أبو صخر
13-08-2009, 05:56 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أَسْبَابُ وَضْعِ النَّحْوِ، وَالاِخْتِلاَفُ فِي وَاضِعِهِ:
بعدَ حمدِ الله، والصّلاةِ على رسولِ اللهِ، والسّلامِ على أحبابِ الله، فَمَا أَكْثَرَ الَّذِيْنَ تناولوا البحثَ في تاريخ النَّحْو، وتحدّثوا عن نشأته الأولى؛ وما أكثرَ الآراءَ الَّتِي ذُكِرَتْ في هَذَا المجال؛ ذَلِكَ أَنَّ الخلافَ -مُنْذُ القرونِ الأُولى- دَائِرٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ فِي هَذَا الموضوعِ، وَالرِّوايات متباينة فيه[1].
فَإِذَا كان جَمْعُ القرآنِ يُمَثِّلُ الخطوةَ الأُولى في سبيلِ العنايةِ بِهِ، فَإِنَّ وَضْعَ النَّحْوِ يُمَثِّلُ الخطوةَ الثَّانِيةَ فِي سُبُلِ المُحَافَظَةِ عَلَى سَلاَمَةِ أَدَاءِ نُصُوصِهِ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ اللَّحْنُ يشيعُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ[2].
فَلَمْ يَكُنْ نُزُوْلُ الوَحْيِ الكَرِيْمِ قَلْبَاً لِلْجَوَانِبِ العَقَديَّةِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ فحسب، بل كانَ أَيْضَاً، قلباً للعادات اللُّغَوِيَّة الَّتِي نشؤوا عليها؛ إذ واجه العربَ في قراءةِ القرآن، ظواهرُ لم يكونوا في سَلائِقِهِم الَّتِي فُطِروا عليها، مُتَّفِقِيْنَ، وكان مِنْهَا تعدّدُ اللَّهجات، واختلافُها في القربِ من لغةِ القرآن، أو البعد عنها؛ لذَلِكَ كان لا بُدَّ لهم من المرانِ، حَتَّى يألفوا النّصَّ الجديد[3]، وَمِنْ هُنَا يستطيع الدَّارس -كما يقول الدُّكْتُور أَحمد محمّد قدّور-: «أَنْ يَتَفَهَّمَ دَوَافِعَ اللُّغَوِيِّيْنَ الَّذِيْنَ انطلقوا إلى جمعِ اللُّغَة، للحفاظِ على الصُّورةِ المُثْلى للغتهم، الَّتِي ما استساغوا لها أَنْ تتعرَّضَ للّحنِ والتَّحريفِ؛ وَقَدْ قَرَّ فِي نفوس ذَلِكَ النَّفرِ مِنَ اللُّغَوِيِّيْنَ الأوائلِ، أَنَّ العَرَبِيَّة إرثٌ غالٍ، يجبُ نقلُهُ إلى الأجيالِ التَّاليةِ، صحيحاً لا خللَ فيه ولا نقصَ؛ ومِنَ المُؤَكَّدِ أَنَّ كَوْنَ العَرَبِيَّةِ لُغَةٌ لِلْدِّيْنِ الجديدِ، الَّذِي أَتَى بِالقُرْآنِ الكَرِيْمِ مُعْجِزَةِ الوَحْيِ، قَوَّى ذَلِكَ المقصدَ، بل جعلَهُ واجباً دينيَّاً في معظمِ الأحوالِ»[4].
وَقَدْ أَجْمَعَ الَّذِيْنَ تَصَدَّوا لِنَشْأَةِ علومِ العَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيْمَ، كَانَ الدَّافِعَ الرَّئِيْسَ لعُلَمَاء السّلف إلى وضعِ علمِ النَّحْوِ والإِعرابِ؛ ذَلِكَ أَنَّ ظهورَ اللَّحْن، وتفشّيَهُ في الكلام، وزحفَهُ إلى لسانِ مَنْ يتلو القرآن، هو الباعثُ على تدوين اللُّغَة، واستنباط قواعد النَّحْوِ منها[5]؛ خشيةَ أَنْ ينغلقَ القرآنُ الكريمُ، والحديثُ الشّريفُ على الفهم؛ وذَلِكَ أَنَّ الاختلاط بالأعاجم والمدنيّة، من أهمّ الأسباب الَّتِي ساعدت على البعد عن العَرَبِيَّة الفُصْحَى.
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّفكيرَ فِي علمِ النَّحْوِ يعودُ إِلَى ظاهرةِ شيوعِ اللَّحْنِ، وَالخشيةِ عَلَى القُرْآنِ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ لأَنَّ رغبةَ العَرَبِ المُسْلِمِيْنَ فِي نَشْرِ دِيْنِهِمْ إِلَى الأَقْوَامِ المختلفةِ، أَنْشَأَ أَحْوَالاً جديدةً فِي وَاقِعِ اللُّغَةِ، مَا كَانَ العَرَبُ يَعْهَدُونَهَا مِنْ قَبْلُ؛ إِذْ كَانَتِ الفطرةُ اللُّغَوِيَّةُ قَبْلَ الإِسْلامِ، سليمةً صافيةً.
وَمِنْ هُنَا، لاَ بُدَّ مِنَ الإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فُشُوَّ اللَّحْنِ بِفَسَادِ الأَلْسِنَةِ وَاختلالِها، بَدَأَ مُبَكِّرَاً مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ r[6]؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَحَدَ النَّاسِ قَرَأَ، فَلَحَنَ فِي حضرتِهِ -عَلَيْهِ السَّلامُ- فَقَالَ: «أَرْشِدُوا أَخَاكُمْ»[7].
وَكَذَلِكَ يُوْرِدُ الدَّارِسُونَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ عَلَى تَسَرُّبِ اللَّحْنِ إِلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، فِي عَهْدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ؛ إِثْرَ اختلاطِ العَرَبِ الفُصَحَاءِ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الشُّعُوبِ غَيْرِ العَرَبِيَّةِ، مِمَّا أَضْعَفَ السَّلِيْقَةَ اللُّغَوِيَّةَ لَدَيْهِمْ، وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ تَدَبُّرِ المَعَانِي الحَقِيْقِيَّةِ لِلْقُرْآنِ الكَرِيْمِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَا جَعَلَ عُمَرَ ابنَ الخَطَّابِ t، يَدْعُو إِلَى تَعَلُّمِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي تَقِي تِلْكَ الأَلْسِنَةَ مِنَ اللَّحْنِ، بِقَوْلِهِ -فِيْمَا رَوَاهُ الزُّبَيْدِيُّ بِسَنَدِهِ-: «تَعَلَّمُوا العَرَبِيَّةَ»[8]، فذَلِكَ يدلُّ عَلَى أَنَّ خَطَرَ اللَّحْنِ أَخَذَ يَفشو، وَيُسيطرُ، وَيُكَوِّنُ ظاهرةً واسعةَ الانتشارِ، فادحةَ الخَطَرِ عَلَى الفُصْحَى، وَنَصِّ القُرْآنِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّبَبَ الفَعَّالَ فِي نَشْأَةِ النَّحْوِ، وَتقنينِ قَوَاعِدِ العَرَبِيَّةِ، وَاستنباطِهَا لِلنُّطْقِ الصَّحِيْحِ.
وَمِنْ ذَلِكَ يظهرُ أَنَّ اللَّحْنَ أَوَّلُ بَدْئِهِ فِي الإِعْرَابِ، يقول أبو الطَّيِّبِ اللُّغَويّ:«وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَا اختلَّ من كلامِ العربِ، فَأَحْوَجَ إِلَى التَّعَلُّمِ، الإِعرابُ»[9].
وَالأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كثيرةٌ، عَلَى اختلافِ رِوَاياتِها، ورُوَاتِها؛ فَقَدْ رَوَى القُرْطُبِيّ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَعْرَابيَّاً قدمَ في زمانِ عمرَ بنِ الخَطَّابِ t، فقالَ: مَنْ يقرئُنِي ممّا أُنْزِلَ على محمَّدٍ r؟ قالَ: فأقرأَهُ رجلٌ "براءة"، فقرأ: "أَنَّ اللهَ بريءٌ منالمشركين، ورسولِهِ"[10]، بجرِّ "رسولِهِ"، فقال الأعرابيُّ: أَوَقَدْ بَرِئَ اللهُ من رسولِهِ؟ فَإِنْ يكنْ كَذَلِكَ، فأنا أبرأ منه. فبلغَ عمرَ مقالةُ الأعرابيّ، فدعاه، فقال: يا أعرابيُّ، أتبرأُ مِنْ رسولِ اللهِ r؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إِنِّي قدمْتُُ المدينةَ، ولا عِلْمَ لي بالقرآن -فروى له الحادثة- فقال عمرُ: ليس هكذا يا أعرابيُّ، قال: فكيف هي يا أميرَ المؤمنينَ؟ قال: {وَرَسُولُهُ}، فقال الأعرابيُّ: وأنا أبرأ ممّنْ بَرِئَ اللهُ ورسولُهُ منه، فأمرَ عمرُ بنُ الخطّابِ t، «أَلاَّ يُقْرِئَ النَّاسَ، إِلاّ عالمٌ بالّلغة»[11]، وأمرَ أبا الأسودِ، فوضعَ النّحْوَ.
فيما ذهبَ ابنُ الأَنْبَارِيّ مَذْهَبَاً آخرَ، بقولِهِ: «رُوِيَ أَنَّ سببَ وضعِ عليٍّ -كرّمَ اللهُ وجهَهُ- لهَذَا العلمِ أَنَّهُ سَمِعَ أعرابيّاً يقرأُ: "لا يأكلُهُ، إلاّ الخاطئِيْنَ"[12]، فوضعَ النّحْوَ»[13].
وَبِهَذَا يمكنُ القولُ: إِنَّ اللَّحْن كَظاهرةٍ عَامَّة، دعا إلى وضعِ النَّحْوِ للوقايةِ منه، وإلحاقِ الفسادِ الدَّخيلِ على لغةِ العربِ بلغةِ أهلِهِ، وردِّ الشَّاذِّ عنها إليها، وهَذِهِ الظَّاهِرةُ العَامَّة جُعِلتْ في بعض الرّواياتِ السّببَ المباشرَ في وضع النَّحْو، وَمِنْ ذَلِكَ قولُ بنتِ أبي الأسودِ الدُّؤَلِيّ لَهُ، عندما دخلَ عليها في البصرةِ: «يَا أَبَتِ مَاأَشَدُّ الحَرِّ!»[14]، برفعِها كلمةَ "أَشَدُّ". فَظَنَّهَا تَسْأَلُهُ، وتستفهمُ مِنْهُ عَنْ أَيِّ زمانِ الحرِّ أشدّ؟ فقال: "شهر ناجر"[15]، فقالت: "يا أبتِ إِنَّمَا أخبرْتُكَ، وَلَمْ أَسْأَلْكَ"، فأتى أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ -عليه السّلام- فقال: "يا أميرَ المؤمنينَ، ذهبتْ لغةُ العربِ، لمّا خالطتِ العجم، وأوشك -إِنْ تَطَاوَلَ عَلَيْهَا زَمَانٌ- أَنْ تَضْمَحِلَّ"، فَقَالَ لَهُ: "وَمَا ذَلِكَ؟"، فأخبره خبرَ ابنتِهٍِ، فأمره، فاشترى صحفاً بدرهمٍ، وأملّ عليه: «الكَلاَمُ كُلُّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ اِسْمٍ، وَفِعْلٍ، وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنَى»[16].
وَهَذِهِ الوَقَائِعُ عَلَى تَعَدُّدِهَا، واختلافِ الرِّواياتِ فيها، نماذجُ واضحةٌ لاتّساعِ اللَّحْن، وشمولِهِ جميعَ الطّبقاتِ، وتهديدِهِ سلامةَ اللُّغَة العَرَبِيَّة، حَتَّى أصبح هو الغالبَ المسيطرَ، في المدن والأماكن الَّتِي كانت ملتقى العرب والموالي، كالبصرة الَّتِي كانت منبتَ النَّحْو، ومهدَ طفولتِهِ المُبكِّرةِ، أواخر الخلافة الرّاشدة، وَأَوائل دولة بني أُمَيَّةَ الَّتِي قامت سنة إحدى وأربعين للهجرة[17].
وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ اللَّحْنِ كَانَ فِي القُرْآنِ الكَرِيْمِ؛ وَيُعَلِّلُ الرَّافِعِيّ سببَ ذَلِكَ، بقوله: «إِنَّ الأَلْسِنَةَ الضَّعِيْفَةَ القَاصِرَةَ لاَ تَستطيعُ الصُّعُودَ إِلَى مُستواه العالي في بلاغته، وعلوّ أسلوبه؛ والقرآنُ قد انطوى على أسرارٍ من سياسةِ الكلامِ، لا تتعلّقُ بها إلاّ الطّبيعةُ الكاملةُ، ولهَذَا كان أكثرُ اللَّحْن فيه، بَادِئَ بِدْءَ»[18].
وَيَرَى الدُّكْتُور شوقي ضيف: «أَنَّ كلَّ ذَلِكَ جعلَ الحاجة تمسُّ في وضوحٍ، إلى وضعِ رسومٍ يُعْرَفُ بها الصّوابُ من الخطأ في الكلام؛ خشيةَ دخول اللَّحْن وشيوعه، في تلاوة آيات الذّكر الحكيم»[19].
وَبِذَلِكَ يتبيّنُ أَنَّ أوّلَ ما وُضِعَ مِنَ النَّحْو، هو ما وقعَ اللَّحْن فيه، أو ما كان أقربَ إلى متناولِ الفكرِ في الاستنباطِ، ثُمَّ الاستقراءِ الدَّقِيق لِلنُّهوضِ برصدِ الظَّواهِر اللُّغَوِيَّةِ، وتسجيلِ الرّسومِ النَّحْوِيَّةِ تسجيلاً تطّرد فيه القواعدُ، وتنتظمُ الأقيسةُ انتظاماً يهيّئ لنشوء علم النَّحْو، ووضعِ قوانينه الجامعة المشتقّة من الاستقصاء المتأنّي للعبارات، والتَّرَاكِيب الفصيحة؛ ومن المعرفة التّامّة بخواصّها، وأوضاعها الإعرابيَّة[20].
ويتجاوزُ الدُّكْتُور عَبْدُه الرّاجحيّ في كتابه "النَّحْو العربيّ والدَّرس الحديث"، اقتصارَ نشأةِ النَّحْو على محاربةِ اللَّحْن، ويؤكِّدُ على إرادةِ الفهم المنشودةِ مِنْ وراءِ نشأةِ هَذَا العلم الجليل الَّذِي ما انفكَّ عَنِ المعنى، منذُ بدايةِ نشأتِهِ الأولى، مروراً بمراحل نموِّهِ كلِّها، ويعلِّلُ ذَلِكَ بقوله: «إِنَّ اللَّحْن وَحْدَهُ، لا يفسّرُ نشأة النَّحْو، وخَاصَّة على أوّلِ صورةٍ وَصَلَ بها إلينا، وهي كتاب "سِيْبَوَيْهِ"، والأقرب عندي، أَنَّ النَّحْوَ -شأنَ العلومِ الإسلامِيَّةِ الأُخرى- نشأَ لفهمِ القرآنِ الكريمِ، والبونُ شاسعٌ بينَ محاربة اللَّحْن، وإرادة الفهم؛ لأَنَّ اللَّحْن ما كانَ يُفضِي بهَذَا النَّحْو إلى ما أفضى إليه في هَذِهِ المرحلة الباكرة من حياته، بَلْ إِنَّهُ كان حقيقاً أَنْ يقتصرَ على وضعِ ضوابط الصّحّة، والخطأ في كلام العرب. أمّا الفهم، فإنّه يقصد إلى البحث عن كلِّ ما يفيد في استنطاق النّصّ، وفي معرفة ما يؤدّيه التَّركيب القرآنيّ على وجه الخصوص، بوصفِهِ أعلى ما في العَرَبِيَّة من بيان، وَمِنْ هُنَا كانَ النّشاط النَّحْوِيّ القديم على الوجه الَّذِي نعرفه من كثرة علمائه، وتفرّعِ مذاهبه، ووفرة مادّته»[21].
ويعلِّل ذَلِكَ في كتابه "دروس في كتب النَّحْو"، تعليلاً ينحو فيه منحى آخرَ، بقوله: «ولو كانتِ الغايةُ منهُ حفظَ النَّصِ مِنَ اللَّحْن، لَما أنتجَ العربُ هَذِهِ الثَّروةَ الضَّخمةَ في مجالِ الدَّرْسِ النَّحْويِّ؛ ومحاولةُ "الفهم" هَذِهِ هي الَّتِي حدَّدَتْ مسارَ المنهجِ؛ لأَنَّهَا ربطتْ درسَ النَّحْو بكلِّ المحاولات الأخرى الَّتِي تسعى لفهم النَّصِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ دراسة منهج النَّحْو عند العرب لا تكون صحيحةً إلاّ مع اتِّصالِها بدراسةِ العلومِ العَرَبِيَّة الأخرى، وَبِخَاصَّة الفقه والكلام»[22].
وتمتلئُ كتبُ الأدبِ والنَّحْو، والتّاريخِ، بنماذجَ لرواياتٍ كثيرةٍ، مختلفةٍ ومُتضاربةٍ، في تحديد أوّل مَنْ شرع يُسَجِّلُ بعضَ الظَّواهِر النَّحْوِيَّة، أو يبني شيئاً من الضَّوابِط الأوّليّة في فهم العلاقات بين عناصر التَّركيب الّلغويّ:
فيرى الزُّبَيْدِيّ: «أَنَّ أوّلَ مَنْ أصَّلَ ذَلِكَ، وأعملَ فكره فيه، أبو الأسود ظالم بن عمرو الدُّؤَلِيّ، ونصرُ بنُ عاصم، وعبدُ الرّحمن بن هُرْمز، فوضعوا للنَّحْوِ أبواباً، وأصَّلوا له أصولاً؛ فذكروا عواملَ الرّفعِ، والنّصبِ، والخفضِ، والجزمِ؛ ووضعوا باب الفاعل، والمفعول، والتّعجّب، والمضاف؛ وكان لأبي الأسود في ذَلِكَ، فضلُ السّبقِ، وشرفُ التّقدّمِ»[23].
ومرّ بنا قبل قليلٍ، روايةٌ تُرْجِعُ الأمرَ إلى الخليفةِ عمرَ بنِ الخطّاب y؛ إذ أمر أبا الأسودِ بوضعِ النَّحْو، فَوَضَعَهُ.
كَمَا رُوِيَ عنه أَنَّهُ كتب إلى أبي موسى الأشعريّ، ليوجِّهَ مَنْ يختارُهُ لتعليمِ العَرَبِيَّة، فَإِنَّهَا تدلُّ على صواب الكلام[24].
ومرّ بنا أيضاً، روايةٌ تُرْجِعُ ذَلِكَ إلى الخليفةِ عليِّ بنِ أبي طالب -كرّم اللهُ وَجْهَهُ- عندما أشار لأبي الأسود إلى الرّفع، والنّصب، والجرِّ، وأقسامِ الكلمةِ.
وخلاصةُ القولِ بالمشاكلة في هَذِهِ المسألة، أَنَّ أكثرَ الرّواةِ –قديماً، وحديثاً- يذهبونَ إلى أَنَّ واضعَ النَّحْو الأَوَّل هو أبو الأسود الدُّؤَلِيّ، بأمرٍ من الإمام عليِّ بنِ أبي طالب -عليه السّلام- ويبدو ذَلِكَ واضحاً فيما نقله الشَّيْخ محمّد الطَّنْطَاوِيّ، من قول ابن الأَنْبَارِيّ: «اِعْلَمْ -أيّدكَ اللهُ تعالى بالتّوفيق، وأرشدَكَ إلى سواء الطّريق- أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ علمَ العَرَبِيَّة، وأسّسَ قواعدَهُ، وحدَّ حدودَهُ، أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالب -عليه السّلام- وأخذَ عنه أبو الأسود الدُّؤَلِيّ»[25].
وهَذَا ما يذهبُ إليه الشَّيْخ محمّد الطَّنْطَاوِيّ، والأستاذ أحمد أمين، مِنَ المُحْدَثِيْنَ، يقول الشَّيْخ الطَّنْطَاوِيّ: «ولقد اتّفقَ العُلَمَاء -متقدّمين، ومتأخّرين- على أَنَّ أبا الأسود هو الَّذِي ابتكر شكلَ المُصْحف، فلَعَلَّ ذَلِكَ كان منه تكميلاً لِمَا بدأ به من القيام بِمَا يحفظُ على المسلمينَ كتابَهم الكريم، ولغتَهم الشّريفة، وما لَنَا نُنكرُ هَذِهِ النّقولَ الصّريحةَ، وقد وافقَ عليها الخلفُ بعدَ السّلفِ، عصراً بعد آخرَ، تِلْكَ الأزمنةَ المُتطاولةَ، وَلَمْ نَرَ مِنْهُمْ نكيراً؟»[26]، ويقول الأستاذ أمين: «ويظهر أَنَّ نسبةَ النَّحْو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح؛ وذَلِكَ أَنَّ الرّواة يكادون يتّفقون على أَنَّ أبا الأسود قام بعملٍ من هَذَا النّمط؛ وهو أَنَّهُ ابتكر شكل المصحف...، وواضحٌ أَنَّ هَذِهِ الخطوة أوّليّة في سبيل النَّحْو، تتمشّى مع قانون النّشوء»[27]. فهَذَا ما يكاد يجمع عليه علماؤنا القُدَمَاء، والمُحْدَثُونَ.
أمّا الأسباب الَّتِي جعلت مولدَ النَّحْو على يد أبي الأسود، فترجع إلى علمه باللُّغَة العَرَبِيَّة وبغريبها، وإلى نضوجِ عقله وقوّة تفكيره؛ وإلى كثرة رحلاته وتنقّلاته، وإلى إجماع معظم النَّحْوِيِّيْنَ على أَنَّهُ نقّط المصحف تنقيطَ إعراب، وإلى اتّصاله بالإمــام عـليٍّ -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- الَّذِي تربّى في بيت النّبوّة، وشرب من معينها ما يجعله مضربَ المثل في العلم والمعرفة[28].
ويلخّص لنا الدُّكْتُور الحلوانيّ آليةَ وضع أبي الأسود النَّحْو، في قوله: «ترجع قيمةُ أبي الأسود الدُّؤَلِيّ في تاريخ النَّحْو، إلى أَنَّهُ هو أوّلُ مَنِ اتّجه بالدِّراسة اللُّغَوِيَّة إلى الاستقراء، والاستنباط، وكانت قبلَهُ تقوم على محاكاة الأَعراب والاختلاط بهم، وحفظ الشّعر، والأنساب، فتحوّل بها إلى وضع الضَّوابِط الدَّقِيقة، ورصد الظَّواهِر المتبدّلة في تراكيب العَرَبِيَّة»[29].
فقدِ ارتبطتِ المعالمُ النَّحْوِيَّة الَّتِي تَرَكَها أبو الأسود بواقع الحياة اللُّغَوِيَّة البسيطة في عصره، وقد عُنِيَ في معالمه هَذِهِ بدَفعِ اللَّحْن عن قراءة القرآن؛ حَيْثُ استخرج ضوابط الإعراب، بحسب ما تَوَافَرَ لديه من قدرات، ووسائل[30]، ولكن بأوّليّات لَمْ تكنْ تنضبط بالاصطلاحات المسـتعملة اليوم، ثمّ تضخّمت واتّسعت، إِلى أَنْ أصبحتْ عِلْمَاً له قوانينُ ومُصْطَلَحاتٌ ومدارسُ، خلّفت ثروةً أدبيّةً ولغويّةً، أمتعتِ الفكرَ، وغذّتِ العقولَ إلى اليوم[31]، يقول الأستاذ عَبَّاس حَسَن: «وإنّا لنذكرُ بالخيرِ في هَذِهِ المناسبةِ، تِلْكَ الطَّلائِعَ العِلمِيَّةَ من رجالات اللُّغَة والنَّحْو، ونسجّلُ بالإكبارِ وَعظيمِ التَّقْدِيْرِ فضلَهُمْ عَلَى اللُّغَةِ، بجمعها والعناية بفروعها، وَلاَ سِيَّمَا تأسيس النَّحْو، ونشيدُ بذكر طائفةٍ كانت في مُقَدِّمَة العامِلِيْنَ المُخْلِصِيْنَ، الَّذِيْنَ أسّسوا هَذَا العلم على أقوى الدَّعائم؛ وهم: عليُّ بنُ أبي طالب t، وأبو الأسود الدُّؤَلِيّ، وعبدُ الله ابن أبي إسحاق، وأبو عمرو بن العلاء، والخليلُ بنُ أحمدَ، وسِيْبَوَيْهِ إمامُ النُّحَاةِ البَصْرِيِّيْنَ مؤلّفُ: "الكتاب" مرجعُهم الأَوَّل والأَكبرُ، والكِسَائِيّ، والفَرَّاء إِمَامَا الكُوفِيِّيْنَ، وغيرُ هَؤُلاَءِ مِنَ الرُّوَّاد، والأَئِمَّة الَّذِيْنَ زهت بهم القرونُ الثَّلاثَة الأولى من قرون الهجرة العظيمة، وكان لهم فضلُ السّبق في جمع اللُّغَة، ووضع النّحو»[32].
[1] المبارك، د. مازن، النَّحْو العربيّ (العلّة النَّحْوِيّة: نشأتها وتطوّرها)، ط1، المكتبة الحديثة، بيروت-لبنان، 1385هـ-1965م، ص7.
[2] ضيف، د. شوقي، المدارس النَّحْوِيَّة، ط2، دارالمعارف، مصر، د.ت، ص11.
[3] الحلوانيّ، د. محمّد خير، المفصّل في تاريخ النَّحْو العربيّ، ط1، مؤسّسة الرِّسالة، بيروت-لبنان، د.ت، ص32.
[4] قدّور، أحمد محمّد، المدخل إلى فقه اللُّغَة العَرَبِيَّة، منشورات جامعة حلب، حلب، 1412هـ-1991م، ص72.
[5] الأفغانيّ، سعيد، من تاريخ النَّحْو، دار الفكر، بيروت، د.ت، ص8.
[6] المرجع السّابق، ص8.
[7] النِّيْسَابُورِيّ، محمّد بن عبد الله الحاكم، المستدرك على الصّحيحين، ج2، رقم (3643)، ص477.
[8] الزُّبَيْدِيّ، أبو بكر، طبقات النَّحْوِيِّيْنَ واللُّغَوِيِّيْنَ، تحـ. محمّد أبو الفضل إِبْرَاهِيم، دار المعارف، مصر، 1373هـ-1954م، ص2-3.
[9] اللُّغَوِيّ، أبو الطّيّب، مراتب النَّحْوِيِّيْنَ، تحـ. محمّد أبو الفضل إِبْرَاهِيم، دار النّهضة، مصر، 1394هـ-1974م، ص24.
[10] والقراءة الصّحيحة للآيةِ: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. سورة التّوبة، الآية 3.
[11] القُرْطُبِيّ، أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد، الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، دار الكتب العلمِيَّة، بيروت-لبنان، 1413هـ-1993م، ص20.
[12] والقراءة الصّحيحة للآيةِ: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ}. سورة الحاقّة، الآية 37.
[13] الرَّافِعِيّ، مصطفى صادق، تاريخ آداب العرب، ج1، ط3، مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1954م، ص240.
[14] الأصفهانيّ، أبو الفرج، الأغاني، ج2، الهيئة المَصْرِيَّة العَامَّة للكتاب، مصر، 1992م، ص298.
[15] يريدُ شهرَ "صفر"؛ فالجاهليّةُ كانتْ تُسمّيه بهَذَا الاسم.
[16] الأصفهانيّ، أبو الفرج، الأغاني، ج12، ص298.
[17] رفيدة، د. إِبْرَاهِيم عبد الله، النَّحْو وكتب التَّفسير، ج1، ط3، الدّار الجماهيريّة للنشـر والتّوزيع، 1990م، ص35.
[18] الرَّافِعِيّ، مصطفى صادق، تاريخ آداب العرب، ج1، ص240.
[19] ضيف، د. شوقي، المدارس النَّحْوِيَّة، ص12.
[20] المرجع السّابق، ص12-13.
[21] الرّاجحيّ، د. عبده، النَّحْو العربيّ والدَّرس الحديث (بحث في المنهج)، دار النّهضة العَرَبِيَّة، بيروت، 1979م، ص10-11.
[22] الراجحيّ، د. عَبْدُه، دروس في كتب النَّحْو، دار النّهضة العَرَبِيَّة، بيروت، 1975م، ص10.
[23] الزُّبَيْدِيّ، أبو بكر، طبقات النَّحْوِيِّيْنَ واللُّغَوِيِّيْنَ، ص11.
[24] ابن الأَنْبَارِيّ، كمال الدّين أبو البَرَكَات، إيضاح الوقف والابتداء، ج1، ص31.
[25] الطَّنْطَاوِيّ، محمّد، نشأة النَّحْو وتاريخ أشهر النّحاة، راجعه وعلّق عليه سعيد محمّد الّلحام، ط1، عالم الكتب، بيروت-لبنان، 1417هـ-1997م، ص14.
[26] الطَّنْطَاوِيّ، محمّد، نشأة النَّحْو وتاريخ أشهر النّحاة، ص18.
[27] أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ج2، ط1، دار الكتاب العربيّ، بيروت، د.ت، ص286.
[28] مكرم، د. عبد العال سالم، الحلقة المفقودة في تاريخ النَّحْو العربيّ، ط2، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1413هـ-1993م، ص19-25.
[29] الحلوانيّ، د. محمّد خير، المفصّل في تاريخ النَّحْو العربيّ، ص101.
[30] ابن خلّكان، أبو العبّاس أحمد، وفيّات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمَان، ج2، ص535.
[31] عبد الله، د. مساعد مسلم آل جعفر، أثر التَّطَوُّر الفكريّ في التَّفسير في العصر العباسيّ، ط1، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1405هـ-1984م، ص388.
[32] حسن، عبّاس، اللُّغَة والنَّحْو بين القديم والحديث، ط2، دار المعارف، مصر، 1971م، ص19-20.
منقول
.
أَسْبَابُ وَضْعِ النَّحْوِ، وَالاِخْتِلاَفُ فِي وَاضِعِهِ:
بعدَ حمدِ الله، والصّلاةِ على رسولِ اللهِ، والسّلامِ على أحبابِ الله، فَمَا أَكْثَرَ الَّذِيْنَ تناولوا البحثَ في تاريخ النَّحْو، وتحدّثوا عن نشأته الأولى؛ وما أكثرَ الآراءَ الَّتِي ذُكِرَتْ في هَذَا المجال؛ ذَلِكَ أَنَّ الخلافَ -مُنْذُ القرونِ الأُولى- دَائِرٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ فِي هَذَا الموضوعِ، وَالرِّوايات متباينة فيه[1].
فَإِذَا كان جَمْعُ القرآنِ يُمَثِّلُ الخطوةَ الأُولى في سبيلِ العنايةِ بِهِ، فَإِنَّ وَضْعَ النَّحْوِ يُمَثِّلُ الخطوةَ الثَّانِيةَ فِي سُبُلِ المُحَافَظَةِ عَلَى سَلاَمَةِ أَدَاءِ نُصُوصِهِ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ اللَّحْنُ يشيعُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ[2].
فَلَمْ يَكُنْ نُزُوْلُ الوَحْيِ الكَرِيْمِ قَلْبَاً لِلْجَوَانِبِ العَقَديَّةِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ فحسب، بل كانَ أَيْضَاً، قلباً للعادات اللُّغَوِيَّة الَّتِي نشؤوا عليها؛ إذ واجه العربَ في قراءةِ القرآن، ظواهرُ لم يكونوا في سَلائِقِهِم الَّتِي فُطِروا عليها، مُتَّفِقِيْنَ، وكان مِنْهَا تعدّدُ اللَّهجات، واختلافُها في القربِ من لغةِ القرآن، أو البعد عنها؛ لذَلِكَ كان لا بُدَّ لهم من المرانِ، حَتَّى يألفوا النّصَّ الجديد[3]، وَمِنْ هُنَا يستطيع الدَّارس -كما يقول الدُّكْتُور أَحمد محمّد قدّور-: «أَنْ يَتَفَهَّمَ دَوَافِعَ اللُّغَوِيِّيْنَ الَّذِيْنَ انطلقوا إلى جمعِ اللُّغَة، للحفاظِ على الصُّورةِ المُثْلى للغتهم، الَّتِي ما استساغوا لها أَنْ تتعرَّضَ للّحنِ والتَّحريفِ؛ وَقَدْ قَرَّ فِي نفوس ذَلِكَ النَّفرِ مِنَ اللُّغَوِيِّيْنَ الأوائلِ، أَنَّ العَرَبِيَّة إرثٌ غالٍ، يجبُ نقلُهُ إلى الأجيالِ التَّاليةِ، صحيحاً لا خللَ فيه ولا نقصَ؛ ومِنَ المُؤَكَّدِ أَنَّ كَوْنَ العَرَبِيَّةِ لُغَةٌ لِلْدِّيْنِ الجديدِ، الَّذِي أَتَى بِالقُرْآنِ الكَرِيْمِ مُعْجِزَةِ الوَحْيِ، قَوَّى ذَلِكَ المقصدَ، بل جعلَهُ واجباً دينيَّاً في معظمِ الأحوالِ»[4].
وَقَدْ أَجْمَعَ الَّذِيْنَ تَصَدَّوا لِنَشْأَةِ علومِ العَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيْمَ، كَانَ الدَّافِعَ الرَّئِيْسَ لعُلَمَاء السّلف إلى وضعِ علمِ النَّحْوِ والإِعرابِ؛ ذَلِكَ أَنَّ ظهورَ اللَّحْن، وتفشّيَهُ في الكلام، وزحفَهُ إلى لسانِ مَنْ يتلو القرآن، هو الباعثُ على تدوين اللُّغَة، واستنباط قواعد النَّحْوِ منها[5]؛ خشيةَ أَنْ ينغلقَ القرآنُ الكريمُ، والحديثُ الشّريفُ على الفهم؛ وذَلِكَ أَنَّ الاختلاط بالأعاجم والمدنيّة، من أهمّ الأسباب الَّتِي ساعدت على البعد عن العَرَبِيَّة الفُصْحَى.
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّفكيرَ فِي علمِ النَّحْوِ يعودُ إِلَى ظاهرةِ شيوعِ اللَّحْنِ، وَالخشيةِ عَلَى القُرْآنِ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ لأَنَّ رغبةَ العَرَبِ المُسْلِمِيْنَ فِي نَشْرِ دِيْنِهِمْ إِلَى الأَقْوَامِ المختلفةِ، أَنْشَأَ أَحْوَالاً جديدةً فِي وَاقِعِ اللُّغَةِ، مَا كَانَ العَرَبُ يَعْهَدُونَهَا مِنْ قَبْلُ؛ إِذْ كَانَتِ الفطرةُ اللُّغَوِيَّةُ قَبْلَ الإِسْلامِ، سليمةً صافيةً.
وَمِنْ هُنَا، لاَ بُدَّ مِنَ الإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فُشُوَّ اللَّحْنِ بِفَسَادِ الأَلْسِنَةِ وَاختلالِها، بَدَأَ مُبَكِّرَاً مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ r[6]؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَحَدَ النَّاسِ قَرَأَ، فَلَحَنَ فِي حضرتِهِ -عَلَيْهِ السَّلامُ- فَقَالَ: «أَرْشِدُوا أَخَاكُمْ»[7].
وَكَذَلِكَ يُوْرِدُ الدَّارِسُونَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ عَلَى تَسَرُّبِ اللَّحْنِ إِلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، فِي عَهْدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ؛ إِثْرَ اختلاطِ العَرَبِ الفُصَحَاءِ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الشُّعُوبِ غَيْرِ العَرَبِيَّةِ، مِمَّا أَضْعَفَ السَّلِيْقَةَ اللُّغَوِيَّةَ لَدَيْهِمْ، وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ تَدَبُّرِ المَعَانِي الحَقِيْقِيَّةِ لِلْقُرْآنِ الكَرِيْمِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَا جَعَلَ عُمَرَ ابنَ الخَطَّابِ t، يَدْعُو إِلَى تَعَلُّمِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي تَقِي تِلْكَ الأَلْسِنَةَ مِنَ اللَّحْنِ، بِقَوْلِهِ -فِيْمَا رَوَاهُ الزُّبَيْدِيُّ بِسَنَدِهِ-: «تَعَلَّمُوا العَرَبِيَّةَ»[8]، فذَلِكَ يدلُّ عَلَى أَنَّ خَطَرَ اللَّحْنِ أَخَذَ يَفشو، وَيُسيطرُ، وَيُكَوِّنُ ظاهرةً واسعةَ الانتشارِ، فادحةَ الخَطَرِ عَلَى الفُصْحَى، وَنَصِّ القُرْآنِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّبَبَ الفَعَّالَ فِي نَشْأَةِ النَّحْوِ، وَتقنينِ قَوَاعِدِ العَرَبِيَّةِ، وَاستنباطِهَا لِلنُّطْقِ الصَّحِيْحِ.
وَمِنْ ذَلِكَ يظهرُ أَنَّ اللَّحْنَ أَوَّلُ بَدْئِهِ فِي الإِعْرَابِ، يقول أبو الطَّيِّبِ اللُّغَويّ:«وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَا اختلَّ من كلامِ العربِ، فَأَحْوَجَ إِلَى التَّعَلُّمِ، الإِعرابُ»[9].
وَالأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كثيرةٌ، عَلَى اختلافِ رِوَاياتِها، ورُوَاتِها؛ فَقَدْ رَوَى القُرْطُبِيّ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَعْرَابيَّاً قدمَ في زمانِ عمرَ بنِ الخَطَّابِ t، فقالَ: مَنْ يقرئُنِي ممّا أُنْزِلَ على محمَّدٍ r؟ قالَ: فأقرأَهُ رجلٌ "براءة"، فقرأ: "أَنَّ اللهَ بريءٌ منالمشركين، ورسولِهِ"[10]، بجرِّ "رسولِهِ"، فقال الأعرابيُّ: أَوَقَدْ بَرِئَ اللهُ من رسولِهِ؟ فَإِنْ يكنْ كَذَلِكَ، فأنا أبرأ منه. فبلغَ عمرَ مقالةُ الأعرابيّ، فدعاه، فقال: يا أعرابيُّ، أتبرأُ مِنْ رسولِ اللهِ r؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إِنِّي قدمْتُُ المدينةَ، ولا عِلْمَ لي بالقرآن -فروى له الحادثة- فقال عمرُ: ليس هكذا يا أعرابيُّ، قال: فكيف هي يا أميرَ المؤمنينَ؟ قال: {وَرَسُولُهُ}، فقال الأعرابيُّ: وأنا أبرأ ممّنْ بَرِئَ اللهُ ورسولُهُ منه، فأمرَ عمرُ بنُ الخطّابِ t، «أَلاَّ يُقْرِئَ النَّاسَ، إِلاّ عالمٌ بالّلغة»[11]، وأمرَ أبا الأسودِ، فوضعَ النّحْوَ.
فيما ذهبَ ابنُ الأَنْبَارِيّ مَذْهَبَاً آخرَ، بقولِهِ: «رُوِيَ أَنَّ سببَ وضعِ عليٍّ -كرّمَ اللهُ وجهَهُ- لهَذَا العلمِ أَنَّهُ سَمِعَ أعرابيّاً يقرأُ: "لا يأكلُهُ، إلاّ الخاطئِيْنَ"[12]، فوضعَ النّحْوَ»[13].
وَبِهَذَا يمكنُ القولُ: إِنَّ اللَّحْن كَظاهرةٍ عَامَّة، دعا إلى وضعِ النَّحْوِ للوقايةِ منه، وإلحاقِ الفسادِ الدَّخيلِ على لغةِ العربِ بلغةِ أهلِهِ، وردِّ الشَّاذِّ عنها إليها، وهَذِهِ الظَّاهِرةُ العَامَّة جُعِلتْ في بعض الرّواياتِ السّببَ المباشرَ في وضع النَّحْو، وَمِنْ ذَلِكَ قولُ بنتِ أبي الأسودِ الدُّؤَلِيّ لَهُ، عندما دخلَ عليها في البصرةِ: «يَا أَبَتِ مَاأَشَدُّ الحَرِّ!»[14]، برفعِها كلمةَ "أَشَدُّ". فَظَنَّهَا تَسْأَلُهُ، وتستفهمُ مِنْهُ عَنْ أَيِّ زمانِ الحرِّ أشدّ؟ فقال: "شهر ناجر"[15]، فقالت: "يا أبتِ إِنَّمَا أخبرْتُكَ، وَلَمْ أَسْأَلْكَ"، فأتى أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ -عليه السّلام- فقال: "يا أميرَ المؤمنينَ، ذهبتْ لغةُ العربِ، لمّا خالطتِ العجم، وأوشك -إِنْ تَطَاوَلَ عَلَيْهَا زَمَانٌ- أَنْ تَضْمَحِلَّ"، فَقَالَ لَهُ: "وَمَا ذَلِكَ؟"، فأخبره خبرَ ابنتِهٍِ، فأمره، فاشترى صحفاً بدرهمٍ، وأملّ عليه: «الكَلاَمُ كُلُّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ اِسْمٍ، وَفِعْلٍ، وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنَى»[16].
وَهَذِهِ الوَقَائِعُ عَلَى تَعَدُّدِهَا، واختلافِ الرِّواياتِ فيها، نماذجُ واضحةٌ لاتّساعِ اللَّحْن، وشمولِهِ جميعَ الطّبقاتِ، وتهديدِهِ سلامةَ اللُّغَة العَرَبِيَّة، حَتَّى أصبح هو الغالبَ المسيطرَ، في المدن والأماكن الَّتِي كانت ملتقى العرب والموالي، كالبصرة الَّتِي كانت منبتَ النَّحْو، ومهدَ طفولتِهِ المُبكِّرةِ، أواخر الخلافة الرّاشدة، وَأَوائل دولة بني أُمَيَّةَ الَّتِي قامت سنة إحدى وأربعين للهجرة[17].
وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ اللَّحْنِ كَانَ فِي القُرْآنِ الكَرِيْمِ؛ وَيُعَلِّلُ الرَّافِعِيّ سببَ ذَلِكَ، بقوله: «إِنَّ الأَلْسِنَةَ الضَّعِيْفَةَ القَاصِرَةَ لاَ تَستطيعُ الصُّعُودَ إِلَى مُستواه العالي في بلاغته، وعلوّ أسلوبه؛ والقرآنُ قد انطوى على أسرارٍ من سياسةِ الكلامِ، لا تتعلّقُ بها إلاّ الطّبيعةُ الكاملةُ، ولهَذَا كان أكثرُ اللَّحْن فيه، بَادِئَ بِدْءَ»[18].
وَيَرَى الدُّكْتُور شوقي ضيف: «أَنَّ كلَّ ذَلِكَ جعلَ الحاجة تمسُّ في وضوحٍ، إلى وضعِ رسومٍ يُعْرَفُ بها الصّوابُ من الخطأ في الكلام؛ خشيةَ دخول اللَّحْن وشيوعه، في تلاوة آيات الذّكر الحكيم»[19].
وَبِذَلِكَ يتبيّنُ أَنَّ أوّلَ ما وُضِعَ مِنَ النَّحْو، هو ما وقعَ اللَّحْن فيه، أو ما كان أقربَ إلى متناولِ الفكرِ في الاستنباطِ، ثُمَّ الاستقراءِ الدَّقِيق لِلنُّهوضِ برصدِ الظَّواهِر اللُّغَوِيَّةِ، وتسجيلِ الرّسومِ النَّحْوِيَّةِ تسجيلاً تطّرد فيه القواعدُ، وتنتظمُ الأقيسةُ انتظاماً يهيّئ لنشوء علم النَّحْو، ووضعِ قوانينه الجامعة المشتقّة من الاستقصاء المتأنّي للعبارات، والتَّرَاكِيب الفصيحة؛ ومن المعرفة التّامّة بخواصّها، وأوضاعها الإعرابيَّة[20].
ويتجاوزُ الدُّكْتُور عَبْدُه الرّاجحيّ في كتابه "النَّحْو العربيّ والدَّرس الحديث"، اقتصارَ نشأةِ النَّحْو على محاربةِ اللَّحْن، ويؤكِّدُ على إرادةِ الفهم المنشودةِ مِنْ وراءِ نشأةِ هَذَا العلم الجليل الَّذِي ما انفكَّ عَنِ المعنى، منذُ بدايةِ نشأتِهِ الأولى، مروراً بمراحل نموِّهِ كلِّها، ويعلِّلُ ذَلِكَ بقوله: «إِنَّ اللَّحْن وَحْدَهُ، لا يفسّرُ نشأة النَّحْو، وخَاصَّة على أوّلِ صورةٍ وَصَلَ بها إلينا، وهي كتاب "سِيْبَوَيْهِ"، والأقرب عندي، أَنَّ النَّحْوَ -شأنَ العلومِ الإسلامِيَّةِ الأُخرى- نشأَ لفهمِ القرآنِ الكريمِ، والبونُ شاسعٌ بينَ محاربة اللَّحْن، وإرادة الفهم؛ لأَنَّ اللَّحْن ما كانَ يُفضِي بهَذَا النَّحْو إلى ما أفضى إليه في هَذِهِ المرحلة الباكرة من حياته، بَلْ إِنَّهُ كان حقيقاً أَنْ يقتصرَ على وضعِ ضوابط الصّحّة، والخطأ في كلام العرب. أمّا الفهم، فإنّه يقصد إلى البحث عن كلِّ ما يفيد في استنطاق النّصّ، وفي معرفة ما يؤدّيه التَّركيب القرآنيّ على وجه الخصوص، بوصفِهِ أعلى ما في العَرَبِيَّة من بيان، وَمِنْ هُنَا كانَ النّشاط النَّحْوِيّ القديم على الوجه الَّذِي نعرفه من كثرة علمائه، وتفرّعِ مذاهبه، ووفرة مادّته»[21].
ويعلِّل ذَلِكَ في كتابه "دروس في كتب النَّحْو"، تعليلاً ينحو فيه منحى آخرَ، بقوله: «ولو كانتِ الغايةُ منهُ حفظَ النَّصِ مِنَ اللَّحْن، لَما أنتجَ العربُ هَذِهِ الثَّروةَ الضَّخمةَ في مجالِ الدَّرْسِ النَّحْويِّ؛ ومحاولةُ "الفهم" هَذِهِ هي الَّتِي حدَّدَتْ مسارَ المنهجِ؛ لأَنَّهَا ربطتْ درسَ النَّحْو بكلِّ المحاولات الأخرى الَّتِي تسعى لفهم النَّصِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ دراسة منهج النَّحْو عند العرب لا تكون صحيحةً إلاّ مع اتِّصالِها بدراسةِ العلومِ العَرَبِيَّة الأخرى، وَبِخَاصَّة الفقه والكلام»[22].
وتمتلئُ كتبُ الأدبِ والنَّحْو، والتّاريخِ، بنماذجَ لرواياتٍ كثيرةٍ، مختلفةٍ ومُتضاربةٍ، في تحديد أوّل مَنْ شرع يُسَجِّلُ بعضَ الظَّواهِر النَّحْوِيَّة، أو يبني شيئاً من الضَّوابِط الأوّليّة في فهم العلاقات بين عناصر التَّركيب الّلغويّ:
فيرى الزُّبَيْدِيّ: «أَنَّ أوّلَ مَنْ أصَّلَ ذَلِكَ، وأعملَ فكره فيه، أبو الأسود ظالم بن عمرو الدُّؤَلِيّ، ونصرُ بنُ عاصم، وعبدُ الرّحمن بن هُرْمز، فوضعوا للنَّحْوِ أبواباً، وأصَّلوا له أصولاً؛ فذكروا عواملَ الرّفعِ، والنّصبِ، والخفضِ، والجزمِ؛ ووضعوا باب الفاعل، والمفعول، والتّعجّب، والمضاف؛ وكان لأبي الأسود في ذَلِكَ، فضلُ السّبقِ، وشرفُ التّقدّمِ»[23].
ومرّ بنا قبل قليلٍ، روايةٌ تُرْجِعُ الأمرَ إلى الخليفةِ عمرَ بنِ الخطّاب y؛ إذ أمر أبا الأسودِ بوضعِ النَّحْو، فَوَضَعَهُ.
كَمَا رُوِيَ عنه أَنَّهُ كتب إلى أبي موسى الأشعريّ، ليوجِّهَ مَنْ يختارُهُ لتعليمِ العَرَبِيَّة، فَإِنَّهَا تدلُّ على صواب الكلام[24].
ومرّ بنا أيضاً، روايةٌ تُرْجِعُ ذَلِكَ إلى الخليفةِ عليِّ بنِ أبي طالب -كرّم اللهُ وَجْهَهُ- عندما أشار لأبي الأسود إلى الرّفع، والنّصب، والجرِّ، وأقسامِ الكلمةِ.
وخلاصةُ القولِ بالمشاكلة في هَذِهِ المسألة، أَنَّ أكثرَ الرّواةِ –قديماً، وحديثاً- يذهبونَ إلى أَنَّ واضعَ النَّحْو الأَوَّل هو أبو الأسود الدُّؤَلِيّ، بأمرٍ من الإمام عليِّ بنِ أبي طالب -عليه السّلام- ويبدو ذَلِكَ واضحاً فيما نقله الشَّيْخ محمّد الطَّنْطَاوِيّ، من قول ابن الأَنْبَارِيّ: «اِعْلَمْ -أيّدكَ اللهُ تعالى بالتّوفيق، وأرشدَكَ إلى سواء الطّريق- أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ علمَ العَرَبِيَّة، وأسّسَ قواعدَهُ، وحدَّ حدودَهُ، أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالب -عليه السّلام- وأخذَ عنه أبو الأسود الدُّؤَلِيّ»[25].
وهَذَا ما يذهبُ إليه الشَّيْخ محمّد الطَّنْطَاوِيّ، والأستاذ أحمد أمين، مِنَ المُحْدَثِيْنَ، يقول الشَّيْخ الطَّنْطَاوِيّ: «ولقد اتّفقَ العُلَمَاء -متقدّمين، ومتأخّرين- على أَنَّ أبا الأسود هو الَّذِي ابتكر شكلَ المُصْحف، فلَعَلَّ ذَلِكَ كان منه تكميلاً لِمَا بدأ به من القيام بِمَا يحفظُ على المسلمينَ كتابَهم الكريم، ولغتَهم الشّريفة، وما لَنَا نُنكرُ هَذِهِ النّقولَ الصّريحةَ، وقد وافقَ عليها الخلفُ بعدَ السّلفِ، عصراً بعد آخرَ، تِلْكَ الأزمنةَ المُتطاولةَ، وَلَمْ نَرَ مِنْهُمْ نكيراً؟»[26]، ويقول الأستاذ أمين: «ويظهر أَنَّ نسبةَ النَّحْو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح؛ وذَلِكَ أَنَّ الرّواة يكادون يتّفقون على أَنَّ أبا الأسود قام بعملٍ من هَذَا النّمط؛ وهو أَنَّهُ ابتكر شكل المصحف...، وواضحٌ أَنَّ هَذِهِ الخطوة أوّليّة في سبيل النَّحْو، تتمشّى مع قانون النّشوء»[27]. فهَذَا ما يكاد يجمع عليه علماؤنا القُدَمَاء، والمُحْدَثُونَ.
أمّا الأسباب الَّتِي جعلت مولدَ النَّحْو على يد أبي الأسود، فترجع إلى علمه باللُّغَة العَرَبِيَّة وبغريبها، وإلى نضوجِ عقله وقوّة تفكيره؛ وإلى كثرة رحلاته وتنقّلاته، وإلى إجماع معظم النَّحْوِيِّيْنَ على أَنَّهُ نقّط المصحف تنقيطَ إعراب، وإلى اتّصاله بالإمــام عـليٍّ -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- الَّذِي تربّى في بيت النّبوّة، وشرب من معينها ما يجعله مضربَ المثل في العلم والمعرفة[28].
ويلخّص لنا الدُّكْتُور الحلوانيّ آليةَ وضع أبي الأسود النَّحْو، في قوله: «ترجع قيمةُ أبي الأسود الدُّؤَلِيّ في تاريخ النَّحْو، إلى أَنَّهُ هو أوّلُ مَنِ اتّجه بالدِّراسة اللُّغَوِيَّة إلى الاستقراء، والاستنباط، وكانت قبلَهُ تقوم على محاكاة الأَعراب والاختلاط بهم، وحفظ الشّعر، والأنساب، فتحوّل بها إلى وضع الضَّوابِط الدَّقِيقة، ورصد الظَّواهِر المتبدّلة في تراكيب العَرَبِيَّة»[29].
فقدِ ارتبطتِ المعالمُ النَّحْوِيَّة الَّتِي تَرَكَها أبو الأسود بواقع الحياة اللُّغَوِيَّة البسيطة في عصره، وقد عُنِيَ في معالمه هَذِهِ بدَفعِ اللَّحْن عن قراءة القرآن؛ حَيْثُ استخرج ضوابط الإعراب، بحسب ما تَوَافَرَ لديه من قدرات، ووسائل[30]، ولكن بأوّليّات لَمْ تكنْ تنضبط بالاصطلاحات المسـتعملة اليوم، ثمّ تضخّمت واتّسعت، إِلى أَنْ أصبحتْ عِلْمَاً له قوانينُ ومُصْطَلَحاتٌ ومدارسُ، خلّفت ثروةً أدبيّةً ولغويّةً، أمتعتِ الفكرَ، وغذّتِ العقولَ إلى اليوم[31]، يقول الأستاذ عَبَّاس حَسَن: «وإنّا لنذكرُ بالخيرِ في هَذِهِ المناسبةِ، تِلْكَ الطَّلائِعَ العِلمِيَّةَ من رجالات اللُّغَة والنَّحْو، ونسجّلُ بالإكبارِ وَعظيمِ التَّقْدِيْرِ فضلَهُمْ عَلَى اللُّغَةِ، بجمعها والعناية بفروعها، وَلاَ سِيَّمَا تأسيس النَّحْو، ونشيدُ بذكر طائفةٍ كانت في مُقَدِّمَة العامِلِيْنَ المُخْلِصِيْنَ، الَّذِيْنَ أسّسوا هَذَا العلم على أقوى الدَّعائم؛ وهم: عليُّ بنُ أبي طالب t، وأبو الأسود الدُّؤَلِيّ، وعبدُ الله ابن أبي إسحاق، وأبو عمرو بن العلاء، والخليلُ بنُ أحمدَ، وسِيْبَوَيْهِ إمامُ النُّحَاةِ البَصْرِيِّيْنَ مؤلّفُ: "الكتاب" مرجعُهم الأَوَّل والأَكبرُ، والكِسَائِيّ، والفَرَّاء إِمَامَا الكُوفِيِّيْنَ، وغيرُ هَؤُلاَءِ مِنَ الرُّوَّاد، والأَئِمَّة الَّذِيْنَ زهت بهم القرونُ الثَّلاثَة الأولى من قرون الهجرة العظيمة، وكان لهم فضلُ السّبق في جمع اللُّغَة، ووضع النّحو»[32].
[1] المبارك، د. مازن، النَّحْو العربيّ (العلّة النَّحْوِيّة: نشأتها وتطوّرها)، ط1، المكتبة الحديثة، بيروت-لبنان، 1385هـ-1965م، ص7.
[2] ضيف، د. شوقي، المدارس النَّحْوِيَّة، ط2، دارالمعارف، مصر، د.ت، ص11.
[3] الحلوانيّ، د. محمّد خير، المفصّل في تاريخ النَّحْو العربيّ، ط1، مؤسّسة الرِّسالة، بيروت-لبنان، د.ت، ص32.
[4] قدّور، أحمد محمّد، المدخل إلى فقه اللُّغَة العَرَبِيَّة، منشورات جامعة حلب، حلب، 1412هـ-1991م، ص72.
[5] الأفغانيّ، سعيد، من تاريخ النَّحْو، دار الفكر، بيروت، د.ت، ص8.
[6] المرجع السّابق، ص8.
[7] النِّيْسَابُورِيّ، محمّد بن عبد الله الحاكم، المستدرك على الصّحيحين، ج2، رقم (3643)، ص477.
[8] الزُّبَيْدِيّ، أبو بكر، طبقات النَّحْوِيِّيْنَ واللُّغَوِيِّيْنَ، تحـ. محمّد أبو الفضل إِبْرَاهِيم، دار المعارف، مصر، 1373هـ-1954م، ص2-3.
[9] اللُّغَوِيّ، أبو الطّيّب، مراتب النَّحْوِيِّيْنَ، تحـ. محمّد أبو الفضل إِبْرَاهِيم، دار النّهضة، مصر، 1394هـ-1974م، ص24.
[10] والقراءة الصّحيحة للآيةِ: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. سورة التّوبة، الآية 3.
[11] القُرْطُبِيّ، أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد، الجامع لأحكام القرآن، مج1، ج1، دار الكتب العلمِيَّة، بيروت-لبنان، 1413هـ-1993م، ص20.
[12] والقراءة الصّحيحة للآيةِ: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ}. سورة الحاقّة، الآية 37.
[13] الرَّافِعِيّ، مصطفى صادق، تاريخ آداب العرب، ج1، ط3، مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1954م، ص240.
[14] الأصفهانيّ، أبو الفرج، الأغاني، ج2، الهيئة المَصْرِيَّة العَامَّة للكتاب، مصر، 1992م، ص298.
[15] يريدُ شهرَ "صفر"؛ فالجاهليّةُ كانتْ تُسمّيه بهَذَا الاسم.
[16] الأصفهانيّ، أبو الفرج، الأغاني، ج12، ص298.
[17] رفيدة، د. إِبْرَاهِيم عبد الله، النَّحْو وكتب التَّفسير، ج1، ط3، الدّار الجماهيريّة للنشـر والتّوزيع، 1990م، ص35.
[18] الرَّافِعِيّ، مصطفى صادق، تاريخ آداب العرب، ج1، ص240.
[19] ضيف، د. شوقي، المدارس النَّحْوِيَّة، ص12.
[20] المرجع السّابق، ص12-13.
[21] الرّاجحيّ، د. عبده، النَّحْو العربيّ والدَّرس الحديث (بحث في المنهج)، دار النّهضة العَرَبِيَّة، بيروت، 1979م، ص10-11.
[22] الراجحيّ، د. عَبْدُه، دروس في كتب النَّحْو، دار النّهضة العَرَبِيَّة، بيروت، 1975م، ص10.
[23] الزُّبَيْدِيّ، أبو بكر، طبقات النَّحْوِيِّيْنَ واللُّغَوِيِّيْنَ، ص11.
[24] ابن الأَنْبَارِيّ، كمال الدّين أبو البَرَكَات، إيضاح الوقف والابتداء، ج1، ص31.
[25] الطَّنْطَاوِيّ، محمّد، نشأة النَّحْو وتاريخ أشهر النّحاة، راجعه وعلّق عليه سعيد محمّد الّلحام، ط1، عالم الكتب، بيروت-لبنان، 1417هـ-1997م، ص14.
[26] الطَّنْطَاوِيّ، محمّد، نشأة النَّحْو وتاريخ أشهر النّحاة، ص18.
[27] أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ج2، ط1، دار الكتاب العربيّ، بيروت، د.ت، ص286.
[28] مكرم، د. عبد العال سالم، الحلقة المفقودة في تاريخ النَّحْو العربيّ، ط2، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1413هـ-1993م، ص19-25.
[29] الحلوانيّ، د. محمّد خير، المفصّل في تاريخ النَّحْو العربيّ، ص101.
[30] ابن خلّكان، أبو العبّاس أحمد، وفيّات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمَان، ج2، ص535.
[31] عبد الله، د. مساعد مسلم آل جعفر، أثر التَّطَوُّر الفكريّ في التَّفسير في العصر العباسيّ، ط1، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1405هـ-1984م، ص388.
[32] حسن، عبّاس، اللُّغَة والنَّحْو بين القديم والحديث، ط2، دار المعارف، مصر، 1971م، ص19-20.
منقول
.