الراعي
04-03-2010, 05:35 PM
أبناء الجحود ....
جلست " أمي عائشة " وحيدةً في زاوية مظلمة من الحجرة الصغيرة التي تتقاسم سُكناها مع ثلاثة نساء أُخْرَيات
فعلَ فيهنّ الكِبَرُ ما فعله فيها ...فقد ترك تجاعيدَ سنواتِ الكفاح الطويلة محفورةً على وجوههنّ ..ولم ينْسَ أن يَبْصُمَ من غير رحمة على أجسادهن الهشّة بصماتِ عجزٍ جَليّة كانحناءة ظهرٍ أو رعشةِ يد أ و .........
لم تتجنّب المرأةُ العجوزُ صاحباتها عُنْوة ..ولم تنْتبد منهن تلك الزاوية المظلمة هروبا منهن أومُجافاة لأحاديثهن ...بل انها تعتبرهُنّ أُنْسَها وسَلواها ...وترى في صُحْبتهن عزاءً لوحدتها ..... كل ما في الأمر أن شريط الذكريات داهمها فجأة فاستسلمت له ذاكرتها المتعبة ليأخذها بعيدا نحو نقطة البداية يوم جاء " المختار" صحبة أهله لخطبتها فكادت الفرحة الغامرة أن تفتك بقلبهاالصغير الذي لم يسع في شبابه كل تلك المعاني الجميلة من زواج ...وأسرة ..وأبناء ..........ورغم حداثة سنها آنذاك فقد عرفت كيف تَبْذل من نفسها وجهدها لتكون في مستوى تطلعات الزوج ..التاجر .. الذي لم يكن هو الآخريدّخر من طاقته ووقته سعياً منه لتحسين ظروفهما قبل أن يطل عليهما "حسن " أول مولود يُرزقانه فيملأ حياتهما بهجة وسعادة ويعطي للأم خاصة معنًى جديدا و أحاسيس راقية طالما انتظرتها .......
ويصبح "حسن " أنشودةً جميلة يلهج بها قلب الزوجة الصغيرة سرورا واغتباطا ..وأغنية حالمةً تملأعليها البيت ألحانا وتنتزعهامن براثن الوحدة الناجمة عن سفر الزوج المستمر وراء تجارته التي بدأت تتسع شيئا فشيئا ......
ويكبر "حسن " ..وتأتي بعده "حليمة " و " ثريا " و "عمر " ...محطات دافئة أبى شريط الذكريات الا أن يأخذ "أمي عائشة " اليها لتنعم بها قليلا ...
لكنه أبى أيضا - وفي خضم ما يستعرضه على ذاكرتها المتعبة - الا أن يُريَها صورا أخرى مثقلة بالفجيعة اهْتزّ لها بَدنها واقشَعرّ منها جلدها .
كان يوم خميس أسود كما تسميه بينها وبين نفسها حين خرج الزوج باكرا ليوصل بضاعة كبيرة الى مدينة بجهة الجنوب ..وكان من عادته كلما خرج في تجارة بعيدة أن يهاتفها بين فينة أخرى ليطمئنها على أحوال الطريق ...وانتظرت مكالمته بفارغ الصبر لكنه لم يتصل ...
ولم يطل انتظارها حتى يحْتدّ قلقها أكثر .. فقد جاءها عند الظهيرة طارق من السلطات المختصة ليُرْعِد أذنيها بالنبأ الصاعقة...فسقطت مغميً عليها لتستيقظ بعد ذلك مع رحلة جديدة من التعب المُضني في طرقات الحياة تنتظرها بلا سند تعول عليه أو تلقي عليه حِملها .........
مات المختار اذن ....فدفعت بابنها البكر محله مستعينة بأعوان أبيه ليأخذوا بيده عِرْفاناً منهم لجميل الراحل ...وكذلك كان ...خطى "حسن "خطواته الأولى في عالم التجارة واظطر "عمر " فيما بعد للانضمام اليه ...وصار وقت " أمي عائشة " موزعا بين البيت وأمور التجارة لاتغفل عن هذا ولا تهمل تلك لحداثة سِنّيْ ابنيها .........
وتستمر الذاكرة في استحضار الصور ..وتستمر " أمي عائشة " في اجترارها صورة صورة ..تارة بآهة مكتومة وتارة بدمعة حارقة ...
لقد احتضنت أبناءها وتفانت في خدمتهم والنصح لهم ..ولطالما حرمت نفسها وآثرتهم ..ولكم غضّت الطرف عن مُتعها الخاصة في مقابل عدم حرمانهم ....و ...... واستفاقت في نهاية المطاف على واقع لم تحسب له حسابا بعد أن اسْتلّ الزمنُ من عمرها ..وصَيّرَها زهرةً ذاويةً بعد أن كانت تفوحُ عِطرا وأَريجا ......
لقد كبُرَ الأولاد ..وكبرت معهم أحلامهم ورغباتهم الجامِحة في الاستقلال كلٌّّ بمستقبله خاصة بعد أن تزوجواوصار لزوجات الأبناءوأزواج البنات دخْلٌ في العائلة الصغيرة التي كان أكثر ما يميزها تماسُكُ أفرادِها .....
- " أريد نصيبي في ارث أبي "
- " أحتاج لأن أستقل بحياتي "
- " أنا لا أفهم في التجارة ....وكذلك أنا "
عبارات ما تزال ترن في أذن المرأة العجوز ..حاولت أن تُثني أبناءها عن مقاصدهم ليظل البيت الذي أفنتْ فيه عمرها شامخا شاهداً على حلمها وذكرياتها ...عبثا حاولت ..لقد كان الأمر عكس ماارتجته ..ووزع الاخوة ارث أبيهم عن آخره حتى أتوا على البيت فباعوه لتجد" أمي عائشة " نفسها موزعة بين بيتيْ ابنيها " حسن وعمر " تقضي أياما هنا وأخرى هناك ....أما "حليمة وثريا " فلم تكن ظروفهما تسمح لهما باقامتها معهما ......
كان هذا التحول مُزلْزِلاً في حياة " أمي عائشة " فبعد أن كانت سيدةً تُديرُ شؤون مملكتها الصغيرة كيفما تشاء .. تحولت الى مجرد ضيفة غير مرغوب فيها من لدن زوجتين تُكنان لها كراهية لا محدودة وترَيانِ فيها حِمْلاً ثقيلاً يسْتوجبُ الخلاصَ منه ..
قضت المسكينة أياما طويلة شاقة من أشقى أيام حياتها وهي تتنقّل بين بيتي ابنيها وكأنها تتنقل بين نارين رأت فيها من القهر و الاذلال ما لم يَدُر في خلدها ان القدر يُخبئُه لها ....ولم تشفع لها أمُومَتها لـ "حسن وعمر " في صَدّ كَيْد الزوجتين ..بل الأدهى والأمَرّ أنّ ابنيها انْضمّا تحت تأثير الوشاية الكاذبة الى صفّ زوجتيهما فصارت " أمي عائشة " تلقى النفور من كل جانب ...
وكان لابد في نظرهم من حل يُريحهم من امرأة لم تعُدْ تعني لهم شيئاً ...فكّروا وفكّروا ...ثم قرّروا بما أمْلاه ُُعليهم
جحودُهم فكانت "دار العجزة " هي الحل ....
انتفضت " أمي عائشة " في مكانها وقطعت حبل ذكرياتها من هَوْل ما آل اليه مصيرُها ...وانتبهت العجائز اللائي تُقاسِمْنها الغرفة ...أوقدت احداهُن المصباح لرؤية ما تفعله صاحبتهن التي انزوت بركن مظلم من الحجرة الصغيرة ..فاذا بـ "أمي عائشة "قد أغرقت وجهها في كفيها لتخفي دموع الحرقة والحسرة ........
قلم / الراعي
جلست " أمي عائشة " وحيدةً في زاوية مظلمة من الحجرة الصغيرة التي تتقاسم سُكناها مع ثلاثة نساء أُخْرَيات
فعلَ فيهنّ الكِبَرُ ما فعله فيها ...فقد ترك تجاعيدَ سنواتِ الكفاح الطويلة محفورةً على وجوههنّ ..ولم ينْسَ أن يَبْصُمَ من غير رحمة على أجسادهن الهشّة بصماتِ عجزٍ جَليّة كانحناءة ظهرٍ أو رعشةِ يد أ و .........
لم تتجنّب المرأةُ العجوزُ صاحباتها عُنْوة ..ولم تنْتبد منهن تلك الزاوية المظلمة هروبا منهن أومُجافاة لأحاديثهن ...بل انها تعتبرهُنّ أُنْسَها وسَلواها ...وترى في صُحْبتهن عزاءً لوحدتها ..... كل ما في الأمر أن شريط الذكريات داهمها فجأة فاستسلمت له ذاكرتها المتعبة ليأخذها بعيدا نحو نقطة البداية يوم جاء " المختار" صحبة أهله لخطبتها فكادت الفرحة الغامرة أن تفتك بقلبهاالصغير الذي لم يسع في شبابه كل تلك المعاني الجميلة من زواج ...وأسرة ..وأبناء ..........ورغم حداثة سنها آنذاك فقد عرفت كيف تَبْذل من نفسها وجهدها لتكون في مستوى تطلعات الزوج ..التاجر .. الذي لم يكن هو الآخريدّخر من طاقته ووقته سعياً منه لتحسين ظروفهما قبل أن يطل عليهما "حسن " أول مولود يُرزقانه فيملأ حياتهما بهجة وسعادة ويعطي للأم خاصة معنًى جديدا و أحاسيس راقية طالما انتظرتها .......
ويصبح "حسن " أنشودةً جميلة يلهج بها قلب الزوجة الصغيرة سرورا واغتباطا ..وأغنية حالمةً تملأعليها البيت ألحانا وتنتزعهامن براثن الوحدة الناجمة عن سفر الزوج المستمر وراء تجارته التي بدأت تتسع شيئا فشيئا ......
ويكبر "حسن " ..وتأتي بعده "حليمة " و " ثريا " و "عمر " ...محطات دافئة أبى شريط الذكريات الا أن يأخذ "أمي عائشة " اليها لتنعم بها قليلا ...
لكنه أبى أيضا - وفي خضم ما يستعرضه على ذاكرتها المتعبة - الا أن يُريَها صورا أخرى مثقلة بالفجيعة اهْتزّ لها بَدنها واقشَعرّ منها جلدها .
كان يوم خميس أسود كما تسميه بينها وبين نفسها حين خرج الزوج باكرا ليوصل بضاعة كبيرة الى مدينة بجهة الجنوب ..وكان من عادته كلما خرج في تجارة بعيدة أن يهاتفها بين فينة أخرى ليطمئنها على أحوال الطريق ...وانتظرت مكالمته بفارغ الصبر لكنه لم يتصل ...
ولم يطل انتظارها حتى يحْتدّ قلقها أكثر .. فقد جاءها عند الظهيرة طارق من السلطات المختصة ليُرْعِد أذنيها بالنبأ الصاعقة...فسقطت مغميً عليها لتستيقظ بعد ذلك مع رحلة جديدة من التعب المُضني في طرقات الحياة تنتظرها بلا سند تعول عليه أو تلقي عليه حِملها .........
مات المختار اذن ....فدفعت بابنها البكر محله مستعينة بأعوان أبيه ليأخذوا بيده عِرْفاناً منهم لجميل الراحل ...وكذلك كان ...خطى "حسن "خطواته الأولى في عالم التجارة واظطر "عمر " فيما بعد للانضمام اليه ...وصار وقت " أمي عائشة " موزعا بين البيت وأمور التجارة لاتغفل عن هذا ولا تهمل تلك لحداثة سِنّيْ ابنيها .........
وتستمر الذاكرة في استحضار الصور ..وتستمر " أمي عائشة " في اجترارها صورة صورة ..تارة بآهة مكتومة وتارة بدمعة حارقة ...
لقد احتضنت أبناءها وتفانت في خدمتهم والنصح لهم ..ولطالما حرمت نفسها وآثرتهم ..ولكم غضّت الطرف عن مُتعها الخاصة في مقابل عدم حرمانهم ....و ...... واستفاقت في نهاية المطاف على واقع لم تحسب له حسابا بعد أن اسْتلّ الزمنُ من عمرها ..وصَيّرَها زهرةً ذاويةً بعد أن كانت تفوحُ عِطرا وأَريجا ......
لقد كبُرَ الأولاد ..وكبرت معهم أحلامهم ورغباتهم الجامِحة في الاستقلال كلٌّّ بمستقبله خاصة بعد أن تزوجواوصار لزوجات الأبناءوأزواج البنات دخْلٌ في العائلة الصغيرة التي كان أكثر ما يميزها تماسُكُ أفرادِها .....
- " أريد نصيبي في ارث أبي "
- " أحتاج لأن أستقل بحياتي "
- " أنا لا أفهم في التجارة ....وكذلك أنا "
عبارات ما تزال ترن في أذن المرأة العجوز ..حاولت أن تُثني أبناءها عن مقاصدهم ليظل البيت الذي أفنتْ فيه عمرها شامخا شاهداً على حلمها وذكرياتها ...عبثا حاولت ..لقد كان الأمر عكس ماارتجته ..ووزع الاخوة ارث أبيهم عن آخره حتى أتوا على البيت فباعوه لتجد" أمي عائشة " نفسها موزعة بين بيتيْ ابنيها " حسن وعمر " تقضي أياما هنا وأخرى هناك ....أما "حليمة وثريا " فلم تكن ظروفهما تسمح لهما باقامتها معهما ......
كان هذا التحول مُزلْزِلاً في حياة " أمي عائشة " فبعد أن كانت سيدةً تُديرُ شؤون مملكتها الصغيرة كيفما تشاء .. تحولت الى مجرد ضيفة غير مرغوب فيها من لدن زوجتين تُكنان لها كراهية لا محدودة وترَيانِ فيها حِمْلاً ثقيلاً يسْتوجبُ الخلاصَ منه ..
قضت المسكينة أياما طويلة شاقة من أشقى أيام حياتها وهي تتنقّل بين بيتي ابنيها وكأنها تتنقل بين نارين رأت فيها من القهر و الاذلال ما لم يَدُر في خلدها ان القدر يُخبئُه لها ....ولم تشفع لها أمُومَتها لـ "حسن وعمر " في صَدّ كَيْد الزوجتين ..بل الأدهى والأمَرّ أنّ ابنيها انْضمّا تحت تأثير الوشاية الكاذبة الى صفّ زوجتيهما فصارت " أمي عائشة " تلقى النفور من كل جانب ...
وكان لابد في نظرهم من حل يُريحهم من امرأة لم تعُدْ تعني لهم شيئاً ...فكّروا وفكّروا ...ثم قرّروا بما أمْلاه ُُعليهم
جحودُهم فكانت "دار العجزة " هي الحل ....
انتفضت " أمي عائشة " في مكانها وقطعت حبل ذكرياتها من هَوْل ما آل اليه مصيرُها ...وانتبهت العجائز اللائي تُقاسِمْنها الغرفة ...أوقدت احداهُن المصباح لرؤية ما تفعله صاحبتهن التي انزوت بركن مظلم من الحجرة الصغيرة ..فاذا بـ "أمي عائشة "قد أغرقت وجهها في كفيها لتخفي دموع الحرقة والحسرة ........
قلم / الراعي