أبو يوسف
20-02-2015, 06:58 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الثالثة
نَقْط الإعجام
رأينا في الحلقة الأولى أن نَقْطَ الإعجام، على الرغم من شدة الحاجة إليه، جاء بعد زمن وضع النُّقَط الدُّؤَلية الدالة على الحركات والتنوين، وأن واضعَه نَصْرُ بنُ عاصم أو يحيى بنُ يَعْمَرَ أو هُما معًا، بطلب من الحجاج بن يوسف. ومن الممكن أن تكون بعض التعديلات والتنقيحات قد طرأت على عملهما، من لدُن علماء الضبط الذين أتوا بعدهما.
-1-
القاعدة العامة للإعجام
نَقْطُ الإعجام: هو وضعُ نُقَطٍ صغيرة، مُفْرَدةٍ ومُثَنَّاةٍ ومُثَلَّثة، فوق حروف وتحت أُخرى، للتمييز بين الحروف المتشابِهة الصًّورة.
وإذا تأملنا هذه النُّقَط، وجدنا هاجس (الاقتصاد) هو المسيطر على نفسية واضعِيها؛ فلقد حاول هؤلاء التقليل قدر الإمكان من عدد النُّقَط، مُراعاةً للشعور العام السائد حينئذ، فلقد كَرِهَ بعضهم مبدأ النَّقْطَ من أصله، ورأى بعضهم أن كثرة النَّقْط في الكِتابِ سُوءُ ظَنٍّ بالمكتوب إليه.
وهكذا، نجدهم أهملوا ما لا شبيه له (ا، ک، ل، م، و، ه)، واكتفوا في الشبيهَيْن بنقطة واحدة فوق أحدهما (د/ذ، ر/ز، ص/ض، ط/ظ، ع/غ)، وفي الأشباه الثلاثة بنقطة فوق أحدها وأخرى تحت آخر (ج/ح/خ)، وفي الخمسة بتغيير عدد النُّقَط مع المخالفة في مواضعها (بـ/تـ/ثـ/نـ/يـ).
وخرج عن قاعدة (التقليل من عدد النُّقَط) هذه ثلاثة مواضع:
1- (س/ش)؛ فقد نقطوا الشين ثلاثا من فوق، مُراعاةً لعدد سُنَيْناته، إذ لو اكتفوا بنقطة واحدة، لوقعت هذه النقطة فوق إحدى هذه السُّنَيْنات، فالتبست بالنون.
2- (بـ/تـ/ثـ/نـ/يـ)؛ إذ كان بالإمكان إهمالُ أحد هذه الأحرف، لكنهم لم يفعلوا ذلك، لأنها تُصبح في وسط الكلمات مجرد سُنَيْنات صغيرة، لا تكاد تُميَّز لو لم تُنقَط، وقد تتعدد فتلتبس بالسين.
3- (ف/ق)؛ وسيأتي الحديث عن هذه المسألة.
-2-
نَقْط الفاء والقاف
كان المفروض، تقليلا لعدد النُّقَط، أن يُنقَط أحد هذين الحرفين نقطة واحدة، ويُهمَل الآخر.
ولكنهم اتفقوا على نَقْطهما معًا، واختلفوا في ذلك:
* فذهب علماء الضبط المشارقة إلى نَقْط (الفاء) نُقطةً مِن فوق، و(القاف) نُقطتين مِن فوق، هكذا: (ف/ق)؛ نحو:
يُنفِقُونَ نَفَقَةً
* وذهب علماء الضبط المغاربة إلى نَقْط (الفاء) نُقطةً مِن تحت، و(القاف) نُقطة واحدة مِن فوق، هكذا: (ڢـ/ڧـ)، بشرط ألاَّ يتطرفا؛ نحو:
يُنڢِـڧُـوںَ نَڢَـڧَـةً
ونحن لا نعرف على وجه اليقين كيف كان نَقْطُ نصر ويحيى لهذين الحرفين. ولكن لبعض الباحثين رأيًا جديرا بالاهتمام، وإن كان يحتاج إلى دليل، وهو أنَّهما عدَلا عن فكرة نَقْط أحد الحرفين وإهمال الآخر، بسبب التباسهما في حالة توَسُّطهما بالعين والغين، وخصوصا عند رداءة الخط، فنظرا إلى هذه الأحرف الأربعة، فأهملا العين، ونقطا الغين نقطة من فوق، والفاء نقطة من تحت، والقاف نقطتين من فوق، فوافقهما المشارقة في القاف دُونَ الفاء، ووافقهما المغاربة في الفاء دُونَ القاف. والله أعلم.
وقد كان المغاربة (وأعني هنا: سكان شمال غرب إفريقيا) يلتزمون هذه الطريقة حتى في كتابتهم العادية. واستمرَّ هذا إلى عهد قريب؛ فقد كنتُ في سنوات طفولتي أرى بعض كبار السنّ يستغربون الطريقة المشرقية المعتمدة في مقرراتنا الدراسية، وقد يطَّلع بعضهم على أحد كتبنا الدراسية، فيقرأ مثلا: (تتكون الجملة القِعْلية مِن قِعْلٍ وقاعِلٍ ومَقْعولِ به أحيانا)، ظنّا منه أن هذا الحرف (فـ) قاف.
أمّا اليوم، بعد ظهور آلات الطباعة التي لَم تكن في أول أمرها تُصنّع محليّا، واضطرار الحكومات بعد الاستقلال إلى استقدام أساتذة مشارقة لإنجاح خُطَّة التعريب، وانتشار التعليم الحديث، فإن استعمال الطريقة المغربية المذكورة بات منحصرا في كتابة المصاحف، وصار كثير من المغاربة أنفسهم يجهلونَها ويستغربون طريقة ضبط المصاحف المطبوعة في بلدانِهم.
-3-
حروف (يُنْفِقُ)
جَرْيًا على قاعدة (التقليل من عدد النُّقَط) المذكورة سابقًا، ارتأى علماء الضبط المغاربة إهمالَ الأحرفِ الأربعة، الياء والنون والفاء والقاف، عند وقوعها في آخر الكلمة حقيقةً أو حُكْمًا، نظرا لعدم التباسها في هذه الحالة بالأحرف الأخرى؛ نحو:
يُوسُڡُ * صَدَٯَ * الدِّيـںِ * وَلِتَجْرِىَ
أما علماء الضبط المشارقة، فارتأَوْا إهمالَ الياءِ وحدَها، ونَقْطَ الأحرفِ الثلاثة الأخرى زيادةً في إيضاحها؛ نحو:
يُوسُفُ * صَدَقَ * الدِّينِ * وَلِتَجْرِىَ
ونحن في الكتابة الحديثة نأخذ بمذهب المشارقة، وأكثر البلدان تنقط الياء أيضا.
وإنَّما قلتُ: (حقيقةً أو حُكْمًا)، ليدخُلَ ما بعده همزةٌ متطرفةٌ مستقلَّة، نحو: (دِفْءٌ) و(شَيْءٌ) و(يُضِيءُ)، وكذا ما بعده ياءٌ من الياءات الزوائد (وهذا موضوع باب مستقل من أبواب علم القراءات)، نحو: (أَكْرَمَنِے) (يَوْمَ التَّلَـٰـقِے)، على رواية من يُثبِت الياء وصلا ووقفا أو وصلا فقط؛ فإن حروف (ينفق) هنا في حُكم المتطرفة، فلذلك يتركها المغاربةُ من غير نَقْط، هكذا:
دِڡْءٌ * شَےْءٌ * أَكْرَمَںِے * يَوْمَ التَّلَـٰـٯِے
(الكلمة الأخيرة مكتوبة بشكل تقريبي، لعدم إمكانية تقليد مذهب المغاربة في إلحاق الألف الصغيرة بصورة تكون فيها مُعانقةً لِلاَّم، كما سيأتي لاحقًا)
-4-
التمييز بين الفاء والقاف المتطرفتين
إن شكل الفاء المتطرفة (ف) يختلف كثيرا عن شكل القاف المتطرفة (ق).
غير أن كثيرا من الإخوة المغاربة اعتادوا في كتابتهم اليدوية رسم الحرفين بشكل متقارب. ولذلك تجد كثيرا منهم، مِمَّنْ يأخذون القرآن من المصاحف لا من أفواه الشيوخ، يقعون في أخطاء تتعلق بالتمييز بين هذين الحرفين في المصاحف المغربية. فقد ينظرون إلى (صَدَفَ)، في قوله تعالى: (وَصَدَڡَ عَنْهَا)، فيظنونَها (صَدَقَ). وقد ينظرون إلى (رَقٍّ)، في قوله تعالى: (ڢِے رَٯٍّ مَّنشُورٍ)، فيظنونَها (رَفٍّ)، وهكذا.
-5-
نَقْط الياء المتطرفة
نفهم مِمَّا سبق أن جميع علماء الضبط، المغاربة والمشارقة على حدٍّ سواء، مجمعون على عدم نَقْط الياء إذا تطرفت حقيقةً أو حُكمًا.
وقد بقيت هذه الياء زمنا طويلا لا تُنقط، في المصاحف وغيرها، كما يتضح من المخطوطات التي نجد صُوَرًا لبعضها في الصفحات الأولى من بعض الكتب التراثية المحققة.
ثم بدأ بعضُهم ينقطها في غير المصاحف. قال القَلْقَشَنْدِيُّ في (صُبْح الأعشى: 3/159): (ورُبَّما نَقَطَها بعضُ الكُتَّاب في حالة الإفراد بنُقطتَيْن في بطنها).
وما زال العملُ مُستمرًّا على عدم نَقْطِها في مصاحف المغاربة والمشارقة. أمّا في غير المصاحف، فقد شاع نَقْطُها في أكثر البلدان، وبقي الإخوة المصريون متشبثين بالطريقة القديمة، وقد سبق لي الحديث عن هذا في إجابتي عن سؤال لأحد الإخوة الأفاضل، هذا رابطه:
لماذا إخواننا المصريون لا ينقطون الياء إذا تطرفت؟ (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=31215)
وقد اقتبستُ من هذا الموضوع كثيرا من فقرات حلقتنا هذه.
-6-
الياء بين الوَقْصِ والعَقْص
الوَقْصُ: كتابة الياء مُعَرَّقةً إلى الأمام (هكذا: ى)، والعَقْصُ: كتابة الياء المتطرفة مردودةً إلى الخلف (هكذا: ے)،
وهذه في حقيقة الأمر مسألة شكلية جمالية، تتعلق بفن الخط العربي، ولا علاقة لها بالرسم العثماني، ولا بقواعد الضبط التي وضعها علماء الضبط المتقدمون.
غير أن المتأخرين من علماء الضبط دَرَجُوا على التمييز بين هذين الشكلين المختلفين للياء؛ فذهبوا إلى ترجيح الوقص أحيانا، وترجيح العقص أحيانا، وإجازة الوجهين أحيانا أخرى.
أما في عصرنا هذا، فالمسألة فيها خلاف بين المشارقة والمغاربة، فيما يتعلق بكتابة المصحف الشريف:
1- فمذهب المشارقة:
* الوقص (ى) في أكثر أنواع الياءات المتطرفة، أعني: المتحركة (وَلِتَجْرِىَ * فَبِأَىِّ * وَلِىٌّ)، والساكنة (لِكَىْ * يَمْشِى)، وصورة الألف (عَلَىٰ)، وصورة الهمزة (تُبَوِّئُ)، والزائدة رَسْمًا (مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ).
* والعقص (ے) في الياءات المُلْحَقة فقط، أي: التي تُضاف بحجم صغير إلى الرسم العثماني الأصلي، متطرفةً كانت (يُحْىِے وَيُمِيتُ * يُضِلُّ بِهِے كَثِيرًا) أم متوسطة (إِےلَـٰـفِهِمْ * الْحَوَارِيِّـۧـنَ).
2- ومذهب المغاربة (في أكثر المصاحف المغربية المتداولة):
* الوقص (ى) في الياءات المتطرفة المتحركة (وَلِتَجْرِىَ * ڢَبِأَىِّ * وَلِىٌّ) باستثناء نحو (يُحْےِے)، وكذا في صورة الألف (عَلَىٰ).
* والعقص (ے) في الياءات المتطرفة الساكنة (لِكَےْ * يَمْشِے)، وصورة الهمزة (تُبَوِّۓُ)، والزائدة رَسْمًا (مِں نَّبَإِےْ الْمُرْسَلِيںَ)، والمكسورة الواقعة قبل ياء ملحقة متطرفة (يُحْےِے) على الراجح، والياءات المُلْحَقة المتطرفة (يُحْےِے وَيُمِيتُ * يُضِلُّ بِهِے كَثِيراً)، أما المتوسطة فإنهم يُلحِقونَها بِقَلَمٍ دقيق (إِيـلَـٰـڢِهِـمْ * الْحَوَارِيِّـيـںَ).
ونحن في الكتابة الحديثة نرسم الياء في الغالب موقوصة، وقد نجدها أيضا معقوصة في بعض لوحات فن الخط العربي.
-7-
الياءات المتوسطة
ارتأى علماء الضبط المغاربة نَقْط الياء المتوسطة مُطْلَقًا، ولو كانت صورةً للألف (ضُحَيٰهَا) أو صُورةً للهمزة (ڢِـئَـةٍ [لم أتمكن من وضع النقطتين]).
أما المشارقة، فإنهم لا ينقطون هذين النوعين، جريا على قاعدة (التقليل من عدد النُّقَط): (ضُحَٮٰهَا * فِئَـةٍ).
ونحن في الكتابة الحديثة لا ننقط النوع الثاني، أما الأول فلا وجود له في كتابتنا اليوم.
-8-
صورة الكاف المتطرفة
هذه أيضا مسألة شكلية جمالية، تتعلق بفن الخط العربي، ولا علاقة لها بالرسم العثماني، ولا بقواعد الضبط.
فالمشارقة يرسمون (الكاف المتطرفة) على صورة (لام متطرفة) في وسطها (كاف صغيرة)؛ نحو: (إِنَّكَ).
أما المغاربة، فيُبْقون رسمها كما كان قبل تطرفها، مع إضافة تعريقة كتعريقة الباء؛ نحو: (إِنَّکَ).
ونحن في كتابتنا الحديثة مخيَّرون بين الوجهين، بحسب نوع الخط المستعمل.
دمتم بكل خير.
سعيد بنعياد
الحلقة الثالثة
نَقْط الإعجام
رأينا في الحلقة الأولى أن نَقْطَ الإعجام، على الرغم من شدة الحاجة إليه، جاء بعد زمن وضع النُّقَط الدُّؤَلية الدالة على الحركات والتنوين، وأن واضعَه نَصْرُ بنُ عاصم أو يحيى بنُ يَعْمَرَ أو هُما معًا، بطلب من الحجاج بن يوسف. ومن الممكن أن تكون بعض التعديلات والتنقيحات قد طرأت على عملهما، من لدُن علماء الضبط الذين أتوا بعدهما.
-1-
القاعدة العامة للإعجام
نَقْطُ الإعجام: هو وضعُ نُقَطٍ صغيرة، مُفْرَدةٍ ومُثَنَّاةٍ ومُثَلَّثة، فوق حروف وتحت أُخرى، للتمييز بين الحروف المتشابِهة الصًّورة.
وإذا تأملنا هذه النُّقَط، وجدنا هاجس (الاقتصاد) هو المسيطر على نفسية واضعِيها؛ فلقد حاول هؤلاء التقليل قدر الإمكان من عدد النُّقَط، مُراعاةً للشعور العام السائد حينئذ، فلقد كَرِهَ بعضهم مبدأ النَّقْطَ من أصله، ورأى بعضهم أن كثرة النَّقْط في الكِتابِ سُوءُ ظَنٍّ بالمكتوب إليه.
وهكذا، نجدهم أهملوا ما لا شبيه له (ا، ک، ل، م، و، ه)، واكتفوا في الشبيهَيْن بنقطة واحدة فوق أحدهما (د/ذ، ر/ز، ص/ض، ط/ظ، ع/غ)، وفي الأشباه الثلاثة بنقطة فوق أحدها وأخرى تحت آخر (ج/ح/خ)، وفي الخمسة بتغيير عدد النُّقَط مع المخالفة في مواضعها (بـ/تـ/ثـ/نـ/يـ).
وخرج عن قاعدة (التقليل من عدد النُّقَط) هذه ثلاثة مواضع:
1- (س/ش)؛ فقد نقطوا الشين ثلاثا من فوق، مُراعاةً لعدد سُنَيْناته، إذ لو اكتفوا بنقطة واحدة، لوقعت هذه النقطة فوق إحدى هذه السُّنَيْنات، فالتبست بالنون.
2- (بـ/تـ/ثـ/نـ/يـ)؛ إذ كان بالإمكان إهمالُ أحد هذه الأحرف، لكنهم لم يفعلوا ذلك، لأنها تُصبح في وسط الكلمات مجرد سُنَيْنات صغيرة، لا تكاد تُميَّز لو لم تُنقَط، وقد تتعدد فتلتبس بالسين.
3- (ف/ق)؛ وسيأتي الحديث عن هذه المسألة.
-2-
نَقْط الفاء والقاف
كان المفروض، تقليلا لعدد النُّقَط، أن يُنقَط أحد هذين الحرفين نقطة واحدة، ويُهمَل الآخر.
ولكنهم اتفقوا على نَقْطهما معًا، واختلفوا في ذلك:
* فذهب علماء الضبط المشارقة إلى نَقْط (الفاء) نُقطةً مِن فوق، و(القاف) نُقطتين مِن فوق، هكذا: (ف/ق)؛ نحو:
يُنفِقُونَ نَفَقَةً
* وذهب علماء الضبط المغاربة إلى نَقْط (الفاء) نُقطةً مِن تحت، و(القاف) نُقطة واحدة مِن فوق، هكذا: (ڢـ/ڧـ)، بشرط ألاَّ يتطرفا؛ نحو:
يُنڢِـڧُـوںَ نَڢَـڧَـةً
ونحن لا نعرف على وجه اليقين كيف كان نَقْطُ نصر ويحيى لهذين الحرفين. ولكن لبعض الباحثين رأيًا جديرا بالاهتمام، وإن كان يحتاج إلى دليل، وهو أنَّهما عدَلا عن فكرة نَقْط أحد الحرفين وإهمال الآخر، بسبب التباسهما في حالة توَسُّطهما بالعين والغين، وخصوصا عند رداءة الخط، فنظرا إلى هذه الأحرف الأربعة، فأهملا العين، ونقطا الغين نقطة من فوق، والفاء نقطة من تحت، والقاف نقطتين من فوق، فوافقهما المشارقة في القاف دُونَ الفاء، ووافقهما المغاربة في الفاء دُونَ القاف. والله أعلم.
وقد كان المغاربة (وأعني هنا: سكان شمال غرب إفريقيا) يلتزمون هذه الطريقة حتى في كتابتهم العادية. واستمرَّ هذا إلى عهد قريب؛ فقد كنتُ في سنوات طفولتي أرى بعض كبار السنّ يستغربون الطريقة المشرقية المعتمدة في مقرراتنا الدراسية، وقد يطَّلع بعضهم على أحد كتبنا الدراسية، فيقرأ مثلا: (تتكون الجملة القِعْلية مِن قِعْلٍ وقاعِلٍ ومَقْعولِ به أحيانا)، ظنّا منه أن هذا الحرف (فـ) قاف.
أمّا اليوم، بعد ظهور آلات الطباعة التي لَم تكن في أول أمرها تُصنّع محليّا، واضطرار الحكومات بعد الاستقلال إلى استقدام أساتذة مشارقة لإنجاح خُطَّة التعريب، وانتشار التعليم الحديث، فإن استعمال الطريقة المغربية المذكورة بات منحصرا في كتابة المصاحف، وصار كثير من المغاربة أنفسهم يجهلونَها ويستغربون طريقة ضبط المصاحف المطبوعة في بلدانِهم.
-3-
حروف (يُنْفِقُ)
جَرْيًا على قاعدة (التقليل من عدد النُّقَط) المذكورة سابقًا، ارتأى علماء الضبط المغاربة إهمالَ الأحرفِ الأربعة، الياء والنون والفاء والقاف، عند وقوعها في آخر الكلمة حقيقةً أو حُكْمًا، نظرا لعدم التباسها في هذه الحالة بالأحرف الأخرى؛ نحو:
يُوسُڡُ * صَدَٯَ * الدِّيـںِ * وَلِتَجْرِىَ
أما علماء الضبط المشارقة، فارتأَوْا إهمالَ الياءِ وحدَها، ونَقْطَ الأحرفِ الثلاثة الأخرى زيادةً في إيضاحها؛ نحو:
يُوسُفُ * صَدَقَ * الدِّينِ * وَلِتَجْرِىَ
ونحن في الكتابة الحديثة نأخذ بمذهب المشارقة، وأكثر البلدان تنقط الياء أيضا.
وإنَّما قلتُ: (حقيقةً أو حُكْمًا)، ليدخُلَ ما بعده همزةٌ متطرفةٌ مستقلَّة، نحو: (دِفْءٌ) و(شَيْءٌ) و(يُضِيءُ)، وكذا ما بعده ياءٌ من الياءات الزوائد (وهذا موضوع باب مستقل من أبواب علم القراءات)، نحو: (أَكْرَمَنِے) (يَوْمَ التَّلَـٰـقِے)، على رواية من يُثبِت الياء وصلا ووقفا أو وصلا فقط؛ فإن حروف (ينفق) هنا في حُكم المتطرفة، فلذلك يتركها المغاربةُ من غير نَقْط، هكذا:
دِڡْءٌ * شَےْءٌ * أَكْرَمَںِے * يَوْمَ التَّلَـٰـٯِے
(الكلمة الأخيرة مكتوبة بشكل تقريبي، لعدم إمكانية تقليد مذهب المغاربة في إلحاق الألف الصغيرة بصورة تكون فيها مُعانقةً لِلاَّم، كما سيأتي لاحقًا)
-4-
التمييز بين الفاء والقاف المتطرفتين
إن شكل الفاء المتطرفة (ف) يختلف كثيرا عن شكل القاف المتطرفة (ق).
غير أن كثيرا من الإخوة المغاربة اعتادوا في كتابتهم اليدوية رسم الحرفين بشكل متقارب. ولذلك تجد كثيرا منهم، مِمَّنْ يأخذون القرآن من المصاحف لا من أفواه الشيوخ، يقعون في أخطاء تتعلق بالتمييز بين هذين الحرفين في المصاحف المغربية. فقد ينظرون إلى (صَدَفَ)، في قوله تعالى: (وَصَدَڡَ عَنْهَا)، فيظنونَها (صَدَقَ). وقد ينظرون إلى (رَقٍّ)، في قوله تعالى: (ڢِے رَٯٍّ مَّنشُورٍ)، فيظنونَها (رَفٍّ)، وهكذا.
-5-
نَقْط الياء المتطرفة
نفهم مِمَّا سبق أن جميع علماء الضبط، المغاربة والمشارقة على حدٍّ سواء، مجمعون على عدم نَقْط الياء إذا تطرفت حقيقةً أو حُكمًا.
وقد بقيت هذه الياء زمنا طويلا لا تُنقط، في المصاحف وغيرها، كما يتضح من المخطوطات التي نجد صُوَرًا لبعضها في الصفحات الأولى من بعض الكتب التراثية المحققة.
ثم بدأ بعضُهم ينقطها في غير المصاحف. قال القَلْقَشَنْدِيُّ في (صُبْح الأعشى: 3/159): (ورُبَّما نَقَطَها بعضُ الكُتَّاب في حالة الإفراد بنُقطتَيْن في بطنها).
وما زال العملُ مُستمرًّا على عدم نَقْطِها في مصاحف المغاربة والمشارقة. أمّا في غير المصاحف، فقد شاع نَقْطُها في أكثر البلدان، وبقي الإخوة المصريون متشبثين بالطريقة القديمة، وقد سبق لي الحديث عن هذا في إجابتي عن سؤال لأحد الإخوة الأفاضل، هذا رابطه:
لماذا إخواننا المصريون لا ينقطون الياء إذا تطرفت؟ (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=31215)
وقد اقتبستُ من هذا الموضوع كثيرا من فقرات حلقتنا هذه.
-6-
الياء بين الوَقْصِ والعَقْص
الوَقْصُ: كتابة الياء مُعَرَّقةً إلى الأمام (هكذا: ى)، والعَقْصُ: كتابة الياء المتطرفة مردودةً إلى الخلف (هكذا: ے)،
وهذه في حقيقة الأمر مسألة شكلية جمالية، تتعلق بفن الخط العربي، ولا علاقة لها بالرسم العثماني، ولا بقواعد الضبط التي وضعها علماء الضبط المتقدمون.
غير أن المتأخرين من علماء الضبط دَرَجُوا على التمييز بين هذين الشكلين المختلفين للياء؛ فذهبوا إلى ترجيح الوقص أحيانا، وترجيح العقص أحيانا، وإجازة الوجهين أحيانا أخرى.
أما في عصرنا هذا، فالمسألة فيها خلاف بين المشارقة والمغاربة، فيما يتعلق بكتابة المصحف الشريف:
1- فمذهب المشارقة:
* الوقص (ى) في أكثر أنواع الياءات المتطرفة، أعني: المتحركة (وَلِتَجْرِىَ * فَبِأَىِّ * وَلِىٌّ)، والساكنة (لِكَىْ * يَمْشِى)، وصورة الألف (عَلَىٰ)، وصورة الهمزة (تُبَوِّئُ)، والزائدة رَسْمًا (مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ).
* والعقص (ے) في الياءات المُلْحَقة فقط، أي: التي تُضاف بحجم صغير إلى الرسم العثماني الأصلي، متطرفةً كانت (يُحْىِے وَيُمِيتُ * يُضِلُّ بِهِے كَثِيرًا) أم متوسطة (إِےلَـٰـفِهِمْ * الْحَوَارِيِّـۧـنَ).
2- ومذهب المغاربة (في أكثر المصاحف المغربية المتداولة):
* الوقص (ى) في الياءات المتطرفة المتحركة (وَلِتَجْرِىَ * ڢَبِأَىِّ * وَلِىٌّ) باستثناء نحو (يُحْےِے)، وكذا في صورة الألف (عَلَىٰ).
* والعقص (ے) في الياءات المتطرفة الساكنة (لِكَےْ * يَمْشِے)، وصورة الهمزة (تُبَوِّۓُ)، والزائدة رَسْمًا (مِں نَّبَإِےْ الْمُرْسَلِيںَ)، والمكسورة الواقعة قبل ياء ملحقة متطرفة (يُحْےِے) على الراجح، والياءات المُلْحَقة المتطرفة (يُحْےِے وَيُمِيتُ * يُضِلُّ بِهِے كَثِيراً)، أما المتوسطة فإنهم يُلحِقونَها بِقَلَمٍ دقيق (إِيـلَـٰـڢِهِـمْ * الْحَوَارِيِّـيـںَ).
ونحن في الكتابة الحديثة نرسم الياء في الغالب موقوصة، وقد نجدها أيضا معقوصة في بعض لوحات فن الخط العربي.
-7-
الياءات المتوسطة
ارتأى علماء الضبط المغاربة نَقْط الياء المتوسطة مُطْلَقًا، ولو كانت صورةً للألف (ضُحَيٰهَا) أو صُورةً للهمزة (ڢِـئَـةٍ [لم أتمكن من وضع النقطتين]).
أما المشارقة، فإنهم لا ينقطون هذين النوعين، جريا على قاعدة (التقليل من عدد النُّقَط): (ضُحَٮٰهَا * فِئَـةٍ).
ونحن في الكتابة الحديثة لا ننقط النوع الثاني، أما الأول فلا وجود له في كتابتنا اليوم.
-8-
صورة الكاف المتطرفة
هذه أيضا مسألة شكلية جمالية، تتعلق بفن الخط العربي، ولا علاقة لها بالرسم العثماني، ولا بقواعد الضبط.
فالمشارقة يرسمون (الكاف المتطرفة) على صورة (لام متطرفة) في وسطها (كاف صغيرة)؛ نحو: (إِنَّكَ).
أما المغاربة، فيُبْقون رسمها كما كان قبل تطرفها، مع إضافة تعريقة كتعريقة الباء؛ نحو: (إِنَّکَ).
ونحن في كتابتنا الحديثة مخيَّرون بين الوجهين، بحسب نوع الخط المستعمل.
دمتم بكل خير.
سعيد بنعياد