جروح بارده
11-09-2009, 05:32 PM
http://208.66.70.165/ismemo/media//tefl.jpg
كتبها /عمر إبراهيم
استيقظ مؤمن في الساعة الثالثة صباحًا ليصلي ركعتي القيام اللتين اعتاد أن يصليهما كل ليلة.
وفي جو إيماني خلاب، وفي سكون الليل الهادئ قام مؤمن الطفل الصغير يناجي ربه تبارك وتعالى ويدعوه ويرجوه.
في نفس الوقت كان والدا مؤمن قائمين لله تعالى في هذه الساعة المباركة، التي يتنزل فيها الرحمن سبحانه وتعالى إلى سمائنا الدنيا، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
لقد كان هذا البيت المؤمن بمن فيه من كبار وصغار يلبون نداءات الرحمن جل وعلا في أحضان السحر، بالتوبة والاستغفار وسؤال الجنة ونيل الدرجات العلى.
يا لها من لحظات سعيدة! ويا لها من دعوات يعظم الرجاء في إجابتها!
ثم يقطع سكون الليل شدو المؤذن يرسل تكبيرات الفجر.
فيُسلِّم الجميع، ويستعدون للذهاب إلى المسجد لشهود صلاة الفجر في جماعة، يلتمسون بالمشي في الظلماء نورًا على الصراط يوم القيامة.
وهناك يُكبِّر الإمام ويقرأ القرآن، فيكون أول ما يقرأ بعد فاتحة الكتاب قول الله تعالى من سورة لقمان:
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]،
ثم يُكمِل الآيات ويقرأ ...
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 17-19]
إنها الآيات التي ترسم الطريق لتلك الرسالة التي بين أيديكم معاشر المربين: "الطفل الرباني".
إنها الآيات التي تحكي لنا صفات وأخلاق هذا الطفل.
إنها الآيات التي تجسده لنا ليكون هدفًا واضحًا محددًا لا يخطئه أحد، ولا يحتار فيه اثنان.
إنها الآيات التي تحدد لنا من هو الطفل الذي نريد، وما الهدف الذي نسعى لتحقيقه في أبنائنا.
إنه القرآن المشهود يرسم لنا الهدف المنشود، يرسم لنا الطفل الرباني في أوضح صورة، وأزهى حلة، وأجمل بيان.
عزيزي المربي:
لقد حدد لنا القرآن صفات الطفل الرباني، الذي جمع بين العلم والعمل.
الطفل الرباني، الذي عرف ربه حق المعرفة، ووحَّده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلم يشرك بالله شيئًا.
الطفل الرباني، الذي حوَّل تلك المعرفة بالله إلى واقع حياة، فخشي الله وخافه وراقبه في السر والعلن؛ لأنه علم أنه سبحانه وتعالى أعلم بمثقال حبة من خردل، كانت في صخرة أو في السماوات أو في الأرض.
الطفل الرباني الذي تَخلَّق بمحاسن الأخلاق، وتأدَّب بمكارم الآداب، وتزيَّن بنفائس القيم والشيم؛ فلم يُصعِّر خدَّه للناس ولم يمشِ في الأرض مرحًا، ولم يختل في مشيته ولم يرفع من صوته؛ لأنه يعلم أن أنكر الأصوات صوت الحمير.
الطفل الرباني، الذي تربى بطاعة الله وتأدَّب بها، لم يكن أبدًا أنانيًّا يقصر الخير على نفسه ولا يفكر في غيره، بل هو رباني يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويُبلِّغ الخير لكل الخلق، فهو مفتاح للخير، ويحمل في قلبه همًّا كبيرًا محفورًا في صدره، ويجري في دمه وعروقه، وينبض به قلبه، إنه همُّ الإسلام.
إنه الطفل الذي آمن بالله ثم استقام، وعرف أن حسن الخلق سبيل القرب من مجلس سيد الأنام، وأن العبد به يدرك درجة الصوام القوام، كما أنه نبت على حب الإسلام والبذل له، فكان رغم صغر سنه صاحب رسالة كبيرة رسمها له أبواه، فكَبُر وهو يعيش لها وبها؛ فرسخت قدماه عندما كَبُر في أرض خُدَّام الدين، ورواد المستقبل، وصناع الحياة، وطلاب الغد المشرق للإسلام والمسلمين.
إن الطفل الرباني بناء راسخ قام وارتفع بفضل الله وهُداه على ثلاثة أعمدة رئيسية؛ هي:
1.الإيمان.
2.الأخلاق الفاضلة.
3.العمل لخدمة الدين.
إنه طفل لقماني الطبع، رباني السمت، وعظه لقمان، فكان قدوة للكبار والصغار.
مهمة عظيمة تواجهها تحديات كبيرة:
وما أحوج الأمة الإسلامية في ظل هذه الغربة التي تمر بها إلى أمثال هذا الطفل الرباني، الذي يعقد عليه الأمل الكبير هو وأشباهه لإعادة مجد الإسلام وتشييد صرحه الشامخ من جديد، وما أصعب هذه المهمة المنوطة بمن يرجى فيهم تلبية حاجة الأمة، وذلك في خضم التحديات الكبيرة التي تواجه المربين اليوم، والراغبين في صياغة رواد المستقبل وجيل الغد.
فلقد غزانا الغرب فكريًّا قبل أن يغزونا عسكريًّا، واستطاع أن يُقيِّد العملاق الإسلامي بأغلال الشهوات والمنكرات، واستخدم وسائل الإعلام المتنوعة للحيدة بأبنائنا عن طريق الصواب وعن هدي الربانية.
هكذا وصف أحد قادتهم المسلم بالعملاق، وصدق وهو كذوب، فقال: (إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافًا تامًّا، فهو حائر، وهو قلق، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر.
فلنعطِ هذا العالم الإسلامي ما يشاء، ولنقوِّ في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي والفني حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف بإبقاء المسلم متخلفًا، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه؛ فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطرًا داهمًا، ينتهي به الغرب وتنتهي به وظيفته الحضارية كقائد للعالم)
[قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله، جلال العالم، ص(5)].
هكذا خاف الغرب من عمالقة الإسلام، الذين قادوا الدنيا بالدين وشيدوا حضارة حفرت في تاريخ الحضارات اسم المسلمين بماء الذهب، فحرصوا على تقييد هذا العملاق ليحصدوا هم ثمار النهضة وتباشير الحضارة.
وعرف الغرب ما هو سر قوتنا وما مصدر عزتنا ألا وهو الإيمان، فسعوا جاهدين بشتى السبل لإضعاف هذا الإيمان، فحاصرونا بكافة وسائل الإعلام المرئية منها والمسموعة والمقروءة، وخلفوا بعد استعمارهم بلدان الإسلام أفكارهم المغلوطة، ونشروا في ميادين المسلمين وسائل التربية التي تعمل وفق مرادهم، بأفلامهم ومنتجاتهم ودعاياتهم وكتبهم، حتى أفلام الكرتون لم تخلوا من توجيهاتهم وإرشاداتهم التربوية، ولم تسلم من السم الذي يدسونه في العسل.
حتى أصبح الكثير من الشباب ـ إلا من رحم الله ـ يتفاخرون بتقليدهم، وبالتمشي مع عاداتهم وتقاليدهم، وأصبح المترفع عن ثقافاتهم وأفكارهم والمتمسك بحضارته وعراقة ثقافته، يوصف اليوم بالتخلف والجمود.
ومجتمعنا اليوم بعد أن أصبح العالم فيه يشبه قرية صغيرة، مع تطور وسائل الاتصال والمواصلات؛ أصبح محضنًا كبيرًا للتربية بغض النظر عن أهدافها وصورها وأشكالها وانتمائاتها.
لقد أصبح المجتمع اليوم كله يربي، وأصبحت التربية حتمية من الحتميات، فإن لم تربي أنت طفلك فسيربيه غيرك؛ المجتمع سيربيه، التلفاز سيربيه، الإنترنت سيربيه، المدرسة ستربيه، الشارع سيربيه، أصدقاؤه سيربوه، وهكذا.
ومن هنا تبينت أهمية التربية وصعوبتها في الوقت ذاته، وازدادت الحاجة لصياغة هذا الطفل الرباني المنشود وفق مرادنا لا وفق مراد مطاحن التربية الأخرى التي يعج بها المجتمع.
إنه تحدٍ بالفعل، ولكنه الأمل الوحيد، فتربيتنا لأطفالنا هو السبيل لإصلاح المجتمع والنهوض بالإسلام، (فلا يكاد يتصور تغيير حقيقي في المجتمعات، وانتقال من حال إلى حال أحسن منه، إلا من خلال التربية التي تكون القائد أو الموجه الحقيقي للإصلاح؛ إذ لا يحدث تغيير ذو ثبات واستمرار في أحوال المجتمعات إلا من خلال تغيير ما بالأنفس؛
كما قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وتغيير ما بالأنفس تغييرًا ثابتًا مستمرًا في المسار الصحيح لا يكون إلا من خلال التربية؛ فالتربية هي أداة التغيير الكبرى في المجتمعات، التي تستقي منها باقي الأدوات فاعليتها وجدواها، وهذا يُظهِر الأهمية الكبرى للتربية)
[نحو تربية إسلامية راشدة، محمد بن شاكر الشريف، ص(20)].
منهجنا في التربية: نموذج الصحابة أمثل وأخير:
وإن كنا ـ عزيزي المربي ـ نواجه تحديًا كبيرًا في مواجهة تيارات التربية الجارفة في المجتمع، ونسعى إلى تربية أبنائنا تربية إسلامية رشيدة رغم كل ذلك؛ فإننا ـ وبإذن الله ـ سنجابه هذه التحديات وسنصمد أمامها؛ لأننا قد اخترنا هذا النموذج بالذات في التربية والإصلاح، ألا وهو نموذج الصحابة، وبنينا عليه طريقتنا في التربية ومنهجنا في صياغة أطفال اليوم ورجال المستقبل؛ فتأملنا نموذج الصحابة رضوان الله عليهم كمتربين وكمربين من بعد ذلك، كيف رباهم الحبيب المصطفى سيد المربين وإمام المصلحين، وأيضًا كيف ربوا هم أبناءهم من بعد ذلك، ولقد اخترنا هذا النموذج دون غيره لعدة اعتبارات:
1.أن الصحابة رضوان الله عليهم هم خير القرون بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)[رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، (3651)].
2.أن نموذج الصحابة رضوان الله عليهم هو الأقرب إلى واقعنا عن غيره من النماذج؛ فنحن الآن في زمن الغربة الثانية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال في حديثه: (بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء)[رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا وأنه يأرز بين المسجدين، (389)].، ولن تنقشع الغربة الثانية إلا بما انقشعت وزالت به الغربة الأولى.
3.أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مع خير مربٍّ وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أدَّب أصحابه فأحسن تأديبهم، كيف لا، وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وجعله على خلق عظيم؟! ولذلك فنحن في هذه الرسالة نحاول أن نُجسِّد نموذج الصحابة رضوان الله عليهم، كي نستطيع بإذن الله تعالى أن نحاكيه ونقلده.
4.(من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات)، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، (أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونقل دينه؛ فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم كانوا على الهدي المستقيم) [شرح السنة، البغوي، (1/214)].
5.أننا وجدنا أن في تراثنا الإسلامي المتمثل أولًا في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ثم الأجيال التالية، نظرية كاملة متكاملة وتصور واضح للتربية، فلم يسعنا إلا أن نغرف من هذا النهر أولًا قبل أن نرشف من خلاصات أساتذة التربية في الواقع المعاصر، وننهل من بعض إصدارات الغرب الذين برعوا أيضًا في مجال العلوم الإنسانية كافة، ولكنهم لم يناطحوا أبدًا الشم العوالي من أساتذة التربية في جيل الصحابة.
(وإذا كان الواقع التاريخي الإسلامي لم يشهد تكرار ذلك النموذج الرفيع بصورته تلك إلا في نماذج فردية على مدار الأجيال، بينما كانت تلك النماذج محتشدة في الجماعة الأولى احتشادًا فذًّا، جعل المؤرخين الأوائل يشيرون إلى معظمها مجرد إشارة عابرة، كأنما هي ظاهرة عامة لا تحتاج إلى إشادة ولا حديث خاص؛ فستظل هذه الجماعة على الرغم من ذلك هي النموذج الذي تتطلع إليه الأجيال، وتحاول أن تعيده في عالم الواقع، فإن أفلحت في أي جيل، أو في أي قرن؛ فهو الخير للبشرية كلها بغير نزاع، وإلا فالمحاولة في ذاتها خير؛ لأنها سترفع كل انسان إلى أقصى حدود طاقته الذاتية، فلا تظل في نفسه فضلة من خير محبوسة عن العمل، أو محجوزة عن النماء)[منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، ص(15-16)].
"لقد انتصر محمد بن عبد الله يوم صنع أصحابه عليهم رضوان الله صوراً حية من إيمانه تأكل الطعام وتمشي في الأسواق يوم صاغ من كل منهم قرآناً حياً يدب على الأرض يوم جعل من كل فرد نموذجاً مجسماً للإسلام يراه الناس فيرون الإسلام.
إن النصوص وحدها لا تصنع شيئاً وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلاً وإن المباديء وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكاً.
ومن ثم جع محمد صلى الله عليه وسلم هدفه الأول أن يصنع رجالاً لا أن يلقي المواعظ وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطاباً وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة أم الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن الكريم وكان عمل محمد صلى الله عليه وسلم أن يحول الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم العيون..
ولقد انتصر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم صاغ من فكرة الإسلام شخوصاً وحول إيمانهم بالإسلام وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفاً ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق إنما طبعها بالنور على صحائف القلوب وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل ماهو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله"[(دراسات اسلامية سيد قطب)]
أهم المراجع:
1.قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله، عبد الودود يوسف
2.نحو تربية إسلامية راشدة، محمد بن شاكر الشريف،
3.منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، ص(15-16).
4.دراسات اسلامية سيد قطب.
كتبها /عمر إبراهيم
استيقظ مؤمن في الساعة الثالثة صباحًا ليصلي ركعتي القيام اللتين اعتاد أن يصليهما كل ليلة.
وفي جو إيماني خلاب، وفي سكون الليل الهادئ قام مؤمن الطفل الصغير يناجي ربه تبارك وتعالى ويدعوه ويرجوه.
في نفس الوقت كان والدا مؤمن قائمين لله تعالى في هذه الساعة المباركة، التي يتنزل فيها الرحمن سبحانه وتعالى إلى سمائنا الدنيا، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
لقد كان هذا البيت المؤمن بمن فيه من كبار وصغار يلبون نداءات الرحمن جل وعلا في أحضان السحر، بالتوبة والاستغفار وسؤال الجنة ونيل الدرجات العلى.
يا لها من لحظات سعيدة! ويا لها من دعوات يعظم الرجاء في إجابتها!
ثم يقطع سكون الليل شدو المؤذن يرسل تكبيرات الفجر.
فيُسلِّم الجميع، ويستعدون للذهاب إلى المسجد لشهود صلاة الفجر في جماعة، يلتمسون بالمشي في الظلماء نورًا على الصراط يوم القيامة.
وهناك يُكبِّر الإمام ويقرأ القرآن، فيكون أول ما يقرأ بعد فاتحة الكتاب قول الله تعالى من سورة لقمان:
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]،
ثم يُكمِل الآيات ويقرأ ...
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 17-19]
إنها الآيات التي ترسم الطريق لتلك الرسالة التي بين أيديكم معاشر المربين: "الطفل الرباني".
إنها الآيات التي تحكي لنا صفات وأخلاق هذا الطفل.
إنها الآيات التي تجسده لنا ليكون هدفًا واضحًا محددًا لا يخطئه أحد، ولا يحتار فيه اثنان.
إنها الآيات التي تحدد لنا من هو الطفل الذي نريد، وما الهدف الذي نسعى لتحقيقه في أبنائنا.
إنه القرآن المشهود يرسم لنا الهدف المنشود، يرسم لنا الطفل الرباني في أوضح صورة، وأزهى حلة، وأجمل بيان.
عزيزي المربي:
لقد حدد لنا القرآن صفات الطفل الرباني، الذي جمع بين العلم والعمل.
الطفل الرباني، الذي عرف ربه حق المعرفة، ووحَّده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلم يشرك بالله شيئًا.
الطفل الرباني، الذي حوَّل تلك المعرفة بالله إلى واقع حياة، فخشي الله وخافه وراقبه في السر والعلن؛ لأنه علم أنه سبحانه وتعالى أعلم بمثقال حبة من خردل، كانت في صخرة أو في السماوات أو في الأرض.
الطفل الرباني الذي تَخلَّق بمحاسن الأخلاق، وتأدَّب بمكارم الآداب، وتزيَّن بنفائس القيم والشيم؛ فلم يُصعِّر خدَّه للناس ولم يمشِ في الأرض مرحًا، ولم يختل في مشيته ولم يرفع من صوته؛ لأنه يعلم أن أنكر الأصوات صوت الحمير.
الطفل الرباني، الذي تربى بطاعة الله وتأدَّب بها، لم يكن أبدًا أنانيًّا يقصر الخير على نفسه ولا يفكر في غيره، بل هو رباني يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويُبلِّغ الخير لكل الخلق، فهو مفتاح للخير، ويحمل في قلبه همًّا كبيرًا محفورًا في صدره، ويجري في دمه وعروقه، وينبض به قلبه، إنه همُّ الإسلام.
إنه الطفل الذي آمن بالله ثم استقام، وعرف أن حسن الخلق سبيل القرب من مجلس سيد الأنام، وأن العبد به يدرك درجة الصوام القوام، كما أنه نبت على حب الإسلام والبذل له، فكان رغم صغر سنه صاحب رسالة كبيرة رسمها له أبواه، فكَبُر وهو يعيش لها وبها؛ فرسخت قدماه عندما كَبُر في أرض خُدَّام الدين، ورواد المستقبل، وصناع الحياة، وطلاب الغد المشرق للإسلام والمسلمين.
إن الطفل الرباني بناء راسخ قام وارتفع بفضل الله وهُداه على ثلاثة أعمدة رئيسية؛ هي:
1.الإيمان.
2.الأخلاق الفاضلة.
3.العمل لخدمة الدين.
إنه طفل لقماني الطبع، رباني السمت، وعظه لقمان، فكان قدوة للكبار والصغار.
مهمة عظيمة تواجهها تحديات كبيرة:
وما أحوج الأمة الإسلامية في ظل هذه الغربة التي تمر بها إلى أمثال هذا الطفل الرباني، الذي يعقد عليه الأمل الكبير هو وأشباهه لإعادة مجد الإسلام وتشييد صرحه الشامخ من جديد، وما أصعب هذه المهمة المنوطة بمن يرجى فيهم تلبية حاجة الأمة، وذلك في خضم التحديات الكبيرة التي تواجه المربين اليوم، والراغبين في صياغة رواد المستقبل وجيل الغد.
فلقد غزانا الغرب فكريًّا قبل أن يغزونا عسكريًّا، واستطاع أن يُقيِّد العملاق الإسلامي بأغلال الشهوات والمنكرات، واستخدم وسائل الإعلام المتنوعة للحيدة بأبنائنا عن طريق الصواب وعن هدي الربانية.
هكذا وصف أحد قادتهم المسلم بالعملاق، وصدق وهو كذوب، فقال: (إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافًا تامًّا، فهو حائر، وهو قلق، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر.
فلنعطِ هذا العالم الإسلامي ما يشاء، ولنقوِّ في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي والفني حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف بإبقاء المسلم متخلفًا، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه؛ فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطرًا داهمًا، ينتهي به الغرب وتنتهي به وظيفته الحضارية كقائد للعالم)
[قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله، جلال العالم، ص(5)].
هكذا خاف الغرب من عمالقة الإسلام، الذين قادوا الدنيا بالدين وشيدوا حضارة حفرت في تاريخ الحضارات اسم المسلمين بماء الذهب، فحرصوا على تقييد هذا العملاق ليحصدوا هم ثمار النهضة وتباشير الحضارة.
وعرف الغرب ما هو سر قوتنا وما مصدر عزتنا ألا وهو الإيمان، فسعوا جاهدين بشتى السبل لإضعاف هذا الإيمان، فحاصرونا بكافة وسائل الإعلام المرئية منها والمسموعة والمقروءة، وخلفوا بعد استعمارهم بلدان الإسلام أفكارهم المغلوطة، ونشروا في ميادين المسلمين وسائل التربية التي تعمل وفق مرادهم، بأفلامهم ومنتجاتهم ودعاياتهم وكتبهم، حتى أفلام الكرتون لم تخلوا من توجيهاتهم وإرشاداتهم التربوية، ولم تسلم من السم الذي يدسونه في العسل.
حتى أصبح الكثير من الشباب ـ إلا من رحم الله ـ يتفاخرون بتقليدهم، وبالتمشي مع عاداتهم وتقاليدهم، وأصبح المترفع عن ثقافاتهم وأفكارهم والمتمسك بحضارته وعراقة ثقافته، يوصف اليوم بالتخلف والجمود.
ومجتمعنا اليوم بعد أن أصبح العالم فيه يشبه قرية صغيرة، مع تطور وسائل الاتصال والمواصلات؛ أصبح محضنًا كبيرًا للتربية بغض النظر عن أهدافها وصورها وأشكالها وانتمائاتها.
لقد أصبح المجتمع اليوم كله يربي، وأصبحت التربية حتمية من الحتميات، فإن لم تربي أنت طفلك فسيربيه غيرك؛ المجتمع سيربيه، التلفاز سيربيه، الإنترنت سيربيه، المدرسة ستربيه، الشارع سيربيه، أصدقاؤه سيربوه، وهكذا.
ومن هنا تبينت أهمية التربية وصعوبتها في الوقت ذاته، وازدادت الحاجة لصياغة هذا الطفل الرباني المنشود وفق مرادنا لا وفق مراد مطاحن التربية الأخرى التي يعج بها المجتمع.
إنه تحدٍ بالفعل، ولكنه الأمل الوحيد، فتربيتنا لأطفالنا هو السبيل لإصلاح المجتمع والنهوض بالإسلام، (فلا يكاد يتصور تغيير حقيقي في المجتمعات، وانتقال من حال إلى حال أحسن منه، إلا من خلال التربية التي تكون القائد أو الموجه الحقيقي للإصلاح؛ إذ لا يحدث تغيير ذو ثبات واستمرار في أحوال المجتمعات إلا من خلال تغيير ما بالأنفس؛
كما قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وتغيير ما بالأنفس تغييرًا ثابتًا مستمرًا في المسار الصحيح لا يكون إلا من خلال التربية؛ فالتربية هي أداة التغيير الكبرى في المجتمعات، التي تستقي منها باقي الأدوات فاعليتها وجدواها، وهذا يُظهِر الأهمية الكبرى للتربية)
[نحو تربية إسلامية راشدة، محمد بن شاكر الشريف، ص(20)].
منهجنا في التربية: نموذج الصحابة أمثل وأخير:
وإن كنا ـ عزيزي المربي ـ نواجه تحديًا كبيرًا في مواجهة تيارات التربية الجارفة في المجتمع، ونسعى إلى تربية أبنائنا تربية إسلامية رشيدة رغم كل ذلك؛ فإننا ـ وبإذن الله ـ سنجابه هذه التحديات وسنصمد أمامها؛ لأننا قد اخترنا هذا النموذج بالذات في التربية والإصلاح، ألا وهو نموذج الصحابة، وبنينا عليه طريقتنا في التربية ومنهجنا في صياغة أطفال اليوم ورجال المستقبل؛ فتأملنا نموذج الصحابة رضوان الله عليهم كمتربين وكمربين من بعد ذلك، كيف رباهم الحبيب المصطفى سيد المربين وإمام المصلحين، وأيضًا كيف ربوا هم أبناءهم من بعد ذلك، ولقد اخترنا هذا النموذج دون غيره لعدة اعتبارات:
1.أن الصحابة رضوان الله عليهم هم خير القرون بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)[رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، (3651)].
2.أن نموذج الصحابة رضوان الله عليهم هو الأقرب إلى واقعنا عن غيره من النماذج؛ فنحن الآن في زمن الغربة الثانية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال في حديثه: (بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء)[رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا وأنه يأرز بين المسجدين، (389)].، ولن تنقشع الغربة الثانية إلا بما انقشعت وزالت به الغربة الأولى.
3.أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مع خير مربٍّ وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أدَّب أصحابه فأحسن تأديبهم، كيف لا، وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وجعله على خلق عظيم؟! ولذلك فنحن في هذه الرسالة نحاول أن نُجسِّد نموذج الصحابة رضوان الله عليهم، كي نستطيع بإذن الله تعالى أن نحاكيه ونقلده.
4.(من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات)، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، (أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونقل دينه؛ فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم كانوا على الهدي المستقيم) [شرح السنة، البغوي، (1/214)].
5.أننا وجدنا أن في تراثنا الإسلامي المتمثل أولًا في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ثم الأجيال التالية، نظرية كاملة متكاملة وتصور واضح للتربية، فلم يسعنا إلا أن نغرف من هذا النهر أولًا قبل أن نرشف من خلاصات أساتذة التربية في الواقع المعاصر، وننهل من بعض إصدارات الغرب الذين برعوا أيضًا في مجال العلوم الإنسانية كافة، ولكنهم لم يناطحوا أبدًا الشم العوالي من أساتذة التربية في جيل الصحابة.
(وإذا كان الواقع التاريخي الإسلامي لم يشهد تكرار ذلك النموذج الرفيع بصورته تلك إلا في نماذج فردية على مدار الأجيال، بينما كانت تلك النماذج محتشدة في الجماعة الأولى احتشادًا فذًّا، جعل المؤرخين الأوائل يشيرون إلى معظمها مجرد إشارة عابرة، كأنما هي ظاهرة عامة لا تحتاج إلى إشادة ولا حديث خاص؛ فستظل هذه الجماعة على الرغم من ذلك هي النموذج الذي تتطلع إليه الأجيال، وتحاول أن تعيده في عالم الواقع، فإن أفلحت في أي جيل، أو في أي قرن؛ فهو الخير للبشرية كلها بغير نزاع، وإلا فالمحاولة في ذاتها خير؛ لأنها سترفع كل انسان إلى أقصى حدود طاقته الذاتية، فلا تظل في نفسه فضلة من خير محبوسة عن العمل، أو محجوزة عن النماء)[منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، ص(15-16)].
"لقد انتصر محمد بن عبد الله يوم صنع أصحابه عليهم رضوان الله صوراً حية من إيمانه تأكل الطعام وتمشي في الأسواق يوم صاغ من كل منهم قرآناً حياً يدب على الأرض يوم جعل من كل فرد نموذجاً مجسماً للإسلام يراه الناس فيرون الإسلام.
إن النصوص وحدها لا تصنع شيئاً وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلاً وإن المباديء وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكاً.
ومن ثم جع محمد صلى الله عليه وسلم هدفه الأول أن يصنع رجالاً لا أن يلقي المواعظ وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطاباً وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة أم الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن الكريم وكان عمل محمد صلى الله عليه وسلم أن يحول الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم العيون..
ولقد انتصر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم صاغ من فكرة الإسلام شخوصاً وحول إيمانهم بالإسلام وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفاً ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق إنما طبعها بالنور على صحائف القلوب وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل ماهو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله"[(دراسات اسلامية سيد قطب)]
أهم المراجع:
1.قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله، عبد الودود يوسف
2.نحو تربية إسلامية راشدة، محمد بن شاكر الشريف،
3.منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، ص(15-16).
4.دراسات اسلامية سيد قطب.