغة ، و في نفس الوقت استمر قصف الأحذية المكثف من قبل المدافعين .
لم يستطع الوسط الطلابي الثبات أمام زحف الفئران... فاخذ بالتقهقر ... لكن بشيرا الذي كان على رأس الوسط ثبت في وجه الزحف كجلمود صخر لا يتزحزح... لا يبالي بأنياب الفئران بل يمسك الفأر والفأرين والثلاثة من ذيولها ويلفّها حول نفسها ثم يلقيها في وجه غيرها من الفئران وكان يستعمل كلتا يديه ورجليه.
عادت فلول الوسط تؤجّج رحى المعركة وتزيد من حدتها خصوصا بعد أن ركّزت فرق الدفاع قصفها المساند لفرق الوسط.
تراجعت الجرذان وهمّت بالفرار من السكن ... وكان الجيران في الخارج قد تجمعوا بسبب الجلبة الشديدة والقلق على الطلاب .
اطلّ جرذ برأسه من الباب ففوجئ بحجر يرتطم بالباب فوق رأسه كالقنبلة ... ففر إلى الداخل تتبعه فلول الجرذان ...
تصدت الفرق لها التي كانت لا تزال تضرب بعنف وقوة.ناوشتها الجرذان ثم عادت تفر إلى الخارج حيث وقعت بين نارين .
ولله در بشير فقد أبلى بلاء وأي بلاء...
كان يتقدم الجموع ويكيل الصاع تلو الصاع،
يدور ويضرب يتقدم ولا يتراجع
يكرّ ولا يفرّ.
فعمّ الصخب المكان وتطايرت الأحذية والأحجار وانتشر الغبار .
مضت ثلث ساعة...
وبدا الغبار ينقشع مؤذنا بانتهاء المعركة وانتصار الطلاب انتصار ساحقا ...
تقدّم أبو الأديب من بشير ومدّ يده مصافحا وهو يقول:
أبارك لكم يا أبنائي السلامة والنصر.. ونحن جاهزون عند الحاجة
أسبل بشير جفنيه , ثم ابتسم متمتما وهو يقول:
هذا بفضل الله سبحانه ثم بفضل جهدكم ووحدتكم
أشار أبو الأديب إلى الجيران فبدؤوا العودة إلى مساكنهم ..يتحدثون عن الظاهرة الغريبة .. وقوف الطلاب بهذا الاستبسال وتدخل الجيران المباشر.. ظل الطلاب واقفين حتى انقطع الصوت
عاد الطلاب إلى السكن مرتدين ثوب النصر ... وكل منهم يبرز عضلاته... ويبرم شنبيه ويحدث عن بطولاته .
شرع الطلاب يبحثون عن أحذيتهم التي تناثرت في كل مكان
- محمود هذه فردة حذائك
التقط محمود حذاءه وطفق يبحث بعينه عن الأخرى فلم يجدها فصرخ في وجه سعيد :
لقد رايتك تحملها قبل المواجهة فأنت المسؤول الأول والأخير عنها .
ظهرت في وجه سعيد علامات الاستنكار وردّ بصوت خافت:
( اقسم أنني لا اذكر حملها، وان كان فمصيرها مصير باقي الأحذية فلعلها تكون في مكان ما ).
لم يجد بشير مناصا من التدخل فاقترب من زياد قائلا :
هل رأيت الحذاء يا زياد ؟
ابتسم زياد بخبث وقال :
لقد شاهدت فارا يلبسه أثناء المعركة ويجري فارا به .
دوّى المكان صوت صفعة هائلة وجهها محمود إلى فك زياد الذي اتقدت عيناه شررا فرد الصفعة بلكمة قوية دفعت محمود إلى الخلف فارتطم بالحائط وسقط أرضا .
صرخ خالد صرخة بدت أشبه بحمم ملتهبة تفجرت من بركان ثائر في الأعماق:
سألقنك درسا لن تنساه ما حييت.
ثم اندفع نحو زياد وغرس قدمه في بطنه فصرخ زياد من الألم واستدار حول نفسه ثم سقط أرضا . لم يتمالك سعيد نفسه فاندفع يريد الانتقام . وقف بشير في طريقه يحاول منعه فدفعه بعيدا حتى وصل خالدا . وأخذا يتبادلان اللكمات والركلات .
حاول بشير التدخل فتلقى صفعة على فمه شقّت شفته السفلى وأعادته إلى الخلف عدة خطوات ... انضم باقي الطلاب إلى المعركة فدارت رحاها اشدّ من الأولى وأشرس.
حاول بشير التدخل مرة أخرى للحد من الخلاف ... فتلقى عدة ضربات فتنحى جانبا ...
واستمر القتال .
لمح بشير الجرذان تتسلل إلى داخل السكن وتسرق الأحذية . صرخ بالطلاب محذرا ...
الجرذان تعود الى السّكن!
أحاط الطلاب به من كل جانب وانهالوا عليه ضربا وهم يصرخون :
ألا تريد أن تصمت ؟
سقط أرضا وكأنه قطعة خشب ...
لقد تفاجأ تماما ...
حاول أن يحرك يده أو قدمه لكنهم كبلوا حركته تماما
أراد أن يصرخ لكنهم كمموا فمه...
أمال رأسه جانبا فرأى من خلال أهدابه الجرذان تعيث بالسكن فسادا .
شعر بالنار تحرق أعضاء جسمه
إنها تنزف...
عشرات الأيدي تضغط على عنقه تخنقه ...
يسمع صوتا رخيما يناديه:
بشير بشير .
لا بد أنها الملائكة
أيد تهزه برفق.
فتح عينيه بهدوء فطالعه كتاب النحو العربي ثم سمع صوت صديقه محمود من خلفه يقول له:
لم أر في حياتي نوما عميقا مثل هذا النوم
إذا أردت النوم فاستلق على سريرك.
شكر بشير محمودا ونهض متجها نحو السرير هتف به محمود:
لم تبارك لي بالحذاء الجديد.
نظر بشير إلى حذاء محمود
واخذ ينظر في أطراف الغرفة.