abohmam
01-11-2012, 11:07 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إصلاح اللسان
الشيخ : البشير عصام المراكشي
أنزل الله القرآن بلسان عربي مبين، على رسوله الأمين أفصح ناطق بالضاد، صلى الله عليه وسلم. وأخذ عن هذا الرسول الكريم ثلة من الصحابة المبجلين، وهم أهل الفصاحة وأرباب البيان، فنقلوا أصول الوحي وفروعه لمن بعدهم، بلغة عربية سليمة منقحة. فكانت الشريعة المطهرة كلها مصهورة في بوتقة هذا اللسان العربي البليغ، وكان لذلك فهم الشريعة، والتعمق في مقاصدها الكلية، وأحكامها الجزئية، معتمدا على حسن التصرف في لسان العرب، وبلوغ أعلى المراتب في ذلك.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (.. الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط، ما عدا وجوه الإعجاز. فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة. فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم..)(1).
وفي عصرنا هذا، لا يتنازع اثنان من حملة الشريعة في هذا المعنى على سبيل الإجمال، وأما عند التفصيل والتنزيل فالأمر مختلف. ولذلك فلست أعرف متفقا عليه عند التنظير أشبه بمختلف فيه لدى التطبيق من أهمية علوم العربية في فهم النصوص، وتحصيل أداة الاستنباط !
إن من أعظم أولويات العمل الدعوي الذي يطمح إلى بعث الإسلام في القلوب غضا طريا، ويبحث عن تحكيم الشريعة في الأفراد والمجتمعات: إحياء الذوق العربي الفصيح عند طلبة العلم الشرعي، ومقاومة الضعف اللغوي الذي ينخر أذهان المتصدين للاجتهاد في فروع الشريعة وأصولها.
· الضعف اللغوي: أسباب متشابكة:
يحق لنا أن نسأل بمرارة في اللسان وحرقة في القلب:
ما الذي أوصل الأمة إلى هذه المنزلة المتدنية، في تعاملها مع لغة كتابها، ولسان نبيها؟
ويأتي الجواب شاملا لأسباب كثيرة، اجتمعت فأنتجت هذه الظاهرة الخطيرة. فمن ذلك:
- الأثر البغيض للاستعمار(2) الأوروبي، الذي حرص أشد ما يكون الحرص على تدمير الثقافة العربية، والحضارة الإسلامية؛ وفي مقدمة ذلك سعيه لمحاربة اللغة العربية وإحلال اللغات الأجنبية موضعها. ولم يخرج المستعمر إلا بعد أن خلف وراءه قوما يتبعونه حذو القذة بالقذة، ويطبقون سياساته على أفضل ما يكون التطبيق !
- التشتت اللغوي القاتل في مناهج التعليم المدرسي، إذ يصل الأمر في بعض البلاد العربية إلى تعلم أربع لغات في سن الصبا(3) ! وفي بلاد عربية أخرى يجبر الطالب على تعلم لغة أجنبية، تنافس العربية في ذهنه، بل تكون أحظى عنده في الغالب، لما تفتحه أمامه من آفاق دنيوية رحبة. وقد اشتهر قول الجاحظ: (واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها..)(4). ويشتد الخطر حين يكون اختلاط الألسنة في ميعة الصبا.
- ضعف مناهج تدريس اللغة العربية في المدارس والجامعات، وتذبذبها بين المناهج التعليمية الحديثة، والأساليب التراثية. ونتيجة ذلك أن أكثر المتخرجين من هذه المؤسسات التعليمية، لا يبقى في أذهانهم شيء معتبر من علوم العربية التي تلقوها خلال سنوات التحصيل الدراسي الطويلة(5).
- غلبة العامية في لغة التخاطب اليومي، وفي وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ثم في الدروس العلمية والمواعظ العامة، بل في خطب الجمعة أيضا(6)! ولم يبق للعربية سوى حيز ضيق في مجال الكتابة خصوصا، مع عدم السلامة من التعبير الركيك، والتركيب العامي.
- التهاون الشديد من طلبة العلم الشرعي، بل من العلماء الكبار، في أمر العربية: حثا على تعلمها، وبيانا لعظيم شأنها، وإعطاء للقدوة في استعمالها، وحذرا مما يصم وجهها المشرق. وإذا تساهل هؤلاء في لغة الضاد، مع علمهم بخطورة ذلك، وتحاكمهم فيه إلى نظر شرعي قطعي؛ فمن ترى – بعدهم - يحمل مشعل إحياء هذه اللغة الكريمة؟
إذا علمت هذه الأسباب، فإن علاج المرض ينبغي أن يكون على صعيد شامل، وبأساليب متكاملة. وهذا يقتضي اجتماع جهود أفراد ومؤسسات، مع إرادة سياسية حاسمة، وانخراط للمجتمع كله في عملية البناء.
وفي انتظار بزوغ فجر هذا العلاج الناجع، فإن على الأفراد – وأخص طلبة العلم الشرعي منهم – مسؤولية تأسيس عمل فردي، لإصلاح الألسنة، وتكوين الذوق العربي الفصيح.
وذلك - في نظري – ينبني على دعامتين، أولاهما مرتبطة بالتعليم والتأصيل، والثانية مستمدة من الممارسة والتطبيق.
· التحصيل العلمي اللغوي:
إن علماء الأمة أفنوا أعمارهم منذ القديم، ليحولوا المادة اللغوية الموروثة إلى علوم مؤصلة، ويضعوا لها القواعد التي تضبطها، وتجمع شتاتها. ومن الجهل الشنيع أن يتنكب بعض المتسرعين هذا النهج اللاحب، وينسفوا هذا الجهد الباذخ، ويدعوا أنهم يودون المتح المباشر من ذاك المعين الأصلي، دون الاستفادة من هذه العلوم المنهجية.
لا بد إذن من أخذ قسط حسن من علوم العربية، يكون كالحد الأدنى الذي لا تحصل الثقة بلغة من لم يحصله.
وهذا الحد الأدنى - من خلال تجربتي – يشمل الآتي:
- أساسيات علمي النحو والصرف، وذلك يتحقق بحفظ المتون المشهورة وإتقان فهمها، والمثابرة على مذاكرتها. وأقصد بذلك متن الأجرومية، وألفية ابن مالك، ولامية الأفعال. ومن أراد الازدياد من الخير، فأمامه كتب النحاة القدماء والمحدثين، كالمعين الثر الصافي، لا ينقطع عطاؤه.
- أصول علم البلاغة، بأقسامها الثلاثة، وأقل ذلك حفظ نظم الجوهر المكنون، وفهم معانيه. وينبغي الحذر من تشقيقات المتأخرين، وتفريعاتهم الكثيرة، فإنها عن فصاحة العرب الأقحاح بمعزل.
- علماء العروض والقوافي، والحد الأدنى في ذلك أن يعرف الطالب البحور الشعرية، وما يلحقها من تغيير، ويتقن تقطيع الأبيات، وإلحاقها ببحورها، ويتمكن من قرض الشعر إن نازعته نفسه لذلك. ولا يلزم غيرَ المتخصص حفظ الاصطلاحات الكثيرة في هذين العلمين.
- قواعد الإملاء، ويكفي في ذلك كتيب صغير يشرع القواعد التي يقبح بالكاتب مخالفتها، مثل كتاب (قواعد الإملاء) لعبد السلام هارون.
- أما متن اللغة، فبحر لا ساحل له، ولا سبيل إلى الإحاطة به(7)، ولا يزال الطالب في ازدياد منه ما دام فيه عرق ينبض. وأقل مايطالع فيه: بعض المعاجم الصغيرة، كمختار الصحاح، والمصباح المنير، ثم القاموس وما شاكله. على أن اختيارات الأدباء أولى بالعناية من تجميع المعاجم، فاللفظة المشهورة التي يتداولها أهل الفصاحة خير من اللفظة المهجورة التي ينقلها أهل اللغة.
· الممارسة اللغوية، واكتساب المهارات:
إن التحصيل النظري المجرد عن الممارسة التطبيقية، لا يثمر الفائدة المرجوة، ولا يخرّج متمكنين من آلة الخطاب، وأداة البيان، ولا قادرين على تملك ناصية فهم النصوص، واستخراج مكنوناتها.
وقد رأيت من طلبة العلم من يحفظ ألفية ابن مالك ويتقن فهمها، ثم هو يلحن في كلامه !
ورأيت من يحفظ عقود الجمان، ويستحضر اصطلاحات البلاغيين، ثم هو يأتي في كتابته بالركيك الممجوج !
ورأيت من يحفظ نظم الخزرجي، ويذاكر في ألفاظ العروضيين، ثم هو لا يقيم بيتا من الشعر !
فهذه العلوم لا بد منها ولكنها لا تكفي، إذ هي لا تنفع صاحبها إلا مع المران الشديد، والدربة الطويلة. ولذلك لم يكن علماؤنا يكتفون بعلوم العربية النظرية، بل كان لهم نصيب معتبر من الآداب، حفظا ومذاكرة وتأليفا، مما غاب عن كثير من طلبة العلم العصريين، بزعم التورع عما يشين في كتب الأدب تارة، وبالرغبة في حفظ الوقت تارة أخرى. ونتج من ذلك، جفاف في التعبير، وخشونة في الألفاظ، وركاكة في الأساليب.
ويشمل شق الممارسة محاور ثلاثة، هي: النطق والاستماع والكتابة. والقاعدة العامة التي ينبغي أن تنتظم هذه المحاور كلها، هي: (تجنبُ الترخص، والأخذُ بالعزائم). فلن يحصل الطالب بغيته من هذه اللغة الكريمة إلا بالصبر على لأواء الأساليب الراقية، والجلَد في انتقاء الألفاظ الفخمة العالية، والمثابرة على تحري الإعراب في مواضعه. أما من أخلد إلى أرض الكلام العامي المبتذل، ولغة الإعلام السمجة، وتسكين أواخر الكلم فرارا من نَصَب الإعراب، فلا تتوقع منه إشراقا في سماء الفصاحة، أو لمعانا بين نجوم البلاغة.
أما في مجال النطق، فعلى الطالب أن يتحرى استعمال الفصحى ما أمكنه ذلك، فإن العامية كالأرَضَة، تنخر الذائقة الفصيحة، فلا تذر منها شيئا ذال بال. وينبغي كذلك الحذر من الرطانة بالأعجمية، إلا لمصلحة لا يختلف فيها؛ فإن هذه اللغات الأوروبية – كأهلها – تحب الهيمنة، وتعشق السيطرة، فلا يلبث المتساهل في هذا الباب أن يجد لسانه في منزلة بين المنزلتين، فليس بـ''معتزل'' درك الأعجمية، ولا بـ''واصل'' إلى معالي العربية.
وعلى الطالب أن يتمرن على النطق الجهري بالكلام الفصيح، وأقل ذلك أن يحمل ديوانا من دواوين الأدب القديم(8) فيقرأ فيه بصوت مسموع، متحريا الإعراب والنطق السليم. وأعلاه أن يتدرب على ارتجال الخطب في موضعات مختلفة، بأفضل ما لديه من الألفاظ والتراكيب.
وأما في باب الاستماع، فعلى الطالب أن يتخير لأذنه، كما يتخير الرائد لقومه أطيب المنازل، وكما ينتقي الراعي لأنعامه أفضل المناجع؛ فإن السمع جماع لكل ما يمر عليه، ثم هو يرسله إلى الذهن، خيرا كان أو شرا. فمن اعتاد استماع الكلم الفصيح، صار لعقله مناعة ضد التافه من القول؛ ومن اعتاد الاستماع لكل كلام دون تمحيص، أوشك أن يستوي عنده العالي والنازل، ويختلط في لسانه الحابل بالنابل !
وقد أدركت من أهل العلم من يكره إصاخة سمعه لبعض الدعاة الجدد الذين يخلطون دقَل اللفظ ببرنيّه، ويمزجون در الكلام ببعره؛ صونا لسمعه، وحفظا لأذنه من غارات القول المرذول.
وأما أخيرا في ميدان الكتابة، فليكن للطالب ورد يومي – قل أو كثر - من رصف الألفاظ، وتوليد المعاني، متحريا في ذلك النسج على منوال أكابر الأدباء، وجهابذة البيان الناصع، والتعبير المشرق. ولا يزال الطالب يحاكي هؤلاء في أساليبهم، ويتنقل بين روضات تعابيرهم، حتى يشيد لنفسه أسلوبا فصيحا، يتخذه مطية للتعبير عن مكنون أفكاره.
إن مما يبني مهارة الكتابة: التفكر الطويل في العبارة، وتنقيحها المرة بعد الأخرى، قبل الانتقال عنها إلى ما يليها. أما إلقاء الكلام كما يتفق لأول وهلة، دون تدبر ولا مراجعة، فإنه يعوّد القلم على استمراء السهولة، ويؤول به إلى الابتذال والركاكة.
اللهم قيض للعربية من يقوم بشأنها أفضل قيام، ويعيد لها مجدها الداثر.
*****************
1) الموافقات: (5/53)، وفي الاعتصام كلام طيب عن أثر الضعف اللغوي في أصول البدع (2/47). وينبغي التذكير بأن الإمام الشاطبي إلى جانب تبحره في أصول الشريعة، كان من أكابر اللغويين كما يشهد بذلك شرحه الفذ على ألفية ابن مالك: (المقاصد الشافية).
2) .استعمالي لهذا اللفظ إنما هو لذيوعه وانتشاره، وإلا فمن الواضح جدا أنه بالتخريب والتدمير ألصق منه بالتعمير !
3) هذا الحال في المغرب الأقصى. فإن الطفل يتعلم في المدرسة الابتدائية: العربيةَ والفرنسية معا، والأمازيغية في كثير من المدارس، وهي تجربة قابلة للتعميم. وتضاف الانجليزية في المدارس الخصوصية ! هذا كله عدا العامية المغربية التي يتعلمها الطفل في البيت والشارع. فاعجب لهذا الخليط، وتدبر ما الذي يبقى من الذوق العربي بعد هذا؟ !
4) البيان والتبيين (1/293).
5) رصد الاختلالات المنهجية في الجامعات العربية يحتاج إلى بسط، لعله يكون في مقال خاص.
6) للعلامة الطناحي رحمه الله كلمة في نقد بعض خطباء الجمعة يقول فيها (مقالات الطناحي 1/157): (أما الآن فتكاد خطب الجمعة – ولا سيما على ألسنة الشبان المتحمسين – تتحول إلى ثرثرة وكلام عام مبهم عن ''مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم''، و''الإسلام في خطر'' و''الإسلام هو الحل'' وهذا وهذان مما يصرف عن الاستشهاد بالقرآن والحديث وكلام العرب، وإذا أتاك شيء من ذلك فهو يأتيك في معظمه ملحونا ومزالا عن جهته).
7) قال الشافعي في الرسالة (1/42): (ولسان العرب أوسع الالسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي).
8) من الكتب المقترحة: جمهرة خطب العرب، ونهج البلاغة، وكتب الجاحظ والتوحيدي، وكامل المبرد وأمالي القالي، وما لا يحصى كثرة من المصنفات الأدبية الجامعة.
أتمنى لكم جميعا الفائدة من هذه المشاركة
ولاتنسونا من صالح دعائكم
:fasel6:
أبوهمام
.
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إصلاح اللسان
الشيخ : البشير عصام المراكشي
أنزل الله القرآن بلسان عربي مبين، على رسوله الأمين أفصح ناطق بالضاد، صلى الله عليه وسلم. وأخذ عن هذا الرسول الكريم ثلة من الصحابة المبجلين، وهم أهل الفصاحة وأرباب البيان، فنقلوا أصول الوحي وفروعه لمن بعدهم، بلغة عربية سليمة منقحة. فكانت الشريعة المطهرة كلها مصهورة في بوتقة هذا اللسان العربي البليغ، وكان لذلك فهم الشريعة، والتعمق في مقاصدها الكلية، وأحكامها الجزئية، معتمدا على حسن التصرف في لسان العرب، وبلوغ أعلى المراتب في ذلك.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (.. الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط، ما عدا وجوه الإعجاز. فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة. فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم..)(1).
وفي عصرنا هذا، لا يتنازع اثنان من حملة الشريعة في هذا المعنى على سبيل الإجمال، وأما عند التفصيل والتنزيل فالأمر مختلف. ولذلك فلست أعرف متفقا عليه عند التنظير أشبه بمختلف فيه لدى التطبيق من أهمية علوم العربية في فهم النصوص، وتحصيل أداة الاستنباط !
إن من أعظم أولويات العمل الدعوي الذي يطمح إلى بعث الإسلام في القلوب غضا طريا، ويبحث عن تحكيم الشريعة في الأفراد والمجتمعات: إحياء الذوق العربي الفصيح عند طلبة العلم الشرعي، ومقاومة الضعف اللغوي الذي ينخر أذهان المتصدين للاجتهاد في فروع الشريعة وأصولها.
· الضعف اللغوي: أسباب متشابكة:
يحق لنا أن نسأل بمرارة في اللسان وحرقة في القلب:
ما الذي أوصل الأمة إلى هذه المنزلة المتدنية، في تعاملها مع لغة كتابها، ولسان نبيها؟
ويأتي الجواب شاملا لأسباب كثيرة، اجتمعت فأنتجت هذه الظاهرة الخطيرة. فمن ذلك:
- الأثر البغيض للاستعمار(2) الأوروبي، الذي حرص أشد ما يكون الحرص على تدمير الثقافة العربية، والحضارة الإسلامية؛ وفي مقدمة ذلك سعيه لمحاربة اللغة العربية وإحلال اللغات الأجنبية موضعها. ولم يخرج المستعمر إلا بعد أن خلف وراءه قوما يتبعونه حذو القذة بالقذة، ويطبقون سياساته على أفضل ما يكون التطبيق !
- التشتت اللغوي القاتل في مناهج التعليم المدرسي، إذ يصل الأمر في بعض البلاد العربية إلى تعلم أربع لغات في سن الصبا(3) ! وفي بلاد عربية أخرى يجبر الطالب على تعلم لغة أجنبية، تنافس العربية في ذهنه، بل تكون أحظى عنده في الغالب، لما تفتحه أمامه من آفاق دنيوية رحبة. وقد اشتهر قول الجاحظ: (واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها..)(4). ويشتد الخطر حين يكون اختلاط الألسنة في ميعة الصبا.
- ضعف مناهج تدريس اللغة العربية في المدارس والجامعات، وتذبذبها بين المناهج التعليمية الحديثة، والأساليب التراثية. ونتيجة ذلك أن أكثر المتخرجين من هذه المؤسسات التعليمية، لا يبقى في أذهانهم شيء معتبر من علوم العربية التي تلقوها خلال سنوات التحصيل الدراسي الطويلة(5).
- غلبة العامية في لغة التخاطب اليومي، وفي وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ثم في الدروس العلمية والمواعظ العامة، بل في خطب الجمعة أيضا(6)! ولم يبق للعربية سوى حيز ضيق في مجال الكتابة خصوصا، مع عدم السلامة من التعبير الركيك، والتركيب العامي.
- التهاون الشديد من طلبة العلم الشرعي، بل من العلماء الكبار، في أمر العربية: حثا على تعلمها، وبيانا لعظيم شأنها، وإعطاء للقدوة في استعمالها، وحذرا مما يصم وجهها المشرق. وإذا تساهل هؤلاء في لغة الضاد، مع علمهم بخطورة ذلك، وتحاكمهم فيه إلى نظر شرعي قطعي؛ فمن ترى – بعدهم - يحمل مشعل إحياء هذه اللغة الكريمة؟
إذا علمت هذه الأسباب، فإن علاج المرض ينبغي أن يكون على صعيد شامل، وبأساليب متكاملة. وهذا يقتضي اجتماع جهود أفراد ومؤسسات، مع إرادة سياسية حاسمة، وانخراط للمجتمع كله في عملية البناء.
وفي انتظار بزوغ فجر هذا العلاج الناجع، فإن على الأفراد – وأخص طلبة العلم الشرعي منهم – مسؤولية تأسيس عمل فردي، لإصلاح الألسنة، وتكوين الذوق العربي الفصيح.
وذلك - في نظري – ينبني على دعامتين، أولاهما مرتبطة بالتعليم والتأصيل، والثانية مستمدة من الممارسة والتطبيق.
· التحصيل العلمي اللغوي:
إن علماء الأمة أفنوا أعمارهم منذ القديم، ليحولوا المادة اللغوية الموروثة إلى علوم مؤصلة، ويضعوا لها القواعد التي تضبطها، وتجمع شتاتها. ومن الجهل الشنيع أن يتنكب بعض المتسرعين هذا النهج اللاحب، وينسفوا هذا الجهد الباذخ، ويدعوا أنهم يودون المتح المباشر من ذاك المعين الأصلي، دون الاستفادة من هذه العلوم المنهجية.
لا بد إذن من أخذ قسط حسن من علوم العربية، يكون كالحد الأدنى الذي لا تحصل الثقة بلغة من لم يحصله.
وهذا الحد الأدنى - من خلال تجربتي – يشمل الآتي:
- أساسيات علمي النحو والصرف، وذلك يتحقق بحفظ المتون المشهورة وإتقان فهمها، والمثابرة على مذاكرتها. وأقصد بذلك متن الأجرومية، وألفية ابن مالك، ولامية الأفعال. ومن أراد الازدياد من الخير، فأمامه كتب النحاة القدماء والمحدثين، كالمعين الثر الصافي، لا ينقطع عطاؤه.
- أصول علم البلاغة، بأقسامها الثلاثة، وأقل ذلك حفظ نظم الجوهر المكنون، وفهم معانيه. وينبغي الحذر من تشقيقات المتأخرين، وتفريعاتهم الكثيرة، فإنها عن فصاحة العرب الأقحاح بمعزل.
- علماء العروض والقوافي، والحد الأدنى في ذلك أن يعرف الطالب البحور الشعرية، وما يلحقها من تغيير، ويتقن تقطيع الأبيات، وإلحاقها ببحورها، ويتمكن من قرض الشعر إن نازعته نفسه لذلك. ولا يلزم غيرَ المتخصص حفظ الاصطلاحات الكثيرة في هذين العلمين.
- قواعد الإملاء، ويكفي في ذلك كتيب صغير يشرع القواعد التي يقبح بالكاتب مخالفتها، مثل كتاب (قواعد الإملاء) لعبد السلام هارون.
- أما متن اللغة، فبحر لا ساحل له، ولا سبيل إلى الإحاطة به(7)، ولا يزال الطالب في ازدياد منه ما دام فيه عرق ينبض. وأقل مايطالع فيه: بعض المعاجم الصغيرة، كمختار الصحاح، والمصباح المنير، ثم القاموس وما شاكله. على أن اختيارات الأدباء أولى بالعناية من تجميع المعاجم، فاللفظة المشهورة التي يتداولها أهل الفصاحة خير من اللفظة المهجورة التي ينقلها أهل اللغة.
· الممارسة اللغوية، واكتساب المهارات:
إن التحصيل النظري المجرد عن الممارسة التطبيقية، لا يثمر الفائدة المرجوة، ولا يخرّج متمكنين من آلة الخطاب، وأداة البيان، ولا قادرين على تملك ناصية فهم النصوص، واستخراج مكنوناتها.
وقد رأيت من طلبة العلم من يحفظ ألفية ابن مالك ويتقن فهمها، ثم هو يلحن في كلامه !
ورأيت من يحفظ عقود الجمان، ويستحضر اصطلاحات البلاغيين، ثم هو يأتي في كتابته بالركيك الممجوج !
ورأيت من يحفظ نظم الخزرجي، ويذاكر في ألفاظ العروضيين، ثم هو لا يقيم بيتا من الشعر !
فهذه العلوم لا بد منها ولكنها لا تكفي، إذ هي لا تنفع صاحبها إلا مع المران الشديد، والدربة الطويلة. ولذلك لم يكن علماؤنا يكتفون بعلوم العربية النظرية، بل كان لهم نصيب معتبر من الآداب، حفظا ومذاكرة وتأليفا، مما غاب عن كثير من طلبة العلم العصريين، بزعم التورع عما يشين في كتب الأدب تارة، وبالرغبة في حفظ الوقت تارة أخرى. ونتج من ذلك، جفاف في التعبير، وخشونة في الألفاظ، وركاكة في الأساليب.
ويشمل شق الممارسة محاور ثلاثة، هي: النطق والاستماع والكتابة. والقاعدة العامة التي ينبغي أن تنتظم هذه المحاور كلها، هي: (تجنبُ الترخص، والأخذُ بالعزائم). فلن يحصل الطالب بغيته من هذه اللغة الكريمة إلا بالصبر على لأواء الأساليب الراقية، والجلَد في انتقاء الألفاظ الفخمة العالية، والمثابرة على تحري الإعراب في مواضعه. أما من أخلد إلى أرض الكلام العامي المبتذل، ولغة الإعلام السمجة، وتسكين أواخر الكلم فرارا من نَصَب الإعراب، فلا تتوقع منه إشراقا في سماء الفصاحة، أو لمعانا بين نجوم البلاغة.
أما في مجال النطق، فعلى الطالب أن يتحرى استعمال الفصحى ما أمكنه ذلك، فإن العامية كالأرَضَة، تنخر الذائقة الفصيحة، فلا تذر منها شيئا ذال بال. وينبغي كذلك الحذر من الرطانة بالأعجمية، إلا لمصلحة لا يختلف فيها؛ فإن هذه اللغات الأوروبية – كأهلها – تحب الهيمنة، وتعشق السيطرة، فلا يلبث المتساهل في هذا الباب أن يجد لسانه في منزلة بين المنزلتين، فليس بـ''معتزل'' درك الأعجمية، ولا بـ''واصل'' إلى معالي العربية.
وعلى الطالب أن يتمرن على النطق الجهري بالكلام الفصيح، وأقل ذلك أن يحمل ديوانا من دواوين الأدب القديم(8) فيقرأ فيه بصوت مسموع، متحريا الإعراب والنطق السليم. وأعلاه أن يتدرب على ارتجال الخطب في موضعات مختلفة، بأفضل ما لديه من الألفاظ والتراكيب.
وأما في باب الاستماع، فعلى الطالب أن يتخير لأذنه، كما يتخير الرائد لقومه أطيب المنازل، وكما ينتقي الراعي لأنعامه أفضل المناجع؛ فإن السمع جماع لكل ما يمر عليه، ثم هو يرسله إلى الذهن، خيرا كان أو شرا. فمن اعتاد استماع الكلم الفصيح، صار لعقله مناعة ضد التافه من القول؛ ومن اعتاد الاستماع لكل كلام دون تمحيص، أوشك أن يستوي عنده العالي والنازل، ويختلط في لسانه الحابل بالنابل !
وقد أدركت من أهل العلم من يكره إصاخة سمعه لبعض الدعاة الجدد الذين يخلطون دقَل اللفظ ببرنيّه، ويمزجون در الكلام ببعره؛ صونا لسمعه، وحفظا لأذنه من غارات القول المرذول.
وأما أخيرا في ميدان الكتابة، فليكن للطالب ورد يومي – قل أو كثر - من رصف الألفاظ، وتوليد المعاني، متحريا في ذلك النسج على منوال أكابر الأدباء، وجهابذة البيان الناصع، والتعبير المشرق. ولا يزال الطالب يحاكي هؤلاء في أساليبهم، ويتنقل بين روضات تعابيرهم، حتى يشيد لنفسه أسلوبا فصيحا، يتخذه مطية للتعبير عن مكنون أفكاره.
إن مما يبني مهارة الكتابة: التفكر الطويل في العبارة، وتنقيحها المرة بعد الأخرى، قبل الانتقال عنها إلى ما يليها. أما إلقاء الكلام كما يتفق لأول وهلة، دون تدبر ولا مراجعة، فإنه يعوّد القلم على استمراء السهولة، ويؤول به إلى الابتذال والركاكة.
اللهم قيض للعربية من يقوم بشأنها أفضل قيام، ويعيد لها مجدها الداثر.
*****************
1) الموافقات: (5/53)، وفي الاعتصام كلام طيب عن أثر الضعف اللغوي في أصول البدع (2/47). وينبغي التذكير بأن الإمام الشاطبي إلى جانب تبحره في أصول الشريعة، كان من أكابر اللغويين كما يشهد بذلك شرحه الفذ على ألفية ابن مالك: (المقاصد الشافية).
2) .استعمالي لهذا اللفظ إنما هو لذيوعه وانتشاره، وإلا فمن الواضح جدا أنه بالتخريب والتدمير ألصق منه بالتعمير !
3) هذا الحال في المغرب الأقصى. فإن الطفل يتعلم في المدرسة الابتدائية: العربيةَ والفرنسية معا، والأمازيغية في كثير من المدارس، وهي تجربة قابلة للتعميم. وتضاف الانجليزية في المدارس الخصوصية ! هذا كله عدا العامية المغربية التي يتعلمها الطفل في البيت والشارع. فاعجب لهذا الخليط، وتدبر ما الذي يبقى من الذوق العربي بعد هذا؟ !
4) البيان والتبيين (1/293).
5) رصد الاختلالات المنهجية في الجامعات العربية يحتاج إلى بسط، لعله يكون في مقال خاص.
6) للعلامة الطناحي رحمه الله كلمة في نقد بعض خطباء الجمعة يقول فيها (مقالات الطناحي 1/157): (أما الآن فتكاد خطب الجمعة – ولا سيما على ألسنة الشبان المتحمسين – تتحول إلى ثرثرة وكلام عام مبهم عن ''مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم''، و''الإسلام في خطر'' و''الإسلام هو الحل'' وهذا وهذان مما يصرف عن الاستشهاد بالقرآن والحديث وكلام العرب، وإذا أتاك شيء من ذلك فهو يأتيك في معظمه ملحونا ومزالا عن جهته).
7) قال الشافعي في الرسالة (1/42): (ولسان العرب أوسع الالسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي).
8) من الكتب المقترحة: جمهرة خطب العرب، ونهج البلاغة، وكتب الجاحظ والتوحيدي، وكامل المبرد وأمالي القالي، وما لا يحصى كثرة من المصنفات الأدبية الجامعة.
أتمنى لكم جميعا الفائدة من هذه المشاركة
ولاتنسونا من صالح دعائكم
:fasel6:
أبوهمام
.