جروح بارده
16-08-2009, 08:59 PM
النّحوُ العربي : ادّعاءُ صعوبتِهِ ، وطريقُ معرفتِهِ ( 1 / 3 )
بقلم :
أ . د. محمود بن يوسف فجّال
دعوى صعوبة النحو غير مقبولة :
كَثُرَ النزاعُ والقيلُ والقالُ – في هذه الأيام – في مشكلةِ اللغة العربية: النحوِ العربيِّ.
وشَغَلتِ المسؤولينَ، والجامعاتِ، والمعاهدَ، والمدارسَ، وأصْبَحَتْ تتردَّدُ على الأفواه العباراتُ التالية:
( صعوبةُ الإعراب، فُشُوّ اللَّحْن، ضياعُ الفُصْحَى )، جَهِلَ الأبناءُ لغةَ القرآنِ الكريم، اتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقعِ، اخْتَلَطَ الحَابِلُ بالنابِلِ[1]، جُهِلَ المرفوعُ والمنصوبُ والمجرورُ والمجزُوم، عُمِّيَ المضمومُ والمفتوحُ والمكسورُ والسكونُ.
ثم ترددتْ أسئلةٌ:
ما السبيلُ إلى تقويم اللسان؟
ما السبيلُ إلى الحفاظ على الفصحى؟
كيف يكون الطالب صحيح الإعرابِ، فصيحَ الأسلوب ؟
أقول : قامتْ دعوات من أكثر من مِئَةِ عامٍ تدعو إلى إِحياء النحو، وتبسيطه، وتيسيره.
وأنا أفهم من هذه العبارات وهذه التساؤلات قِيْمة اللغة العربية – وبخاصة النحو – عند أهله.
فالقواعد النحوية تاجُ اللغة العربية وغُرَّةُ علومها.
وللقواعد النحوية مكانةٌ ساميةٌ ومنزلةٌ عالية؛ لأَنَّها الضابط الصحيح للغة العربية.
والناطقُ بالفصحى مرموقٌ في حياته الاجتماعية، مشارٌ إليه بالبنان، لِصِحَّةِ لغته، وسلامة بيانه.
واللاحنُ مُزْدَرى به في المجتمع، وكان الناس قديماً يتعايرون باللحن، وكان السابقون يقدرون الرَّجُلَ بِقَدْرِ مافيه من علم في القواعد العربية، ويُسقطونه بِقَدْرِ جهله بها.
ونحن نعلمُ أنَّ التاريخ يعيدُ نفسه، وأنَّ مفاهيم الناس لم تَتَغيَّرْ، وإنْ تغيرت وَفَتَرَتْ ما لبثت أنْ صُحِّحَتْ، فالكمال في القديم كمالٌ في الحديث، والجمالُ في القديم جمالٌ في الحديث.
صار الناس الآن يتعايرون باللحن كما كانوا في القديم كذلك.
وصدق الله – تعالى – حيث يقول: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر: 9).
وأما فكرة صعوبة النحو[2] فهي فكرة انخدع بها قومٌ زمناً ثم قُضي عليها، وما ذلك إلا لأن القواعد النحوية محكمة النسج، قوية البناء، صحيحة العلة، دقيقة القياس، ميسرة الذكر، موقظة الملكة، مثيرة الحافظة، كما أنها رياضة ذهنية، تصقل الكلام العربي صقلاً، وتجمله تجميلاً.
قال ابن الوَرْدِيّ[3]:
جُمِّلَ المنطقُ بالنحو، فمَــــنْ :..: يُحْرَمِ الإعْرَابَ بِالنِّطْقِ اخْتَبَلْ
والسبيل إلى تعلم العربية هو تبسيط النحو وإحياؤه، وتيسيره، وسيرورته في المجتمعات الطلابية، وذلك بأن يَكْتُبَ فيه العَالِمُون كلماتٍ قليلةً، وأسطراً يسيرَةً يتناقلها الطلابُ والمثقفون في نواديهم، ومجامعهم، ومجالسهم.
وأذكر في هذا المقام أن الصاحب ابْنَ عَبَّادٍ[4] حين اطَّلع على كتاب ((الألفاظ الكتابية)) للعلامة عبدالرحمن بن عيسى بن حماد الهُمَذَاني[5] المتوفى سنة 320هـ قال: لو أدركته لأمَرْتُ بقطع يده ولسانه، فُسئل عن السبب، فقال: جَمَعَ شُذُور العربية الجزلة في أوراقٍ يسيرةٍ، فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب، وَرَفَعَ عن المتأدبين تعب الدروس والحفظ الكثير، والمطالعة الكثيرة الدائمة.
كما أنني أنصح الطالب أن يتعلم في كلِّ يوم مسألة نحويةً، أو جملةً أسلوبية، أو فائدةً إعرابية. فتكون حصيلته على مدار عام واحد حفظ أكثر من (360) ستين وثلاث مئة مسألةٍ أو جملةٍ، أو فائدةٍ، على أقل تقدير.
فلو ثَابَرَ الطالب عشر سنين على هذا النحو لكان قطافه أكثر من (3600) ست مئة وثلاث آلاف مسألة، أو جملة، أو فائدة. وهذا عدد غير قليل، وفيه خير كثير.
وهذا الفعل يحمله على المثابرة، وبذل الجهد. وهو عامل يتطلبه الدرس، وحب المعرفة.
وتسير المثابرة في كنف الشوق، وهنا يأتي دور الأستاذ المعطاء، فإذا استطاع أن ينشر في الجو التعليمي الرغبة، ويبسط عليه أعلام التشويق، فإنه يستطيع أن يجعل المثابرة طوع إشارته، وأن يوجه جهود الطلاب إلى ما يريد، وكما يريد.
وبذلك يصل الطالبُ إلى الغاية المنشودة.
ومن خير ما يلجأ إليه الأستاذ لِتَنْشِيْطِ المثابرة أن يهتم بإِيقاظ المشوقات البعيدة كلما استطاع ذلك، وأن يلقي على مسامعهم الفوائد الفريدة.
أعود بعد هذا إلى متابعة ما كنت بصدده فأتساءل:
ما النحو؟ وما فائدته؟
فأجيب: النحو هو فن الإعراب والبناء. وفائدته: التحرز عن الخطإِ.
إذَنْ فليست فائدته في نفسه، بل في جمال النطق، والاحتراز من الخطإِ.
وبعبارة أشمل: في إقامة الْمَلَكَةِ العربية.
ولكنهم تدرجوا فيه من العناية به إلى التخصص فيه، إلى عَدِّةِ غايَةً، فخصصوا له حلقاتٍ، ومدارس، وندواتٍ، ومساجلاتٍ، ومُؤَلَّفَات، حتى أصبح هو الغاية من كلِّ دروس اللغة والأدب.
وما من آي من الذكر الحكيم، أو حديث نبوي، أو شعر عربي، أو مَثَلٍ سائرٍ شَرَحُوهُ إلا عُنُوا بإعرابه، وتطبيقه على قوانين النحو.
بل ما من كتاب في التفسير، أو الحديث، أو الفقه، أو اللغة، أو الشعر، أو الأدب أو الأخبار، أو غير ذلك، حتى مما لا علاقة له باللغة إلاَّ وفيه نَحْوٌ.
بل قد نجد من دقائق النحو، وأسراره في غير كتب النَّحْوِ، ما لا نجده في أمهات كتبه.
وما من علمٍ شاعت اصطلاحاته وشواهده على ألسنة الناس، حتى الأُمِّيِّيْنَ منهم مثل علم النحو.
من ذلك أنهم إذا أرادوا أن يقولوا:
– ليس إلى هذا الشَّيْءِ حاجة، قالوا: لا محل له من الإعراب.
– وإذا أرادوا أن لا يَلْحَنُوا ذكروا الاسم، وعاقبوا عليه حركات الإعراب الثلاث. نحو: هات الْقَلمُ، الْقَلمَ، الْقَلمِ.
– وإذا أرادوا أن يقولوا: فَاتَ الشيءُ، قالوا: أَصْبَحَ في خبر (كان).
– وإذا أرادوا أن يقولوا: وغير ذلك، قالوا: وهَلُمَّ جَرًّا، أو: وَقِسْ عَلَيْهِ.
– وإذا أرادوا توهين دليل: قالوا: أَوْهَى من حُجَّةِ نَحْوِيٌّ.
وقوانين النحو كانت في أصلها قليلة على قدر ما دعت إليه الحاجة في إقامة الملكة لذا قالوا عنه: إنه علم نضج وكاد يَحْتَرِقُ.
فاللغة العربية في حدِّ ذاتها سَهلَةٌ مُيسَّرةٌ، يستطيع أن يفهمها الدارس، ولا داعي لأن يغوص في التعليلات والأقيسة الصعبة.
فاللغة العربية من أسهل القواعد كتابةً ولفظاً ونحواً وصرفاً.
أما كتابتها، فتصويرٌ مطابق للفظ إلى أبعد الحدود، فممدودها وحركاتها القصيرة حين يحوج الأمر إلى تصوير الحركات أَكْسَبَاهَا إيجازاً في الخير، واقتصاداً في وقت القراءة.
أما النْحُو فقد دخل قواعده من التسهيل في التأليف الحديث ما جعله مَيْسُورَ الفهم، خفيف العَنَاء، بحيث انحصر في الكلمات المعربة والمبنية، أسماءً وأفعالاً وحروفاً، والخلاصات الإعرابية التي نجدها في بعض الكتب الحديثة.
والصرف، لا صعوبة في قواعده الاشتقاقية المطردة الحية، فأوزان اسم الفاعل، اسم المفعول، والصفة المشبهة، وأسماء الآلة، ومباحث الجموع والتصغير والنسب، وهمزة الوصل والقطع، والإبدال والإعلال تَتَرَدَّدُ على مسامع الطلاب، وهي دائرةٌ في حياتهم الاجتماعية، ومألوفة لديهم، ولا أعني عِلَلَ النحو والصرفِ وأقيسته، والألغازَ، والأحاجِيَ، والمُعَمَّيَات مما يخص المتقدمين في الدراسة أو المختصين، فهذا كلُّه غيرُ ضروريٍّ لتقويم اللسان، وتثقيف الجنان.
وادِّعاء صعوبة القواعد والشكوى من النحو بتغيير القواعد الإعرابية، إنما تُعَالَجُ بطريقها الصحيح، وهو ممارسة الفُصْحى في المدارس تدريساً وحديثاً وَحِواراً.
وللصَّحافة والإذاعة والخطابة والأندية الأدبية، وما إليها، أَثَرٌ في تمكين الفصحى في الأسماع.
وأنا أهيب بالأستاذ أن يَحُضَّ الطالبَ على الدرس للنحو، والبحث فيه بمثابرة وشوق، فقضية النحو ليست قضية القواعد نَفْسِها، بل قضية أسلوب تدريسها وتلقيها.
الطريق إلى معرفة الإعراب:
الإعراب وسيلة المتعلِّم، وسلاحُ اللغوي، وعماد البلاغي، وهو مما اختصتْ به العرب من بين الأمم. ففي ((الصاحبي)) (ص76): (من العلوم الجليلة التي اختصت بها العربُ الإعراب، الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يُعرف الخيرُ الذي هو أصلُ الكلام، ولولاه ما مُيَّز فاعلٌ من مفعولٍ، ولا مضافٌ من منعوتٍ، ولا تَعَجُّبٌ من استفهامٍ، ولا صدرٌ من مصدرٍ، ولا نعتٌ من تأكيدٍ).
وفي ((تأويل مشكل القرآن)) (ص11): (ولها الإعرابُ الذي جعله الله وشَيْاً لكلامها، وحِلْيَةٌ لنظامها، وفارقاً في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين، والمَعْنَييْنِ المختَلِفَيْنِ كالفاعل والمفعول).
ولقد نشأ البحث في اللغة وجمعها وتدوينها في العراق، فكان دورُ علماء الإعراب، أن وضعوا للجزيئات كليَّاتٍ، وذلك عن طريق الاستقراء.
وَجَدُوا مثلاً في القرآن الكريم: "قالَ ربُّنَا"[6]. "إذْ تَمْشي أُخْتُكَ"[7]. "أَنْعَمَ اللهُ عليهم"[8] فسموا الضمةَ على باء (ربُّ) وتاء (أختُ) وهاء (اللهُ) رفعاً. وسَمَّوْا هذه الكلماتِ فاعلاً. ووضعوا القاعدة العامة: (الفاعلُ مرفوعٌ).
ووجدوا مثلاً في القرآن الكريم أيضاً: "أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ، ويَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمُ خُلَفَاءَ الأَرْضِ"[9]. فسمَّوا الفتحةَ على راء (الْمُضْطَرَّ) وهمزةِ (السوءَ) و(خلفاءَ) نَصْباً، وسمَّوا هذه الكلمات مفعولاً، ووضعوا القاعدة العامة: (المفعولُ به منصوبٌ).
ووجدوا مثلاً في القرآنِ الكريم أيضاً: "وهُمْ في فَجْوَةٍ منه"[10]، و"وهُدُوا إلىَ الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ، وهُدُوا إلى صِرَاطِ الحميدِ"[11]، "وَيذْكُرُوا اسمَ اللهِ في أيَّامٍ معلوماتٍ"[12] فسمَّوا الكسرةَ أسفلَ تاءِ (فَجْوَةٍ) وباءِ (الطيِّبِ) ولامِ (القولِ) وطاءِ (صراطِ) وميمِ (أيَّامٍ) جرًّا، ووضعوا القاعدةَ العامة: (الاسم الداخلُ عليه حرفُ جرٍّ مجرورٌ).
وهكذا فعلوا في سائر كلام العرب، باذلين جُهْداً كبيراً في تتبع النصوص، واستخراج القواعد.
ولقد تفرَّغ له العباقرةُ من أسلافنا، يجمعون أصولَه، ويُثبتون قواعِدَهُ، ويرفعون بنيانه شامخاً ركيناً، في إخلاصَ نادِرٍ، وصبرٍ لا ينفد.
يتبع =
بقلم :
أ . د. محمود بن يوسف فجّال
دعوى صعوبة النحو غير مقبولة :
كَثُرَ النزاعُ والقيلُ والقالُ – في هذه الأيام – في مشكلةِ اللغة العربية: النحوِ العربيِّ.
وشَغَلتِ المسؤولينَ، والجامعاتِ، والمعاهدَ، والمدارسَ، وأصْبَحَتْ تتردَّدُ على الأفواه العباراتُ التالية:
( صعوبةُ الإعراب، فُشُوّ اللَّحْن، ضياعُ الفُصْحَى )، جَهِلَ الأبناءُ لغةَ القرآنِ الكريم، اتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقعِ، اخْتَلَطَ الحَابِلُ بالنابِلِ[1]، جُهِلَ المرفوعُ والمنصوبُ والمجرورُ والمجزُوم، عُمِّيَ المضمومُ والمفتوحُ والمكسورُ والسكونُ.
ثم ترددتْ أسئلةٌ:
ما السبيلُ إلى تقويم اللسان؟
ما السبيلُ إلى الحفاظ على الفصحى؟
كيف يكون الطالب صحيح الإعرابِ، فصيحَ الأسلوب ؟
أقول : قامتْ دعوات من أكثر من مِئَةِ عامٍ تدعو إلى إِحياء النحو، وتبسيطه، وتيسيره.
وأنا أفهم من هذه العبارات وهذه التساؤلات قِيْمة اللغة العربية – وبخاصة النحو – عند أهله.
فالقواعد النحوية تاجُ اللغة العربية وغُرَّةُ علومها.
وللقواعد النحوية مكانةٌ ساميةٌ ومنزلةٌ عالية؛ لأَنَّها الضابط الصحيح للغة العربية.
والناطقُ بالفصحى مرموقٌ في حياته الاجتماعية، مشارٌ إليه بالبنان، لِصِحَّةِ لغته، وسلامة بيانه.
واللاحنُ مُزْدَرى به في المجتمع، وكان الناس قديماً يتعايرون باللحن، وكان السابقون يقدرون الرَّجُلَ بِقَدْرِ مافيه من علم في القواعد العربية، ويُسقطونه بِقَدْرِ جهله بها.
ونحن نعلمُ أنَّ التاريخ يعيدُ نفسه، وأنَّ مفاهيم الناس لم تَتَغيَّرْ، وإنْ تغيرت وَفَتَرَتْ ما لبثت أنْ صُحِّحَتْ، فالكمال في القديم كمالٌ في الحديث، والجمالُ في القديم جمالٌ في الحديث.
صار الناس الآن يتعايرون باللحن كما كانوا في القديم كذلك.
وصدق الله – تعالى – حيث يقول: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر: 9).
وأما فكرة صعوبة النحو[2] فهي فكرة انخدع بها قومٌ زمناً ثم قُضي عليها، وما ذلك إلا لأن القواعد النحوية محكمة النسج، قوية البناء، صحيحة العلة، دقيقة القياس، ميسرة الذكر، موقظة الملكة، مثيرة الحافظة، كما أنها رياضة ذهنية، تصقل الكلام العربي صقلاً، وتجمله تجميلاً.
قال ابن الوَرْدِيّ[3]:
جُمِّلَ المنطقُ بالنحو، فمَــــنْ :..: يُحْرَمِ الإعْرَابَ بِالنِّطْقِ اخْتَبَلْ
والسبيل إلى تعلم العربية هو تبسيط النحو وإحياؤه، وتيسيره، وسيرورته في المجتمعات الطلابية، وذلك بأن يَكْتُبَ فيه العَالِمُون كلماتٍ قليلةً، وأسطراً يسيرَةً يتناقلها الطلابُ والمثقفون في نواديهم، ومجامعهم، ومجالسهم.
وأذكر في هذا المقام أن الصاحب ابْنَ عَبَّادٍ[4] حين اطَّلع على كتاب ((الألفاظ الكتابية)) للعلامة عبدالرحمن بن عيسى بن حماد الهُمَذَاني[5] المتوفى سنة 320هـ قال: لو أدركته لأمَرْتُ بقطع يده ولسانه، فُسئل عن السبب، فقال: جَمَعَ شُذُور العربية الجزلة في أوراقٍ يسيرةٍ، فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب، وَرَفَعَ عن المتأدبين تعب الدروس والحفظ الكثير، والمطالعة الكثيرة الدائمة.
كما أنني أنصح الطالب أن يتعلم في كلِّ يوم مسألة نحويةً، أو جملةً أسلوبية، أو فائدةً إعرابية. فتكون حصيلته على مدار عام واحد حفظ أكثر من (360) ستين وثلاث مئة مسألةٍ أو جملةٍ، أو فائدةٍ، على أقل تقدير.
فلو ثَابَرَ الطالب عشر سنين على هذا النحو لكان قطافه أكثر من (3600) ست مئة وثلاث آلاف مسألة، أو جملة، أو فائدة. وهذا عدد غير قليل، وفيه خير كثير.
وهذا الفعل يحمله على المثابرة، وبذل الجهد. وهو عامل يتطلبه الدرس، وحب المعرفة.
وتسير المثابرة في كنف الشوق، وهنا يأتي دور الأستاذ المعطاء، فإذا استطاع أن ينشر في الجو التعليمي الرغبة، ويبسط عليه أعلام التشويق، فإنه يستطيع أن يجعل المثابرة طوع إشارته، وأن يوجه جهود الطلاب إلى ما يريد، وكما يريد.
وبذلك يصل الطالبُ إلى الغاية المنشودة.
ومن خير ما يلجأ إليه الأستاذ لِتَنْشِيْطِ المثابرة أن يهتم بإِيقاظ المشوقات البعيدة كلما استطاع ذلك، وأن يلقي على مسامعهم الفوائد الفريدة.
أعود بعد هذا إلى متابعة ما كنت بصدده فأتساءل:
ما النحو؟ وما فائدته؟
فأجيب: النحو هو فن الإعراب والبناء. وفائدته: التحرز عن الخطإِ.
إذَنْ فليست فائدته في نفسه، بل في جمال النطق، والاحتراز من الخطإِ.
وبعبارة أشمل: في إقامة الْمَلَكَةِ العربية.
ولكنهم تدرجوا فيه من العناية به إلى التخصص فيه، إلى عَدِّةِ غايَةً، فخصصوا له حلقاتٍ، ومدارس، وندواتٍ، ومساجلاتٍ، ومُؤَلَّفَات، حتى أصبح هو الغاية من كلِّ دروس اللغة والأدب.
وما من آي من الذكر الحكيم، أو حديث نبوي، أو شعر عربي، أو مَثَلٍ سائرٍ شَرَحُوهُ إلا عُنُوا بإعرابه، وتطبيقه على قوانين النحو.
بل ما من كتاب في التفسير، أو الحديث، أو الفقه، أو اللغة، أو الشعر، أو الأدب أو الأخبار، أو غير ذلك، حتى مما لا علاقة له باللغة إلاَّ وفيه نَحْوٌ.
بل قد نجد من دقائق النحو، وأسراره في غير كتب النَّحْوِ، ما لا نجده في أمهات كتبه.
وما من علمٍ شاعت اصطلاحاته وشواهده على ألسنة الناس، حتى الأُمِّيِّيْنَ منهم مثل علم النحو.
من ذلك أنهم إذا أرادوا أن يقولوا:
– ليس إلى هذا الشَّيْءِ حاجة، قالوا: لا محل له من الإعراب.
– وإذا أرادوا أن لا يَلْحَنُوا ذكروا الاسم، وعاقبوا عليه حركات الإعراب الثلاث. نحو: هات الْقَلمُ، الْقَلمَ، الْقَلمِ.
– وإذا أرادوا أن يقولوا: فَاتَ الشيءُ، قالوا: أَصْبَحَ في خبر (كان).
– وإذا أرادوا أن يقولوا: وغير ذلك، قالوا: وهَلُمَّ جَرًّا، أو: وَقِسْ عَلَيْهِ.
– وإذا أرادوا توهين دليل: قالوا: أَوْهَى من حُجَّةِ نَحْوِيٌّ.
وقوانين النحو كانت في أصلها قليلة على قدر ما دعت إليه الحاجة في إقامة الملكة لذا قالوا عنه: إنه علم نضج وكاد يَحْتَرِقُ.
فاللغة العربية في حدِّ ذاتها سَهلَةٌ مُيسَّرةٌ، يستطيع أن يفهمها الدارس، ولا داعي لأن يغوص في التعليلات والأقيسة الصعبة.
فاللغة العربية من أسهل القواعد كتابةً ولفظاً ونحواً وصرفاً.
أما كتابتها، فتصويرٌ مطابق للفظ إلى أبعد الحدود، فممدودها وحركاتها القصيرة حين يحوج الأمر إلى تصوير الحركات أَكْسَبَاهَا إيجازاً في الخير، واقتصاداً في وقت القراءة.
أما النْحُو فقد دخل قواعده من التسهيل في التأليف الحديث ما جعله مَيْسُورَ الفهم، خفيف العَنَاء، بحيث انحصر في الكلمات المعربة والمبنية، أسماءً وأفعالاً وحروفاً، والخلاصات الإعرابية التي نجدها في بعض الكتب الحديثة.
والصرف، لا صعوبة في قواعده الاشتقاقية المطردة الحية، فأوزان اسم الفاعل، اسم المفعول، والصفة المشبهة، وأسماء الآلة، ومباحث الجموع والتصغير والنسب، وهمزة الوصل والقطع، والإبدال والإعلال تَتَرَدَّدُ على مسامع الطلاب، وهي دائرةٌ في حياتهم الاجتماعية، ومألوفة لديهم، ولا أعني عِلَلَ النحو والصرفِ وأقيسته، والألغازَ، والأحاجِيَ، والمُعَمَّيَات مما يخص المتقدمين في الدراسة أو المختصين، فهذا كلُّه غيرُ ضروريٍّ لتقويم اللسان، وتثقيف الجنان.
وادِّعاء صعوبة القواعد والشكوى من النحو بتغيير القواعد الإعرابية، إنما تُعَالَجُ بطريقها الصحيح، وهو ممارسة الفُصْحى في المدارس تدريساً وحديثاً وَحِواراً.
وللصَّحافة والإذاعة والخطابة والأندية الأدبية، وما إليها، أَثَرٌ في تمكين الفصحى في الأسماع.
وأنا أهيب بالأستاذ أن يَحُضَّ الطالبَ على الدرس للنحو، والبحث فيه بمثابرة وشوق، فقضية النحو ليست قضية القواعد نَفْسِها، بل قضية أسلوب تدريسها وتلقيها.
الطريق إلى معرفة الإعراب:
الإعراب وسيلة المتعلِّم، وسلاحُ اللغوي، وعماد البلاغي، وهو مما اختصتْ به العرب من بين الأمم. ففي ((الصاحبي)) (ص76): (من العلوم الجليلة التي اختصت بها العربُ الإعراب، الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يُعرف الخيرُ الذي هو أصلُ الكلام، ولولاه ما مُيَّز فاعلٌ من مفعولٍ، ولا مضافٌ من منعوتٍ، ولا تَعَجُّبٌ من استفهامٍ، ولا صدرٌ من مصدرٍ، ولا نعتٌ من تأكيدٍ).
وفي ((تأويل مشكل القرآن)) (ص11): (ولها الإعرابُ الذي جعله الله وشَيْاً لكلامها، وحِلْيَةٌ لنظامها، وفارقاً في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين، والمَعْنَييْنِ المختَلِفَيْنِ كالفاعل والمفعول).
ولقد نشأ البحث في اللغة وجمعها وتدوينها في العراق، فكان دورُ علماء الإعراب، أن وضعوا للجزيئات كليَّاتٍ، وذلك عن طريق الاستقراء.
وَجَدُوا مثلاً في القرآن الكريم: "قالَ ربُّنَا"[6]. "إذْ تَمْشي أُخْتُكَ"[7]. "أَنْعَمَ اللهُ عليهم"[8] فسموا الضمةَ على باء (ربُّ) وتاء (أختُ) وهاء (اللهُ) رفعاً. وسَمَّوْا هذه الكلماتِ فاعلاً. ووضعوا القاعدة العامة: (الفاعلُ مرفوعٌ).
ووجدوا مثلاً في القرآن الكريم أيضاً: "أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ، ويَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمُ خُلَفَاءَ الأَرْضِ"[9]. فسمَّوا الفتحةَ على راء (الْمُضْطَرَّ) وهمزةِ (السوءَ) و(خلفاءَ) نَصْباً، وسمَّوا هذه الكلمات مفعولاً، ووضعوا القاعدة العامة: (المفعولُ به منصوبٌ).
ووجدوا مثلاً في القرآنِ الكريم أيضاً: "وهُمْ في فَجْوَةٍ منه"[10]، و"وهُدُوا إلىَ الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ، وهُدُوا إلى صِرَاطِ الحميدِ"[11]، "وَيذْكُرُوا اسمَ اللهِ في أيَّامٍ معلوماتٍ"[12] فسمَّوا الكسرةَ أسفلَ تاءِ (فَجْوَةٍ) وباءِ (الطيِّبِ) ولامِ (القولِ) وطاءِ (صراطِ) وميمِ (أيَّامٍ) جرًّا، ووضعوا القاعدةَ العامة: (الاسم الداخلُ عليه حرفُ جرٍّ مجرورٌ).
وهكذا فعلوا في سائر كلام العرب، باذلين جُهْداً كبيراً في تتبع النصوص، واستخراج القواعد.
ولقد تفرَّغ له العباقرةُ من أسلافنا، يجمعون أصولَه، ويُثبتون قواعِدَهُ، ويرفعون بنيانه شامخاً ركيناً، في إخلاصَ نادِرٍ، وصبرٍ لا ينفد.
يتبع =