أبو يوسف
19-11-2014, 08:49 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
من الثابت أن أمتنا العربية تأتي في مقدمة الأمم التي يحق لها أن تزهو بتاريخها المجيد وتراثها الأصيل.. هذا التراث الموغل في القدم والذي يضم بين طياته جوانب غنية وكنوزاً ثمينة لاتزال الأمم الأخرى تستوحيها وتستمد منها وتترجمها إلى لغاتها المختلفة.. سُقت ذلك كله لأقدم نماذج وامثولات مما يصحُّ أن يكون مصدراً غنياً وينبوعاً ثراً.. لمن يريد أن يستوحي من تاريخنا وتراثنا العريقين ما يريد أن ينشئه من روايات وفكاهات ومسرحيات.
أما الذي دفعني لكتابة هذه المادة فكان ما قرأته من أشعار فكاهية للشاعر الظريف... وأعتقد أن أغلب المفكرين يتذكرون الشعراء الذين كان لهم باع طويل في غرس البسمة والفرح على وجوه من كان يحضر مجالسهم وكان لابدَّ من ذكر أبي (دُلامة) وغيره من الشعراء الذين كان لهم صولات وجولات في هذا المجال.
-2-
والمعروف عن (أبي دلامة) إنه شاعر متمكن ولديه القدرة القوية على إضحاك القوم.. ودغدغة مشاعرهم.. فقد دخل يوماً على الخليفة (المهدي) وكان جالساً عنده (إسماعيل بن علي والعباس بن محمد وعيسى بن موسى) وجماعة أخرى من بني هاشم.. فأراد الخليفة أن يمازحه في القول والكلام..
فقال له:
والله إذا لم تهج واحداً ممن هو متواجدٌ في هذا المجلس لأقطعن لسانك:
فوقف حائراً ماذا يفعل (الخليفة) حلف يميناً معظماً إن لم يفعل ليقطعن لسانه.. لا محالة من ذلك؟! فنظر إلى القوم وهم جلساء وتحيَّر في أمره فراح ينظر إلى وجه كل واحدٍ منهم.. فيغمزه بأن يبتعد عنه ويكسب رضاه. فقال (أبو دُلامة), فازددت حيرةً من أمري.. فما رأيت أسلم لي إلا أن أهجو نفسي وأتخلص مما فرض عليَّ فقلت:
ألا أبْلغْ لديكَ أبا دُلامهْ /// فَلستَ منَ الكرامٍ ولا كَرامَهْ
جَمَعْتَ دمامةً وجَمَعْتَ لؤمَاً /// كَذاكَ اللؤمِ تَتْبَعُهُ الدَّمامَهْ
إذا لَبِسَ العمَامَةَ قُلْتَ قِرْداً /// وخَنْـزِيْراً إذا نَزَعَ العَمَامَهْ
فضحك القوم لما سمعوا منه.. ولم يبق أحداً منهم إلا أجازه.
-3-
وهناك من الشعراء من كان يتحدث عن داره ومصائبها والأمور التي تحدث معه فيها.. بطريقة ساخرة ومضحكة (كأبن الأعمى) ومنهم من يتحدث عن ثوبه البالي أو عن زوجته وصوتها في تنغيص حياته.. أو عن حماره وفرسه وما يعانيه من إزعاجات أو حتى من إصطبل الخيل الذي دخل هو الآخر في الهجاء فهذا الشاعر (صفيُّ الدين الحلي) يُضمن من معلقة أمرئ القيس في قصيدته المشهورة:
رَأى فَرسي إصْطَبْلَ عِيسى فَقَالَ لي /// قفَا نَبْك من ذكْرى حبيبٍ ومنـزلِ
بِهِ لم أذُقْ طعمَ الشَّعيرِ كأنني /// بسَقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ
تُقَعْقِعُ من بَرْدِ الشِّتاءِ أضَالِعي /// لَمَّا نَسَجَتْها منْ جَنُوبٍ وشَمْألِ
وهناك بعض الشعراء يتخوفون من دخولهم الحمام وقد قاموا بتحويل مسألة دخول الحمام إلى صورة مصغرة لدخول سَقَر وفيها المجرمون.. والبعض الآخر منهم لم ينس الاقتباس عندما ينشد ويقول:
وَحمَّام دَخلْتُه لأمْرٍ /// حكَى سَقَراً وفيه المجرمونا
فَيصطَرخُوا يقولوا: أَخْرجُونَا /// فإنْ عُدْنا فإنَّا ظالمونَا
وهناك شعراء كان لهم رأي ووصفوا مايشاؤون وقد وصفوا امرأة تحمل صفات غير جيدة ووصفها أحدهم من باب التسلية قائلاً:
لَهَا جِسْمُ بَرْغُوثٍ وسَاقا بَعُوضةٍ /// ووجهٌ كَوَجْه القِرْدِ بلْ هُو أَقْبَحُ
إذا عَاينَ الشَّيطانُ صورةَ وَجْهها /// تَعَوَّذَ منها حين يمْسِي ويُصْبِحُ
ونحنُ عادةً عندما نشاهد شيئاً غير محبب لنا نتعوَّذ من الشيطان الرجيم ومن شرِّه لكن الشاعر جعل الشيطان نفسه يتعوَّذ منها صباحَ مساء ويبتعد عنها خوفاً على نفسه من أذاها..
وهناك بعض الشعراء لهم رأي آخر يخالف ذلك. حيث قال أحدهم:
إن النسـَاءَ ريـاحيـنٌ خُلِقْـنَ لنَـا /// وكُـلُّنَـا يَشتْهَـيِ شَـمَّ الرَّياحِيـنِ
ومنهم من يقول:
إن النسـَاء شَيَـاطيـنٌ خُلقْـنَ لنـَا /// فَاسْتَعْذِ بِـاللهِ مـِنْ شَـرِّ الشيَّاطَيـنِ
والمرأة هذا المخلوق الذي لا يمكن الاستغناء عنه فهي نصف المجتمع.. وأحياناً كثيرةً كل المجتمع.. فيها الإضاءة.. وفيها الظلام.. فيها المحبة.. وفيها الحقد.. فالخالق وضع فيها كل التناقضات..
وهناك شاعرة معروفة دحضت هذه الأفعال وأكدت محبتها لزوجها ألا وهي الشاعرة الأندلسية (حفصة الركونية) التي جاهرت في رأيها، وفي حرصها على زوجها وغيرتها عليه : -
أغـارُ عَـلَيْـكَ مـِنْ عينـي ومِـنيْ /// ومِنْـكَ ومـنْ زمـانِكَ والمـكـانِ
ولَـوْ أنـي خَبَـأتُـكَ فـي عيـوني /// إلى يـَوْمَ القَيـَامَـة مـا كفـاني
وكذلك حال الشاعر العراقي (بدر شاكر السياب) عندما سحرته العيون فإنه قال أجمل ما قيل فيها، وفي رسائلها، وغموض أسرارها المجبولة بالطبيعة والنور والظلال:
عيناكِ غَابَتَا نخيلٍ ساعةَ السَّحَرْ أو شرفتانِ راحَ يَنأى عَنْهمُا القَمَرْ
ويحكى أيضاً أن (ابن الصوا) وهو شاعر عاش في القرن العاشر الهجري (ت 924) كان يهوى السود الأحابيش وفي محبوبته السمراء يقول:
هَوَيْتُها أمْجَرِيّة قدٍّ أضْنَتْ فُؤَادِي وَلَم تُواصِلْ
كَأَنِّها البَدْرُ في الدَّيَاجِي أَوْ هِيَ الشَّمْسُ في الأَصَائِلْ
كما كان لشعراء العصر الحديث نصيبٌ وافٍ في هذا اللون الشعري فعندما تقرأ القصيدة التالية لابد أن ترتسم البسمة على وجهك هذا إن لم يغلبك الضحك والسخرية لما ورد فيها.. فقد (كان للأستاذ عثمان لبيب) حمارٌ يركبه في ذهابه إلى المدارس بالقاهرة, فسرقه منه اللصوص, وبلغ الخبر لصديقه (محمود سلامة) صاحب جريدة (الواعظ) في ذلك الوقت فما كان منه إلا أن تعاطف معه فألف قصيدة رثى فيها الحمار المسروق وواسى صاحبه بقوله:
قِفْ بسوق الحَمِيْرِ وانْظُرْ مَليَّاً /// هَلْ تَرى أَدْهَمَاً أغَرَّ المُحيَّا
خَلَستْهُ يَدُ اللُّصُوصِ صَبَاحاً /// مُوْكفَاً مُلجَمَاً مُعَدَّاً مُهيَّا
فَخَلا إِصْطبلهُ وأصبَح قَاعَاً /// صَفْصَفاً خَاوِيَ العُرُوشِ خَليَّا
كانَ يَاحَسْرَتَا عليْهِ صَبُوراً /// قَانِعَ النَّفسِ راضَيِاً مرضيَّا
كمْ ليالٍ على الطّوى قد طَوَاهَا /// حَامِداً شَاكِراً ولمْ يَشْكُ شَيَّا
ليتَ شعري: أيَنَ الأمانُ وهذا /// (جحشُ) عثمان قد عَدِمْنَاهُ حيَّا
كانَ عوناً لهُ إذا رامَ ضِعْنَاً /// وخَليلاً لدى المُقَام صَفِيَّا
كان إن قلتُ (هِشْ) أَجَابَكَ طَوْعَاً /// وإذا قلتَ (حَا) انْتضَىَ سِمْهَرِيَّا
لَكَ فيهِ العزاءُ عثمانُ أَمّا /// سَالبوُه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ (غِيَّا)
فكان لهذه القصيدة أثر عظيم في تخفيف المصيبة والرضا بقضاء الله وقدره.. فكيف لو كانت المصيبة أعظم من ذلك؟!
هذه القصيدة حتى وقعت عيناي على قصيدة أخرى مشابهة لها. فقد كان ضحية هذه الحادثة المأساوية.. سرقة مادية لشخص آخر.. على كل حال فهناك عدد من كتاب الشعر الساخر والفكاهي الذي نشأ في مصر وتطور وازدهر في سورية وكان له أعلام كبار (كصدقي إسماعيل) الذي كان يصدر جريدة يكتبها بخط يده عنوانها (الكلب) وكلها شعر ساخر وفكاهي.
ومنهم أيضاً الشاعر (محمود غنيم) فعندما علم أن محفظة صديقه قد سُرقت منه تألم كثيراً لماحدث وواساهُ بهذه المصيبة التي ألمّت به وجعلها خَطباً جللاً ومصيبة من أعظم المصائب التي حلَّت عليه.. لذلك فأتى بهذه الأبيات اللطيفة معزياً صديقه:
هَوِّنْ عَليكَ وجففْ دَمْعَكَ الغَالي /// لا يجمعُ الله بينَ الشِّعْرِ والمَالِ
مِنْ أَيْنَ أصبحتَ ذا مَالٍ فَتَسْلبُهُ /// يَا أشْبَه النَّاسِ بي في رِقَّة الحَالِ
فيالها صُرَةٌ من جَيْبِكَ اَنطَلَقَتْ /// وأنتَ أحوجُ مَخْلُوق لمثْقَالِ
عَوِّذْ نقودَك وأعقِدْ حَولهَا عُقَداً /// وثيقةً تتَحَدَّى كلَّ حَلالِ
قالوا: خَلَت يَدُه مِنْ كلِّ مَا مَلَكَتْ فقلتُ: بَلْ رأْسُه من عِقْلِه خَالِ
ياليتَ شعْري!! ماذا أنتَ صَانعهُ أتُزْمعُ الصَّومَ حتى شَهْركَ التَّالي
أقسمتُ: ما سَلبت تلكَ النقُّوُدُ يدٌ لكنها أَبْقَت مِنْ جيَبْكَ البَالي
الذئبُ لا يشتهي لحمَ ابْنِ جِلْدَتِه فكيفَ أَوْقَع نَشَّالٌ بنشِّالِ
ومن طريف شعر الدعابة القصة التي حكاها (بشار بن برد) قال: مات لي حمار ورأيته البارحة في النوم فقلت له: ويلك أمتَّ؟ قال: إنك ركبتني يوم كذا، فممرنا على باب الأصبهاني، فرأيت حمارة حسناء ذات خدٍ أملس تَيَّمتْنِيْ بغنجها ودلالها وجمال تمايلها حتى تملّكني هواها، ولو عشت لطال عذابي وذلي فأنشد بشار بن برد:
سَيِّدِي خُذْ لي أماَنَاً /// مِنْ أَتَانِ الأَصْبَهاني
إنَّ بالباب أَتَاناً /// فَضُلَت كُلَّ أَتَانِ
تَيَّمتَنْيِ يَومَ رِضَاً /// بِثَنَايَاهَا الحِسَان
وبَحُسْنٍ ودَلاَلٍ /// سَلَّ جِسْمِي وبَرَانَي
وَلَها خَدٌ أَسِيْلٌ /// مِثْلُ خَدِّ الشَّنْفراني
فيها مِتُّ ولو /// عِشْتُ إذا طَالَ هَوَاني
قال له أحدهم: يا أبا (معاذ) وما الشنفراني، قال: هو شيء يتحدث به (الحمير) فإذا لقيت حماراً في الطريق فاسأله عن ذلك؟!
وهكذا تصاحبنا في جولة مع قصائد مضحكة كان لها أثر كبير في تسليتنا عما نحن فيه من هموم العيش وضنك الحياة ومرارتها القاسية.. ولابد أيضاً من أن نتذكر أخيراً قول الله تعالى في كتاب العزيز: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) سورة النجم (43).
باختصار: إن العرب أمة غنية بفنون القول فقد تضمنت علومهم علماً أطلق عليه (علم الكلام) وكان الظُرف والفكاهة على ألسنتهم تجري وتفيض كأنها النهر. وهم المشهود لهم في اختصار القول والدقة في إصابة الهدف والوضوح في عرض الشؤون ومن ذلك أن (أشعب الطماع) كان يختلف إلى جارية ويُظهر لها العشق إلى أن سألته يوماً سلفة نصف درهم فانقطع عنها وكان إذا لقيها في الطريق سلك طريقاً آخر.. فصنعت له نشوقاً وأقبلت عليه.. فسألها ما هذا؟! قالت نشوق عملته لك خصيصاً لعله يذهب عنك هذا الفزع الذي ألمَّ بك, فقال اشربيه إنه للطمع, فلو انقطع طمعك انقطع فزعي وأنشد:
أَخْلفِي مَا شِئْتِ وَعْدِي /// وامنْحِيني كُلَّ صَدِّ
قَدْ سَلا بَعْدَك قَلْبِي /// فاعْشَقِي مَنْ شِئتِ بَعْدِي
إنَّني آَلَيْتُ لا أعْشَقُ /// مَنْ يَعْشَقُ نَقْدِي
المراجع:
1- المستطرف في كل فن مستظرف بهاء الدين الأبشيهي ط3 الصادر عن دار صادر.
2- الجواهر والدرر فيما نفع وندر محمد خير رمضان ط1 دار البشائر.
3- أخبار الظرفاء المتماجنين لابن الجوزي .
من الثابت أن أمتنا العربية تأتي في مقدمة الأمم التي يحق لها أن تزهو بتاريخها المجيد وتراثها الأصيل.. هذا التراث الموغل في القدم والذي يضم بين طياته جوانب غنية وكنوزاً ثمينة لاتزال الأمم الأخرى تستوحيها وتستمد منها وتترجمها إلى لغاتها المختلفة.. سُقت ذلك كله لأقدم نماذج وامثولات مما يصحُّ أن يكون مصدراً غنياً وينبوعاً ثراً.. لمن يريد أن يستوحي من تاريخنا وتراثنا العريقين ما يريد أن ينشئه من روايات وفكاهات ومسرحيات.
أما الذي دفعني لكتابة هذه المادة فكان ما قرأته من أشعار فكاهية للشاعر الظريف... وأعتقد أن أغلب المفكرين يتذكرون الشعراء الذين كان لهم باع طويل في غرس البسمة والفرح على وجوه من كان يحضر مجالسهم وكان لابدَّ من ذكر أبي (دُلامة) وغيره من الشعراء الذين كان لهم صولات وجولات في هذا المجال.
-2-
والمعروف عن (أبي دلامة) إنه شاعر متمكن ولديه القدرة القوية على إضحاك القوم.. ودغدغة مشاعرهم.. فقد دخل يوماً على الخليفة (المهدي) وكان جالساً عنده (إسماعيل بن علي والعباس بن محمد وعيسى بن موسى) وجماعة أخرى من بني هاشم.. فأراد الخليفة أن يمازحه في القول والكلام..
فقال له:
والله إذا لم تهج واحداً ممن هو متواجدٌ في هذا المجلس لأقطعن لسانك:
فوقف حائراً ماذا يفعل (الخليفة) حلف يميناً معظماً إن لم يفعل ليقطعن لسانه.. لا محالة من ذلك؟! فنظر إلى القوم وهم جلساء وتحيَّر في أمره فراح ينظر إلى وجه كل واحدٍ منهم.. فيغمزه بأن يبتعد عنه ويكسب رضاه. فقال (أبو دُلامة), فازددت حيرةً من أمري.. فما رأيت أسلم لي إلا أن أهجو نفسي وأتخلص مما فرض عليَّ فقلت:
ألا أبْلغْ لديكَ أبا دُلامهْ /// فَلستَ منَ الكرامٍ ولا كَرامَهْ
جَمَعْتَ دمامةً وجَمَعْتَ لؤمَاً /// كَذاكَ اللؤمِ تَتْبَعُهُ الدَّمامَهْ
إذا لَبِسَ العمَامَةَ قُلْتَ قِرْداً /// وخَنْـزِيْراً إذا نَزَعَ العَمَامَهْ
فضحك القوم لما سمعوا منه.. ولم يبق أحداً منهم إلا أجازه.
-3-
وهناك من الشعراء من كان يتحدث عن داره ومصائبها والأمور التي تحدث معه فيها.. بطريقة ساخرة ومضحكة (كأبن الأعمى) ومنهم من يتحدث عن ثوبه البالي أو عن زوجته وصوتها في تنغيص حياته.. أو عن حماره وفرسه وما يعانيه من إزعاجات أو حتى من إصطبل الخيل الذي دخل هو الآخر في الهجاء فهذا الشاعر (صفيُّ الدين الحلي) يُضمن من معلقة أمرئ القيس في قصيدته المشهورة:
رَأى فَرسي إصْطَبْلَ عِيسى فَقَالَ لي /// قفَا نَبْك من ذكْرى حبيبٍ ومنـزلِ
بِهِ لم أذُقْ طعمَ الشَّعيرِ كأنني /// بسَقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ
تُقَعْقِعُ من بَرْدِ الشِّتاءِ أضَالِعي /// لَمَّا نَسَجَتْها منْ جَنُوبٍ وشَمْألِ
وهناك بعض الشعراء يتخوفون من دخولهم الحمام وقد قاموا بتحويل مسألة دخول الحمام إلى صورة مصغرة لدخول سَقَر وفيها المجرمون.. والبعض الآخر منهم لم ينس الاقتباس عندما ينشد ويقول:
وَحمَّام دَخلْتُه لأمْرٍ /// حكَى سَقَراً وفيه المجرمونا
فَيصطَرخُوا يقولوا: أَخْرجُونَا /// فإنْ عُدْنا فإنَّا ظالمونَا
وهناك شعراء كان لهم رأي ووصفوا مايشاؤون وقد وصفوا امرأة تحمل صفات غير جيدة ووصفها أحدهم من باب التسلية قائلاً:
لَهَا جِسْمُ بَرْغُوثٍ وسَاقا بَعُوضةٍ /// ووجهٌ كَوَجْه القِرْدِ بلْ هُو أَقْبَحُ
إذا عَاينَ الشَّيطانُ صورةَ وَجْهها /// تَعَوَّذَ منها حين يمْسِي ويُصْبِحُ
ونحنُ عادةً عندما نشاهد شيئاً غير محبب لنا نتعوَّذ من الشيطان الرجيم ومن شرِّه لكن الشاعر جعل الشيطان نفسه يتعوَّذ منها صباحَ مساء ويبتعد عنها خوفاً على نفسه من أذاها..
وهناك بعض الشعراء لهم رأي آخر يخالف ذلك. حيث قال أحدهم:
إن النسـَاءَ ريـاحيـنٌ خُلِقْـنَ لنَـا /// وكُـلُّنَـا يَشتْهَـيِ شَـمَّ الرَّياحِيـنِ
ومنهم من يقول:
إن النسـَاء شَيَـاطيـنٌ خُلقْـنَ لنـَا /// فَاسْتَعْذِ بِـاللهِ مـِنْ شَـرِّ الشيَّاطَيـنِ
والمرأة هذا المخلوق الذي لا يمكن الاستغناء عنه فهي نصف المجتمع.. وأحياناً كثيرةً كل المجتمع.. فيها الإضاءة.. وفيها الظلام.. فيها المحبة.. وفيها الحقد.. فالخالق وضع فيها كل التناقضات..
وهناك شاعرة معروفة دحضت هذه الأفعال وأكدت محبتها لزوجها ألا وهي الشاعرة الأندلسية (حفصة الركونية) التي جاهرت في رأيها، وفي حرصها على زوجها وغيرتها عليه : -
أغـارُ عَـلَيْـكَ مـِنْ عينـي ومِـنيْ /// ومِنْـكَ ومـنْ زمـانِكَ والمـكـانِ
ولَـوْ أنـي خَبَـأتُـكَ فـي عيـوني /// إلى يـَوْمَ القَيـَامَـة مـا كفـاني
وكذلك حال الشاعر العراقي (بدر شاكر السياب) عندما سحرته العيون فإنه قال أجمل ما قيل فيها، وفي رسائلها، وغموض أسرارها المجبولة بالطبيعة والنور والظلال:
عيناكِ غَابَتَا نخيلٍ ساعةَ السَّحَرْ أو شرفتانِ راحَ يَنأى عَنْهمُا القَمَرْ
ويحكى أيضاً أن (ابن الصوا) وهو شاعر عاش في القرن العاشر الهجري (ت 924) كان يهوى السود الأحابيش وفي محبوبته السمراء يقول:
هَوَيْتُها أمْجَرِيّة قدٍّ أضْنَتْ فُؤَادِي وَلَم تُواصِلْ
كَأَنِّها البَدْرُ في الدَّيَاجِي أَوْ هِيَ الشَّمْسُ في الأَصَائِلْ
كما كان لشعراء العصر الحديث نصيبٌ وافٍ في هذا اللون الشعري فعندما تقرأ القصيدة التالية لابد أن ترتسم البسمة على وجهك هذا إن لم يغلبك الضحك والسخرية لما ورد فيها.. فقد (كان للأستاذ عثمان لبيب) حمارٌ يركبه في ذهابه إلى المدارس بالقاهرة, فسرقه منه اللصوص, وبلغ الخبر لصديقه (محمود سلامة) صاحب جريدة (الواعظ) في ذلك الوقت فما كان منه إلا أن تعاطف معه فألف قصيدة رثى فيها الحمار المسروق وواسى صاحبه بقوله:
قِفْ بسوق الحَمِيْرِ وانْظُرْ مَليَّاً /// هَلْ تَرى أَدْهَمَاً أغَرَّ المُحيَّا
خَلَستْهُ يَدُ اللُّصُوصِ صَبَاحاً /// مُوْكفَاً مُلجَمَاً مُعَدَّاً مُهيَّا
فَخَلا إِصْطبلهُ وأصبَح قَاعَاً /// صَفْصَفاً خَاوِيَ العُرُوشِ خَليَّا
كانَ يَاحَسْرَتَا عليْهِ صَبُوراً /// قَانِعَ النَّفسِ راضَيِاً مرضيَّا
كمْ ليالٍ على الطّوى قد طَوَاهَا /// حَامِداً شَاكِراً ولمْ يَشْكُ شَيَّا
ليتَ شعري: أيَنَ الأمانُ وهذا /// (جحشُ) عثمان قد عَدِمْنَاهُ حيَّا
كانَ عوناً لهُ إذا رامَ ضِعْنَاً /// وخَليلاً لدى المُقَام صَفِيَّا
كان إن قلتُ (هِشْ) أَجَابَكَ طَوْعَاً /// وإذا قلتَ (حَا) انْتضَىَ سِمْهَرِيَّا
لَكَ فيهِ العزاءُ عثمانُ أَمّا /// سَالبوُه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ (غِيَّا)
فكان لهذه القصيدة أثر عظيم في تخفيف المصيبة والرضا بقضاء الله وقدره.. فكيف لو كانت المصيبة أعظم من ذلك؟!
هذه القصيدة حتى وقعت عيناي على قصيدة أخرى مشابهة لها. فقد كان ضحية هذه الحادثة المأساوية.. سرقة مادية لشخص آخر.. على كل حال فهناك عدد من كتاب الشعر الساخر والفكاهي الذي نشأ في مصر وتطور وازدهر في سورية وكان له أعلام كبار (كصدقي إسماعيل) الذي كان يصدر جريدة يكتبها بخط يده عنوانها (الكلب) وكلها شعر ساخر وفكاهي.
ومنهم أيضاً الشاعر (محمود غنيم) فعندما علم أن محفظة صديقه قد سُرقت منه تألم كثيراً لماحدث وواساهُ بهذه المصيبة التي ألمّت به وجعلها خَطباً جللاً ومصيبة من أعظم المصائب التي حلَّت عليه.. لذلك فأتى بهذه الأبيات اللطيفة معزياً صديقه:
هَوِّنْ عَليكَ وجففْ دَمْعَكَ الغَالي /// لا يجمعُ الله بينَ الشِّعْرِ والمَالِ
مِنْ أَيْنَ أصبحتَ ذا مَالٍ فَتَسْلبُهُ /// يَا أشْبَه النَّاسِ بي في رِقَّة الحَالِ
فيالها صُرَةٌ من جَيْبِكَ اَنطَلَقَتْ /// وأنتَ أحوجُ مَخْلُوق لمثْقَالِ
عَوِّذْ نقودَك وأعقِدْ حَولهَا عُقَداً /// وثيقةً تتَحَدَّى كلَّ حَلالِ
قالوا: خَلَت يَدُه مِنْ كلِّ مَا مَلَكَتْ فقلتُ: بَلْ رأْسُه من عِقْلِه خَالِ
ياليتَ شعْري!! ماذا أنتَ صَانعهُ أتُزْمعُ الصَّومَ حتى شَهْركَ التَّالي
أقسمتُ: ما سَلبت تلكَ النقُّوُدُ يدٌ لكنها أَبْقَت مِنْ جيَبْكَ البَالي
الذئبُ لا يشتهي لحمَ ابْنِ جِلْدَتِه فكيفَ أَوْقَع نَشَّالٌ بنشِّالِ
ومن طريف شعر الدعابة القصة التي حكاها (بشار بن برد) قال: مات لي حمار ورأيته البارحة في النوم فقلت له: ويلك أمتَّ؟ قال: إنك ركبتني يوم كذا، فممرنا على باب الأصبهاني، فرأيت حمارة حسناء ذات خدٍ أملس تَيَّمتْنِيْ بغنجها ودلالها وجمال تمايلها حتى تملّكني هواها، ولو عشت لطال عذابي وذلي فأنشد بشار بن برد:
سَيِّدِي خُذْ لي أماَنَاً /// مِنْ أَتَانِ الأَصْبَهاني
إنَّ بالباب أَتَاناً /// فَضُلَت كُلَّ أَتَانِ
تَيَّمتَنْيِ يَومَ رِضَاً /// بِثَنَايَاهَا الحِسَان
وبَحُسْنٍ ودَلاَلٍ /// سَلَّ جِسْمِي وبَرَانَي
وَلَها خَدٌ أَسِيْلٌ /// مِثْلُ خَدِّ الشَّنْفراني
فيها مِتُّ ولو /// عِشْتُ إذا طَالَ هَوَاني
قال له أحدهم: يا أبا (معاذ) وما الشنفراني، قال: هو شيء يتحدث به (الحمير) فإذا لقيت حماراً في الطريق فاسأله عن ذلك؟!
وهكذا تصاحبنا في جولة مع قصائد مضحكة كان لها أثر كبير في تسليتنا عما نحن فيه من هموم العيش وضنك الحياة ومرارتها القاسية.. ولابد أيضاً من أن نتذكر أخيراً قول الله تعالى في كتاب العزيز: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) سورة النجم (43).
باختصار: إن العرب أمة غنية بفنون القول فقد تضمنت علومهم علماً أطلق عليه (علم الكلام) وكان الظُرف والفكاهة على ألسنتهم تجري وتفيض كأنها النهر. وهم المشهود لهم في اختصار القول والدقة في إصابة الهدف والوضوح في عرض الشؤون ومن ذلك أن (أشعب الطماع) كان يختلف إلى جارية ويُظهر لها العشق إلى أن سألته يوماً سلفة نصف درهم فانقطع عنها وكان إذا لقيها في الطريق سلك طريقاً آخر.. فصنعت له نشوقاً وأقبلت عليه.. فسألها ما هذا؟! قالت نشوق عملته لك خصيصاً لعله يذهب عنك هذا الفزع الذي ألمَّ بك, فقال اشربيه إنه للطمع, فلو انقطع طمعك انقطع فزعي وأنشد:
أَخْلفِي مَا شِئْتِ وَعْدِي /// وامنْحِيني كُلَّ صَدِّ
قَدْ سَلا بَعْدَك قَلْبِي /// فاعْشَقِي مَنْ شِئتِ بَعْدِي
إنَّني آَلَيْتُ لا أعْشَقُ /// مَنْ يَعْشَقُ نَقْدِي
المراجع:
1- المستطرف في كل فن مستظرف بهاء الدين الأبشيهي ط3 الصادر عن دار صادر.
2- الجواهر والدرر فيما نفع وندر محمد خير رمضان ط1 دار البشائر.
3- أخبار الظرفاء المتماجنين لابن الجوزي .