جروح بارده
15-05-2010, 06:01 AM
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [ سورة الأحزاب: 59 ].
أختاه يا ذات الحجـاب تحيـة كم في عفافـك أنت رائعـة جميلـة
ياوردةً في الكون فاح عبيرهـا وشريعـة الإسلام دوحتهـا الظليلـة
تيهي على الدنيا فخاراً واسحبي ثوب الإباء وجرجري تيهـاً ذيـوله
كم أمة بنسائهـا فـوق الذرى كـم أمـة بنسائهــا ركعت ذليلـة
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
قال الله عز وجل وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ... سورة النور آية 31
وقال عز وجل يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا سورة الأحزاب آية : 59
لقد كانت فريضة الحجاب فريضة محكمة أراد الله عز وجل من خلالها أن يحفظ للمرأة كرامتها من الامتهان ، وعرضها من الابتذال ، وذلك بسترها لجسدها ومفاتنها ، حتى تتمكن من القيام برسالتها الإنسانية إلى جانب الرجل وتكف طرفه عنها لكي لا يطمع في شرفها من كان في قلبه مرض فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا سورة الأحزاب آية : 32
إن الآيات الكريمة السابقة نسيج واحد يحتوي على مجموعة من الوصايا التي تكرم المرأة ، وتهيئها لحمل رسالتها كإنسان مكمل لنصفها الآخر : الرجل .
- فلتغضض من بصرها كما أُمر الرجل .
- ولتحفظ فرجها مثلها مثل الرجل .
ثم تتميز المرأة تبعاً لتكوينها الذي خلقها الله عز وجل فيه ووظيفتها التي أناطها الله عز وجل بها ببعض الأوامر والوصايا :
- فلا تبدي زينتها إلا لمن سمّاهم الخالق عز وجل .
- وتضرب بخمارها على رأسها وعنقها وصدرها .
- وتحرص على أن حالها مبني على الستر دائماً فتدني على جسدها جلباب اللباس والقماش وعلى نفسها وكرامتها جلباب الحياء والفضيلة .
- وتجدّ في لهجتها وحديثها ، وتخفض من صوتها وضحكها ، وتختار الكلمة المناسبة مع المقام المناسب بحسب الحال والمآل حتى لا يطمع بها مرضى القلوب .
وحين تتحقق المرأة بهذه الوصايا فلا عليها أن تكون عنصراً فاعلاً في الحضارة إلى جانب الرجل تشاركه في محافل العلم والعمل والجهاد والتربية والدعوة ولم يمنعها حجابها من كل ذلك ولم يعق حركتها ولم يعرقل مسيرتها .
المطلب الأول - العلمانية والحجاب :
لم تنظر العلمانية إلى قضية الحجاب على أنها قضية شخصية يسري عليها الحق الفردي في الاختيار والإرادة، وذلك لأنها مسألة ذات أبعاد دينية، بل أقول لأنها ذات أبعاد إسلامية بالدرجة الأولى ، وهكذا فإن الغرب باعتباره هو الذي يسوق قطار الحضارة اليوم وقف موقفاً سلبياً من الحجاب لأنه أصبح رمزاً لأعتى عدوٍّ صنعه الغرب لنفسه وهو الإسلام. فتحولت مسألة الحجاب إلى مسألة سياسية خاضعة لرهانات القوة والتفوق .
ومضى جيل التلاميذ المدللين يردد المقولات الغربية بشأن الحجاب ، ويَعدُّ كل باحثٍ يُسهم في نزع الحجاب باحثاً تنويرياً تُكال له المدائح ، وتُعقَد له الندوات ( ) ،حتى ولو تميز هذا الباحث بشيءٍ من الإنصاف والرزانة فإن الأنشطة العلمانية كفيلة بتحويله إلى رمز للتنوير والحداثة حتى ولو لم يرغب هو بذلك ، وأقصد هنا قاسم أمين كمثال فلم أجـد في كتبه الثـلاثة المشهـورة " المصريون " وتحرير المرأة " و " المرأة الجديدة " ما يدعو المرأة إلى الانسلاخ من تعاليم الشريعة أو اعتبار أحكام الشريعة الخاصة بها أحكاماً تاريخية ، كل ما دعا إليه أن تنزع المرأة عن وجهها النقاب ، ولم يطلب أكثر من ذلك ، لأن النقاب بنظره يسبب للمرأة حرجاً وعائقاً في حياتها العملية ( ).
ولكن هذا لا يعني أننا ننفي ما في مؤلفيه الأخيرين " تحرير المرأة " و " المرأة الجديدة " من نزعة بارزة إلى التغرب والتأورب ( ) ، والاختلاط بين الجنسين ، ولكن الرجل ظل يؤكد على مرجعيته الإسلامية والقرآنية ، وظل يؤكد على أن الحجاب الذي يطالب برفعه هو غطاء الوجه فقط ( ) ، وأن الاختلاط الذي يريده هو في حدود ما تسمح به الشريعة ( ) ، وذلك انطلاقاً من مبدأ يؤمن به وهو أن التربية ممارسة عملية حياتية قبل أن تكون ممارسة علمية كتبية ( ) . وأن الدين أساس التربية ( ) . ولكن الطابور العلماني في بلادنا استطاع أن يحوّل قاسم أمين إلى رمز لتحلل المرأة من الشريعة عبر تاريخ طويل من التزوير والتحوير ، وبظني لو كان الرجل حيّاً لتبرأ من كل هذه الإلصاقات العلمانية .
وتتخذ الهجمة على الحجاب طرائق مختلفة، فمرة بطريقة ساذجة كما تحدث عبد العزيز الثعالبي 1874 – 1944م حين قصر الآيات التي تتحدث عن الحجاب على نساء النبي ( )، واعتبر ستر الوجه عادة فارسية تسربت إلى المجتمع الإسلامي ( ) وهو في هذا القول يردد المقولات الشائعة عند الغربيين عن الحجاب الإسلامي( ) . وأن نزع الحجاب ما هو إلا إعادة للمجتمع إلى المجتمع المتحضر الذي كان في عهد النبي والذي هو مثيل للمجتمع الأوربي المعاصر ( ) . ومرة ثانيةً بطريقة فاشية استفزازية تتجاوز حدود اللياقة والأدب كما تحدث الطاهر الحداد عندما يقول : "" ما أشبه ما تضع المرأة من النقاب على وجهها منعاً للفجور بما يوضع من الكمامة على فم الكلاب كي لا تعض المارين ، وما أقبح ما نوحي به إلى قلب الفتاة وضميرها إذ نعلن اتهامها وعدم الثقة إلا في الحواجز المادية التي نقيمها عليها ""( ) .
ويضيف : "" كلما فكرت في أمر الحجاب لا أرى فيه إلا أنه أنانيتنا المحجبة بالشعور الديني كحصن نعتز به على المخالفين "" ( ) .
وهكذا حتى نبدو كمتحضرين يجب علينا أن نُعرض عن كتاب ربنا وآياته البينات ، ونصوصه المحكمات ، ونقوم بتحريف المعاني ، وقلب الحقائق ، فنجعل من الحجاب تخلفاً وأنانية ، وتشكيكاً وعنصرية ، ونتجاهل الأوامر الربانية ، والوصايا النبوية، كل ذلك من أجل أن يرضى عنا الغرب ، ونحظى لديه بالقبول، فقد أصبح المجتمع الأوربي المعاصر هو المثل الأعلى الذي علينا أن نترسم خطاه !.
وقد أدرك الغرب أن حجاب المرأة المسلمة – المسلمة فقط - رمز للتحدي يشكل خطراً على إيديولوجيته العلمانية ولذلك قرر منع الحجاب . فشعاراته البراقة ، وشعارات الثورة العلمانية كلها ركلت بالأقدام في سبيل منع الحجاب وبدا للناس جميعاً حقيقة طالما خفيت عليهم وهي أن شعارات الحرية والديمقراطية إنما هي مجرد أوهام وأحلام خدعوا بها .
سألت أستاذاً علمانياً ينسب نفسه إلى الفلسفة لماذا منعت الدولةُ التي ترفع لواء العلمانية المرأةَ المسلمة من حجابها ؟! فقال لي : - ولعله يسترضيني – هذا في الحقيقة شرخ كبير في العلمانية كان عليها أن لا تقع فيه، ولكن العلمانية تصحح أخطاءها ومساراتها دائماً. فقلت : إن هذا الشرخ ليس في المظهر ، ولا في كونه مجرد نزوة عابرة ، أو خطأ في الممارسة وإنما هو نتاج للخلل في الأساس العلماني ، وهو شرخ في القاعدة الفلسفية التي تقف عليها ظاهرة العلمانية .
لقد صدع العلمانيون رؤوسنا في التنكيل بالأنظمة المستبدة ، والتغني بالحرية والمساواة والديمقراطية ونحن معهم في ذلك . كما تحدثوا عن الفاروق عمر على أنه " المستبد العادل " أي أنه الخليفة الذي يمتلك كل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وهو بنظرهم اتجاه لم يعد صالحاً لهذا العصر ، والبديل له بنظرهم دولة المؤسسات العلمانية التي لا سلطان لأحد عليها إلا للعدالة .
والسؤال الآن : إذن لماذا ضاق الغرب ذرعاً بحجاب المرأة المسلمة فكشر عن أنيابه وأصدر قراراً بمنعه ؟ كيف استطاع أن يفعل ذلك ما دامت المؤسسات العلمانية القانونية هي التي تحكم ولا سلطان لأحد عليها ؟
أليس هذا القرار من أحط ألوان الاستبداد ، ولا يمكن تصنيفه إلا في مخلفات القرون الوسطى المظلمة ؟! .
لم تنج إذن العلمانية من الاستبداد ، والاستبداد الظالم ، فإذا كان لا مناص من الاستبداد إذن فأن يكون استبداداً عادلاً خيرٌ لنا ، فعادت الحاجة ماسة إلى مثل الفاروق عمر رضي الله عنه .
الإشكالية هنا : أن الإنسان هو الذي يحكم ، وهو الذي يسيّر المؤسسات وهو الذي يسن القوانين ، وهو الذي يفسرها ويؤولها وهو الذي ينفذها ، فما أسهل عليه أن يوظف ذلك كله لخدمة مصالحه ومنافعه ، وخصوصاً في هذا العصر الذي يلعب الإعلام والدعاية دوراً بارزاً في غسل الأدمغة ، وترويج الأفكار ، وتغليب بعضها على بعض بحسب الحال والظرف والمصلحة .
ومن هنا فالشعارات العلمانية الرائجة اليوم مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي شعارات ظرفية تخدم الإنسان الأقوى – الإنسان الأبيض – وتوظف الآخرين لخدمته وفي الوقت الذي تصبح خطراً عليه تداس بالأقدام وتُركل بالنعال، وظاهرة الحجاب مثال على ذلك.
ولذا فالقول إن العلمانية وقعت في خطأ – مجرد خطأ – حين منعت المرأة المسلمة من حجابها هو محاولة للخروج من عنق الزجاجة ، لأن الممارسة العلمانية محكومة بشيئين هما :
- الإنسان وطغيانه الممكن، بل الغالب .
- النفعية البراجماتية ، والأثرة الظاهرة في السلوك الإنساني أفراداً ودولاً وجماعات . وفي هذه الحالة فالقضية ليست مجرد خطأ وإنما انهيار في البنيان العلماني من أساسه.
العلمانية لها قيمها المعلنة ، والأديان كذلك ، وإذا كانت الأديان تعد من يخرج عن عقائدها كافراً ، فإن العلمانية كذلك تحكم عليه بالنفي والإقصاء أو التخلف والرجعية أو الإرهاب ، فالعلمانية في هذه الحالة تتحول إلى دين علماني له قيمه وأصوله ورجاله بل وطقوسه أيضاً . والقول بأن العلمانية لا تنظر إلى نفسها على أنها مقدس يحرم المساس به ولذلك فهي تجدد نفسها وتصحح أخطاءها دائماً عبر صيرورة مستمرة كلام جميل ومعسول، ولكن الدين كذلك يقول ، فالإسلام يجدد نفسه دائماً " إن الله يبعث لأمتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها " .
فالعلمانية إذن دين متجدد ، والإسلام أيضاً كذلك والفارق هو أن الإسلام له ثوابته التي لا تُمس بينما العلمانية تدعي أنها متلونة ولا ثوابت لها إلا الواقع بتغيراته وأنماطه المختلفة .
ولكن الإسلام لا يرغم الآخرين على أن يمارسوا شعائره فهم أحرار في دار الإسلام في ممارسة شعائرهم والإسلام يحميهم ، بينما العلمانية في دارها ترغم المسلمة على ممارسة الطقوس العلمانية في السفور والانحلال .
المطلب الثاني - الحجاب والتحدي الحضاري :
مرة أخرى : لماذا تضطهد العلمانية المرأة المسلمة المحجبة ؟
إن الغرب لا يرى في الحجاب الإسلامي مجرد قطعة قماش تستر شعر المرأة أو رأسها أو وجهها وإنما يرى في الحجاب اختزالاً للحضارة الإسلامية تغزوه في عقر داره .
إن الحجاب يعني في المنظور الغربي أن الإسلام كله بقرآنه ومحمده وكعبته يتجسد في قطعة القماش هذه ، وفي هذه المرأة المحجبة التي تخطر في شوارع باريس أو لندن . وإن هذه الصورة تمثل بالنسبة له أخطر ألوان التحدي ، إنها تذكره بطارق بن زياد وموسى بن نصير وعبد الرحمن الغافقي على تخوم باريس . كما يرى الغرب في المرأة المحجبة وهي تتبختر في شوارع باريس أو غيرها كأنها ترفع راية الإسلام وتدوس قيم الغرب ، وتتحدى شعاراته البراقة ، وتهزأ بحضارته المبهرجة ، وتترفع عن مدنيته الزائفة ، إنها تتشبث بأصالتها في وسط المعمعة ، وتلتف حول دينها وعفتها وشرفها في وسط تيار جارف من الإغراء واللذة . إن منظرها مثير جداً فهو يشبه منظر الجندي المستميت في وسط المعركة حين يرفع اللواء والرماح تنوشه من كل مكان فيظل ممسكاً به حتى تتقاسمه شفرات السيوف وأسنة الرماح . ....
إن الغرب لا يرى في المرأة المحجبة مرأة بل يرى الإسلام يتحداه في عقر داره ، وقد حاول جاهداً أن يصمت لسنوات محافظاً على قيمه في الحرية ، ولكن ضغط الحجاب ودلالاته التاريخية والحضارية، وإيحاءاته الاستفزازية لمظاهر التعري ، جعل صبره ينفد فانتهك القيمة الأساسية التي يقف عليها وهي قيمة الحرية وذلك ليوقف هذا المد الإسلامي الخطير .
أجل إن الحجاب الإسلامي – الإسلامي فقط – ليس مجرد تحد فقط بل هو غزو وبشارة في ذات الوقت ، فالمرأة الغربية اليوم تعيش في أحلك أيامها ، وأسوأ لحظاتها يقول بيير داكو "" لم يسبق للمرأة أن كانت مسحوقة ومنهارة وخامدة مثلما هي عليه الآن ، ويمثل عصرنا أكثر العمليات دناءة في تاريخ المرأة ، فالمظاهر خداعة ، ذلك أن الفخ مموه على نحو يثير الإعجاب "" ( ) "" إن الفخ قام بعمله على نحو ممتاز ... فالسمكة كانت جائعة ، وكان يكفي إلقاء الصنارة في الماء حتى تنخدع بها "" ( ) إن بيير داكو يلخص لنا حالة المرأة في الغرب بعبارة مختصرة ، إنها حالة مأساوية مريرة . وقد بدأت المرأة تشعر بذلك ، وبدأت تتململ من الضياع والعبثية التي خُدعت بها، حين حولتها الإمبريالية إلى جسد سلعي خاضع للتداول وسوق العرض والطلب ، فتحول الجسد الأنثوي عبر نشاطه الجنسي إلى سلعة "" ضمن شبكة كبيرة ذات صيت عالمي ، شبكة تمثلها شركات عابرة للقارات فوق قومية متعددة الجنسيات ، وفّرت عروض أزياء لتظهر مفاتن الجسد ... ودعايات مصورة بألوان جذابة .. مجلات وجرائد تعرض مشاهد مختلفة تأسر الحواس ... وأفلام سينمائية وأشرطة فيديو ، إنها إمبريالية الفيلم الجنسي " ( ) فأصبحت المرأة أولاً وأخيراً جسداً تتفنن الثقافة الاستهلاكية في عرضه والمتاجرة به ( )، لحساب الرجل، وانخرطت في لعبة كانت هي الخاسرة فيها، لأنها باعت أنوثتها دون مقابل، وكانت النتيجة : اليأس والإحباط ومتاهة الشعور بالدونية( )، ولذا فالمرأة الغربية ترى أن صورة المرأة المسلمة المحجبة صورة مثالية تتمنى لو يتاح لها أن تعيشها ( ). ولكنها ليست مهيأة لذلك فهي مكبلة بقيود ثقيلة، إنه إرث العلمانية المديد : تفكك أسري وضياع اجتماعي وأخلاقي، وعدمية فلسفية ، وفردانية موحشة.
ومن هنا فالمرأة المسلمة في الغرب تؤدي بحجابها دور الداعية الصامتة ، إنها ترفع شعار "" العالَم المتميز "" أو "" الكيان المستقل "" أو " الحمى المسيّج " ، في مقابل " الكلأ المباح " الذي تمثله المرأة الغربية ، فهي كيان مستقل عن عالم الرجال وعالم أنثوي متميز عن عالم الذكورة .
إن المرأة المسلمة بحجابها تحتكر أنوثتها وتمتلكها ولا تبددها في عالم الرجال ، إنها تنطوي في داخلها على سرٍ يجب أن يظل مطمحاً لعالم الرجولة تهفو إليه الرجولة فلا تنال منه إلا بقدر ما يتحقق من سعادة وكرامة إنسانية مشتركة .
إن في المرأة جانبان : جانب عملي إنساني مشترك بينها وبين الرجل وهو دورها في الحياة والبناء والإعمار والمشاركة والعمل والعلم والإبداع .
وجانب آخر هو أنثوي غريزي تميزت به المرأة عن الرجل ، وزودها الصانع عز وجل بمكونات الأنوثة فهي أم حنون وزوج رؤوم ، وأنثى لعوب . والإسلام لا يريد لأيٍ من الجانبين أن يطغى على الآخر ، فلا يريد المرأة المترجلة التي تكبت أنوثتها وتتحول إلى كائن قاس عنيف جلف .
ولا يريد المرأة الجاهلة العابثة التي تُحوّل نفسها إلى أداة للمتعة واللذة والإنجاب فقط ( ).
إن ما يصلح المجتمع هو المرأة التي يتكامل فيها الجانب العملي مع الجانب الأنثوي أو الجانب الوظيفي الحياتي مع الجانب الغريزي . وإن المرأة حين تقف إلى جانب الرجل في المعمل أو المخبر أو الوظيفة فهي تزاحمه بإنسانيتها وكفاءتها وليس بأنوثتها ، وأنوثتها تظل ورقة مخفية مدخرة لا تمنحها للرجال إلا في الإطار المشروع، إطار البناء المشترك والمساواة والندية .
بينما المرأة السافرة الفاتنة ترمي بلحمها وشحمها أمام الكلاب الجائعة ، والذئاب الغادرة ، والثعالب الماكرة ، وهي بسفورها ومفاتنها تدفع بكفاءتها وإنسانيتها وفاعليتها إلى الوراء وتدفنها في الأعماق ، وذلك لأن صوت الغريزة واللذة أقوى من صوت العقل – غالباً – وأقوى من صوت الحرية والتحضر والضمير والأخلاق ، هذه الشعارات الجوفاء التي تنادي بها العلمانية .
والآن بعد فوات الأوان أدركت المرأة الغربية أنها خُدعت في أعظم عملية نصب واحتيال في التاريخ إنها مهزلة "" حرية المرأة "" ولذلك فهي تغبط المرأة المسلمة على حجابها وعفافها وترى أن هذا هو رأس المال الثمين الذي فرطت به حين خدعوها فأوهموها أنه قيود وتخلف ، ولكنها حين فعلت ذلك خسرت كل شيء ، ولأن المرأة فُطرت على الرحمة والشفقة فإن المرأة الغربية لا تريد لأختها الشرقية أن تنحط في المرتكس نفسه ، وتقع في الفخ ذاته ( ).
إن أهم ما يعنيه الحجاب بالنسبة للمرأة هو إبراز فرديتها الإنسانية ، وتكنيز شخصيتها الأنثوية لتكون قادرة على مشاركة الرجل في الفعل الحضاري دون أن تخضع لابتزازه أو انتهازيته، ذلك لأن الجانب العملي والعقلي والإنساني والحياتي في كلا الطرفين متساوٍ ويبقى الرجل متفوقاً برجولته الظاهرة البارزة، لأن الرجولة يناسبها الظهور والبروز فكيف تقابل المرأة الرجولة لتكون نداً للرجل ؟ ظنت المرأة أو قيل لها إن عليها أن تقابل رجولته البارزة بأنوثتها المكشوفة ومفاتنها المعروضة فصدقت ذلك ، وأخطأت لأن الأنوثة سلاح لا يناسبه الظهور والانكشاف بل ذلك يثلمه ويفقده قوته وأهميته، وكان من الواجب مواجهة الرجولة المكشوفة بالأنثوية المخفية والمفاتن المحجوبة فذلك لون من الدلال والتمنع يزيد المرأة قوة وحيوية وتأثيراً في الرجل .
إن سلاحها ليس كسلاح الرجل فسلاح الرجل لا يضيره الظهور والانكشاف بل يكون أمضى كلما كان كذلك ، بينما سلاح المرأة يكون أمضى كلما كان أخفى ، ألا ترى إلى الرجل يرى المرأة المحجبة التي تغطي وجهها فيتوق إلى رؤية عينيها ، وإذا رأى امرأة تظهر عينيها يتوق إلى رؤية وجنتيها ، وإذا رأى وجنتيها يتوق إلى رؤية فمها وشفتيها ، وهكذا ... بينما المرأة السافرة لا يتوق الرجل منها إلا إلى اللذة والمتعة لأنها مملة ومبتذلة، فهي بنظره رخيصة . حتى الرجل المنحرف الفاسق إذا ما أراد أن يقترن بامرأة اقتراناً مشروعاً ويتخذ منها شريكة لحياته، فإنه يبحث عن المرأة الشريفة العفيفة التي تحفظ نفسها وتعتز بشخصيتها ، وتصون كرامتها ( ) .
ألا ترى النفس تتوق إلى الفاكهة المغلفة النظيفة بينما تعاف الفاكهة المكشوفة للذباب والحشرات ، وهكذا فالمرأة طبقاً للمنظور الإسلامي أشبه بالجوهرة النفيسة التي تصان عن الأعين الزائغة والأيدي العابثة لتبقى ثمينة ناضرة جميلة :
قل لمن بعد حجاب سفرت أبهذا يأمر الغيدَ الشرف
إنمـا المـرأة درة وهـل يُصان الدر إلا بالصدف
إن في الحجاب جانباً من الإغراء أيضاً ولكنه الإغراء الإيجابي النافع الذي يحفظ للكيان الإنساني وجوده ونوعه وعفته ، فالمرأة المحجبة حين تحجب نفسها عن زوجها أثناء الخروج من المنزل وتستر مفاتنها عنه تغريه وتشوقه إليها ، ويشعر بتجدد في علاقته العاطفية معها حين تدخل معه المنزل مرة أخرة بحجابها ثم تخلعه أمامه وله فقط ! ، بينما تلك السافرة المتبرجة فلا يوجد لديها ما تخفيه عن زوجها بل عن الناس إلا القليل ، فجسدها مكشوف ، ومفاتنها معروضة للغادين والرائحين ، ولذلك فبضاعتها كاسدة ، ألا ترى أن احتكار السلع يزيد في ثمنها ، ويعزز من قيمتها ، فكذلكم المرأة التي تحتكر جمالها وأنوثتها ومفاتنها .
إن هناك مشكلة يعاني منها الغرب بسبب العري والسفور والخلاعة فحيثما اتجه الإنسان يجد أمامه نساءً كاسيات عاريات مائلات مميلات ، وهذا فجّر لديه الغريزة الجنسية، ولم يتمكن من كبحها لأنها ثارت فهاجت فانفجرت، "" فكان خطر القنبلة الجنسية أشد هولاً من خطر القنبلة الذرية "" ( ) فحيثما اتجه الإنسان اليوم في دوامة العولمة يتعرض " للقصف الجنسي " ( ) في الإعلانات والمجلات والأفلام ، والآن دخل " الغزو الجنسي " إلى البيوت عبر المحطات الفضائية ، ومع طول العهد والاعتياد للمناظر الفاتنة المغرية الفاضحة ، ومع طول الانغماس في الإباحية والشهوات تحول الأمر إلى مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان – فبالإضافة إلى الأمراض الجنسية الكثيرة التي انتشرت نتيجة للعري والسفور ظهرت مشكلة البرود الجنسي، فلم يعد الرجل يميل إلى المرأة لأنها أنثى تثيره بضحكها أو بمشيها أو بقوامها أو بأنوثتها ، ولم يعد يثيره فيها إلا الترميز الجنسي بكافة أشكاله وممارساته، ولذلك أخذ الإنسان الغربي يتفنن في اختراع المثيرات والمرغبات الجنسية المقززة، والتي تعافها الفطرة السليمة . وحين يقضي كل منهما وطره من الآخر يشعر بتفاهة اللذة ، وانعدام المعنى ، وعدمية الوجود، إذ أقصى ما يطمحان إليه قد بلغاه فإذا هو جدارٌ صلبٌ تصطدم به السعادة . وهنا نلاحظ منفعة الحجاب إذ هو يكشف لنا أن وراء اللذة بعداً روحياً نسمو إليه يخترق ذلك الجدار الصلب، وهو من حيث لا نشعر يحقق توازناً بين الشهوة والحب أو قل بين اللذة والمسؤولية ، أو قل بين الرسالة والمتعة .
إن المجتمع الذي تحتجب نساءه مجتمع لا يعاني مطلقاً من الأمراض الجنسية ، ولا يعاني رجاله مطلقاً من البرود الجنسي ، لأن المرأة المحجبة تحفظ لزوجها طاقته الجنسية وتعينه على تجديدها بشكل مستمر في لحظات انحجابها وانكشافها أمامه . "" قال لي أحدهم : إنه يشعر بتجدد في علاقته مع زوجته كلما ارتدت حجابها وخرجت معه في نزهة أو زيارة ، وإنه يشعر كأنه يراها لأول مرة حين يعودان إلى البيت فتخلع لباسها أمامه "" .
المطلب الثالث – لماذا شُرع الحجاب ؟ :
إذا كان بعض الغربيين يرى أن الحجاب رمز لاضطهاد الأنثى( ) فإن البعض الآخر يرى أن الحجاب كان رمزاً للسلطة والنفوذ في الإسلام، وليس علامة لاضطهاد ذكوري، لأن النساء اللواتي ارتدينه لأول مرة كن غيورات من المركزية التي تبوأتها نساء النبي صلى الله عليه وسلم فأردن أن يقتدين بهن في ذلك ، حتى زوجات الصليبيين أخذن يلبسن الحجاب آملات أن يجدن معاملة أفضل بعد أن رأين الاحترام الذي حظيت به النساء المسلمات ، وكان المسلمون يشعرون بالرعب لدى رؤية الطريقة التي يعامل بها المسيحيون الغربيون نساءَهم في الدول الصليبية ، ولقد شجب العلماء المسيحيون الإسلام في القرون الوسطى لأنه يعطي النساء والعبيد حقوقاً أكثر مما ينبغي( ) .
والحقيقة أن الحجاب في الإسلام هو رمز للحشمة والعفة ، فلا يختلف اثنان على أن التشريع في الإسلام لا يصدر إلا عن القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد وردت آيات وجوب الحجاب في القرآن الكريم بوضوح لا يرقى إليه شك، ويمكن جمعها على النحو الآتي:
* (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 30-31).
* (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور:60).
* (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33).
* (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) (الأحزاب: 53).
* (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب: 59).
وبالعودة إلى الآيات الكريمة التي وردت في شأن الحجاب، نرى أنها جميعا قد جاءت في سياق غض البصر وحفظ الفرج، ويدل على ذلك ما تلاها من آيات تُفصّل آداب الاستئذان قبل الدخول، والحث على الزواج والإعفاف.
وعليه، فإن العلة الأولى للحجاب أو الخمار، هي إحصان المرأة وحفظ كرامتها بتغطية ما يثير شهوة الرجال من زينتها، وذلك بستر سائر بدنها خلا الوجه والكفين، مع التأكيد على أن العفة تُناط أولا بالتربية وتزكية النفوس لكلا الجنسين، كما قال تعالى: ولباس التقوى ذلك خير ( )، فيما تأخذ تغطية الزينة حكم الإجراء الاحترازي لدرء الفتنة، والتي لا تُقصر على ضعاف النفوس فحسب، بل على المجتمع بأسره، إذ لا يخفى على أحد أن الغريزة الجنسية يستوي فيها العقلاء مع العامة، والتاريخ حافل بقصص الخيانة الزوجية على جميع المستويات .
الغاية إذن هي مساواة المرأة بالرجل لا تمييزها عنه، فلمّا اختصت الزينة والفتنة بأحدهما دون الآخر، كان لا بد من مواءمة الأحكام للفروق القائمة بينهما، ليلتقي كل منهما في إطار أعمالهما اليومية بما يضمن التقاء إنسان لإنسان، دون أن يشوب هذه العلاقة ما يهبط بها إلى دركات الشهوانية المقيتة( ) .
لأن المرأة حين تظهر في لقاء علمي أمام الرجال بمفاتنها الأنثوية ، يتغلب فيها الجانب الأنثوي الغريزي على الجانب العلمي والإنساني ، لأن صوت الغريزة أقوى من صوت العقل ، ولذلك يكون حديثها إليهم في واد ، ومشاعرهم في واد آخر ، لأن الرجال في هذه الحالة يتعاملون معها على أنها كتلة من الأنوثة والمتعة ولا يلتفتون إلى ما تحمله لهم من أفكار علمية .
ويروي لنا أستاذنا الدكتور البوطي حادثة فتاة ألمانية كانت مشاركة في أحد الملتقيات الفكرية في الجزائر، فعندما دُعيت إلى إلقاء كلمتها في ميقاتها المحدد، وكانت كأي امرأة أخرى متبرجة بادية المفاتن ، وكانت تضيف إلى ذلك كله كثيراً من الحركات المغرية ، ونظرتُ إلى وجوه الحاضرين أتفحصها، وهي مسترسلة في حديثها الفكري المهم ، فلا والله ما رأيت الأعين إلا طافحة بمشاعر الغريزة وأخيلة المتعة ، وما عثرت في الوجوه على أي أثر لتفاعلٍ ذهني أو تجاوبٍ علمي ، وكان الصدى الوحيد لحديثها الذي ألقتْه أن ترك بعضهم بطاقة في غرفتها من الفندق يعرّفها فيها بنفسه، ويدعوها إلى سهرة كوكتيل !!. فها هناك امتهان للمرأة أعظم من هذا ؟
ويضيف أستاذنا الدكتور البوطي حفظه الله : كانت إحدى الشاعرات المعروفات في محيطنا العربي تلقي قصيدة في أمسية شعرية جامعة ، وكانت هي الأخرى بادية الزينة، وتُميل شعرَها الطويل المسترسل أثناء الإلقاء إلى طرف من وجهها، ثم ما تلبث أن ترده عنها في حركة مثيرة ! ، ولما انتهت من إلقاء قصيدتها وعجت القاعة بالتصفيق ، سأل أحد الحاضرين صاحبه : كيف رأيت شِعرها ؟ فقال له : إن لها شَعراً يأخذ بالألباب !! ( ) .
والآن : هل في الناس من لا يقرأ في هذا الكلام أسوأ عبارات الامتهان الجارحة لكرامة المرأة ؟ كأن الرجل يقول للمرأة في هذه الحالة : مهما حاولتِ أن تبرزي مفكرة عالمة باحثة أديبة فما أنت إلا دمية لعبث الرجال ولهوهم .
ومن هنا وضع الإسلام حاجزاً حصيناً يفصل شخصية المرأة كإنسانة تمتاز بما يمتاز به الرجل من الخصائص الفكرية والإنسانية عن شخصيها الأنثوية المتممة لذكورة الرجل بكل ما لهذه الشخصية من مظاهر وذيول ( ).
وبذلك يكون الحجاب أحد التشريعات الإسلامية التي توخت حفظ كرامة المرأة من مشاعر الامتهان ، وتحصين أنوثتها من مرامي العابثين ، وإن دلالات النصوص تعزل الحجاب عن أن يكون علامة تمييزية دينية أو غيرها، فهو تشريع يساعد على ضبط الأخلاق في المجتمع ، ويستند إلى فلسفة العفاف في الإسلام ، وليست الغاية هي ستر البدن لذاته، لذلك قال الله عز وجل ولباس التقوى ذلك خير ( )،ولئن كان تشريع الحجاب يخص المسلمين فإن فلسفته وحكمته إنسانية تهم كل الأمم والمجتمعات البشرية( ) .
إذن : فالحكمة الباعثة على مشروعية الحجاب هي ما ذكره القرآن الكريم في بيانه المبين حين قال : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 59]." ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين " تلك هي الحكمة : أن تختفي المثيرات الجنسية والغريزية عن أبصار الناظرين من الرجال ، فلا يرون منها إلا شريكة معهم في الخدمات الإنسانية والاجتماعية والحضارية .
وإذا كانت هناك من النساء من تمارس السلوكات الشائنة من وراء الحجاب فهذا أمر شنيع ولكنه لا يدعو إلى ازدراء الحجاب ورفضه ، لأن مظاهر السفور والتبرج أولى بالرفض والازدراء، فالمنحرفات اللواتي يجنحن في انحرافهن إلى عرض مفاتنهن أضعاف اللواتي يفعلن ذلك من وراء الحجاب ومظاهر الحشمة . ومع ذلك فالعجيب أن الحشمة وحدها هي التي توضع من قبل هؤلاء المعترضين في قفص الاتهام، وتبقى المثيرات والمهيجات التي تعلن عن نفسها مبرأة عن أي تسبب لتهييج الرجال، وإضعاف الوازع الخلقي في نفوسهم، فضلاً عن أن يُشار إليها بأصابع الاتهام !! ( ).
إزاء هذه الحقيقة نقول : من الذي ينظر إلى المرأة على أنها جسد؟ ومن الذي يقصر فكره ونشاطه على ما يجب كشفه أو ستره من جسدها ؟.. أتراه ذاك الذي يعترف بحقيقة غريزته ويبني عليها حكما يلزم به نفسه ليحترم إنسانية المرأة، وينصرف من خلاله عن التدني إلى مستوى التطلع إلى غاية شهوانية، أم هو ذاك الذي يصر على نفي وجود تلك الغريزة وهو يعلم مكانها في نفسه، ثم يحكم على الرجال بضرورة التنزه عنها، مصرا على إخراج النساء اللاتي بقين مئات السنين في خدورهن، وطرح غطائهن الذي لم يُثِر أي مشكلة طوال تلك القرون، فيأمر الرجال بالنظر دون شهوة، والنساء بالاختلاط دون اعتراف بوجود أي نزوة ؟( ) .
لقد رافقت الحشمة صورة المرأة منذ خُلقت وعاء للجمال والفتنة، فإذا كان هذا الغطاء الذي لا يمنع المرأة عن مزاولة أعمالها والتمتع بحقوقها قد وقف حائلاً في وجه بعض من الرجال عن التمتع بزينتها ( ) واللهو بمفاتنها ، فمن هو الذي يكرّم المرأة إذن ويحترم كينونتها ، الإسلام أم الغرب ؟ الإسلام الذي رفع من إنسانيتها وأعطاها الدور الملائم لطبيعتها كأنثى وكإنسانة ، أم الغرب الذي حولها إلى جسد رخيص يجني منها الرجل ثمار متعته ، ثم يمضي باحثاً عن ثمار أشهى في نساء أُخر ،،، والمرأة دائماً هي الضحية الشقية .
إن الموقف الغربي من الحجاب لا يمكن تفسيره إلا كلون من الحسد الحضاري، فلماذا المرأة المسلمة لا تزال تحتفظ بعفتها وإنسانيتها ؟! لماذا لا تنخرط فيما انخرطت فيه المرأة الغربية من إباحية ومجون ؟ أليس الغرب اليوم هو الذي يقود زمام الحضارة ؟ ألا ترى المرأة المسلمة كم تقدم الغرب وتفوق ؟ لماذا تصر على التحدي والمقاومة ؟ لماذا لا تقبل الانصهار في الأنماط الغربية للممارسة الوجودية ؟ لماذا تصر على الاستقلال في وجودها وكيانها ورؤيتها وتفكيرها ؟ لمَ كل هذا الإصرار على الهوية في عصر العولمة أو قل الأَوْربة أو الأَمْركة ؟ لمَ كل هذا التزمت والتعصب ؟!!
فلتخرج إذن من بلادنا أو لتلبس لباسنا ولتتحلل كما تحللنا وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ سورة الأعراف آية : 82 ] .
أجل إن التطهر قوة ، والعفة قوة ، والمنحرف يتمنى أن لو كان الناس جميعاً مثله حتى يتخلص من عقدة النقص والشعور بالغربة، فهولا يحب أن يرى أناساً يتمتعون بقوة الإرادة وهو ضعيف، ولا أناساً سعداء وهو شقي ، ولا يريد أن يرى أناساً يقاومون تيار الانحراف في الوقت الذي انخرط هو فيه ، يريد أن ينجرف الجميع .
إن فرنسا تعج بمشكلات كثيرة من أبرزها : الإدمان ، والشواذ ، والبطالة ، والجريمة ، ولم يلفت نظرها من كل هذه المخاطر شيء ، فقط شعرت بالخطر من حجاب المرأة المسلمة ، وأصدرت قراراً بمنعه !! وقرار المنع هذا سيزيد من المحجبات ، وحتى اللواتي لم تكن القضية ذات أهمية بالنسبة لهن سينتبهن لذلك، ويفكرن في أمر الحجاب ، وسر الحرب ضد الحجاب، ولعل كثيراً من الغشاوات التي أثيرت حوله تزول مع البحث والسؤال، وإذ بالحرب على الحجاب تعود لصالح الحجاب . والله أعلم بالصواب ،وإليه المرجع والمآب .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [ سورة الحشر الآيات : 18-20 ] .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين .
والحمد لله رب العالمين .
أختاه يا ذات الحجـاب تحيـة كم في عفافـك أنت رائعـة جميلـة
ياوردةً في الكون فاح عبيرهـا وشريعـة الإسلام دوحتهـا الظليلـة
تيهي على الدنيا فخاراً واسحبي ثوب الإباء وجرجري تيهـاً ذيـوله
كم أمة بنسائهـا فـوق الذرى كـم أمـة بنسائهــا ركعت ذليلـة
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
قال الله عز وجل وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ... سورة النور آية 31
وقال عز وجل يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا سورة الأحزاب آية : 59
لقد كانت فريضة الحجاب فريضة محكمة أراد الله عز وجل من خلالها أن يحفظ للمرأة كرامتها من الامتهان ، وعرضها من الابتذال ، وذلك بسترها لجسدها ومفاتنها ، حتى تتمكن من القيام برسالتها الإنسانية إلى جانب الرجل وتكف طرفه عنها لكي لا يطمع في شرفها من كان في قلبه مرض فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا سورة الأحزاب آية : 32
إن الآيات الكريمة السابقة نسيج واحد يحتوي على مجموعة من الوصايا التي تكرم المرأة ، وتهيئها لحمل رسالتها كإنسان مكمل لنصفها الآخر : الرجل .
- فلتغضض من بصرها كما أُمر الرجل .
- ولتحفظ فرجها مثلها مثل الرجل .
ثم تتميز المرأة تبعاً لتكوينها الذي خلقها الله عز وجل فيه ووظيفتها التي أناطها الله عز وجل بها ببعض الأوامر والوصايا :
- فلا تبدي زينتها إلا لمن سمّاهم الخالق عز وجل .
- وتضرب بخمارها على رأسها وعنقها وصدرها .
- وتحرص على أن حالها مبني على الستر دائماً فتدني على جسدها جلباب اللباس والقماش وعلى نفسها وكرامتها جلباب الحياء والفضيلة .
- وتجدّ في لهجتها وحديثها ، وتخفض من صوتها وضحكها ، وتختار الكلمة المناسبة مع المقام المناسب بحسب الحال والمآل حتى لا يطمع بها مرضى القلوب .
وحين تتحقق المرأة بهذه الوصايا فلا عليها أن تكون عنصراً فاعلاً في الحضارة إلى جانب الرجل تشاركه في محافل العلم والعمل والجهاد والتربية والدعوة ولم يمنعها حجابها من كل ذلك ولم يعق حركتها ولم يعرقل مسيرتها .
المطلب الأول - العلمانية والحجاب :
لم تنظر العلمانية إلى قضية الحجاب على أنها قضية شخصية يسري عليها الحق الفردي في الاختيار والإرادة، وذلك لأنها مسألة ذات أبعاد دينية، بل أقول لأنها ذات أبعاد إسلامية بالدرجة الأولى ، وهكذا فإن الغرب باعتباره هو الذي يسوق قطار الحضارة اليوم وقف موقفاً سلبياً من الحجاب لأنه أصبح رمزاً لأعتى عدوٍّ صنعه الغرب لنفسه وهو الإسلام. فتحولت مسألة الحجاب إلى مسألة سياسية خاضعة لرهانات القوة والتفوق .
ومضى جيل التلاميذ المدللين يردد المقولات الغربية بشأن الحجاب ، ويَعدُّ كل باحثٍ يُسهم في نزع الحجاب باحثاً تنويرياً تُكال له المدائح ، وتُعقَد له الندوات ( ) ،حتى ولو تميز هذا الباحث بشيءٍ من الإنصاف والرزانة فإن الأنشطة العلمانية كفيلة بتحويله إلى رمز للتنوير والحداثة حتى ولو لم يرغب هو بذلك ، وأقصد هنا قاسم أمين كمثال فلم أجـد في كتبه الثـلاثة المشهـورة " المصريون " وتحرير المرأة " و " المرأة الجديدة " ما يدعو المرأة إلى الانسلاخ من تعاليم الشريعة أو اعتبار أحكام الشريعة الخاصة بها أحكاماً تاريخية ، كل ما دعا إليه أن تنزع المرأة عن وجهها النقاب ، ولم يطلب أكثر من ذلك ، لأن النقاب بنظره يسبب للمرأة حرجاً وعائقاً في حياتها العملية ( ).
ولكن هذا لا يعني أننا ننفي ما في مؤلفيه الأخيرين " تحرير المرأة " و " المرأة الجديدة " من نزعة بارزة إلى التغرب والتأورب ( ) ، والاختلاط بين الجنسين ، ولكن الرجل ظل يؤكد على مرجعيته الإسلامية والقرآنية ، وظل يؤكد على أن الحجاب الذي يطالب برفعه هو غطاء الوجه فقط ( ) ، وأن الاختلاط الذي يريده هو في حدود ما تسمح به الشريعة ( ) ، وذلك انطلاقاً من مبدأ يؤمن به وهو أن التربية ممارسة عملية حياتية قبل أن تكون ممارسة علمية كتبية ( ) . وأن الدين أساس التربية ( ) . ولكن الطابور العلماني في بلادنا استطاع أن يحوّل قاسم أمين إلى رمز لتحلل المرأة من الشريعة عبر تاريخ طويل من التزوير والتحوير ، وبظني لو كان الرجل حيّاً لتبرأ من كل هذه الإلصاقات العلمانية .
وتتخذ الهجمة على الحجاب طرائق مختلفة، فمرة بطريقة ساذجة كما تحدث عبد العزيز الثعالبي 1874 – 1944م حين قصر الآيات التي تتحدث عن الحجاب على نساء النبي ( )، واعتبر ستر الوجه عادة فارسية تسربت إلى المجتمع الإسلامي ( ) وهو في هذا القول يردد المقولات الشائعة عند الغربيين عن الحجاب الإسلامي( ) . وأن نزع الحجاب ما هو إلا إعادة للمجتمع إلى المجتمع المتحضر الذي كان في عهد النبي والذي هو مثيل للمجتمع الأوربي المعاصر ( ) . ومرة ثانيةً بطريقة فاشية استفزازية تتجاوز حدود اللياقة والأدب كما تحدث الطاهر الحداد عندما يقول : "" ما أشبه ما تضع المرأة من النقاب على وجهها منعاً للفجور بما يوضع من الكمامة على فم الكلاب كي لا تعض المارين ، وما أقبح ما نوحي به إلى قلب الفتاة وضميرها إذ نعلن اتهامها وعدم الثقة إلا في الحواجز المادية التي نقيمها عليها ""( ) .
ويضيف : "" كلما فكرت في أمر الحجاب لا أرى فيه إلا أنه أنانيتنا المحجبة بالشعور الديني كحصن نعتز به على المخالفين "" ( ) .
وهكذا حتى نبدو كمتحضرين يجب علينا أن نُعرض عن كتاب ربنا وآياته البينات ، ونصوصه المحكمات ، ونقوم بتحريف المعاني ، وقلب الحقائق ، فنجعل من الحجاب تخلفاً وأنانية ، وتشكيكاً وعنصرية ، ونتجاهل الأوامر الربانية ، والوصايا النبوية، كل ذلك من أجل أن يرضى عنا الغرب ، ونحظى لديه بالقبول، فقد أصبح المجتمع الأوربي المعاصر هو المثل الأعلى الذي علينا أن نترسم خطاه !.
وقد أدرك الغرب أن حجاب المرأة المسلمة – المسلمة فقط - رمز للتحدي يشكل خطراً على إيديولوجيته العلمانية ولذلك قرر منع الحجاب . فشعاراته البراقة ، وشعارات الثورة العلمانية كلها ركلت بالأقدام في سبيل منع الحجاب وبدا للناس جميعاً حقيقة طالما خفيت عليهم وهي أن شعارات الحرية والديمقراطية إنما هي مجرد أوهام وأحلام خدعوا بها .
سألت أستاذاً علمانياً ينسب نفسه إلى الفلسفة لماذا منعت الدولةُ التي ترفع لواء العلمانية المرأةَ المسلمة من حجابها ؟! فقال لي : - ولعله يسترضيني – هذا في الحقيقة شرخ كبير في العلمانية كان عليها أن لا تقع فيه، ولكن العلمانية تصحح أخطاءها ومساراتها دائماً. فقلت : إن هذا الشرخ ليس في المظهر ، ولا في كونه مجرد نزوة عابرة ، أو خطأ في الممارسة وإنما هو نتاج للخلل في الأساس العلماني ، وهو شرخ في القاعدة الفلسفية التي تقف عليها ظاهرة العلمانية .
لقد صدع العلمانيون رؤوسنا في التنكيل بالأنظمة المستبدة ، والتغني بالحرية والمساواة والديمقراطية ونحن معهم في ذلك . كما تحدثوا عن الفاروق عمر على أنه " المستبد العادل " أي أنه الخليفة الذي يمتلك كل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وهو بنظرهم اتجاه لم يعد صالحاً لهذا العصر ، والبديل له بنظرهم دولة المؤسسات العلمانية التي لا سلطان لأحد عليها إلا للعدالة .
والسؤال الآن : إذن لماذا ضاق الغرب ذرعاً بحجاب المرأة المسلمة فكشر عن أنيابه وأصدر قراراً بمنعه ؟ كيف استطاع أن يفعل ذلك ما دامت المؤسسات العلمانية القانونية هي التي تحكم ولا سلطان لأحد عليها ؟
أليس هذا القرار من أحط ألوان الاستبداد ، ولا يمكن تصنيفه إلا في مخلفات القرون الوسطى المظلمة ؟! .
لم تنج إذن العلمانية من الاستبداد ، والاستبداد الظالم ، فإذا كان لا مناص من الاستبداد إذن فأن يكون استبداداً عادلاً خيرٌ لنا ، فعادت الحاجة ماسة إلى مثل الفاروق عمر رضي الله عنه .
الإشكالية هنا : أن الإنسان هو الذي يحكم ، وهو الذي يسيّر المؤسسات وهو الذي يسن القوانين ، وهو الذي يفسرها ويؤولها وهو الذي ينفذها ، فما أسهل عليه أن يوظف ذلك كله لخدمة مصالحه ومنافعه ، وخصوصاً في هذا العصر الذي يلعب الإعلام والدعاية دوراً بارزاً في غسل الأدمغة ، وترويج الأفكار ، وتغليب بعضها على بعض بحسب الحال والظرف والمصلحة .
ومن هنا فالشعارات العلمانية الرائجة اليوم مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي شعارات ظرفية تخدم الإنسان الأقوى – الإنسان الأبيض – وتوظف الآخرين لخدمته وفي الوقت الذي تصبح خطراً عليه تداس بالأقدام وتُركل بالنعال، وظاهرة الحجاب مثال على ذلك.
ولذا فالقول إن العلمانية وقعت في خطأ – مجرد خطأ – حين منعت المرأة المسلمة من حجابها هو محاولة للخروج من عنق الزجاجة ، لأن الممارسة العلمانية محكومة بشيئين هما :
- الإنسان وطغيانه الممكن، بل الغالب .
- النفعية البراجماتية ، والأثرة الظاهرة في السلوك الإنساني أفراداً ودولاً وجماعات . وفي هذه الحالة فالقضية ليست مجرد خطأ وإنما انهيار في البنيان العلماني من أساسه.
العلمانية لها قيمها المعلنة ، والأديان كذلك ، وإذا كانت الأديان تعد من يخرج عن عقائدها كافراً ، فإن العلمانية كذلك تحكم عليه بالنفي والإقصاء أو التخلف والرجعية أو الإرهاب ، فالعلمانية في هذه الحالة تتحول إلى دين علماني له قيمه وأصوله ورجاله بل وطقوسه أيضاً . والقول بأن العلمانية لا تنظر إلى نفسها على أنها مقدس يحرم المساس به ولذلك فهي تجدد نفسها وتصحح أخطاءها دائماً عبر صيرورة مستمرة كلام جميل ومعسول، ولكن الدين كذلك يقول ، فالإسلام يجدد نفسه دائماً " إن الله يبعث لأمتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها " .
فالعلمانية إذن دين متجدد ، والإسلام أيضاً كذلك والفارق هو أن الإسلام له ثوابته التي لا تُمس بينما العلمانية تدعي أنها متلونة ولا ثوابت لها إلا الواقع بتغيراته وأنماطه المختلفة .
ولكن الإسلام لا يرغم الآخرين على أن يمارسوا شعائره فهم أحرار في دار الإسلام في ممارسة شعائرهم والإسلام يحميهم ، بينما العلمانية في دارها ترغم المسلمة على ممارسة الطقوس العلمانية في السفور والانحلال .
المطلب الثاني - الحجاب والتحدي الحضاري :
مرة أخرى : لماذا تضطهد العلمانية المرأة المسلمة المحجبة ؟
إن الغرب لا يرى في الحجاب الإسلامي مجرد قطعة قماش تستر شعر المرأة أو رأسها أو وجهها وإنما يرى في الحجاب اختزالاً للحضارة الإسلامية تغزوه في عقر داره .
إن الحجاب يعني في المنظور الغربي أن الإسلام كله بقرآنه ومحمده وكعبته يتجسد في قطعة القماش هذه ، وفي هذه المرأة المحجبة التي تخطر في شوارع باريس أو لندن . وإن هذه الصورة تمثل بالنسبة له أخطر ألوان التحدي ، إنها تذكره بطارق بن زياد وموسى بن نصير وعبد الرحمن الغافقي على تخوم باريس . كما يرى الغرب في المرأة المحجبة وهي تتبختر في شوارع باريس أو غيرها كأنها ترفع راية الإسلام وتدوس قيم الغرب ، وتتحدى شعاراته البراقة ، وتهزأ بحضارته المبهرجة ، وتترفع عن مدنيته الزائفة ، إنها تتشبث بأصالتها في وسط المعمعة ، وتلتف حول دينها وعفتها وشرفها في وسط تيار جارف من الإغراء واللذة . إن منظرها مثير جداً فهو يشبه منظر الجندي المستميت في وسط المعركة حين يرفع اللواء والرماح تنوشه من كل مكان فيظل ممسكاً به حتى تتقاسمه شفرات السيوف وأسنة الرماح . ....
إن الغرب لا يرى في المرأة المحجبة مرأة بل يرى الإسلام يتحداه في عقر داره ، وقد حاول جاهداً أن يصمت لسنوات محافظاً على قيمه في الحرية ، ولكن ضغط الحجاب ودلالاته التاريخية والحضارية، وإيحاءاته الاستفزازية لمظاهر التعري ، جعل صبره ينفد فانتهك القيمة الأساسية التي يقف عليها وهي قيمة الحرية وذلك ليوقف هذا المد الإسلامي الخطير .
أجل إن الحجاب الإسلامي – الإسلامي فقط – ليس مجرد تحد فقط بل هو غزو وبشارة في ذات الوقت ، فالمرأة الغربية اليوم تعيش في أحلك أيامها ، وأسوأ لحظاتها يقول بيير داكو "" لم يسبق للمرأة أن كانت مسحوقة ومنهارة وخامدة مثلما هي عليه الآن ، ويمثل عصرنا أكثر العمليات دناءة في تاريخ المرأة ، فالمظاهر خداعة ، ذلك أن الفخ مموه على نحو يثير الإعجاب "" ( ) "" إن الفخ قام بعمله على نحو ممتاز ... فالسمكة كانت جائعة ، وكان يكفي إلقاء الصنارة في الماء حتى تنخدع بها "" ( ) إن بيير داكو يلخص لنا حالة المرأة في الغرب بعبارة مختصرة ، إنها حالة مأساوية مريرة . وقد بدأت المرأة تشعر بذلك ، وبدأت تتململ من الضياع والعبثية التي خُدعت بها، حين حولتها الإمبريالية إلى جسد سلعي خاضع للتداول وسوق العرض والطلب ، فتحول الجسد الأنثوي عبر نشاطه الجنسي إلى سلعة "" ضمن شبكة كبيرة ذات صيت عالمي ، شبكة تمثلها شركات عابرة للقارات فوق قومية متعددة الجنسيات ، وفّرت عروض أزياء لتظهر مفاتن الجسد ... ودعايات مصورة بألوان جذابة .. مجلات وجرائد تعرض مشاهد مختلفة تأسر الحواس ... وأفلام سينمائية وأشرطة فيديو ، إنها إمبريالية الفيلم الجنسي " ( ) فأصبحت المرأة أولاً وأخيراً جسداً تتفنن الثقافة الاستهلاكية في عرضه والمتاجرة به ( )، لحساب الرجل، وانخرطت في لعبة كانت هي الخاسرة فيها، لأنها باعت أنوثتها دون مقابل، وكانت النتيجة : اليأس والإحباط ومتاهة الشعور بالدونية( )، ولذا فالمرأة الغربية ترى أن صورة المرأة المسلمة المحجبة صورة مثالية تتمنى لو يتاح لها أن تعيشها ( ). ولكنها ليست مهيأة لذلك فهي مكبلة بقيود ثقيلة، إنه إرث العلمانية المديد : تفكك أسري وضياع اجتماعي وأخلاقي، وعدمية فلسفية ، وفردانية موحشة.
ومن هنا فالمرأة المسلمة في الغرب تؤدي بحجابها دور الداعية الصامتة ، إنها ترفع شعار "" العالَم المتميز "" أو "" الكيان المستقل "" أو " الحمى المسيّج " ، في مقابل " الكلأ المباح " الذي تمثله المرأة الغربية ، فهي كيان مستقل عن عالم الرجال وعالم أنثوي متميز عن عالم الذكورة .
إن المرأة المسلمة بحجابها تحتكر أنوثتها وتمتلكها ولا تبددها في عالم الرجال ، إنها تنطوي في داخلها على سرٍ يجب أن يظل مطمحاً لعالم الرجولة تهفو إليه الرجولة فلا تنال منه إلا بقدر ما يتحقق من سعادة وكرامة إنسانية مشتركة .
إن في المرأة جانبان : جانب عملي إنساني مشترك بينها وبين الرجل وهو دورها في الحياة والبناء والإعمار والمشاركة والعمل والعلم والإبداع .
وجانب آخر هو أنثوي غريزي تميزت به المرأة عن الرجل ، وزودها الصانع عز وجل بمكونات الأنوثة فهي أم حنون وزوج رؤوم ، وأنثى لعوب . والإسلام لا يريد لأيٍ من الجانبين أن يطغى على الآخر ، فلا يريد المرأة المترجلة التي تكبت أنوثتها وتتحول إلى كائن قاس عنيف جلف .
ولا يريد المرأة الجاهلة العابثة التي تُحوّل نفسها إلى أداة للمتعة واللذة والإنجاب فقط ( ).
إن ما يصلح المجتمع هو المرأة التي يتكامل فيها الجانب العملي مع الجانب الأنثوي أو الجانب الوظيفي الحياتي مع الجانب الغريزي . وإن المرأة حين تقف إلى جانب الرجل في المعمل أو المخبر أو الوظيفة فهي تزاحمه بإنسانيتها وكفاءتها وليس بأنوثتها ، وأنوثتها تظل ورقة مخفية مدخرة لا تمنحها للرجال إلا في الإطار المشروع، إطار البناء المشترك والمساواة والندية .
بينما المرأة السافرة الفاتنة ترمي بلحمها وشحمها أمام الكلاب الجائعة ، والذئاب الغادرة ، والثعالب الماكرة ، وهي بسفورها ومفاتنها تدفع بكفاءتها وإنسانيتها وفاعليتها إلى الوراء وتدفنها في الأعماق ، وذلك لأن صوت الغريزة واللذة أقوى من صوت العقل – غالباً – وأقوى من صوت الحرية والتحضر والضمير والأخلاق ، هذه الشعارات الجوفاء التي تنادي بها العلمانية .
والآن بعد فوات الأوان أدركت المرأة الغربية أنها خُدعت في أعظم عملية نصب واحتيال في التاريخ إنها مهزلة "" حرية المرأة "" ولذلك فهي تغبط المرأة المسلمة على حجابها وعفافها وترى أن هذا هو رأس المال الثمين الذي فرطت به حين خدعوها فأوهموها أنه قيود وتخلف ، ولكنها حين فعلت ذلك خسرت كل شيء ، ولأن المرأة فُطرت على الرحمة والشفقة فإن المرأة الغربية لا تريد لأختها الشرقية أن تنحط في المرتكس نفسه ، وتقع في الفخ ذاته ( ).
إن أهم ما يعنيه الحجاب بالنسبة للمرأة هو إبراز فرديتها الإنسانية ، وتكنيز شخصيتها الأنثوية لتكون قادرة على مشاركة الرجل في الفعل الحضاري دون أن تخضع لابتزازه أو انتهازيته، ذلك لأن الجانب العملي والعقلي والإنساني والحياتي في كلا الطرفين متساوٍ ويبقى الرجل متفوقاً برجولته الظاهرة البارزة، لأن الرجولة يناسبها الظهور والبروز فكيف تقابل المرأة الرجولة لتكون نداً للرجل ؟ ظنت المرأة أو قيل لها إن عليها أن تقابل رجولته البارزة بأنوثتها المكشوفة ومفاتنها المعروضة فصدقت ذلك ، وأخطأت لأن الأنوثة سلاح لا يناسبه الظهور والانكشاف بل ذلك يثلمه ويفقده قوته وأهميته، وكان من الواجب مواجهة الرجولة المكشوفة بالأنثوية المخفية والمفاتن المحجوبة فذلك لون من الدلال والتمنع يزيد المرأة قوة وحيوية وتأثيراً في الرجل .
إن سلاحها ليس كسلاح الرجل فسلاح الرجل لا يضيره الظهور والانكشاف بل يكون أمضى كلما كان كذلك ، بينما سلاح المرأة يكون أمضى كلما كان أخفى ، ألا ترى إلى الرجل يرى المرأة المحجبة التي تغطي وجهها فيتوق إلى رؤية عينيها ، وإذا رأى امرأة تظهر عينيها يتوق إلى رؤية وجنتيها ، وإذا رأى وجنتيها يتوق إلى رؤية فمها وشفتيها ، وهكذا ... بينما المرأة السافرة لا يتوق الرجل منها إلا إلى اللذة والمتعة لأنها مملة ومبتذلة، فهي بنظره رخيصة . حتى الرجل المنحرف الفاسق إذا ما أراد أن يقترن بامرأة اقتراناً مشروعاً ويتخذ منها شريكة لحياته، فإنه يبحث عن المرأة الشريفة العفيفة التي تحفظ نفسها وتعتز بشخصيتها ، وتصون كرامتها ( ) .
ألا ترى النفس تتوق إلى الفاكهة المغلفة النظيفة بينما تعاف الفاكهة المكشوفة للذباب والحشرات ، وهكذا فالمرأة طبقاً للمنظور الإسلامي أشبه بالجوهرة النفيسة التي تصان عن الأعين الزائغة والأيدي العابثة لتبقى ثمينة ناضرة جميلة :
قل لمن بعد حجاب سفرت أبهذا يأمر الغيدَ الشرف
إنمـا المـرأة درة وهـل يُصان الدر إلا بالصدف
إن في الحجاب جانباً من الإغراء أيضاً ولكنه الإغراء الإيجابي النافع الذي يحفظ للكيان الإنساني وجوده ونوعه وعفته ، فالمرأة المحجبة حين تحجب نفسها عن زوجها أثناء الخروج من المنزل وتستر مفاتنها عنه تغريه وتشوقه إليها ، ويشعر بتجدد في علاقته العاطفية معها حين تدخل معه المنزل مرة أخرة بحجابها ثم تخلعه أمامه وله فقط ! ، بينما تلك السافرة المتبرجة فلا يوجد لديها ما تخفيه عن زوجها بل عن الناس إلا القليل ، فجسدها مكشوف ، ومفاتنها معروضة للغادين والرائحين ، ولذلك فبضاعتها كاسدة ، ألا ترى أن احتكار السلع يزيد في ثمنها ، ويعزز من قيمتها ، فكذلكم المرأة التي تحتكر جمالها وأنوثتها ومفاتنها .
إن هناك مشكلة يعاني منها الغرب بسبب العري والسفور والخلاعة فحيثما اتجه الإنسان يجد أمامه نساءً كاسيات عاريات مائلات مميلات ، وهذا فجّر لديه الغريزة الجنسية، ولم يتمكن من كبحها لأنها ثارت فهاجت فانفجرت، "" فكان خطر القنبلة الجنسية أشد هولاً من خطر القنبلة الذرية "" ( ) فحيثما اتجه الإنسان اليوم في دوامة العولمة يتعرض " للقصف الجنسي " ( ) في الإعلانات والمجلات والأفلام ، والآن دخل " الغزو الجنسي " إلى البيوت عبر المحطات الفضائية ، ومع طول العهد والاعتياد للمناظر الفاتنة المغرية الفاضحة ، ومع طول الانغماس في الإباحية والشهوات تحول الأمر إلى مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان – فبالإضافة إلى الأمراض الجنسية الكثيرة التي انتشرت نتيجة للعري والسفور ظهرت مشكلة البرود الجنسي، فلم يعد الرجل يميل إلى المرأة لأنها أنثى تثيره بضحكها أو بمشيها أو بقوامها أو بأنوثتها ، ولم يعد يثيره فيها إلا الترميز الجنسي بكافة أشكاله وممارساته، ولذلك أخذ الإنسان الغربي يتفنن في اختراع المثيرات والمرغبات الجنسية المقززة، والتي تعافها الفطرة السليمة . وحين يقضي كل منهما وطره من الآخر يشعر بتفاهة اللذة ، وانعدام المعنى ، وعدمية الوجود، إذ أقصى ما يطمحان إليه قد بلغاه فإذا هو جدارٌ صلبٌ تصطدم به السعادة . وهنا نلاحظ منفعة الحجاب إذ هو يكشف لنا أن وراء اللذة بعداً روحياً نسمو إليه يخترق ذلك الجدار الصلب، وهو من حيث لا نشعر يحقق توازناً بين الشهوة والحب أو قل بين اللذة والمسؤولية ، أو قل بين الرسالة والمتعة .
إن المجتمع الذي تحتجب نساءه مجتمع لا يعاني مطلقاً من الأمراض الجنسية ، ولا يعاني رجاله مطلقاً من البرود الجنسي ، لأن المرأة المحجبة تحفظ لزوجها طاقته الجنسية وتعينه على تجديدها بشكل مستمر في لحظات انحجابها وانكشافها أمامه . "" قال لي أحدهم : إنه يشعر بتجدد في علاقته مع زوجته كلما ارتدت حجابها وخرجت معه في نزهة أو زيارة ، وإنه يشعر كأنه يراها لأول مرة حين يعودان إلى البيت فتخلع لباسها أمامه "" .
المطلب الثالث – لماذا شُرع الحجاب ؟ :
إذا كان بعض الغربيين يرى أن الحجاب رمز لاضطهاد الأنثى( ) فإن البعض الآخر يرى أن الحجاب كان رمزاً للسلطة والنفوذ في الإسلام، وليس علامة لاضطهاد ذكوري، لأن النساء اللواتي ارتدينه لأول مرة كن غيورات من المركزية التي تبوأتها نساء النبي صلى الله عليه وسلم فأردن أن يقتدين بهن في ذلك ، حتى زوجات الصليبيين أخذن يلبسن الحجاب آملات أن يجدن معاملة أفضل بعد أن رأين الاحترام الذي حظيت به النساء المسلمات ، وكان المسلمون يشعرون بالرعب لدى رؤية الطريقة التي يعامل بها المسيحيون الغربيون نساءَهم في الدول الصليبية ، ولقد شجب العلماء المسيحيون الإسلام في القرون الوسطى لأنه يعطي النساء والعبيد حقوقاً أكثر مما ينبغي( ) .
والحقيقة أن الحجاب في الإسلام هو رمز للحشمة والعفة ، فلا يختلف اثنان على أن التشريع في الإسلام لا يصدر إلا عن القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد وردت آيات وجوب الحجاب في القرآن الكريم بوضوح لا يرقى إليه شك، ويمكن جمعها على النحو الآتي:
* (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 30-31).
* (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور:60).
* (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33).
* (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) (الأحزاب: 53).
* (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب: 59).
وبالعودة إلى الآيات الكريمة التي وردت في شأن الحجاب، نرى أنها جميعا قد جاءت في سياق غض البصر وحفظ الفرج، ويدل على ذلك ما تلاها من آيات تُفصّل آداب الاستئذان قبل الدخول، والحث على الزواج والإعفاف.
وعليه، فإن العلة الأولى للحجاب أو الخمار، هي إحصان المرأة وحفظ كرامتها بتغطية ما يثير شهوة الرجال من زينتها، وذلك بستر سائر بدنها خلا الوجه والكفين، مع التأكيد على أن العفة تُناط أولا بالتربية وتزكية النفوس لكلا الجنسين، كما قال تعالى: ولباس التقوى ذلك خير ( )، فيما تأخذ تغطية الزينة حكم الإجراء الاحترازي لدرء الفتنة، والتي لا تُقصر على ضعاف النفوس فحسب، بل على المجتمع بأسره، إذ لا يخفى على أحد أن الغريزة الجنسية يستوي فيها العقلاء مع العامة، والتاريخ حافل بقصص الخيانة الزوجية على جميع المستويات .
الغاية إذن هي مساواة المرأة بالرجل لا تمييزها عنه، فلمّا اختصت الزينة والفتنة بأحدهما دون الآخر، كان لا بد من مواءمة الأحكام للفروق القائمة بينهما، ليلتقي كل منهما في إطار أعمالهما اليومية بما يضمن التقاء إنسان لإنسان، دون أن يشوب هذه العلاقة ما يهبط بها إلى دركات الشهوانية المقيتة( ) .
لأن المرأة حين تظهر في لقاء علمي أمام الرجال بمفاتنها الأنثوية ، يتغلب فيها الجانب الأنثوي الغريزي على الجانب العلمي والإنساني ، لأن صوت الغريزة أقوى من صوت العقل ، ولذلك يكون حديثها إليهم في واد ، ومشاعرهم في واد آخر ، لأن الرجال في هذه الحالة يتعاملون معها على أنها كتلة من الأنوثة والمتعة ولا يلتفتون إلى ما تحمله لهم من أفكار علمية .
ويروي لنا أستاذنا الدكتور البوطي حادثة فتاة ألمانية كانت مشاركة في أحد الملتقيات الفكرية في الجزائر، فعندما دُعيت إلى إلقاء كلمتها في ميقاتها المحدد، وكانت كأي امرأة أخرى متبرجة بادية المفاتن ، وكانت تضيف إلى ذلك كله كثيراً من الحركات المغرية ، ونظرتُ إلى وجوه الحاضرين أتفحصها، وهي مسترسلة في حديثها الفكري المهم ، فلا والله ما رأيت الأعين إلا طافحة بمشاعر الغريزة وأخيلة المتعة ، وما عثرت في الوجوه على أي أثر لتفاعلٍ ذهني أو تجاوبٍ علمي ، وكان الصدى الوحيد لحديثها الذي ألقتْه أن ترك بعضهم بطاقة في غرفتها من الفندق يعرّفها فيها بنفسه، ويدعوها إلى سهرة كوكتيل !!. فها هناك امتهان للمرأة أعظم من هذا ؟
ويضيف أستاذنا الدكتور البوطي حفظه الله : كانت إحدى الشاعرات المعروفات في محيطنا العربي تلقي قصيدة في أمسية شعرية جامعة ، وكانت هي الأخرى بادية الزينة، وتُميل شعرَها الطويل المسترسل أثناء الإلقاء إلى طرف من وجهها، ثم ما تلبث أن ترده عنها في حركة مثيرة ! ، ولما انتهت من إلقاء قصيدتها وعجت القاعة بالتصفيق ، سأل أحد الحاضرين صاحبه : كيف رأيت شِعرها ؟ فقال له : إن لها شَعراً يأخذ بالألباب !! ( ) .
والآن : هل في الناس من لا يقرأ في هذا الكلام أسوأ عبارات الامتهان الجارحة لكرامة المرأة ؟ كأن الرجل يقول للمرأة في هذه الحالة : مهما حاولتِ أن تبرزي مفكرة عالمة باحثة أديبة فما أنت إلا دمية لعبث الرجال ولهوهم .
ومن هنا وضع الإسلام حاجزاً حصيناً يفصل شخصية المرأة كإنسانة تمتاز بما يمتاز به الرجل من الخصائص الفكرية والإنسانية عن شخصيها الأنثوية المتممة لذكورة الرجل بكل ما لهذه الشخصية من مظاهر وذيول ( ).
وبذلك يكون الحجاب أحد التشريعات الإسلامية التي توخت حفظ كرامة المرأة من مشاعر الامتهان ، وتحصين أنوثتها من مرامي العابثين ، وإن دلالات النصوص تعزل الحجاب عن أن يكون علامة تمييزية دينية أو غيرها، فهو تشريع يساعد على ضبط الأخلاق في المجتمع ، ويستند إلى فلسفة العفاف في الإسلام ، وليست الغاية هي ستر البدن لذاته، لذلك قال الله عز وجل ولباس التقوى ذلك خير ( )،ولئن كان تشريع الحجاب يخص المسلمين فإن فلسفته وحكمته إنسانية تهم كل الأمم والمجتمعات البشرية( ) .
إذن : فالحكمة الباعثة على مشروعية الحجاب هي ما ذكره القرآن الكريم في بيانه المبين حين قال : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 59]." ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين " تلك هي الحكمة : أن تختفي المثيرات الجنسية والغريزية عن أبصار الناظرين من الرجال ، فلا يرون منها إلا شريكة معهم في الخدمات الإنسانية والاجتماعية والحضارية .
وإذا كانت هناك من النساء من تمارس السلوكات الشائنة من وراء الحجاب فهذا أمر شنيع ولكنه لا يدعو إلى ازدراء الحجاب ورفضه ، لأن مظاهر السفور والتبرج أولى بالرفض والازدراء، فالمنحرفات اللواتي يجنحن في انحرافهن إلى عرض مفاتنهن أضعاف اللواتي يفعلن ذلك من وراء الحجاب ومظاهر الحشمة . ومع ذلك فالعجيب أن الحشمة وحدها هي التي توضع من قبل هؤلاء المعترضين في قفص الاتهام، وتبقى المثيرات والمهيجات التي تعلن عن نفسها مبرأة عن أي تسبب لتهييج الرجال، وإضعاف الوازع الخلقي في نفوسهم، فضلاً عن أن يُشار إليها بأصابع الاتهام !! ( ).
إزاء هذه الحقيقة نقول : من الذي ينظر إلى المرأة على أنها جسد؟ ومن الذي يقصر فكره ونشاطه على ما يجب كشفه أو ستره من جسدها ؟.. أتراه ذاك الذي يعترف بحقيقة غريزته ويبني عليها حكما يلزم به نفسه ليحترم إنسانية المرأة، وينصرف من خلاله عن التدني إلى مستوى التطلع إلى غاية شهوانية، أم هو ذاك الذي يصر على نفي وجود تلك الغريزة وهو يعلم مكانها في نفسه، ثم يحكم على الرجال بضرورة التنزه عنها، مصرا على إخراج النساء اللاتي بقين مئات السنين في خدورهن، وطرح غطائهن الذي لم يُثِر أي مشكلة طوال تلك القرون، فيأمر الرجال بالنظر دون شهوة، والنساء بالاختلاط دون اعتراف بوجود أي نزوة ؟( ) .
لقد رافقت الحشمة صورة المرأة منذ خُلقت وعاء للجمال والفتنة، فإذا كان هذا الغطاء الذي لا يمنع المرأة عن مزاولة أعمالها والتمتع بحقوقها قد وقف حائلاً في وجه بعض من الرجال عن التمتع بزينتها ( ) واللهو بمفاتنها ، فمن هو الذي يكرّم المرأة إذن ويحترم كينونتها ، الإسلام أم الغرب ؟ الإسلام الذي رفع من إنسانيتها وأعطاها الدور الملائم لطبيعتها كأنثى وكإنسانة ، أم الغرب الذي حولها إلى جسد رخيص يجني منها الرجل ثمار متعته ، ثم يمضي باحثاً عن ثمار أشهى في نساء أُخر ،،، والمرأة دائماً هي الضحية الشقية .
إن الموقف الغربي من الحجاب لا يمكن تفسيره إلا كلون من الحسد الحضاري، فلماذا المرأة المسلمة لا تزال تحتفظ بعفتها وإنسانيتها ؟! لماذا لا تنخرط فيما انخرطت فيه المرأة الغربية من إباحية ومجون ؟ أليس الغرب اليوم هو الذي يقود زمام الحضارة ؟ ألا ترى المرأة المسلمة كم تقدم الغرب وتفوق ؟ لماذا تصر على التحدي والمقاومة ؟ لماذا لا تقبل الانصهار في الأنماط الغربية للممارسة الوجودية ؟ لماذا تصر على الاستقلال في وجودها وكيانها ورؤيتها وتفكيرها ؟ لمَ كل هذا الإصرار على الهوية في عصر العولمة أو قل الأَوْربة أو الأَمْركة ؟ لمَ كل هذا التزمت والتعصب ؟!!
فلتخرج إذن من بلادنا أو لتلبس لباسنا ولتتحلل كما تحللنا وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ سورة الأعراف آية : 82 ] .
أجل إن التطهر قوة ، والعفة قوة ، والمنحرف يتمنى أن لو كان الناس جميعاً مثله حتى يتخلص من عقدة النقص والشعور بالغربة، فهولا يحب أن يرى أناساً يتمتعون بقوة الإرادة وهو ضعيف، ولا أناساً سعداء وهو شقي ، ولا يريد أن يرى أناساً يقاومون تيار الانحراف في الوقت الذي انخرط هو فيه ، يريد أن ينجرف الجميع .
إن فرنسا تعج بمشكلات كثيرة من أبرزها : الإدمان ، والشواذ ، والبطالة ، والجريمة ، ولم يلفت نظرها من كل هذه المخاطر شيء ، فقط شعرت بالخطر من حجاب المرأة المسلمة ، وأصدرت قراراً بمنعه !! وقرار المنع هذا سيزيد من المحجبات ، وحتى اللواتي لم تكن القضية ذات أهمية بالنسبة لهن سينتبهن لذلك، ويفكرن في أمر الحجاب ، وسر الحرب ضد الحجاب، ولعل كثيراً من الغشاوات التي أثيرت حوله تزول مع البحث والسؤال، وإذ بالحرب على الحجاب تعود لصالح الحجاب . والله أعلم بالصواب ،وإليه المرجع والمآب .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [ سورة الحشر الآيات : 18-20 ] .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين .
والحمد لله رب العالمين .