ابو اميمة محمد
21-08-2011, 06:43 PM
كتاب زجرالمتهاونين ببيان تحريم المعازف بإجماع المسلمين /الشيخ حمد العتيق
ببيان تحريم المعازف بإجماع المسلمين
كتبه
حمد بن عبد العزيز بن حمد ابن عتيق
الرياض 20/12/1420 هـ
المملكة العربية السعودية
الرياض حرسها الله
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد : فقد كثُرَ الكلام في هذه الأيام المتأخرة بين من ليس من أهل العلم في كثير من مسائل الشريعة عموماً ومسألة [الغناء] و [آلات المعازف] خصوصاً ، فحصل بسبب ذلك خلط بين المسألتين ، حتى جعل كثيرٌ منهم بل أكثرهم هاتين المسألتين مسألة واحدة، إما بسبب جهلة، أو لسوء قصده نعوذ بالله من ذلك .
فأردتُ أن أجلي الفرق بين المسألتين ، بما يكون عوناً لأهل الحق عند ردهم على الباطل وأهله ، وبما يكون عوناً لطالب الحق في الوصول إليه ، راجياً من الله القبول والسداد ، إنه نعم المولي ونعم النصير .
المبحث الأول :
تعريف الغناء والمعازف والفرق بينهما :
الغناء : – بالمد والكسر – من السماع ، وكل من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء ، والغناء من الصوت : ما طُرب به [ لسان العرب 15/136 ]
وقال القرطبي – رحمه الله – : هو رفع الصوت بالشعر أو ما قاربه من الرجز على نحو مخصوص . [ كشف القناع 47 ]
أما المعازف : فقد قال في القاموس : المعازف : الملاهي ، كالعود والطنبور ، الواحد :عزف أو معزف .ا.هـ [ ص 753 ] .
وقال في لسان العرب : المعازف : الملاهي .ا.هـ [ ص 9/244 ]
وقال ابن تيمية :المعازف :هي الملاهي كما ذكر أهل اللغة جمع معزفه وهي الآلة التي يعزف بها :أي يصوت بها .ا.هـ [ الفتاوى 11/576 ]
وقال ابن كثير : والمعازف هي آلات الطرب ، قاله الإمام أبو نصر إسماعيل ابن حماد الجوهري في صحاحه ، وهو معروف في لغة العرب وعليه شواهد .ا.هـ [ جواب لابن كثير ملحق بكتاب على مسألة السماع لابن القيم 472 ]
وبذلك يتبين الفرق بين الغناء والمعازف ، وأنه لاوجه لمن جمع بينهما عند الكلام على حكمهما ، بل كل منهما له حكم عند انفراده ، وكذا عند اجتماعه بالآخر .
وعلى هذا درج كثير من أئمة الفقه المتقدمين ، بخلاف بعض من تأخر فإن الكثير منهم يخلط بينهما عند ذكر الخلاف والحكم عليهما .
وممن فرق بين المسألتين عند الكلام عليهما الأمام القرطبي – رحمه الله – في كتاب كشف القناع – فقد قال :
المسألة الأولى : في بيان الغناء وحكمه ، ثم عرفه رحمه الله بما تقدم .
ثم قال :
إذا فهمت هذا فاعلم أن ما يطلق عليه غناء علي ضربين :
أحدهما : ضرب جرت عادة الناس باستعماله عند معاونتهم أعمالهم وحملهم أثقالهم ، وقطع مفاوز أسفارهم ، يسلون بذلك نفوسهم ، وينشَطُون به على مشقات أعمالهم ، ويستعينون بذلك على شاق أشغالهم كحداء الأعراب بإبلهم ، وغناء النساء لتسكين صغارهن ، ولعب الجواري بلعبهن ، وما شاكل ذلك .
فهذا النحو إذا سلم المغني به من ذكر الفواحش ، والمحرمات ، كوصف الخمور والقينات فلا شك في جوازه ، ولا يختلف فيه ....
والضرب الثاني : غناء ينتحله المغنون العارفون بصنعة الغناء ، المختارون لمارق من غزل الشعر ، الملحنون له بالتلحينات الأنيقة المقطوعة على النغمات الرقيقة التي تهيج النفوس ، وتطربها كحمنات الكؤوس ، فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال ثلاثة …
ثم قال :
المسألة الرابعة في حكم سماع آلات اللهو :
أما المزامير والأوتار والكوبة وهو الطبل طويل ضيق الوسط ، ذو رأسين يضرب به المخانيث ، فلا يختلف في تحريم سماعه ، ولم أسمع من أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك . ا.هـ
المبحث الثاني : حكم الغناء .
والمراد به ما تقدم تعريفه ، دون اقترانه بآلات اللهو أو المعازف [ الآلات الموسيقية ] ، فهذا النوع من الغناء – أعني الغناء الخالي من المعازف أو ما يسمى الآن بالآلات الموسيقية – هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء ، أما المعازف وآلات اللهو – الموسيقى – فالإجماع منعقد على تحريمها واستعمالها كما سيأتي – إن شاء الله – .
كما ينبغي التنبيه إلي أن الخلاف واقع فيما إذا سلم الغناء من الكلام الفاحش والمحرم ، كوصف الخمور والنساء ، والدعوة إلي المعصية ، أو اقترن به محرم كشرب الخمر أوترك واجب لعموم قوله سبحانه : [ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ][النحل: من الآية90] ، وعلى هذا النوع – أعني الغناء المشتمل على الكلام الفاحش والمحرم ، كوصف الخمور والنساء ، والدعوة إلي المعصية ، أو اقترن به محرم كشرب الخمر أوترك واجب – يحمل قوله سبحانه : [ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ] [ لقمان : 6] إذا حملت اللام في قوله سبحانه وتعالى : [ليضل] على أنها لام التعليل ، كما سيأتي إن شاء الله .
وقبل الشروع في بيان المسألة لابد من تحرير محل النزاع فيها .
تحرير محل النزاع في مسألة الغناء الخالي من المعازف [ الآلات الموسيقية ] :
الغناء مطلقاً ينقسم إلي قسمين :
الأول : ما جرت عادة الناس باستعماله عند محاولتهم أعمالهم ، وحملهم أثقالهم كحداء الأعراب بإبلهم ، وغناء النساء لتسكين صغارهن ، ولعب الجواري بلعبهن وما شاكل ذلك . قال القرطبي : فهذا النحو إذا سلم المغني به من ذكر الفواحش والمحرمـات كوصـف الخمـور والقينـات فلا شك في جـوازه ، ولا يـختلف فيه .ا.هـ [ كشف القناع ص 48] .
وقد نقل ابن عبد البر – رحمه الله – أيضاً الإجماع على إباحة الحداء – كما في فتح الباري 10/554 –.
ويدل لهذا النوع من السنة ما رواه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع أن عامر بن الأكوع كان يحدو بالقوم فقال الرسول صلي الله عليه وسلم : من هذا السائق ؟ قالوا : عامر بن الأكوع ، قال : يرحمه الله .
القسم الثاني : غناء ينتحله المغنون العارفون بصنعة الغناء ، الملحنون له بالتلحينات الأنيقة المقطعون له على النغمات الرقيقة التي تهيج النفوس ، وتطربها .
قال القرطبي : فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال ثلاثة .[ كشف القناع 49/50 ] وقال ابن تيمية: المعازف هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة ، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها : أي يصوت بها ، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً… ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو : هل هو حرام ؟ أو مكروه ؟ أو مباح ؟ .ا.هـ [ الفتاوى 11/576 ]
والصحيح – والله أعلم – أن ما كان هذه صفته فحرام لا يجوز تعاطيه ولا استعماله وهذا ظاهر كلام ابن تيمية في الاستقامة ، ويدل لذلك مايلي : ـ
1- قوله سبحانه : [ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ] [ لقمان : 6] قال ابن عباس وابن مسعود : هو الغناء ، هذا على قراءة فتح الياء في قوله : [ ليَضل ] فتكون اللام لام العاقبة ، كما قال الواحدي ، وابن الجوزي وابن كثير في تفاسيرهم .
قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب . [ أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي في السنن وصححه ابن القيم وابن رجب والألباني ]
2- ما رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي ، من حديث أم علقمة مولاة عائشة أن بنات أخي عائشة خفضن ، فألِمن لذلك ، فقيل لعائشة يا أم المؤمنين ألا ندعو لهن من يلهيهن ؟ قالت : بلى ، قالت : فأرسلت إلى فلان المغني ، فأتاهم . فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت ، فرأته يتغنى ويحرك رأسه طرباً ، وكان ذا شعر كثير فقالت عائشة رضي الله عنها : " إنه شيطان، أخرجوه ، أخرجوه " فأخرجوه . [ صححه ابن رجب والألباني ]
3- ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة – في الجاريتين اللتين كانتا عندها يوم العيد – قالت : "دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان وليسا بمغنيتين" . فنفت عنهما احتراف الغناء وانتحاله .
4- قال القرطبي : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهية الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري . [ تلبيس إبليس ص 283 ]
قال ابن عبد البر – رحمه الله – : الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلباً للطرب وخروجاَ من مذهب العرب ، وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم . [ فتح الباري 10/559 ]
وعليه فما تراه في هذه الأيام من الأشرطة التي تنسب إلى الدين ، والدعوة إليه ، ثم تجد عليها هذه العبارة : كلمات فلان بن فلان ، وألحان فلان بن فلان ، وأداء فلان بن فلان ، كل ما تراه من هذه الأشرطة إنما هو من هذا الغناء المحرم والعياذ بالله ، لا من الغناء المباح .
تنبيه مهم :
ينبغي أن يُعلم أنه وإن قلنا بجواز النوع الأول من الغناء الذي يسمى الحداء ، وعلى التنزل والتسليم بجواز النوع الثاني منه ، فهذا كله ما إذا كان على وجه اللهو واللعب أما إذا خرج إلى حد التقرب به ، والتعبد واتخاذه طريقاَ إلى الله ، ووسيلة من وسائل الدعوة إلى دين الله ، فلا شك أنه بدعة لم يأذن بها الله ، وهذا هو الذي يسمى بسماع الصوفية ، والذي اشتد النكير عليه من السلف رحمهم الله ، وما ذلك إلا لأنه أمر محدث في الدين بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، كان يقدر على فعله ، ومع ذلك تركه وأعرض عنه ، فلو كان مشروعاً لسبقنا إليه صلى الله عليه وسلم ، هو وأصاحبه .
لذا فليعلم اللبيب أن ما فشى في هذه الأيام من اتخاذ الغناء وسيلة من وسائل الدعوة إلي الله ، وتزيينه من بعض الناس ، حتى أشربت قلوبهم بحبه ، ثم اخترعوا له اسماً آخر غير السماع الصوفي ليزخرفوا به باطلهم ، ليعلم أن هذا الغناء هو أيضاً بدعة منكرة محدثة بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، أعني بذلك ما يسمى الأناشيد الإسلامية ، وذلك أن السماع الصوفي إنما أنكره من أنكره من السلف والخلف لأنه فُعل تديناً وتقرباً إلي الله ، أو اتُخذ وسيلة لترقيق القلوب وجمع الناس عليه ، فبالله عليكم ما الفرق بينه وبين من يتخذ ما يسمى بالأناشيد الإسلامية – بل هي البدعية – وسيلة دعوية يتألف بها قلوب الناس . [ انظر تحريم آلات الطرب للألباني 181]
قال ابن تيمية : وأما سماع القصائد لصلاح القلوب والاجتماع على ذلك إما نشيداً مجرداً ، وإما مقروناً بالتغبير ونحوه ، مثل الضرب بالقضيب على الجلود حتى يطير الغبار ، ومثل التصفيق ونحوه ، فهذا السماع محدث في الإسلام بعد ذهاب القرون الثلاثة …
وبالجملة : فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يقرب إلى الجنة ألا وقد حدث به ، ولا شيئاً يبعد عن النار إلا وقد حدث به ، ولو كان هذا السماع مصلحة شرعية لشرعه الله ورسوله ، فإنه تبارك وتعالى يقول : [ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ] [المائدة:الآية3] وإذا وجد منفعة بقلبه ، ولم يجد شاهد ذلك من الكتاب والسنة لم يلتفت إليه ، ويكون باطلاً .ا.هـ [ مختصر الفتاوى المصرية ص592 والفتاوى 11/591 ] .
فإن قال قائل : إنما يريدون بهذه الأناشيد الترويح واللهو ، فهذا كلام جاهل بحقيقتها ، كيف لا ؟ ونحن ما نزال نسمع من يصرح أنها من وسائل الدعوة وخصوصاً للشباب والفتيات ، بل إنك لتسمع في أول الشريط أو آخره سؤالهم الله أن يكون عملهم خالصاً ، وأن يتقبله منهم . فما معنى ذلك ؟!!!
وعليه فلا يحل سماع مثل هذه الأناشيد ولا نشرها بقصد ترقيق القلوب ، أو دعوة الناس إلى الدين ، بل ولا حتى بيعها ولا شراؤها ، لأنه من التعاون على الإثم والعدوان ، ولله سبحانه وتعالى يقول : [ وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب ][المائدة:الآية2].
المبحث الثالث : حكم آلات اللهو والمعازف [ الآلات الموسيقية ] .
إن من العجيب والعجيب حقاً أن يجري الخلاف في هذه المسألة ، وكتب السلف والأئمة طافحة بنفي الخلاف فيها وذكر الإجماع على تحريمها .
لكن العجب ينقضي إذا علمت أن هؤلاء الذي يدندنون حول هذه المسألة ويثيرون حولها الشبه ، إذا علمت أنهم ما بين رجل متبع لهواه قد أصمه وأعماه ، أو رجل جعل الخلاف دليلاً ، وإرضاء الناس غاية وسبيلاً .
وإليك أيها الأخ المبارك – إن شاء الله – الأدلة على تحريم آلات اللهو والمعازف :
أولاً : من السنة : ما رواه البخاري أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ] فأخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن أناساً يأتون ويستحلون – أي يجعلونها حلالاً – الحر وهو الزنا والخمر والمعازف ، فدل ذلك على أنها محرمة في الأصل .
وروى الحديث أيضاً ابن حبان والطبراني والبيهقي وابن عساكر وغيرهم ، ويكفي أنه في صحيح البخاري الذي هو أصح كتب أهل السنة في الحديث .
ولا يعلم أحد من أهل الحديث المتقدمين من طعن في الحديث ، إلا بعض من شذ من أهل الفقه ، الذين ليس لهم باع في علم الحديث .
وإليك بعض الأئمة الذين صححوا الحديث :
1- على رأسهم أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري .
2- ابن حبان .
3- الإسماعيلي .
4- ابن الصلاح .
5- النووي .
6- ابن تيمية .
7- ابن القيم .
8- ابن كثير .
9- الحافظ ابن حجر .
10- الحافظ العراقي
11-ابن الوزير الصنعاني .
12-الحافظ السخاوي .
13-الأمير الصنعاني .
14-عبد العزيز بن باز .
15-محدث العصر محمد ناصر الدين الألباني ، وغيرهم من أهل الحديث .
وقد جمع بعض طلبة العلم كتاباً في أحاديث ذم الغناء والمعازف ، جمع فيه ما يقارب مائة حديث وأثر ، منها الصحيح والحسن والضعيف ، فراجعها إن شئت في الكتاب المعنون له بـ [ أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان ] .
ثانياً : من الأدلة على تحريم المعازف الإجماع .
قد نقل جمع كبير من الأئمة ، إجماع السلف على تحريم المعازف ، ومنهم الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد . فيالله العجب من أناس شغبوا وشوشوا على أذهان المسلمين في هذه القضية التي لا ينبغي لمسلم أن يخوض فيها بعد علمه بإجماع السلف عليها ، لأنه بذلك قد عرض نفسه لوعيد الله سبحانه في قوله : [ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء:115] .
وممن نقل الإجماع على تحريم المعازف [ الآلات الموسيقية ] :
1-ابن الصلاح .
2-والآجري .
3-النووي .
4-الرافعي .
5-القرطبي .
6-ابن تيمية .
7-ابن القيم .
8-ابن رجب .
9-ابن كثير .
10-ابن حجر الهيتمي .
11-وأبو الفتح سليم بن أيوب الرازي ، وغيرهم .
وإليك بعض عبارات الأئمة في نقل الإجماع : ـ
1-قال ابن الصلاح : وأما إباحة هذا السماع وتحليله ، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت ، فاستماع ذلك حرام ، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين . ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع .ا.هـ [ إغاثة اللهفان 1/228 ] .
2-القرطبي : أما المزامير والأوتار والكوبة وهو الطبل طويل ضيق الوسط ، ذو رأسين يضرب به المخانيث ، فلا يختلف في تحريم سماعه ، ولم أسمع من أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك . ا.هـ
3-وقال ابن تيمية : المعازف هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة ، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها : أي يصوت بها ، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً… ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو : هل هو حرام ؟ أو مكروه ؟ أو مباح ؟ .ا.هـ [ الفتاوى 11/576 ]
4-وقال ابن حجر الهيتمي : الأوتار والمعازف ، كالطنبور ، والعود ، والصنج ذي الأوتار ، والرباب ، والحنك ، والكمنجه ، والسنطير ، والدريج ، وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسوق ، كلها محرمة بلا خلاف ، ومن حكى فيها خلافاً فقد غلط أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه ومنعه من هداه ، وزل به عن سنن تقواه .ا.هـ [ كف الرعاع 124 ]
5-وقال ابن رجب :سماع آلات الملاهي لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيه ، وإنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به ، ومن حكى شيئاً من ذلك فقد أبطل . [ نزهة الأسماع 69 ]
6-وقال ابن كثير : والمعازف هي آلات الطرب ، قاله الإمام أبو نصر إسماعيل ابن حماد الجوهري في صحاحه ، وهو معروف في لغة العرب وعليه شواهد ، ثم قد نقل غير واحد من الأئمة إجماع العلماء على تحريم اجتماع الدفوف و الشبابات ، ومن الناس من حكى في ذلك خلافاً شاذاً .ا.هـ [جواب لابن كثير ملحق بكتاب على مسألة السماع لابن القيم 472 ]
ومما يزيد هذا الإجماع قطعية ويقيناً :
ما رواه النسائي في سننه ، وأبو نعيم في الحلية بسند صحيح عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلي عمر بن الوليد كتاباً قال فيه : [ وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام ، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك ، جمة سوء ] فهذا يبين بجلاء أن المعازف والمزامير كانت مستنكرة عند السلف ، وأن المتخذ لها يستحق التعزير والعقوبة .
تنبيه مهم :
لابد أن يعلم أن الدف قد استثنته الشريعة من عموم التحريم في مناسبات خاصة وللنساء فقط ، وتلك المناسبات هي :
1- حفلة العرس والزفاف : لما رواه البخاري – في كتاب النكاح – عن الربيع بنت معوذ قالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بُني علي ، فجلس على فراشي فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر.
2-العيد : لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت : دخل علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، تدففان وتضربان فاضطجع على الفراش وحول وجهه ، ثم دخل أبو بكر ، والنبي صلي الله عليه وسلم متغش بثوبه ، فانتهرني وقال : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فأقبل عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال : دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً ، وهذا عيدنا.
فأبو بكر نهاهن لِما تقرر عنده من أن الأصل في المزامير والمعازف التحريم ، فأوضح له النبي صلي الله عليه وسلم الحال ، وعرفه الحكم مقروناً ببيان العلة ، وذلك بكون اليوم عيداً ، فلا ينكر فيه ذلك كما لا ينكر في الأعراس .[ انظر فتح الباري 2/513 ]
3-ذهب بعض العلماء إلى جواز ضرب الدف عند قدوم الغائب : استدلالاً بحديث عبد الله بن بريدة عن أبيه – الذي أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان – ومنه : أن أمة سوداء أتت رسول الله صلي الله عليه وسلم ورجع من بعض مغازيه ، فقالت : إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب عند بالدف ،فقال : إن كنت نذرتِ فافعلي ، وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي ، فضربت " الحديث .
ويدل على أن الأصل في ضرب الدف التحريم إلا في هذه المواضع :
ما رواه النسائي والحاكم وابن أبي شيبة والبيهقي – بإسناد صحيح – عن عامر بن سعد البجلي قال : دخلت على قرضة بن كعب وأبي مسعود – وهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – وجوار يضربن الدف ويغنين .
فقلت : تقرون على هذا وانتم أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم ؟!
قالوا : إنه قدر خص لنا في العرس .
قال ابن رجب : بعد أن ساق هذا الأثر : والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس . 1. هـ [ نزهة الأسماع 39 ] .
ومثل العرس ، ما دل الدليل على خروجه عن هذا الأصل كالعيد ، وعند قدوم الغائب إن قيل بصحة الحديث فيه .
لكن ينبغي أن يُتفطن إلى أن الرخصة لا تتعدى النساء إلى الرجال ، بل الرجال باقون على أصل المنع ، لعدم ورود الدليل الذي يستثنيهم من أصل التحريم .
لذا قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله – : ولما كان الضرب بالدف ، والتصفيق بالكف من عمل النساء ،كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخانيثاً ، وهذا مشهور من كلامهم .ا.هـ [ الفتاوى 11/565 ].
المبحث الرابع :
الأدلة التي استدل بها من قال بجواز المعازف من المتأخرين والرد عليهم .
لعل القارئ يستغرب هذا المبحث بعد ذكر إجماع السلف على تحريم المعازف وقد يظن البعض بسبب ذلك أن ما ذكر من الإجماع غير صحيح بسبب مخالفة مثل هؤلاء .
والجواب : أن المخالفة للإجماع إنما جاءت بعد انعقاد الإجماع ، ومثل هذه المخالفة أياً كانت ومن أي أحد كانت ، فلا يعتد بها إطلاقاً ، كما سيأتي إن شاء الله .
ولنذكر الآن بعض أدلتهم مع الجواب عنها مراعياً الاختصار في ذلك :
1- استدل بعضهم بما مر معنا من ضرب الدف في العرس والعيد وعند قدوم الغائب .
والجواب : أن هذا قد استثني بالنص الصحيح من أصل التحريم ، وهذا مثل استثناء القليل من الفضة عند الحاجة إليه في الأواني ، من أصل تحريم اتخاذ الفضة ، ومثل استثناء من به حكة في جواز لبس الحرير من الرجال من أصل تحريم لبسه على الرجال ، وقد مر معنا إنكار أبي بكر على الجاريتين عند عائشة ، وما ذاك إلا لأنه يعلم أن الأصل في ذلك التحريم ، ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك جائز في العيد بقوله : [ دعهما فإن لكل قوم عيداً ] ومثله قول قرضة بن كعب وأبي مسعود إنه قد رخص لنا في العرس .
قال ابن رجب : بعد أن ساق هذا الأثر : والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس .ا.هـ [ نزهة الأسماع 39 ] .
2- ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة في قصة الأحباش الذين كانوا يلعبون في المسجد يوم العيد .
والجواب : أن هذه القصة لا دلالة فيها إذ ليس فيها ذكر المعازف ، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن بضرب المعازف في المسجد .
3- ومن أدلتهم خروج النساء وهن يضربن بالدف لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم عند الهجرة .
والجواب : أن هذه القصة لا تثبت فهي ضعيفة السند ، إذ سقط من إسنادها ثلاثة رواة أو أكثر ، ولو صحت لكانت دليلاً على جواز ذلك عند قدوم الغائب كما مر معنا ، وقد ضعف القصة الحافظ العراقي والألباني وغيرهما.
4- ومن أدلتهم ما أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما عن نافع مولى ابن عمر : أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع ، فوضع أصبعيه في أذنيه ، وعدل راحلته عن الطريق ، وهو يقول : يا نافع أتسمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي ، حتى قلت : لا ، فوضع يديه ، وأعاد راحلته إلى الطريق ، وقال : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع زمارة راع فصنع مثل هذا ] .
قالوا : فلو كان سماع الزمارة حراماً ، لأمر ابنُ عمر نافعاً أن يسد أذنيه .
والجواب :
أ-أن هذا الحديث قال عنه أبوداود – كما في سننه – : حديث منكر .
ب-ولو صح لكان دليلاً عليهم ، فإن سدَ النبي صلى الله عليه وسلم لأذنيه وسدَ ابن عمر لأذنيه من أوضح الأدلة على أن ذلك الصوت من المنكر .
ج-أن المحرم هو الاستماع لا السماع وفرق بين الأمرين ، فالاستماع : هو قصد السماع ، أما السماع فيطلق على مجرد ملاقاة الأصوات للسمع دون تقصد ، وهذا مثل من كان مجتازاً بطريق فمر على من يقول كفراً أو كذباً أوغيبة ، فسمع ذلك منه دون استماع ، لم يأثم بمجرد السماع باتفاق المسلمين ، ولو جلس واستمع إلى ذلك ، ولم ينكره لا بقلبه ، ولا بلسانه ولا بيده ، كان آثماً باتفاق المسلمين ، فلو أن ابن عمر ونافعاً لم يسدا أذنيهما فلا شيء عليهما ، لأنهما لم يقصدا الاستماع ، ولا تلازم بين القول بتحريم آلات المعازف وبين وضع الأصابع في الأذنين عند سماعها ، فالقائلون بتحريم آلات المعازف لا يوجبون على أحد أن يضع أصبعيه في أذنيه عند سماعه لآلات المعازف دون تقصد .
د-يحتمل أن يكون ابن عمر ونافع ، لم يبلغا بعد سن التكليف ، عندما وقعت القصة لكل واحد منهما ، فإن ابن عمر عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في أحدٍ ورده لصغر سنه .
5- من أدلتهم : أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة ، ولا دليل على تحريم المعازف أو الآلات الموسيقية ، فتبقى على أصل الحل والإباحة .
والجواب :
أنه قد مر آنفاً الأدلة الصحيحة الصريحة على تحريم المعازف وآلات الموسيقى ، بل الإجماع منعقد على تحريمها بحمد الله ، وما يدّعونه من عدم وجود الدليل إنما هي دعوى ساقطة ، يتعلقون بها ، [ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ][النور:الآية39] .
شبهتان والجواب عنهما : ـ
الشبهة الأولى :
قد يقول قائل : إن ابن حزم الظاهري وغيره من المتأخرين قد خالف في المسألة ، وعليه فالإجماع المذكور في تحريم المعازف والمزامير غير صحيح .
والجواب : أن من المعلوم عند أهل العلم ، أن الخلاف المتأخر لا ينقض الإجماع المتقدم ، وإلا لو كان الأمر كذلك لما بقي إجماع على وجه الأرض ، لأنه لا يحصى المخالف للإجماع في المتأخرين ، وهاهم أهل السنة والجماعة لا يزالون يذْكُرُون إجماع السلف ويحتجون به ، مع مخالفة من خالف من أهل البدع بعد انعقاد الإجماع .
ولاشك أن ابن حزم وغيره ممن تأخر إذا خالف الإجماع المنعقد قبله لا ينظر إليه .
قال ابن تيمية – رحمه الله - : وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغاً ، لأن كثيراً من أصول المتأخرين مبتدع في الإسلام ، مسبوق بإجماع السلف على خلافه ، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً .ا.هـ [ الفتاوى 13/26] .
وهذه المسألة التي نحن فيها – أي مسألة المعازف – من هذا القبيل إذ لم يخالف فيها إلا من تأخر وشذ من الظاهرية كابن حزم ، والصوفية .
قال ابن رجب - رحمه الله - : سماع آلات الملاهي ، لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيه ، وإنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهـرية والصـوفية ممن لا يعتد به .ا.هـ [ نزهة الأسماع 69] .
وقال ابن كثير – رحمه الله -: قد نقل غير واحد من الأئمة إجماع العلماء على تحريم اجتماع الدفوف والشبابات ، ومن الناس من حكى في ذلك خلافاً شاذاً .ا.هـ [جواب لابن كثير ملحق بكتاب على مسألة السماع لابن القيم 472 ]
فها أنت ترى أن ابن رجب وابن كثير علموا بالخلاف الحادث بعد الإجماع ولم يأبهوا به ، ولم يلتفتوا إليه ، إذ إنه لا يعتد به . وسموه خلافاً شاذاً .
ولذا قال ابن تيمية : وأهل الظاهر [ يعني الظاهرية أتباع ابن حزم ] كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ .ا.هـ [ منهاج السنة 5/178 ] .
الشبهة الثانية :
قالوا : إنه يكفي العامي أن يقلد أحد العلماء في مسائل الشريعة وابن حزم من العلماء ، فلو قلده في مسألة المعازف فلا لوم عليه .
والجواب : أن الله سبحانه وتعالي أمرنا إذا وقع النزاع في مسألة شرعية أن نردها إلى الكتاب والسنة ، قال سبحانه : [ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً][النساء:59] فإن كان المكلف لا يستطيع فهم الأدلة ، وجبَ عليه سؤال أهل العلم لقوله سبحانه: [ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ][النحل:43] فإذا وقع الخلاف بين أهل العلم وجب على المكلف إتباع أعلمهم .
قال الشاطبي – رحمه الله – : العامي جاهل بمواقع الاجتهاد فلا بد له ممن يرشده إلى من هو أقرب إلى الحق ، من هذين العالمين المختَلِفَين ، وذلك إنما يكون بترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية ، لأن الأعلمية تُغلب ظن العامي أن صاحبها أقرب للصواب .ا.هـ [ الاعتصام 2/861/بتصرف يسير ].
ومعنى كلامه : أنه يجب على العامي أن يتبع قول الأعلم من العلماء المختلفين .
وبنحوه قال الخطيب البغدادي حيث قال : إن كان العامي يتسع عقله ويكمل فهمه إذا عُقل أن يعقل ، وإذا فُهم أن يفهم ، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم ، وعن حججهم ، فيأخذ بأرجحها عنده ، فإذا كان عقله يقصر عن هذا ، وفهمه لا يكمل له ، وسعه التقليد لأفضلهما عنده .ا.هـ .
وإنما تكون الأفضلية بالعلم ، وإلا لو جاز للإنسان أن يتبع في كل مسألة من شاء من العلماء ، لاجتمع فيه الشر كله ، لأن زلات العلماء كثيرة ، فمن تتبعها اجتمع فيه دين جديد غير دين الله الذي أنزله لعباده وارتضاه لهم .
وقد نقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله الإجماع على المنع من تتبع الرخص والأخذ بما يوافق الهوى والغرض من أقوال العلماء .
وقال ابن القيم : وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتحيز وموافقة الغرض ، فيطلب القول الذي يوافق غرضه فهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان .[ اعلام الموقعين 4/211].
إذا علم ذلك – أعني وجوب الأخذ بقول الأعلم من العلماء – فما الظن يا ترى ؟؟! أصَحَابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الإسلام الذين يقولون بتحريم المعازف أعلم ؟! أم ابن حزم وغيره ممن قال بجواز المعازف ؟! اترك الإجابة للقارئ ليتبع بعد ذلك الأعلم من الفريقين .
وفي الختام كلامي أحب أن أوجه نصيحة لكثير من المسلمين الذين جعلوا عقولهم مكاناً لقضاء حاجة وسائل الإعلام ، فالمجلة تقضي حاجتها ، والجريدة تقضي حاجتها ، والتلفاز والمذياع والمستقبل الهوائي [الدش] يقضي حاجته ، متصورين أن كل ما يلقى وما يذاع عبر هذه الوسائل أنه صحيح لا جدال فيه ، فترى الواحد منهم لا يتورع أن يأخذ الأحكام الشرعية من هذه الوسائل ، بل عقائده ، دون النظر إلى الناقل ، وهل هو ثقة أم فاسق ، والله يقول : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ][الحجرات:6]
وليَعلَمْ كل واحدٍ منا أنه ليس بمعذور أمام الله عندما يسأله : لم فعلت كذا وكذا ؟؟؟
فيجيب : قرأت في المجلة الفلانية جوازه أو رأيت في القناة الفلانية إباحته !!!!.
قال الله سبحانه وتعالى : [ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ، فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ][القصص65–67] .
اسأل الله أن يبصرنا بدينه وأن يوفقنا إلى اتباع سنة رسوله إنه سميع مجيب الدعاء .
كتبه
حمد بن عبد العزيز بن حمد ابن عتيق
الرياض 20/12/1420 هـ
ببيان تحريم المعازف بإجماع المسلمين
كتبه
حمد بن عبد العزيز بن حمد ابن عتيق
الرياض 20/12/1420 هـ
المملكة العربية السعودية
الرياض حرسها الله
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد : فقد كثُرَ الكلام في هذه الأيام المتأخرة بين من ليس من أهل العلم في كثير من مسائل الشريعة عموماً ومسألة [الغناء] و [آلات المعازف] خصوصاً ، فحصل بسبب ذلك خلط بين المسألتين ، حتى جعل كثيرٌ منهم بل أكثرهم هاتين المسألتين مسألة واحدة، إما بسبب جهلة، أو لسوء قصده نعوذ بالله من ذلك .
فأردتُ أن أجلي الفرق بين المسألتين ، بما يكون عوناً لأهل الحق عند ردهم على الباطل وأهله ، وبما يكون عوناً لطالب الحق في الوصول إليه ، راجياً من الله القبول والسداد ، إنه نعم المولي ونعم النصير .
المبحث الأول :
تعريف الغناء والمعازف والفرق بينهما :
الغناء : – بالمد والكسر – من السماع ، وكل من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء ، والغناء من الصوت : ما طُرب به [ لسان العرب 15/136 ]
وقال القرطبي – رحمه الله – : هو رفع الصوت بالشعر أو ما قاربه من الرجز على نحو مخصوص . [ كشف القناع 47 ]
أما المعازف : فقد قال في القاموس : المعازف : الملاهي ، كالعود والطنبور ، الواحد :عزف أو معزف .ا.هـ [ ص 753 ] .
وقال في لسان العرب : المعازف : الملاهي .ا.هـ [ ص 9/244 ]
وقال ابن تيمية :المعازف :هي الملاهي كما ذكر أهل اللغة جمع معزفه وهي الآلة التي يعزف بها :أي يصوت بها .ا.هـ [ الفتاوى 11/576 ]
وقال ابن كثير : والمعازف هي آلات الطرب ، قاله الإمام أبو نصر إسماعيل ابن حماد الجوهري في صحاحه ، وهو معروف في لغة العرب وعليه شواهد .ا.هـ [ جواب لابن كثير ملحق بكتاب على مسألة السماع لابن القيم 472 ]
وبذلك يتبين الفرق بين الغناء والمعازف ، وأنه لاوجه لمن جمع بينهما عند الكلام على حكمهما ، بل كل منهما له حكم عند انفراده ، وكذا عند اجتماعه بالآخر .
وعلى هذا درج كثير من أئمة الفقه المتقدمين ، بخلاف بعض من تأخر فإن الكثير منهم يخلط بينهما عند ذكر الخلاف والحكم عليهما .
وممن فرق بين المسألتين عند الكلام عليهما الأمام القرطبي – رحمه الله – في كتاب كشف القناع – فقد قال :
المسألة الأولى : في بيان الغناء وحكمه ، ثم عرفه رحمه الله بما تقدم .
ثم قال :
إذا فهمت هذا فاعلم أن ما يطلق عليه غناء علي ضربين :
أحدهما : ضرب جرت عادة الناس باستعماله عند معاونتهم أعمالهم وحملهم أثقالهم ، وقطع مفاوز أسفارهم ، يسلون بذلك نفوسهم ، وينشَطُون به على مشقات أعمالهم ، ويستعينون بذلك على شاق أشغالهم كحداء الأعراب بإبلهم ، وغناء النساء لتسكين صغارهن ، ولعب الجواري بلعبهن ، وما شاكل ذلك .
فهذا النحو إذا سلم المغني به من ذكر الفواحش ، والمحرمات ، كوصف الخمور والقينات فلا شك في جوازه ، ولا يختلف فيه ....
والضرب الثاني : غناء ينتحله المغنون العارفون بصنعة الغناء ، المختارون لمارق من غزل الشعر ، الملحنون له بالتلحينات الأنيقة المقطوعة على النغمات الرقيقة التي تهيج النفوس ، وتطربها كحمنات الكؤوس ، فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال ثلاثة …
ثم قال :
المسألة الرابعة في حكم سماع آلات اللهو :
أما المزامير والأوتار والكوبة وهو الطبل طويل ضيق الوسط ، ذو رأسين يضرب به المخانيث ، فلا يختلف في تحريم سماعه ، ولم أسمع من أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك . ا.هـ
المبحث الثاني : حكم الغناء .
والمراد به ما تقدم تعريفه ، دون اقترانه بآلات اللهو أو المعازف [ الآلات الموسيقية ] ، فهذا النوع من الغناء – أعني الغناء الخالي من المعازف أو ما يسمى الآن بالآلات الموسيقية – هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء ، أما المعازف وآلات اللهو – الموسيقى – فالإجماع منعقد على تحريمها واستعمالها كما سيأتي – إن شاء الله – .
كما ينبغي التنبيه إلي أن الخلاف واقع فيما إذا سلم الغناء من الكلام الفاحش والمحرم ، كوصف الخمور والنساء ، والدعوة إلي المعصية ، أو اقترن به محرم كشرب الخمر أوترك واجب لعموم قوله سبحانه : [ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ][النحل: من الآية90] ، وعلى هذا النوع – أعني الغناء المشتمل على الكلام الفاحش والمحرم ، كوصف الخمور والنساء ، والدعوة إلي المعصية ، أو اقترن به محرم كشرب الخمر أوترك واجب – يحمل قوله سبحانه : [ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ] [ لقمان : 6] إذا حملت اللام في قوله سبحانه وتعالى : [ليضل] على أنها لام التعليل ، كما سيأتي إن شاء الله .
وقبل الشروع في بيان المسألة لابد من تحرير محل النزاع فيها .
تحرير محل النزاع في مسألة الغناء الخالي من المعازف [ الآلات الموسيقية ] :
الغناء مطلقاً ينقسم إلي قسمين :
الأول : ما جرت عادة الناس باستعماله عند محاولتهم أعمالهم ، وحملهم أثقالهم كحداء الأعراب بإبلهم ، وغناء النساء لتسكين صغارهن ، ولعب الجواري بلعبهن وما شاكل ذلك . قال القرطبي : فهذا النحو إذا سلم المغني به من ذكر الفواحش والمحرمـات كوصـف الخمـور والقينـات فلا شك في جـوازه ، ولا يـختلف فيه .ا.هـ [ كشف القناع ص 48] .
وقد نقل ابن عبد البر – رحمه الله – أيضاً الإجماع على إباحة الحداء – كما في فتح الباري 10/554 –.
ويدل لهذا النوع من السنة ما رواه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع أن عامر بن الأكوع كان يحدو بالقوم فقال الرسول صلي الله عليه وسلم : من هذا السائق ؟ قالوا : عامر بن الأكوع ، قال : يرحمه الله .
القسم الثاني : غناء ينتحله المغنون العارفون بصنعة الغناء ، الملحنون له بالتلحينات الأنيقة المقطعون له على النغمات الرقيقة التي تهيج النفوس ، وتطربها .
قال القرطبي : فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال ثلاثة .[ كشف القناع 49/50 ] وقال ابن تيمية: المعازف هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة ، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها : أي يصوت بها ، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً… ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو : هل هو حرام ؟ أو مكروه ؟ أو مباح ؟ .ا.هـ [ الفتاوى 11/576 ]
والصحيح – والله أعلم – أن ما كان هذه صفته فحرام لا يجوز تعاطيه ولا استعماله وهذا ظاهر كلام ابن تيمية في الاستقامة ، ويدل لذلك مايلي : ـ
1- قوله سبحانه : [ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ] [ لقمان : 6] قال ابن عباس وابن مسعود : هو الغناء ، هذا على قراءة فتح الياء في قوله : [ ليَضل ] فتكون اللام لام العاقبة ، كما قال الواحدي ، وابن الجوزي وابن كثير في تفاسيرهم .
قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب . [ أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي في السنن وصححه ابن القيم وابن رجب والألباني ]
2- ما رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي ، من حديث أم علقمة مولاة عائشة أن بنات أخي عائشة خفضن ، فألِمن لذلك ، فقيل لعائشة يا أم المؤمنين ألا ندعو لهن من يلهيهن ؟ قالت : بلى ، قالت : فأرسلت إلى فلان المغني ، فأتاهم . فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت ، فرأته يتغنى ويحرك رأسه طرباً ، وكان ذا شعر كثير فقالت عائشة رضي الله عنها : " إنه شيطان، أخرجوه ، أخرجوه " فأخرجوه . [ صححه ابن رجب والألباني ]
3- ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة – في الجاريتين اللتين كانتا عندها يوم العيد – قالت : "دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان وليسا بمغنيتين" . فنفت عنهما احتراف الغناء وانتحاله .
4- قال القرطبي : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهية الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري . [ تلبيس إبليس ص 283 ]
قال ابن عبد البر – رحمه الله – : الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلباً للطرب وخروجاَ من مذهب العرب ، وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم . [ فتح الباري 10/559 ]
وعليه فما تراه في هذه الأيام من الأشرطة التي تنسب إلى الدين ، والدعوة إليه ، ثم تجد عليها هذه العبارة : كلمات فلان بن فلان ، وألحان فلان بن فلان ، وأداء فلان بن فلان ، كل ما تراه من هذه الأشرطة إنما هو من هذا الغناء المحرم والعياذ بالله ، لا من الغناء المباح .
تنبيه مهم :
ينبغي أن يُعلم أنه وإن قلنا بجواز النوع الأول من الغناء الذي يسمى الحداء ، وعلى التنزل والتسليم بجواز النوع الثاني منه ، فهذا كله ما إذا كان على وجه اللهو واللعب أما إذا خرج إلى حد التقرب به ، والتعبد واتخاذه طريقاَ إلى الله ، ووسيلة من وسائل الدعوة إلى دين الله ، فلا شك أنه بدعة لم يأذن بها الله ، وهذا هو الذي يسمى بسماع الصوفية ، والذي اشتد النكير عليه من السلف رحمهم الله ، وما ذلك إلا لأنه أمر محدث في الدين بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، كان يقدر على فعله ، ومع ذلك تركه وأعرض عنه ، فلو كان مشروعاً لسبقنا إليه صلى الله عليه وسلم ، هو وأصاحبه .
لذا فليعلم اللبيب أن ما فشى في هذه الأيام من اتخاذ الغناء وسيلة من وسائل الدعوة إلي الله ، وتزيينه من بعض الناس ، حتى أشربت قلوبهم بحبه ، ثم اخترعوا له اسماً آخر غير السماع الصوفي ليزخرفوا به باطلهم ، ليعلم أن هذا الغناء هو أيضاً بدعة منكرة محدثة بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، أعني بذلك ما يسمى الأناشيد الإسلامية ، وذلك أن السماع الصوفي إنما أنكره من أنكره من السلف والخلف لأنه فُعل تديناً وتقرباً إلي الله ، أو اتُخذ وسيلة لترقيق القلوب وجمع الناس عليه ، فبالله عليكم ما الفرق بينه وبين من يتخذ ما يسمى بالأناشيد الإسلامية – بل هي البدعية – وسيلة دعوية يتألف بها قلوب الناس . [ انظر تحريم آلات الطرب للألباني 181]
قال ابن تيمية : وأما سماع القصائد لصلاح القلوب والاجتماع على ذلك إما نشيداً مجرداً ، وإما مقروناً بالتغبير ونحوه ، مثل الضرب بالقضيب على الجلود حتى يطير الغبار ، ومثل التصفيق ونحوه ، فهذا السماع محدث في الإسلام بعد ذهاب القرون الثلاثة …
وبالجملة : فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يقرب إلى الجنة ألا وقد حدث به ، ولا شيئاً يبعد عن النار إلا وقد حدث به ، ولو كان هذا السماع مصلحة شرعية لشرعه الله ورسوله ، فإنه تبارك وتعالى يقول : [ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ] [المائدة:الآية3] وإذا وجد منفعة بقلبه ، ولم يجد شاهد ذلك من الكتاب والسنة لم يلتفت إليه ، ويكون باطلاً .ا.هـ [ مختصر الفتاوى المصرية ص592 والفتاوى 11/591 ] .
فإن قال قائل : إنما يريدون بهذه الأناشيد الترويح واللهو ، فهذا كلام جاهل بحقيقتها ، كيف لا ؟ ونحن ما نزال نسمع من يصرح أنها من وسائل الدعوة وخصوصاً للشباب والفتيات ، بل إنك لتسمع في أول الشريط أو آخره سؤالهم الله أن يكون عملهم خالصاً ، وأن يتقبله منهم . فما معنى ذلك ؟!!!
وعليه فلا يحل سماع مثل هذه الأناشيد ولا نشرها بقصد ترقيق القلوب ، أو دعوة الناس إلى الدين ، بل ولا حتى بيعها ولا شراؤها ، لأنه من التعاون على الإثم والعدوان ، ولله سبحانه وتعالى يقول : [ وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب ][المائدة:الآية2].
المبحث الثالث : حكم آلات اللهو والمعازف [ الآلات الموسيقية ] .
إن من العجيب والعجيب حقاً أن يجري الخلاف في هذه المسألة ، وكتب السلف والأئمة طافحة بنفي الخلاف فيها وذكر الإجماع على تحريمها .
لكن العجب ينقضي إذا علمت أن هؤلاء الذي يدندنون حول هذه المسألة ويثيرون حولها الشبه ، إذا علمت أنهم ما بين رجل متبع لهواه قد أصمه وأعماه ، أو رجل جعل الخلاف دليلاً ، وإرضاء الناس غاية وسبيلاً .
وإليك أيها الأخ المبارك – إن شاء الله – الأدلة على تحريم آلات اللهو والمعازف :
أولاً : من السنة : ما رواه البخاري أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ] فأخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن أناساً يأتون ويستحلون – أي يجعلونها حلالاً – الحر وهو الزنا والخمر والمعازف ، فدل ذلك على أنها محرمة في الأصل .
وروى الحديث أيضاً ابن حبان والطبراني والبيهقي وابن عساكر وغيرهم ، ويكفي أنه في صحيح البخاري الذي هو أصح كتب أهل السنة في الحديث .
ولا يعلم أحد من أهل الحديث المتقدمين من طعن في الحديث ، إلا بعض من شذ من أهل الفقه ، الذين ليس لهم باع في علم الحديث .
وإليك بعض الأئمة الذين صححوا الحديث :
1- على رأسهم أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري .
2- ابن حبان .
3- الإسماعيلي .
4- ابن الصلاح .
5- النووي .
6- ابن تيمية .
7- ابن القيم .
8- ابن كثير .
9- الحافظ ابن حجر .
10- الحافظ العراقي
11-ابن الوزير الصنعاني .
12-الحافظ السخاوي .
13-الأمير الصنعاني .
14-عبد العزيز بن باز .
15-محدث العصر محمد ناصر الدين الألباني ، وغيرهم من أهل الحديث .
وقد جمع بعض طلبة العلم كتاباً في أحاديث ذم الغناء والمعازف ، جمع فيه ما يقارب مائة حديث وأثر ، منها الصحيح والحسن والضعيف ، فراجعها إن شئت في الكتاب المعنون له بـ [ أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان ] .
ثانياً : من الأدلة على تحريم المعازف الإجماع .
قد نقل جمع كبير من الأئمة ، إجماع السلف على تحريم المعازف ، ومنهم الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد . فيالله العجب من أناس شغبوا وشوشوا على أذهان المسلمين في هذه القضية التي لا ينبغي لمسلم أن يخوض فيها بعد علمه بإجماع السلف عليها ، لأنه بذلك قد عرض نفسه لوعيد الله سبحانه في قوله : [ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء:115] .
وممن نقل الإجماع على تحريم المعازف [ الآلات الموسيقية ] :
1-ابن الصلاح .
2-والآجري .
3-النووي .
4-الرافعي .
5-القرطبي .
6-ابن تيمية .
7-ابن القيم .
8-ابن رجب .
9-ابن كثير .
10-ابن حجر الهيتمي .
11-وأبو الفتح سليم بن أيوب الرازي ، وغيرهم .
وإليك بعض عبارات الأئمة في نقل الإجماع : ـ
1-قال ابن الصلاح : وأما إباحة هذا السماع وتحليله ، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت ، فاستماع ذلك حرام ، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين . ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع .ا.هـ [ إغاثة اللهفان 1/228 ] .
2-القرطبي : أما المزامير والأوتار والكوبة وهو الطبل طويل ضيق الوسط ، ذو رأسين يضرب به المخانيث ، فلا يختلف في تحريم سماعه ، ولم أسمع من أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك . ا.هـ
3-وقال ابن تيمية : المعازف هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة ، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها : أي يصوت بها ، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً… ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو : هل هو حرام ؟ أو مكروه ؟ أو مباح ؟ .ا.هـ [ الفتاوى 11/576 ]
4-وقال ابن حجر الهيتمي : الأوتار والمعازف ، كالطنبور ، والعود ، والصنج ذي الأوتار ، والرباب ، والحنك ، والكمنجه ، والسنطير ، والدريج ، وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسوق ، كلها محرمة بلا خلاف ، ومن حكى فيها خلافاً فقد غلط أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه ومنعه من هداه ، وزل به عن سنن تقواه .ا.هـ [ كف الرعاع 124 ]
5-وقال ابن رجب :سماع آلات الملاهي لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيه ، وإنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به ، ومن حكى شيئاً من ذلك فقد أبطل . [ نزهة الأسماع 69 ]
6-وقال ابن كثير : والمعازف هي آلات الطرب ، قاله الإمام أبو نصر إسماعيل ابن حماد الجوهري في صحاحه ، وهو معروف في لغة العرب وعليه شواهد ، ثم قد نقل غير واحد من الأئمة إجماع العلماء على تحريم اجتماع الدفوف و الشبابات ، ومن الناس من حكى في ذلك خلافاً شاذاً .ا.هـ [جواب لابن كثير ملحق بكتاب على مسألة السماع لابن القيم 472 ]
ومما يزيد هذا الإجماع قطعية ويقيناً :
ما رواه النسائي في سننه ، وأبو نعيم في الحلية بسند صحيح عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلي عمر بن الوليد كتاباً قال فيه : [ وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام ، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك ، جمة سوء ] فهذا يبين بجلاء أن المعازف والمزامير كانت مستنكرة عند السلف ، وأن المتخذ لها يستحق التعزير والعقوبة .
تنبيه مهم :
لابد أن يعلم أن الدف قد استثنته الشريعة من عموم التحريم في مناسبات خاصة وللنساء فقط ، وتلك المناسبات هي :
1- حفلة العرس والزفاف : لما رواه البخاري – في كتاب النكاح – عن الربيع بنت معوذ قالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بُني علي ، فجلس على فراشي فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر.
2-العيد : لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت : دخل علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، تدففان وتضربان فاضطجع على الفراش وحول وجهه ، ثم دخل أبو بكر ، والنبي صلي الله عليه وسلم متغش بثوبه ، فانتهرني وقال : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فأقبل عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال : دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً ، وهذا عيدنا.
فأبو بكر نهاهن لِما تقرر عنده من أن الأصل في المزامير والمعازف التحريم ، فأوضح له النبي صلي الله عليه وسلم الحال ، وعرفه الحكم مقروناً ببيان العلة ، وذلك بكون اليوم عيداً ، فلا ينكر فيه ذلك كما لا ينكر في الأعراس .[ انظر فتح الباري 2/513 ]
3-ذهب بعض العلماء إلى جواز ضرب الدف عند قدوم الغائب : استدلالاً بحديث عبد الله بن بريدة عن أبيه – الذي أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان – ومنه : أن أمة سوداء أتت رسول الله صلي الله عليه وسلم ورجع من بعض مغازيه ، فقالت : إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب عند بالدف ،فقال : إن كنت نذرتِ فافعلي ، وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي ، فضربت " الحديث .
ويدل على أن الأصل في ضرب الدف التحريم إلا في هذه المواضع :
ما رواه النسائي والحاكم وابن أبي شيبة والبيهقي – بإسناد صحيح – عن عامر بن سعد البجلي قال : دخلت على قرضة بن كعب وأبي مسعود – وهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – وجوار يضربن الدف ويغنين .
فقلت : تقرون على هذا وانتم أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم ؟!
قالوا : إنه قدر خص لنا في العرس .
قال ابن رجب : بعد أن ساق هذا الأثر : والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس . 1. هـ [ نزهة الأسماع 39 ] .
ومثل العرس ، ما دل الدليل على خروجه عن هذا الأصل كالعيد ، وعند قدوم الغائب إن قيل بصحة الحديث فيه .
لكن ينبغي أن يُتفطن إلى أن الرخصة لا تتعدى النساء إلى الرجال ، بل الرجال باقون على أصل المنع ، لعدم ورود الدليل الذي يستثنيهم من أصل التحريم .
لذا قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله – : ولما كان الضرب بالدف ، والتصفيق بالكف من عمل النساء ،كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخانيثاً ، وهذا مشهور من كلامهم .ا.هـ [ الفتاوى 11/565 ].
المبحث الرابع :
الأدلة التي استدل بها من قال بجواز المعازف من المتأخرين والرد عليهم .
لعل القارئ يستغرب هذا المبحث بعد ذكر إجماع السلف على تحريم المعازف وقد يظن البعض بسبب ذلك أن ما ذكر من الإجماع غير صحيح بسبب مخالفة مثل هؤلاء .
والجواب : أن المخالفة للإجماع إنما جاءت بعد انعقاد الإجماع ، ومثل هذه المخالفة أياً كانت ومن أي أحد كانت ، فلا يعتد بها إطلاقاً ، كما سيأتي إن شاء الله .
ولنذكر الآن بعض أدلتهم مع الجواب عنها مراعياً الاختصار في ذلك :
1- استدل بعضهم بما مر معنا من ضرب الدف في العرس والعيد وعند قدوم الغائب .
والجواب : أن هذا قد استثني بالنص الصحيح من أصل التحريم ، وهذا مثل استثناء القليل من الفضة عند الحاجة إليه في الأواني ، من أصل تحريم اتخاذ الفضة ، ومثل استثناء من به حكة في جواز لبس الحرير من الرجال من أصل تحريم لبسه على الرجال ، وقد مر معنا إنكار أبي بكر على الجاريتين عند عائشة ، وما ذاك إلا لأنه يعلم أن الأصل في ذلك التحريم ، ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك جائز في العيد بقوله : [ دعهما فإن لكل قوم عيداً ] ومثله قول قرضة بن كعب وأبي مسعود إنه قد رخص لنا في العرس .
قال ابن رجب : بعد أن ساق هذا الأثر : والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس .ا.هـ [ نزهة الأسماع 39 ] .
2- ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة في قصة الأحباش الذين كانوا يلعبون في المسجد يوم العيد .
والجواب : أن هذه القصة لا دلالة فيها إذ ليس فيها ذكر المعازف ، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن بضرب المعازف في المسجد .
3- ومن أدلتهم خروج النساء وهن يضربن بالدف لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم عند الهجرة .
والجواب : أن هذه القصة لا تثبت فهي ضعيفة السند ، إذ سقط من إسنادها ثلاثة رواة أو أكثر ، ولو صحت لكانت دليلاً على جواز ذلك عند قدوم الغائب كما مر معنا ، وقد ضعف القصة الحافظ العراقي والألباني وغيرهما.
4- ومن أدلتهم ما أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما عن نافع مولى ابن عمر : أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع ، فوضع أصبعيه في أذنيه ، وعدل راحلته عن الطريق ، وهو يقول : يا نافع أتسمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي ، حتى قلت : لا ، فوضع يديه ، وأعاد راحلته إلى الطريق ، وقال : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع زمارة راع فصنع مثل هذا ] .
قالوا : فلو كان سماع الزمارة حراماً ، لأمر ابنُ عمر نافعاً أن يسد أذنيه .
والجواب :
أ-أن هذا الحديث قال عنه أبوداود – كما في سننه – : حديث منكر .
ب-ولو صح لكان دليلاً عليهم ، فإن سدَ النبي صلى الله عليه وسلم لأذنيه وسدَ ابن عمر لأذنيه من أوضح الأدلة على أن ذلك الصوت من المنكر .
ج-أن المحرم هو الاستماع لا السماع وفرق بين الأمرين ، فالاستماع : هو قصد السماع ، أما السماع فيطلق على مجرد ملاقاة الأصوات للسمع دون تقصد ، وهذا مثل من كان مجتازاً بطريق فمر على من يقول كفراً أو كذباً أوغيبة ، فسمع ذلك منه دون استماع ، لم يأثم بمجرد السماع باتفاق المسلمين ، ولو جلس واستمع إلى ذلك ، ولم ينكره لا بقلبه ، ولا بلسانه ولا بيده ، كان آثماً باتفاق المسلمين ، فلو أن ابن عمر ونافعاً لم يسدا أذنيهما فلا شيء عليهما ، لأنهما لم يقصدا الاستماع ، ولا تلازم بين القول بتحريم آلات المعازف وبين وضع الأصابع في الأذنين عند سماعها ، فالقائلون بتحريم آلات المعازف لا يوجبون على أحد أن يضع أصبعيه في أذنيه عند سماعه لآلات المعازف دون تقصد .
د-يحتمل أن يكون ابن عمر ونافع ، لم يبلغا بعد سن التكليف ، عندما وقعت القصة لكل واحد منهما ، فإن ابن عمر عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في أحدٍ ورده لصغر سنه .
5- من أدلتهم : أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة ، ولا دليل على تحريم المعازف أو الآلات الموسيقية ، فتبقى على أصل الحل والإباحة .
والجواب :
أنه قد مر آنفاً الأدلة الصحيحة الصريحة على تحريم المعازف وآلات الموسيقى ، بل الإجماع منعقد على تحريمها بحمد الله ، وما يدّعونه من عدم وجود الدليل إنما هي دعوى ساقطة ، يتعلقون بها ، [ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ][النور:الآية39] .
شبهتان والجواب عنهما : ـ
الشبهة الأولى :
قد يقول قائل : إن ابن حزم الظاهري وغيره من المتأخرين قد خالف في المسألة ، وعليه فالإجماع المذكور في تحريم المعازف والمزامير غير صحيح .
والجواب : أن من المعلوم عند أهل العلم ، أن الخلاف المتأخر لا ينقض الإجماع المتقدم ، وإلا لو كان الأمر كذلك لما بقي إجماع على وجه الأرض ، لأنه لا يحصى المخالف للإجماع في المتأخرين ، وهاهم أهل السنة والجماعة لا يزالون يذْكُرُون إجماع السلف ويحتجون به ، مع مخالفة من خالف من أهل البدع بعد انعقاد الإجماع .
ولاشك أن ابن حزم وغيره ممن تأخر إذا خالف الإجماع المنعقد قبله لا ينظر إليه .
قال ابن تيمية – رحمه الله - : وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغاً ، لأن كثيراً من أصول المتأخرين مبتدع في الإسلام ، مسبوق بإجماع السلف على خلافه ، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً .ا.هـ [ الفتاوى 13/26] .
وهذه المسألة التي نحن فيها – أي مسألة المعازف – من هذا القبيل إذ لم يخالف فيها إلا من تأخر وشذ من الظاهرية كابن حزم ، والصوفية .
قال ابن رجب - رحمه الله - : سماع آلات الملاهي ، لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيه ، وإنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهـرية والصـوفية ممن لا يعتد به .ا.هـ [ نزهة الأسماع 69] .
وقال ابن كثير – رحمه الله -: قد نقل غير واحد من الأئمة إجماع العلماء على تحريم اجتماع الدفوف والشبابات ، ومن الناس من حكى في ذلك خلافاً شاذاً .ا.هـ [جواب لابن كثير ملحق بكتاب على مسألة السماع لابن القيم 472 ]
فها أنت ترى أن ابن رجب وابن كثير علموا بالخلاف الحادث بعد الإجماع ولم يأبهوا به ، ولم يلتفتوا إليه ، إذ إنه لا يعتد به . وسموه خلافاً شاذاً .
ولذا قال ابن تيمية : وأهل الظاهر [ يعني الظاهرية أتباع ابن حزم ] كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ .ا.هـ [ منهاج السنة 5/178 ] .
الشبهة الثانية :
قالوا : إنه يكفي العامي أن يقلد أحد العلماء في مسائل الشريعة وابن حزم من العلماء ، فلو قلده في مسألة المعازف فلا لوم عليه .
والجواب : أن الله سبحانه وتعالي أمرنا إذا وقع النزاع في مسألة شرعية أن نردها إلى الكتاب والسنة ، قال سبحانه : [ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً][النساء:59] فإن كان المكلف لا يستطيع فهم الأدلة ، وجبَ عليه سؤال أهل العلم لقوله سبحانه: [ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ][النحل:43] فإذا وقع الخلاف بين أهل العلم وجب على المكلف إتباع أعلمهم .
قال الشاطبي – رحمه الله – : العامي جاهل بمواقع الاجتهاد فلا بد له ممن يرشده إلى من هو أقرب إلى الحق ، من هذين العالمين المختَلِفَين ، وذلك إنما يكون بترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية ، لأن الأعلمية تُغلب ظن العامي أن صاحبها أقرب للصواب .ا.هـ [ الاعتصام 2/861/بتصرف يسير ].
ومعنى كلامه : أنه يجب على العامي أن يتبع قول الأعلم من العلماء المختلفين .
وبنحوه قال الخطيب البغدادي حيث قال : إن كان العامي يتسع عقله ويكمل فهمه إذا عُقل أن يعقل ، وإذا فُهم أن يفهم ، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم ، وعن حججهم ، فيأخذ بأرجحها عنده ، فإذا كان عقله يقصر عن هذا ، وفهمه لا يكمل له ، وسعه التقليد لأفضلهما عنده .ا.هـ .
وإنما تكون الأفضلية بالعلم ، وإلا لو جاز للإنسان أن يتبع في كل مسألة من شاء من العلماء ، لاجتمع فيه الشر كله ، لأن زلات العلماء كثيرة ، فمن تتبعها اجتمع فيه دين جديد غير دين الله الذي أنزله لعباده وارتضاه لهم .
وقد نقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله الإجماع على المنع من تتبع الرخص والأخذ بما يوافق الهوى والغرض من أقوال العلماء .
وقال ابن القيم : وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتحيز وموافقة الغرض ، فيطلب القول الذي يوافق غرضه فهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان .[ اعلام الموقعين 4/211].
إذا علم ذلك – أعني وجوب الأخذ بقول الأعلم من العلماء – فما الظن يا ترى ؟؟! أصَحَابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الإسلام الذين يقولون بتحريم المعازف أعلم ؟! أم ابن حزم وغيره ممن قال بجواز المعازف ؟! اترك الإجابة للقارئ ليتبع بعد ذلك الأعلم من الفريقين .
وفي الختام كلامي أحب أن أوجه نصيحة لكثير من المسلمين الذين جعلوا عقولهم مكاناً لقضاء حاجة وسائل الإعلام ، فالمجلة تقضي حاجتها ، والجريدة تقضي حاجتها ، والتلفاز والمذياع والمستقبل الهوائي [الدش] يقضي حاجته ، متصورين أن كل ما يلقى وما يذاع عبر هذه الوسائل أنه صحيح لا جدال فيه ، فترى الواحد منهم لا يتورع أن يأخذ الأحكام الشرعية من هذه الوسائل ، بل عقائده ، دون النظر إلى الناقل ، وهل هو ثقة أم فاسق ، والله يقول : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ][الحجرات:6]
وليَعلَمْ كل واحدٍ منا أنه ليس بمعذور أمام الله عندما يسأله : لم فعلت كذا وكذا ؟؟؟
فيجيب : قرأت في المجلة الفلانية جوازه أو رأيت في القناة الفلانية إباحته !!!!.
قال الله سبحانه وتعالى : [ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ، فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ][القصص65–67] .
اسأل الله أن يبصرنا بدينه وأن يوفقنا إلى اتباع سنة رسوله إنه سميع مجيب الدعاء .
كتبه
حمد بن عبد العزيز بن حمد ابن عتيق
الرياض 20/12/1420 هـ