المغربي الجديد
04-07-2010, 01:34 AM
مدخل إلى الأدب الإسلامي
تقديم بقلم الأستاذ: عمر عبيد حسنة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ، بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاَّ إله إلاّ الله،الذي خلق الإنسان، علمه البيان، وأوجب القراءة والتعليم، واعتبر ذلك مفتاحاً للدين منذ اللحظات الأولى لبدء الوحي والخطوات الأولى لمسيرة النبوة. قال تعالى:
(إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ) وجعل معجزة الإسلام كتاباً خالداً، مجرداً عن حدود الزمان والمكان، وتحديه بياناً، ومهمة رسوله صلى الله عليه وسلم الرئيسة، البلاغ، قال تعالى: وما على الرسول إلا البلاغ المبين)، وناط فوز المسلم ونجاته من المسؤولية وأداءه لأمانة التكليف، بالسير على قدم النبوة في البلاغ والدعوة إلى الله بكل ما تقتضيه عملية البلاغ المبين، من وسائل وآفاق وأبعاد وحكمة وحسن أداء (قُل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً. إلاّ بلاغاً من الله ورسالاته.. ). وجعل القول السيد صنو التقوى وثمرة لها ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً.. ) فكانت الكلمة القرآنية ركيزة جهاد الأمة المسلمة. والقرآن منهل الأدب الخالد، ومصدر كل عطاء ثقافي وحضاري، من خلال آياته نشأت أمة الإسلام، وتحددت معالم عقيدتها وعبادتها وأخلاقها وتصورها عن الحياة والأحياء، ومنه تشكلت ثقافتها وبُني ذوقها العام، فكان القرآن درع الأمة المسلمة في الصمود، وميثاقها للنهوض. وأشهد أنه محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم فكان في الذروة من العرب فصاحة وبلاغه وبيان، بلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة، فهو المثل الكامل للتأسي والإقتداء ( لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة لمن يرجو الله واليوم الآخر ) .
وبعد:
فهذا الكتاب الرابع عشر ـ مدخل إلى الأدب الإسلامي ـ للدكتور نجيب الكيلاني. نقدمه في سلسلة ( كتاب الأمة ) التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، مساهمة منها في تحقيق الوعي الحضاري والتحصين الثقافي، وفك قيود التحكم التي وضعتها الأفكار والمعاهد والمؤسسات الأجنبية على حياتنا، حتى يسترد مسلم اليوم موقعه في الشهادة والقيادة، ويستأنف دوره الذي ناطه الله به، مستثمراً إمكاناته الروحية والذهنية والمادية كلها، مبدعاً وسائل وأساليب في الدعوة إلى الله، والعمل الإسلامي، في مستوى مسؤولياته الإسلامية، إلى جانب الفهم والإدراك لمتغيرات العصر من حوله، متقدماً إلى الإنسانية بأنموذج الإنسان المسلم الجديد الذي يثير الاقتداء ويغري بالاتباع.
ولا شك أن وسائل الدعوة إلى الله وأساليبها، وميادين العمل الإسلامي ومواقعة المؤثرة والفاعلة، أوسع من أن تُحصرَ أو تجمد على شكل، أو تُحاصر من قبل طاغية أو عدو أو كافر. إذا استشعر المسلم مسؤوليته واستعاد فاعليته، وأخلص النية، وتلمس الصواب، والتزام الحكمة والبصيرة التي أمره الله في البلاغ المبين. وإنما تجئ محاصرتها من المسلمين أنفسهم.
ولعل ميدان الكلمة ـ مكتوبة أو مقروءة أو مسموعة، وفعلها وأثرها ـ كان ولا يزال من أهم ميادين الحوار والصراع والمواجهة بين الخير والشر، والحق والباطل. وقد برز المعنى أكثر فأكثر في العصر الحاضر بعد أن سكت صوت الأسلحة بسبب من التوازن الدولي، وأخذت ساحات المواجهة والصراع والحوار الحضاري والثقافي ألواناً جديدة، إنها الحروب الحديثة، حروب المعلومات والإعلام، وصراع المبادئ والعقائد والمذاهب المعاصرة والدعايات السياسية والمذهبية، التي تغرق العالم بسيلها الجارف، وتحاول إعادة تشكيل عقله، وزرع عواطفه، وتحديد استجاباته، والتحكم بنزوعه وسلوكه ابتداءً، إلى درجة أصبحت معها الدول والشعوب المتخلفة في هذا الميدان، تعيش وكأنها في معسكرات الأسر والاعتقال الفكري. إنه عصر الجبر والتسيير الإعلامي،والتحكم الثقافي والسياسي، الذي أصبح يملكنا ويقتحم علينا بيوتنا ويطاردنا في أخص خصائصنا ويخطف منا أبناءنا.
لقد ولَّى الزمان الذي كان فيه بناء الأسوار، وإقامة الحدود وحراستها يحولان دون وصول ما لا نريد من المذاهب، والكتب والأفكار والأشخاص، في عصر الدولة الإعلامية. ووسائل الإعلام الفتاكة والمتنوعة، التي لم تعد تنتظر الإنسان يسعى إليها وإنما هي التي تسعى إليه وتطارده وتلاحقه وتشاركه طعامه وشرابه ولا تنفك ملازمة له حتى يستسلم إلى النوم.
فليست المشكلة اليوم، في أن نفتح أبوابنا ونوافذنا، أو نغلقها أمام المذاهب والمعلومات والدراسات الثقافية، والفنون الأدبية المختلفة، والقضايا العالمية المطروحة، وإنما المشكلة الحقيقية، هي في أن نمتلك قوة الإرادة وبصيرة الأخيار، وانضباط المقياس، فيما نأخذ وما ندع، ونمتلك القدرة على تقديم البديل، الذي يرقى إلى المستوى العالمي، ونكون قادرين على إثبات وجودنا في ساحات الامتحان الحقيقي.
لقد أصبح من الأهمية بمكان أن ندرك أن الصراع بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة أبدي، وأن المعارك الفكرية بأساليبها الفنية المتعددة هي الأخطر في حياة الأمم وبنائها الحضاري، وأن الساحة الفكرية هي الميدان الحقيقي للمعركة، وأن الله سبحانه وتعالى جعل سلاح المسلم الدائب هو المجاهد بالقرآن. قال تعالى: (فلا تُطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيرا ً) ونحن المسلمين لسنا بحاجة إلى أدلة وشواهد على ذلك. وقد ولدت أمتنا، وحملت رسالتها إلى الإنسانية، من خلال هذا الكتاب كما أسلفنا، وابتدأت الخطوة الإسلامية الأولى من غار حراء وسلاحها الأوحد إلى العالم (اقرأ باسم ربك الذي خلق ) وتجاوزت مبادئ الإسلام البلاد المفتوحة، لتعم العالم بقوة نفاذها وحسن إبلاغها، فالمعركة في حقيقتها فكرية، والمشكلة في جذورها ثقافية، والصراع عقائدي، وإن اتخذ أشكالاً شتى، لقد أصبح سلاح الكلمة اليوم أقوى تأثيراً وأكثر نفاذاً، وتطور فن الكتابة والإعلام، إلى درجة يوهم معها، أن الحق باطل والباطل حق ـ وإنَّ من البيان لسحراً ـ وأصبحت بلاد الدنيا ضواحي لدولة الأقوياء، وبدأ عصر الدولة الإعلامية العالمية سواء اعترفت بذلك الأنظمة السياسية الإقليمية أو تجاهلته، ولم تعد قضية العزلة والنزوع إلى الفردية قضية اختيارية .
ومن هنا نقول: بأن الجهود الفردية مهما بلغت سوف تبقى جهداً ضائعاً محدود الأثر، والرؤية الفردية مهما شملت، هي رؤية حسيرة، وإمكانات الأفراد مهما بلغت، سوف تبقى دون سوية الإحاطة بالقضايا والمشكلات كلها، والقدرة على مواجهتها، واختيار الوسيلة الملائمة لذلك، هذا إلى جانب العجز عن تصنيف تلك المشكلات وترتيب الأولويات المطلوبة في المعالجة، والقصور عن المشاركة في القضايا العالمية التي باتت مفروضة، ولا بد من رأي فيها وموقف تجاهها.
إن الكثير من قضايانا الفكرية ومشكلاتنا الثقافية على الساحة الإسلامية ما تزال تحكمها روح العفوية وتتحكم فيها الرؤى الفردية.
ونحن بهذا لا نريد أن نغمط الأفراد حقهم، ولا أن نقلل من شأن ما قدموا، خاصة أولئك الذين اتسمت مساهماتهم الفكرية والأدبية بالصبغة العالمية، وإنما نرى المطلوب بإلحاح هو الانتقال إلى الرؤية الجماعية ووضع (استراتيجية ) خطة ثقافية يأخذ كل منا فيها بطرف من خلال روح فريق العمل الجماعي، وندرك جميعاً انتهاء عصر الرجل الملحمة الذي يمكن أن يحسن كل شيء، فيكتب في الشعر والقصة المسرحية والفكر والتاريخ والفقه والتفسير.. إلخ حتى لا يضرب كل منا في اتجاه فتتبعثر جهودنا، والنظرات الجزئية، وتحول دون مشاركتنا ومساهمتنا في مرحلة الأفكار والآداب العالمية، الأمر الذي يتسق مع رسالة الإسلام العالمية ووظيفة المسلم في البلاغ المبين ..
لقد أصبح من الضرورة بمكان وضع خطة واضحة ودقيقة من أجل مراعاة مبدأ تراكم المعرفة في الإنتاج الفكري والأدبي الإسلامي الجديد، حفاظاً على الطاقات، ورعاية للقابليات ورغبة في الوصول إلى نتائج تخدم قضية (الأدب الإسلامي )، كما لا بد أن تقوم دراسات ناقدة، تجيب عن مجموعة أسئلة، تحدد أهداف العمل وغاياته، والحدود والشروط والوسائل اللازمة لترشيده، وتوجيهه الوجهة السليمة، وتجلي السلبيات والإيجابيات، وتفك قيود التحكم الثقافي، الذي يشل ويعطل فاعلية المسلمين اليوم.
إن غياب حركة النقد للأعمال الأدبية الإسلامية ـ إلى جانب أنه يساهم بشكل سلبي بمحاصرة الأعمال الأدبية وقبرها ـ يؤدي إلى فوضى فكرية تتمثل في ضياع مقاييس التقويم، وكثرة التكرار في الأشكال والمضامين، وغلبة السطو الأدبي، والنقاد والدارسون مسؤولون عن تقويم الأدب الإسلامي، وإبراز عناصره، وتقدير أهميتة، في صياغة الشخصية المسلمة، وبناء الذوق السليم، والناقد والأديب شريكان في عملية البناء هذه.
ومن البشائر التي طالما هفت إليها قلوبنا الإعلان عن قيام رابطة للأدب الإسلامي، الأمر الذي يضع الأدباء الإسلاميين أمام مسؤولياتهم في خدمة الإسلام وإبلاغ رسالته ـ من خلال الصورة الجمالية المؤثرة، والأساليب الفنية المتنوعة ـ وحفظ أمانة الكلمة التي تستمد جوهرها من مشكاة الوحي وهدي النبوة.
ورابطة الأدب الإسلامي إنما ولدت ـ في تقديرنا ـ كثمرة للصحوة الإسلامية، وحركة الوعي الإسلامي المعاصر، التي استطاعت أن تحيي الأصول الإسلامية في نفوس المسلمين وتجدد عملية الانتماء إلى الإسلام والالتزام والاستعلاء به، وقدرته على استيعاب الحياة المتجمدة، إلى جانب ما قدمته من الاستشعار المبكر، والقراءة الواعية والدقيقة لمجموعة من المشكلات الثقافية، وعابر الغزو، وتنبيه الأمة إلى مواطن الخطر. والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها هنا: أن الصحوة الإسلامية لم تعط قضية الأدب الإسلامي القدر المطلوب من الاهتمام وقد لا تكون قدرت كما ينبغي دور الأدب في عملية البلاغ المبين، وتأثيره في صياغة الوجدان، وتشكيل الأمة الثقافي، وبناء ذوقها الاجتماعي المشترك.
إن إقبال الجماهير على الفنون الحديثة، من القصة والأقصوصة والمسرحية، وغير ذلك من الفنون، يجب أن يفتح عيوننا على هذا السلاح الخطير، الذي يتسلح به الشر، على أرض الله الواسعة، وقد لا نكون مغالين إذا قلنا: بأن القصة والمسرح كان لهما النصيب الأوفر في تشكيل الرؤية العقائدية وإقناع الناس بها لإحدى الدول الكبرى التي تحاول أن تسيطر عقائدياً على العالم اليوم.
والخطورة التي يمكن أن تحاصر الرابطة، وتحيط بها، هي وقوعها ضحية التحزب لأشخاصها، وإعجابها بنفسها وإنتاجها، وعدم قدرتها على استيعاب العطاءات المتعددة، وتوسيع دائرة المشاركة، في الإنتاج الأدبي، أو وقوعها في أسر الأشكال والمؤسسات الرسمية، التي لها ارتباطاتها وظروفها وسياساتها الخاصة بها.
وفي اعتقادنا أنه لا بد لمسيرة الأدب الإسلامي المعاصرة، من الخروج من دائرة
التحكم، وموقع الأدب الدفاعي، والتطلع إلى الآفاق المستقبلية، ومواجهة المشكلات المستجدة، والتحديات القائمة، والانطلاق إلى البعد العالمي، والمشاركة في قضايا ومشكلات الإنسان وحمل هموم الجماهير المسلمة، بشكل خاص، وهموم الإنسانية بشكل عام، والانحياز إلى جانب المستضعفين، وتحصين الناس دون مهادنة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي.
ذلك أن التمركز في مواقع الأدب الدفاعي، والاقتصار في الجهد الكبير على مواجهة الأدب المنحل وردّ شبهاته، قد ينتهي بنا إلى نتائج سلبية، تجعل من شُبَه أعداء الإسلام والمشكلات التي يثيرونها، القضية والمساحة التي يُحكم على الأدب الإسلامي بعدم تجاوزها، وفي الأمر ما فيه من تحكم أعداء الإسلام في الساحة الفكرية والأدبية الإسلامية، ومحاصرة الجهد والنشاط الفكري والأدبي عند المسلمين بشكل عام، وتحديد ساحته ومجاله ابتداءً. هذا من جانب ومن جانب آخر قد يؤدي الأمر بناـ دون قصد منا إلى تكبير الخصوم وعملقتهم وإذاعة شهرتهم وإعطائهم من الحجم أكثر مما يستحقون.
وقد يكون من المفيد الاعتراف في هذا المجال: أن الفكر الإسلامي ـ والأدب الإسلامي جزء منه ـ ما يزال على الأرض نفسها، التي تحرك عليها أديب الإسلام والعربية، مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وما تزال القضايا التي أثارها طه حسين، وسلامة موسى، وغيرهم خلال النصف الأول من القرن العشرين ، هي المحور لمعظم الكتابات والدراسات، على الرغم مما استجد من قضايا ومشكلات حتى في مستوى الساحة الأدبية نفسها هذا إضافة إلى الغياب الكامل لأدب الطفل، الذي أصبحت له مؤسساته ودورياته ومتخصصوه على المستوى العالمي، بينما لا يزال عندنا يتعثر، ويفتقر إلى التجارب الجادة.
وأمر آخر:
فمنذ الكتابات التمهيدية الأولى، التي بدأها ونبه إليها فضيلة الشيخ أبو الحسن الندوي، حين اختير عضواً في المجتمع العلمي العربي بدمشق حيث دعا إلى إقامة أدب إسلامي، ثم جاءت كتابات الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الدعوة إلى أدب إسلامي متميز، وتلاه الأستاذ محمد قطب في كتابه (منهج الفن الإسلامي ). ثم كتاب الدكتور نجيب الكيلاني في (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) وجاءت بعد ذلك خطوة الدكتور عماد الدين خليل الرائد في هذا الطريق، في كتابه (النقد الإسلامي المعاصر ) والحديث لا ينقطع، عن أصول وطريقة الكتابة الفنية الإسلامية وهي ما تزال أطروحات عامة ـ إلى حدٍ بعيد ـ لم تنعكس بالقدر المطلوب في صورة نماذج مكتوبة، بأقلام إسلامية واعية، وعارمة بأصول الصنعة الفنية.
المشكلة في رأينا لم تعد مشكلة حوار وجدل، حول التنظير بالدرجة الأولى، ولكنها في الحقيقة مشكلة ممارسة وإنتاج وإبداع، وعبر التجارب يتبلور وجه الحق والصدق، فلا قيمة للجدل دون تقديم النماذج المعبرة عن نظرية الأدب الإسلامي، مدعومة بالنقد الذي يعرف كيف يرعى القابليات، ويكشف العثرات، ويمهد لأدب إسلامي حقيقي، ذي صفات مميزة.
ولا شك أن الطبيب الأديب الدكتور نجيب الكيلاني، لم ينطلق في كتابه هذا (مدخل إلى الأدب الإسلامي ) من فراغ. بعيداً عن المعاناة والتجربة، وتقديم النماذج الأدبية، حيث يعتبر كتابه (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) من بواكير هذا الاتجاه، إلى جانب رواياته التي قدمها كأنموذج للأدب الإسلامي (ليالي تركستان، عمالقة الشمال، عذراء جاكرتا، عمر يظهر في القدس، رحلة إلى اله.. ) والتي قدمت للجيل المسلم زاداً، في وقت كان أحوج ما يكون إليه، واستطاعت أن تنقل هموم المسلمين ومعاناتهم، على أكثر من موقع في خارطة العالم، بأسلوب أدبي أخَّاذ، أمكنه المرور على الرغم من الحراسات والرقابات الرسمية المفروضة.
من هنا نستطيع أن نقول: بأن هذا الكتاب يأتي مساهمةً طيبة، في بناء التكامل المراد. لسلسلة (كتاب الأمة ) كما أنه يشكل لبنة أساسية،في بناء منهج الأدب الإسلامي المرتقب، واستكمال مفاهيمه وتحديد قسماته وبلورة مصطلحاته، ورسم بعض الآفاق والأبعاد، التي يمكن أن يرتادها الأدباء الإسلاميون، من حيث الأشكال الفنية، بشرط أن لا تخرج هذه الأشكال عن الالتزام بالقيم الإسلامية؛ الثابتة ؛ لأن الانفلات من القيم وعدم الالتزام بها يؤدي إلى الهيام في كل واد ويفتح سبل الغواية أمام الجماهير ويغري بها .
فالقرآن الكريم ـ الذي يعتبر منهل الأدب الخالد للأدباء الإسلاميين ـ استخدم القصة والحوار، والمثل، والمواقف الخطابية، ودعا إلى المباهلة، ووظف الحدث التاريخي، واعتمد الجدل الفكري، وأسلوب المواجهة، والتقرير المباشر، والوعظ المؤثر، في سبيل تحقيق أغراضه في هداية الإنسان، وتوجيهه صوب الخالق، فالأشكال متسعة متطورة، بشرط الحفاظ على القيم الثابتة.. والله نسأل أن يلهمنا رشدنا ويهدينا إلى القول الطيب والعمل المرفوع إنه نعم المسؤول .
المقدمـــة
إن التصور البشري للحضارة يرتبط بعديد من العناصر التي لا بد من تآلفها وتفاعلها لكي ينبثق عنها ذلك الشيء الروحي والمادي وأعني به الحضارة، ومن أهم عناصرها العقيدة والعلم والتشريع والسلوك الراقي والفنون والآداب، وقيم الخير والحق والجمال والحرية وغيرها، ولقد سادت حضارات في التاريخ على اختلاف مراحله، ثم بادت، ولقد كان عطاء هذه الحضارات متفاوتاً. وكانت إحداها تركز على عنصر من العناصر، أو جانب من الجوانب أكثر من غيره، بعضها بالجانب المادي أكثر من الجانب الروحي، وبعضها الآخر أعطى النواحي الروحية العناية الأكبر، بصرف النظر عما شاب هذا الجانب أو ذاك من تصورات خاطئة أو مبتورة أو مشوهة، ولعل تلك السلبيات هي التي شكلت بذور الفناء والتلاشي في الحضارة.
الحضارة إذن في صميمها ترمز إلى القوة الفعالة في صنع التكامل البشري والرخاء والسعادة والتقدم لبني الإنسان، ومن ثم كانت لهذه الحضارات الغلبة والمنعة، وتحقق النفوذ والسيطرة، مما جعلها مثلاً يحتذى.
ونحن في واقع الأمر ـ برغم اندثار هذه الحضارات القديمة ـ نجد لها صدى في الفكر المعاصر، وفي أصول المدنية الحديثة، سواء خفت هذا الصدى أو ارتفعت نبرته، فشد اليه الأسماع.
وتقف الحضارة الإسلامية فريدة في طابعها وتأثيرها ومنابعها، ونحن لا نبالغ أو نلقي القول على عواهنه، إذا قررنا أن الحضارة الإسلامية لا تموت، لأن خلودها مرتبط بالروح التي تسري في أنسجتها وخلاياها وشرايينها ألا وهي روح القرآن كلمة الله الخالدة، وإذا كانت الحضارة الإسلامية تخضع في بعض الفترات التاريخية لعوامل الضعف والوهن والكمون، فإن ذلك لا يعني فناءها أو انتهاء دورها الخالد، والحقيقة المؤكدة أنها (فاعلة ) دائماً، ومؤثرة في كل زمان ومكان، وحينما ذكر المفكر عباس العقاد رحمه الله أن في الإسلام قوة غالبة وقوة صامدة، فقد كان يعني بالقوة الصامدة تلك القوة السحرية التي تعمل عملها في زمن الضعف والوهن في الأمة الإسلامية، وضرب مثلاً لذلك الصمود استمرار انتشار الإسلام، وقيام أكبر دولتين إسلامستين في تلك الفترة وهما أندونيسيا وباكستان(1).
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الأدب كان عنصراً من عناصر هذه الحضارة الإسلامية المتوازنة الخالدة، التي تمتد أسبابها إلى السماء، وفق تصورات واضحة صحيحية، ولم يكن من باب المصادفة أن يكون فقهاء الإسلام وفلاسفته وعلماؤه وقواده من أكثر الناس اهمتاماً وممارسة لفن الأدب شعراً ونثراً، نرى ذلك واضحاً عند ابن سينا والشافعي وابن المقفع والجاحظ وغيرهم من أعلام الفكر المسلمين عرباً وعجماً، قديماً وحديثاً.
ولم يشغل الأقدمون أنفسهم كثيراً بفلسفة الأدب وتعريفه ومفهومه، ولقد حفل نخبة ضئيلة منهم بوضع بعض التعريفات الموجزة للأدب، وخاصة الشعر، ومن العجيب أن هذه النظرات ـ ولا أقول التعريفات ـ ضمت بصفة عامة ما جال وصال فيه النقاد ومؤرخو الأدب المحدثين، ولقد وجدنا فئة منهم تهتم بنفعية الأدب من اهتمامها بمؤثراته الأخرى، بينما نجد فئة ثانية تركز أساساً على النواحي الجمالية والتأثيرية، في حين أن فئة ثالثة جمعت بين المنفعة والجمالية، وهي المدرسة الوسط التي كانت لها الغلبة في الأدب العربي القديم، وسواء أسادت هذه الموجة أم تلك، فإن حركات التجديد لم تتوقف، ولقد تناولت حركات التجديد الأسلوب، فنجد كاتباً كالجاحظ يتخذ لنفسه منهجاً وسمتا معينا في كتاباته المميزة الفريدة، وفي موضوعاته المبتكرة، التي فتحت آفاقاً جديدة في تصوير النماذج والنفسيات الإنسانية، وأبرزت عدداً من الشخصيات النمطية الباقية أبد الدهر كالبخلاء وغيرهم ، كما تناولت حركات التجديد مطالع القصائد، والصور البلاغية التي أصبحت متنوعة بتنوع الشخصيات والبيئات والأمصار، وتناول التجديد أيضاً الموضوعات، خاصة بعد الصراعات السياسية والمذهبية والمدارس الفكرية التي امتدت أصولها إلى الفقه والأحكام ووجهة النظر السياسية، وبعد التأثيرات المتنوعة لقيم الإسلام ومبادئه، ظهر شعر الزهد والحب العذري، وفي فترات أخرى شعر اللهو والمجون المنحرف، الذي كان استجابة لتغيرات جذرية فاسدة تتعلق بالعواطف والعلاقات الإنسانية، وتناول التجديدات أيضاً شكل القصيدة بصفة عامة، فظهرت المقطوعات والتواشيح والرباعيات وغيرها مما نوع في القافية، واحتفظ بالوزن، كما دخلت إلى اللغة ألفاظ جديدة، وشتقاقات مبتكرة، رفضها بعضهم وقبلها بعضهم الآخر.
وعلى الرغم من حدوث اضطرابات في القيم والمفاهيم العامة إلاّ أن النغمة الإسلامية لم تخفت أبداً، كان هناك دائماً أدباء أوفياء يحرسون التوجه الإسلامي عبر الفنون والآداب، لا يقعدهم عن ذلك شطط عابث، أو غواية متحلل فاسد أخضع الكلمة للهوه وشهواته ومجونه، ولم يكن (فن المديح كله تأليهاً وتنزيهاً لأمراء وحكام وقادة، بل حفل هذا الفن بالكثير من التغني بقيم الحضارة الإسلامية ومجدها، وبعظمة الرجال الأبرار الذين استطاعوا أن يملأوا الأرض عدلاً ورفاهية وسعادة ).
والأدب الإسلامي في تصورنا عنصر من عناصر الحضارة الإسلامية لا شك فيه، ولسان من ألسنة الدعوة الإسلامية التي تحرص أول ما تحرص على القدوة والمثل، وتهتم بالفعل دون أن تهدر قيمة القول، وقد يختلف بعضهم ـ وهم معنا في هذا التصور، وردنا على ذلك بسيط غاية البساطة، ألا وهو أن المعجزة الكبرى في الإسلام هي القرآن.. الكلمة المنزلة من عند الله، في إطار من الصدق والجمال والإعجاز، كما أن الدعوة إلى الله بنص القرآن الكريم بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (125: النحل).
وقد تبدو عملية (التنظير ) للأدب الإسلامي ميسوة وسهلة لأول وهلة، وإنها لكذلك بالفعل إذا انصب التنظير على (مضمون ) الأدب أو منبعه الفكري، لكن الأمر سوف تكتنفه الصعوبة إذا ما نظرنا إلى الشكل أو الصور الجمالية لأي فن من فنون الأدب.
التنظير للأدب الإسلامي لا يثير كثير جدل في ناحية المضمون، لكن الأشكال الفنية التي لا تكاد تستقر على حال، والتي تختلف فيها الأذواق والأفهام والمناهج الفلسفية هي المشكلة، بل أكاد أقول هي العقبة التي تعترض طريق الباحثين عن نظرية سوية مقنعة للأدب الإسلامي.
ويجب ألا يتبادر إلى الأذهان أن ذلك أمر موقع في اليأس أو محبط للعزيمة، فالخلاف حول الصورة الفنية خلاف أبدي حتى بين أبناء المدرسة الأدبية أو الواحدة، فضلاً عن أنه من الصعب، بل يكاد يكون من المستحيل تحديد أبعاد صورة أدبية واحدة لفن من فنون الأدب، فالقصة يتناولها كل كاتب بأسلوبه وطريقته الخاصة، ولو كان الأسلوب أو الطريقة واحدة لا نهدم جانب أساسي من عملية الإبداع، المقلدون وحدهم هم الذين يدورون في إطار الصورة المحددة، وحتى هؤلاء قد يتجاوزون ـ قليلاً، أو كثيراً ـ الحدود المرسومة، أما خصوصية الكاتب المبدع وتميزه فتجعله ينجب عملاً فنياً مرتبطاً بفكره وذوقه وإمكاناته الخاصة، وقد نتصفح عدداً من دواوين الشعراء العموديين مثلاً، فنجدهم يكتبون وفق قواعد عامة متفق عليها، لكننا نجد شوقي غير حافظ غير البارودي غير محمد الأسمر غير الجوهري غير الزهاوي أو العقاد وهكذا، والشيء بالنسبة لمن يسمون بأعلام الشعر الحديث والشعر الحر، وإذا انتقلنا إلى المسرح أو القصة القصيرة تواجهنا الحقيقة نفسها التي لا يمكن الهروب منها. ماذا يعني ذلك كله ؟؟
إنه يعني أن قضية الشكل الفني أو الصورة الفنية مفتوحة..
وحينما أقول مفتوحة !!! لا أعني أنها فوضى .. يتخبط فيها كل من هب ودب.. فهناك أساسيات تتعلق بالقواعد.. قواعد اللغة .. وباستقامة التعبير.. وبالموسيقى في الشعر، وبالحديث في القصة والمسرحية، وبالجماليات الأدبية الأخرى من رموز وإيحاء وإشعاع، وبأمور تخصصية أخرى في شتى ألوان الأدب، وهذه بدورها ليست قواعد جامدة، ولكنها خاضعة للمواهب الإبدائية القادرة على الإضافة والتعديل والابتكار.
الشكل الفني مشكلة في مجال وضع النظرية، لكنها مشكلة ذات طبيعة خاصة، ويمكن فهمها في إطار التجربة الطويلة، والتنوع الواسع، وفي إطار المنطق والمقبول أو المعقول، وعلى الأدباء الإسلاميين ألا ينزعجوا من مناقشة هذه المشكلة أو يتهربوا منها، ولنقرر في صلب نظرية الأدب الإسلامي أن الشكل الفني ميراث وتراث، وأنه بطبيعته متغير ومتنوع، وأن مجال العمل فيه يلتصق بابداع المبدعين، أكثر من التصاقه بآراء المؤرخين والنقاد، وهو قضية قبول بين المبدع والملتقي بالدرجة الأولى، والنافذ مجرد وسيط وجهة نظر قد تصدق وقد يجانبها الصواب، ولا شك أن حرص الإسلاميين على المضمون الفكري واطمئنانهم له، سوف يجعلهم أكثر ثقة في ارتياد التجارب الإبداعية الجديدة في كل لون من ألوان الأدب شعراً ونثراً ينطلق الأديب الإسلامي في مجال الصور الفنية دون خوف أو عقد، ويدرك يقينا معنى الحرية الصحيحة في الإبداع، تحت الفكر السليم وقد يكون لبعضهم تحفظات على هذا المنطلق، وربما يبدون وجهات نظر بصدده.. لا بأس !! لكن القضية ليست قضية حوار وجدل بالدرجة الأولى، لكنها في حقيقتها ممارسة وإنتاج وإبداع. وعبر التجارب الشجاعة نستطيع أن نتبين وجه الصدق، ونضع أيدينا على كل ما هو إيجابي ونافع ومؤثر، فلا جدوى من أن نملأ الدنيا ضجيجاً وجدلاً صاخباً، دون أن نقدم النماذج الأدبية التي تعبر بصدق وجمال عن نظرية الأدب الإسلامي.
ويتضح لنا مما سبق أن للأدب الإسلامي جانباً خاصاً وآخر عاماً.
الجانب الخاص هو جانب فكري يرتبط بالإسلام عقيدة وفكراً وتصوراً وعاطفة، والجانب العام تمتمد جذوره إلى الإبداع العربي القديم وإلى التراث العالمي المشترك الذي ساهم فيه كل شعب بنصيب، وخاصة فيما يتعلق بالأشكال الفنية التي أصبحت في عصرنا ملكاً للجميع، ولا تحجزها نزوات التعصب العرقية أو الدينية أو السياسية أو المذهبية أو الجغرافية، ولقد ضرب أسلافنا الإسلاميون العظام أروع المثل حينما لم يحجموا عن قراءة تراث الحضارات القديمة، وسهروا على النظر فيه وترجمته ونقده والرد عليه سواء أكان إغريقياً أم هندياً أم فارسياً.. فنحن ـ قديماً وحديثاً ـ جزء من هذا العالم الكبير من حولنا، أعطيناه الكثير، وتبادلنا معه الخبرات والثقافات، وهذه سمة رائعة من سمات الحضارة الإسلامية الخالدة، التي تغذت بلبان الإسلام، وترجمت بصدق عن فكرة وروحه.
ويستطيع القارىء المدقق المنصف أن يعرف ـ ازاء ما سبق ـ لماذا سميت هذا الكتاب باسم (مدخل إلى الأدب الإسلامي )، حيث أبرزت الأسس الفكرية لهذا التوجه الإسلامي، وحاولت أن أتناول أهم القضايا والمشاكل التي كانت تطرح في الندوات العالمية التي عقدت بخصوص (الأدب الإسلامي ) والتي كانت تثور في أروقة بعض الجامعات، وعلى صفحات بعض المجلات المتخصصة والصحف، وفي الندوات النقدية المختلفة.
لقد شغلني موضوع الأدب الإسلامي في فترة مبكرة من العمر، ودفعني الحماس إلى كتابة عدد من المقالات في الصحف العربية تتصل بهذه الناحية، وكانت قراءاتي للشاعر الفيلسوف محمد اقبال بداية اهتمامي الأساسي، وكثيراً ما رددت من شعره حول هذا الموضوع، شبه فيها فنون المشرق بزيف (السامري ) ـ وهو من قوم موسى ـ حينما صنع لبني إسرائيل عجلاً من ذهب له خوار، كانت هذه الأبيات تقول:
يئست فلا أرجّي في أناس لهم فن كفن السامريِّ
سقاةٌ في ربوع الشرق طافوا على الندماء بالكأس الخليِّ
سحاب ما حوى برقا قديماً وليس لديه من برق فتيِّ(1)
وكان لأعجابي بإقبال وتقديري الأثر الكبير في وضع مؤلف عنه تحت عنوان (إقبال الشاعر الثائر ) (2)، ثم أصدرت كتاب (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) من أكثر من ربع قرن، ولقد كانت هذه الدراسة المبدئية تعبيراً عما يلح في خاطري بخصوص قضية الأدب الإسلامي، لكني وجدت فيما بعد أن القضية أكبر من ذلك بكثير وأن المهمة الأولى لجيل الكتاب الإسلاميين اليوم هي المشاركة الإبداعية الإيجابية في تقديم نماذج من القصة والشعر والمسرحيات، لملء الفراغ الناجم عن غياب الحركة الأدبية الإسلامية الجادة، إيمانا مني بأن النماذج الناجحة هي الرد العلمي على حملات التشويه والتسكيك، وبدأنا..
وإذا كان الأدب الإسلامي قد اتسعت دائرة الاهتمام به في السنوات الأخيرة، فإن الجهد المبذول لم يزل دون الآمال الكبيرة التي تخفق في الصدور، ولا يفوتني في هذا المقام إلاّ أن أشير إلى الأعمال الرائدة في هذا المجال والتي قام بها إخوة فضلاء أوفياء أذكرمنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ أبو الحسن الندوي والإمام الشهيد حسن البنا،والسفير صلاح الدين السلجوقي، والأخوان الشهيد سيد قطب ومحمد قطب، والأستاذ الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، والدكتور عماد الدين خليل والدكتور أحمد بسام ساعي وغيرهم من الشعراء وكتاب الرويات والقصة القصيرة والمسرحية والنقاد.
ولقد كانت النية متجهة إلى أن أفرد فصولاً لمختلف فنون الأدب لولا ضيق المقام، فضلاً عن أننا قد أصدرنا قبل ذلك مؤلفات عن (المسرح الإسلامي ) و(أدب الأطفال في ضوء الإسلام )، ونأمل إن شاء الله في المستقبل أن نفرد مؤلفا لأدب القصة لأهميتها..
والله أسأل أن يجنبنا الزلل، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، وأن يسدد على طريق الحق والخير خطانا، وأن يغفر لنا ويرحمنا، إنه سميع مجيب الدعاء.
الدكتور نجيب الكيلاني
مفهوم الأدب الإســـلامي
الأدب بصفة عامة لون من ألوان الفنون، وهو أكثرها شيوعاً وتأثيراً وشعبية، لأنه يضم الشعر وأنواع النثر الفني كالقصة والمسرحية والمقالة والمخاطرة وترجمة الحياة وغيرها، وعلى الرغم من اختلاف التعارف التي وضعت للأدب في مختلف العصور، إلا أننا نستطيع أن نستخلص منها سمات أساسية للعمل الفني الأدبي، فهناك (الصورة الفنية ) المؤثرة التي تتشكل من عناصر عدة أولها اللغة المنتقاة، حيث تؤدي اللفظة الموحية المؤثرة وظيفة خاصة مميزة، هذه اللفظة لا تقوم بذلك وحدها، ولكن بارتباطها العضوي مع باقي الألفاظ في نسق معين، وبما تعكسه من فكرة، وتثيره من خيال، وبما تحركه من عاطفة، وتولده من اندماج، فالصورة الفنية تكاد تكون تجربة حية يحدث فيها نوع من التمازج بين الأديب والملتقى، ولوناً من ألوان الحوار الحار، والتفاعل الخصب، تلك التجربة الحياتية في إطار هذه الصيغة الفنية تبدو جديدة شيقة، وتكشف الكثير عما غمض في حياتنا العامة، وعلاقاتنا العديدة المتشابكة، وتضفي على وجودنا ثراء ومعرفة ومتعة، ومن الوهم أن نتصور أن هذا الأثر الجمالي هو كل شيء، إنه وثيق الصلة بنفوسنا وحركتها، وبعواطفنا وتوجيهاتها، وبأفكارنا ونموها، وبأرواحنا وسموها، وإذا كان إحساسنا بالمتعة والجمال في حد ذاته أثراً إيجابياً، إلا أنه يظل فرد النزعة، محصور الطاقة، محمود الفاعلية، إلا إذا حرك في داخلنا البحيرات الراكدة، وأشعل النيران الخامدة، فانطلقنا إلى مواقف جديدة، وبدأنا الرحيل إلى آفاق وعوالم أكثر حيوية ودفئاً وحاولنا أن نتفيأ ظلال واقع يمور بالحركة والتطلع، وتلك هي الإيجابية بمعناها الواسع الصحيح، فالمتعة المجردة الساكنة المنطوية، تحمل في ثناياها على نفسية تمضي بصاحبها إلى الانطواء والعزلة وأحلام اليقظة العليلة.
ولقد حاول الدارسون أن يجعلوا من الأدب مضموناً وشكلاً، وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين الشكل والمضمون، إلا أن هذا التبسيط أو التصور يبدو ضرورياً في بعض الأحيان توارثناه عن الفلسفات القديمة التي تحاول التجزئة أو التشريح من أجل الوصول إلى إدراك أوضح للأمور المعقدة، والمسائل التجريدية، ألا يمكن أن يكون في الفكرة نفسها جمال من نوع ما، ثم ألا يوحي الشكل أو الصورة الأدبية المركبة بطريقة فريدة، ألا توحي بانطباعات وتصورات تساهم في اكتمال المعنى، وبلورة الفكرة، وتجسيد المفاهيم؟ ومع ذلك فإن هذا التقسيم للعمل الأدبي إلى شكل ومضمون يبدو ـ كما ألمحنا ـ ضرورة، وليس أدل على ذلك من أن جميع المدارس الأدبية، تحاول أن توضح جذورها الفكرية والفلسفية، أو تترجم تصوراتها عن الإنسان والكون والحياة إلى وقائع في القصة أو الرواية أو العمل المسرحي، بل وفي الشعر أيضاً، وتجعل من شخصيات العمل الدرامي بالذات نماذج معبرة ـ في حوارها وسلوكها وعلاقاتها ـ عن المضامين الفلسفية التي تؤمن بها أو تروج لها.
ولقد كان لتقسيم الأدب إلى عنصري الشكل والمضمون أثر سلبي لا يمكن تجاهله، فلقد احتفى بعض الأدباء احتفاءً زائداً بالفكرة على حساب الشكل الفني، فاختلت الموازين الفنية، وضعف التأثير، وقلت المتعة، وكان ذلك واضحاً أشد الوضوح (الآداب الموجهة ) ـ بفتح الجيم وتشديدها ـ فتحول الأدب إلى نشرات سياسية، تنطق باسم حزب من الأحزاب، أو شعارات طنانة تهتم وتهتف باسم زعيم من الزعماء، أو أبواقاً إعلامية تتغنى بمجد حكومة من الحكومات، وتوارت القيم الفنية، فتعطلت وظيفة الأدب الأساسية في السمو بالأرواح والأذواق، وفقدت الأفكار حيويتها وجاذبيتها، وتضعضعت القيم الإبداعية، وأصبح الأدباء في ذيل الموكب للحاق بركب المنفعة، ولم تعد لهم الريادة والقيادة، فلم يكن غريباً أن تتدهور آدابنا المعاصرة، وتتمرغ في أوحال الذلة والهوان.
وهناك فئة أخرى من الأدباء المعاصرين، حاولوا الإفلات من جحيم الحصار والقهر، فاحتموا بغابات الإبهام والغموض السوداء، وأغرقوا في الرمز والهروب حتى يحافظوا على نقائهم الفكري، وقيمهم الإبداعية، فتقوقعوا في عالم خاص بهم، وأداروا الحوار الخاص بينهم وبين أنفسهم، ففقدوا الصلة المقدسة التي تقيم العلاقات بينهم وبين الآخرين، ولم يعد لهم التأثير المأمول في حركة الحياة، وتحريك العواطف، واتخاذ المواقف، وقد عبر أحد الشعراء المحدثين عن هذه المأساة بقوله (1):
((شاعركم جبان
يخاف من ترجمة الإفصاح
لذا تراه يختفي خلف حلكة العبارة
ينسجها من أغرب الرموز
يملؤها بالليل والأشباح
وكل قطعة تلوح كالمغارة
مغلقة على عجائب الكنوز ))
إن الغموض والإبهام ساد الآداب المعاصرة أمر مخيف بالنسبة للحاضر والمستقبل، إنه ضرب من الشذوذ وقد أصبح قاعدة، بل فلسفة يٍروج لها النقاد في مختلف الأنحاء ويعتبرونها معيار الحداثة والإبداع، فإذا الحياة المعقدة في الغرب، والخواء الروحي، والتخمة المادية، والنمط الميكانيكي للحركة اليومية، والتفكك الأسري، وطغيان الفردية، والفوضى الفكرية والسلوكية تحت شعار الحرية، والأمراض النفسية الفتاكة، إذا كان هذا كله قد أفرز في الغرب آداباً وفنوناً معتلة، فما معنى أن نختط لحياتنا في الشرق تصوراً شبيهاً لما يجري في هذا الغرب ؟؟ أيمكن القول: إن السلطة القاهرة الجائرة قد خلقت جوًّا مناسباً شبيها لما يجري في الغرب؛ لقد أشرنا فيما سبق إلى فئة من الأدباء تحت ذلك المنحى، وتوفرت لديها مبررات كافية للإغراق في الغموض، لكن البناء النفسي للشعوب الإسلامية، وطبيعة تكوينها ومثلها العقائدية والاجتماعية يمكن أن تقيها شر هذا الفساد، ولا بد أن نجهز على الفكرة القائلة بأن الإبداع هو الغموض، والصور الفنية المبهمة التي تتدفق من تيار الوعي والأوعي، فمسؤولية الكلمة ـ إن كنا نؤمن بها ـ تقتضي الوضوح دون إهدار للقيم الفنية الجمالية..
ولنتوقف عند هذه النقطة الجوهرية، فالقرآن ـ قمة البيان ـ وصورة الأدب الخالدة واضح ميسر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17) فالكلمة رمز يحمل رسالة ما، هذا في المجال العام، لكن هذه الرسالة ـ في المجال العلمي ـ محدودة، ولا تحتمل التأويل، ولا تحفل بقيم جمالية، لكنها في مجال الأدب تتوقد حيوية وإثارة، وتتسم بالجمال والمتعة، فالكلمة وسيلة، بل اللغة كلها وسيلة، وبالإضافة إلى ذلك فهي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية، يخضع مبدعها للحساب، كالفعل تماماً، وتتحدد المسؤولية بداهة فيما تحمله الكلمة من معنى، وما تخلفه من انطباع أو تأثير، فقد ربطت المسؤولية بين مبدع الكلمة ومتلقيها وبالتبعية الحركية (أو الديناميكية ) التي تشعلها الكلمة أو تغرسها في نفس وروح وفكر الآخرين، وقد يظن ظان أن المسؤولية هنا مع الغموض، فالرسالة المبهمة عبث، ولكن الواقع غير ذلك إذا أن (الصورة الفنية ) الغامضة قد تنقل إلى ذهن المتلقي وروحه اضطراباً أو تحركاً أعمى، أو انفعالاً طائشاً بلا فهم أو هدف، ولا يتولد عنها إلا التمرد العشوائي، أو الرفض الجنوني، هذا الانطباع المختل، أو الأثر المشتت يعد خروجاً على النسق البديع الذي تشربناه مع قيم الإسلام ومبادئه، وخلاصة الأمر أن المسؤولية تقتضي الوضوح، ولكنها لا تتعارض مع القيم الجمالية، وتقتضي الأثر الهادف البناء، كما لا تهدر المتعة،وإصرارنا على هذه النقطة بالذات مرتبط بأهمية اعتبار الأدب ضرورة حياتية تخص الناس جميعاً، وحق المنفعة والمتعة ميراث مشاع لمختلف المستويات، إن هناك معنى يريد أن يعبرعنه الأديب ولن تتوافر للتعبير عوامل النجاح ما لم يكن مفهوماً وقادراً على جلب المتعة والمنفعة، وهذا التصور من ناحية أخرى يرتبط بقيم الصدق والأمانة، فإذا كان بعضهم في جزء من هذا العالم أو آخر يعاني من التيه والتخبط والحيرة، فلا معنى لأن نعالج أساه بمزيد من الآداب المضطربة، المبهمة، التي تزيد من أساه، وتؤكد عذابه، وتنقل إليه مزيداً من الحيرة، وإلا كنا كما قال الشاعر(وداوني بالتي كانت هي الداءُ ).
لكن هل الغموض ضرورة عصرية، تترجم عن عصر أوغل في البذاءة والضلالة؟ ليكن.. إنها قد تقدم أعراضاً لمرض العصر، لكن أين موقف الأديب القادر على المساهمة في صنع حياة أفضل وأجمل ؟؟ وإذا كان الأديب يعبر عن الحياة خلال نفسه وفكرة، ويبدع لها صورة مؤثرة أخاذة ترتبط بذاته وخصوصياته، فتبدو متفردة جديدة، تضيف إلى عالم المتلقي كائنات وعلاقات وانفعالات مستحدثة جذابة، فلا بد أن يكون الهدف من وراء ذلك تفجير طاقات بناءة في داخل الإنسان، وإشعاره بالرضى والإمتاع، وإثراء وجوده بحيوات أخرى قد لا تتيسر له في واقع الحياة التي يعيشها، وهكذا لا يقعد به الخيال كسيراً كسيحاً، بل ينهض به إلى آفاق أسمى وأروع، وبذلك تتوقف الطاقات الإنسانية وتتحفز، وتلعب دورها الفعال في صنع حياة أفضل، ولا يتيسر ذلك إلا من خلال تصور صحيح للإنسان والكون والحياة، والعلاقات التي تنسق مسيرة المخلوقات، والقيم الأصلية التي ترسخ خطى السائرين في طريق الخير والنماء والحق والحرية والجمال الأدب الإسلامي أدب مسؤول، والمسؤولية الإسلامية التزام، نابع من قلب المؤمن وقناعاته، التزم تمتد أواصره إلى كتاب الله الذي جاء (بلسان عربي مبين ) ولا يصح أن ننخدع بالتزام الوجوديين وغيرهم (فسارتر ) يقرر أن حريته تبدأ عندما (يموت ) الإله ـ والعياذ بالله ـ لأن فلسفته تقوم أساساً على رفض الأديان والقيم والأعراف السابقة، أي أن التزامه يبدأ بعدم الالتزام بأي قيم سابقة، وبالطبع فقد أصبح كل وجودي ـ وليس سارتر وحده ـ صاحب قيم جديدة يصنعها لنفسه وبنفسه، وهكذا أصبح التفتت شعاراً، ووجد في عالم الوجوديين أنبياء زائفون بعددهم، واستهوت البدعة هذه الفارغين واليائسين، واستمالت المتحللين من القيم والأخلاق والمبادئ، ولم لا وقد فهموا أن معنى ذلك هو قمة الحرية.
إن ارتباط الأدب الإسلامي بالمسؤولية النابعة من صميم الإسلام، يقي أجيالنا المحاصرة، من السقوط في براثن تيه الفلسفات التي تعد بالمئات، إن الفلسفة الوجودية مثلاً لم تعد فلسفة واحدة بل عشرات، وحتى مدرسة التحليل النفسى انقسمت إلى مدارس عدة، والمادية الجدلية تفرعت وتنوعت، وخاصة في مجال التطبيق والممارسة، وما كان بالأمس يعد فتحاً جديداً. بل ديناً حديثاً، أصبح الاستمساك به كفراً بواحاً، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم (.. إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) ( النجم:28) وشتان بين الظن والحق.
وفي إطار هذا (الحق ) ـ لا الظن ـ يتحرك الأدب الإسلامي، وسلاحه الكلمة الطبية (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) (إبراهيم 24 ـ 25).
يقول أحد النقاد المعاصرين: (علاوة على الدور المدرك للفن، هناك مغزاه التعليمي، ولكن الفن يثقف المتفرج (أو المتلقي) بطرقه الخاصة، إنه يؤثر أول ما يؤثر على إحساسناً، ويستحوذ على انفعالنا، ويطوقها.. فالفن الأصيل يكون دوماً أخلاقياً، ما دام قد أملته قناعة الفنان الروحية الحية، ليخدم الخير، ويكافح الشر.. )
وحتى الشاعر نزار قباني يقول: (الأدب عبارة عن خنجر يغمده الشاعر في صدر الخرافات والعاهات، والانحرافات بكل أشكالها السياسية والاجتماعية .. ) (1) .
الأدب الإسلامي إذن ليس أدباً مجانباً للقيم الفنية الجمالية، فهو يحرص عليها الحرص، بل ينميها ويضيف إبداعاته إليها، والتراث الجمالي العالمي ملكية شائعة كالدين والفلسفة والعلوم، لا يحتكرها شعب دون آخر، ولا تستحوذ عليها أمة دون باقي الأمم، على الرغم من اختلاف اللغات الفنية، وخصوصيتها في التعبير والاستعارة والمجازات المختلفة، ويبقى دائماً في الفنون الأدبية عناصر تكاد تكون لازمة لهذا اللون أو ذاك، فللشعر مثلاً موسيقاه وإيقاعاته وأخيلته، وللقصة أحداثها وعقدتها وشخصياتها، ولها بدايتها ونهايتها، وللمسرحية أشرا طها الزمانية والحوارية وجاذبيتها الدرامية الخاصة، وهذه كلها كما قلنا ميراث مشترك.
والأدب الإسلامي يحرص أشد الحرص على مضمونه الفكري النابع من قيم الإسلام العريقة، ويجعل من ذلك المضمون ومن الشكل الفني نسيجاً واحداً معبراً أصدق تعبير، ويعول كثيراً على الأثر أو الانطباع الذي يترسب لدى الملتقى، ويتفاعل معه، ويساهم في تشكيل أهوائه ومواقفه وحركته الصامدة أو المتدفقة إلى الأمام.
والأدب الإسلامي يستوعب الحياة بكل ما فيها، ويتناول شتى قضاياها ومظاهرها ومشاكلها، وفق التصور الإسلامي الصحيح لهذه الحياة، ولا يزيف حقيقة، أو يخلق وهماً فاسداً، أو يحابي ضلالاً، أو يزين نفاقاً، ويطلق نيرانه على شياطين الانحراف والقهر والظلم، ومن ثم ينهض بعزائم المستعفين، وينصر قضايا المظلومين، ويخفف من بلايا وأحزان المعذبين، ويبشر بالخير والحب والحق والجمال.
والأدب الإسلامي يعبر بصدق وأمانة عن آمال الإنسان الخيرة، ويتناول نواحي الضعف والتردد والانحراف فيه بتسليط الأضواء عليها لفهمها والشفاء منها، لا لمجرد تبريرها، أو التماس الأعذار لها، تصور الأدب الإسلامي للإنسان نابع من وصف الخالق للمخلوق (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ( الملك 14)، وهو أمر يجب أن يحفل به الأديب المسلم، بعد أن قدمت الآداب الغربية ـ بل والشرقية أيضاً ، نماذج شوهاء للإنسان، وجعلت من التشوه بطولة وحرية، وصنعت من التمرد الفاسد تحقيقياً للذات، وإعلاء لشأن المخلوق.
والأدب الإسلامي ليس (عبثيًّا )، ولا يمكن أن يكون كذلك فليست الحياة ولا قصة الخلق، أو دور القدر، ولا حادث الميلاد أو الموت ليس ذلك كله عبثاً (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم 'لينا لا ترجعون ) (المؤمنون:115)، وهذا لا ينفي عن الحياة أنها (متاع الغرور )، أو أنها (.. لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد.. ) (الحديد: 20)، إنها امتحان وتجربة ودار أعمال، خلقت لهدف وغاية، ورسم لها الخالق سنناً وشرائع ونظاماً وقيماً، والمؤمن ـ دون ـ يستطيع أن يستوعب دوره الصحيح في هذه الحياة، وأن يمضي على النهج الذي اختطته يد العناية الإلهية فيسعد وينجو ويفوز.
والأدب الإسلامي ليس قواعد جامدة، أو صيغ معزولة عن الحياة والواقع، أو خطباً وعظمة تثقلها النصوص والأحكام، ولكنه صور جميلة نامية متطورة، تتزيَّى بما يزيدها جمالاً وجلالاً، ويجعلها أقوى تأثيراً وفاعلية، ولا يستنكف هذا الأدب أن يبتكر الجديد النافع الممتع، فالحياة في تجدد وتطور، وكذلك الإنسان وأساليب حياته العملية والعلمية والترفيهية، على أن يظل أدبنا في نطاق القيم الإسلامية الأصلية، ملتزماً بجوهرها وغايتها.
والأدب الإسلامي أدب الضمير الحي، والوجدان السليم، والتصور الصحيح، والخيال البناء، والعواطف المستقيمة، لا ينجرف إلى انحراف نفسي، أو اعتلال شعوري، أو مرض فلسفي تفشت جراثيمه في الماء والهواء والفنون والأفكار والسلوكيات.
والأدب الإسلامي أدب الوضوح لا يجنح إلى إبهام مضلل، أو سوداوية محيرة قاتلة، أو يأس مدمر، فالوضوح هو شاطئ الأمان الذي يأوي إليه الحائرون والتائهون في بيداء الحياة المحرقة المخيفة.
والأدب الإسلامي لا يمكن أن يصدر إلا عن ذات نعمت باليقين، وسعدت بالاقتناع، وتشعبت بمنهج الله، ونهلت من ينابيع العقيدة الصافية ومن ثم أفرزت أدباً صادقاً، وعبرت عن التزامها الذاتي الداخلي دونما قهر أو إرغام.
ذلك هو مفهومنا الشامل للأدب الإسلامي:
• تعبير فني جميل مؤثر
• نابع من ذات مؤمنة
• مترجمٌ عن الحياة والإنسان والكون
• وفق الأسس العقائدية للمسلم
• وباعث للمتعة والمنفعة
• ومحرك للوجدان والفكر
• ومحفز لاتخاذ موقف والقيام بنشاط ما .
الأدب الإسلامي مصطلح لكل العصور
إن القيم الإسلامية الكبرى تفرض سلطانها على كل العصور، تستوي في ذلك عصور الازدهار والتسامي، وعصور التخلف والتدهور، لأن هذه القيم مرتبطة أوثق الارتباط بالعقيدة الإسلامية وبمنهجها، والعجيب أيضاً أنها تبسط هيمنتها على كل الذين يعيشون على أرض الإسلام، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، لأنها في حقيقة الأمر قيم حضارية عامة، تتغلغل في النظر إلى الأشياء، وفي الفكر والسلوك، وفي العلوم الدنيوية والدينية، وفي التشريع والسياسة والحرب والسلم والاقتصاد، وفي الهدف والوسيلة، وفي آداب الكلمة أيضاً، وقد يشذ الأفراد، أو تضل الجماعات، أو يضعف السلطان وتختل الموازين، لكن هذه القيم تظل واضحة بارزة مهما ظل بعض فعلها معطلاً، فهي باقية ما بقيت السماء والأرض، صامدة صمود القرآن العظيم، تشع بأنوارها الباهرة عبر العصور المتلاحقة، لأنها أولاً وأخيراً من الرسالة الخاتمة، ومن الكلمة الأخيرة التي نزلت من السماء إلى الأرض.
وتتميز هذه القيم بأنها تضم تصوراً كاملاً شاملاً نموذجياً لكل نواحي الحياة، فالفصيلة خلق شخصي، وسلوك اجتماعي، ومنهج عملي، وحكم راشد، وعدالة سمحاء، وجهاد وعرق، وإبداع وتطور، وسياسة أمنية، وعاطفة نقية، لا تلبس الحق بالباطل، ولا تغرق في متاهات اللذة الآثمة، والجشع القاتل، والسيطرة الجائرة، والحرية الضالة، والأنانية المدمرة ، والمادية الفتاكة.. من هنا استطاعت هذه القيم أن تصنع حضارة فذة، وتقدم تجربة حية رائدة، ثم اعتورتها عوامل الضعف والقوة، والارتفاع والانخفاض، والنصر والهزيمة لكن هذه التغيرات كانت تعكس دائماً مدى الالتزام بهذه القيم أو التحلل منها، كانت حركة الإنسان سلباً أو إيجاباً، وانحرافاً أو تطابقاً، هي المؤشر لظاهرة النجاح والفشل في أي عصر من العصور.
وكان طبيعياً أن تفرز هذه القيم أدباً..
وكان منطقياً أن نطلق على هذا الأدب مصطلح (الأدب الإسلامي )، تماماً كما وضع المسلمون مصطلحات أخرى وثيقة الصلة بتلك القيم، كمصطلحات: الفقه الإسلامي، والاقتصادي الإسلامي، والحكم الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، والفتوحات الإسلامية.. الخ، فالإسلام هو الأدب الشرعي، دفع هذه (الكائنات ) من روحه ودمه، فجعلها تعيش وتنمو، وتغلغل في أعماق التحرك التاريخي، وتصبغ الفكر والسلوك والتصور، وتصنع المنهج الضابط لهذه النشاطات وغيرها.
ولم يكن هذا التصور أمراً شاذًّا كما يدعي بعضهم، لأن الفلسفات الكبيرة كلها ـ دعك من صوابها أو خطئها ـ أفرزت آداباً ـ وانطلقت من قيم معينة، فسميت آدابها بأسمائها، وتمتلئ ساحة الآداب المعاصرة اليوم بأسماء لها دلالاتها وعلاقاتها بتصورات فلسفية متباينة.. الأدب الوجودي.. الأدب الاشتراكي أو الماركسي أو الواقعي الاشتراكي.. الأدب العبثي.. أدب اللامعقول.. الأدب التبشيري أو التنصيري أو المسيحي.. الأدب الصيهوني.. حتى الرومانسية والكلاسيكية والرمزية والفرويدية والطبيعية وغيرها، كلها نبتت في (أرضية فلسفية ) معينة، فلا نرى لونا من ألوان الأدب في أوروبا مثلاً إلا وارتبط تنظيره بفيلسوف من الفلاسفة المحدثين أو القدامى، وعلى الرغم من أن الوجوديين قد أقروا بالالتزام في فنون النثر، ورفضوه بالنسبة للشعر، إلا أن غالبية الشعراء قديماً وحديثاً ينتمون إلى مدارس فلسفية أو فكرية بعينها، ويترجمون عن التأثر بها. فلماذا يعاب على المسلمين بالذات دعواهم إلى الأدب الإسلامي؟
أحرم على بلابله الدوحُ حلال للطير من كل جنسِ؟
وإذا كانت العلاقة بين بعض المدارس الأدبية والفلسفية التي تنتمي إليها علاقة تبدو أحياناً مخلخلة أو مفتعلة، أو قل غير مقنعة، فإن علاقة الأدب الإسلامي بأبيه الشرعي الإسلامي علاقة عضوية وثيقة لا يمكن فصمها إلا في الفترات الشاذة العصيبة، وفي عصور الجهل الأيديولوجي والمحن السياسية والاستعمارية، وهذا راجع لسبب أساسي ورئيس وهو أن الإسلام ليس فلسفة تجريدية، ولا منهجياً فضوليًّا يسمح له بالولوج إلى جهة، ويمنع من الدخول إلى جهة أخرى، بل هو صيغة شاملة كاملة تغطي جوانب الحياة كلها، كما أن الإسلام ليس مجرد فرضية أو نظرية تقف في استعلاء على ربوة منزلة، وتنتظر من يتوسل إليها بالقرابين والكلمات، ولكنه واقع حي معاش، فيه عظمة العصمة الإلهية، والاستجابة الصحية لواقع الحياة الإنسانية بما فيها من استقامة وشذوذ،وقوة وضعف، ومادة وروح، وفيه أيضاً انفتاح واع على تجارب البشر، ومستجدات الحياة، دون شعور بالخوف والتردد، أو عقد من نقص ومهانة، إن صلابة الاستمساك بالثابت، وعظمة المسايرة مع المتطور، والقدرة على المرونة الأصلية، على ضوء المفاهيم والقواعد الشامخة ذات الصبغة الإلهية، كما أن فيه سماحة الفهم الصحيح للأديان الأخرى وما فيها من صدق أو تحريف ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحدٍ من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك وإليك المصير ) (البقرة: 285).
ومن الطبيعي والمنطقي أن(الأدب الإسلامي ) ينمو وترعرع في ظل (القرآن الكريم ) ورحابه، وينهل من فيضه، ويغتني بمنهجية وأسلوبه ونماذجه، ويستمد منه عناصر الصدق والطهارة والقوة والدقة والأمانة، ويستشرف منه الغاية، ويغتنم الوسيلة، وفي فجر الدعوة الإسلامية، أقام الرسول صلى الله عليه وسلم للشعر منبراً في المسجد، كما قال عن شاعره حسان (إنه ينطق بروح القدس )، كما قال صلى الله عليه وسلم أيضاً (إن من الشعر حكمه، وإن من البيان لسحراً )، وهكذا استمد الشعر الإسلامي منذ شروق الدعوة ألفاظ القرآن وعباراته وقيمه وأحكامه، وسار الشعر ـ وهو أهم فنون الأدب آنذاك ـ ركاب الزحف الإسلامي المقدس، موشحاً بالقيم الفكرية والفنية أو الجمالية، منطلقاً إلى غايات أسمى وأعمق من غايات الشعر الجاهلي الذي ظل أسير العصبيات والقبليات والفخر والهجاء والمديح..
إن إشعاعات القيم الإسلامية اخترقت الحواجز والسدود، وخالطت علم العلماء، وأدب الأدباء، وسلوك الساحة واللغويين والفقهاء،وحققت ذلك التجانس الهائل في مجالات الفكر والسلوك، دون قيود على الإبداع الفني، أو التجريب العلمي، أو الابتكار الحربي والإداري والحرفي، ومن هنا تولدت حضارة فذة، بعيدة عن التشوهات الخلفية والخلًقية، فضربت مثلاً رائداً في تاريخ الحضارات الإنسانية قديمها وحديثها، ثم كانت هي الأساس لما جاء بعدها من حضارات تالية أو معاصرة، على الرغم من الانتكاسة الرهيبة التي يعاني منها المجتمع الإسلامي اليوم.
وعلى الرغم من وجود فئات ظلت معتنقة للنصرانية أو اليهودية في إطار المجتمع المسلم إلا أن هذه الفئات ـ مع ولائها لدينها ـ ظلت معتنقة لتقاليد الحضارة الإسلامية لمنهجها وسلوكها، فصدرت عن هؤلاء آداب وفنون وعلوم لا تختلف كثيراً عن نتاج القرائح المسلمة الملتزمة، وهكذا طغى عليهم النصر التاريخي النادر المثال للحضارة الإسلامية، ولو لم يفعلوا ذلك لانقرضوا وما سمع بهم أحد، وهذه الظاهرة فيها أيضاً ما يدل دلالة واضحة على تسامح الإسلام وشموخه، كما أن فيها أن النصر لا يكون بالحديد والنار، وإنما بعظمة المبادئ الإلهية الخالدة التي تنحني أمام عظمتها الرؤوس.
الأدب الإسلامي ـ برغم ترهات المبطلين والمخدوعين ـ جزء من بنية البناء الإسلامي الكبير، وهو التعبير بالكلمة عن أيديولوجيتنا العظيمة، ووسيلة أساسية من وسائل الدعوة في هذا العصر، وهو منهج إعلامنا في مواجهة الإعلام الصليبي والشيوعي والماركسي والوجودي المدمر، هو (سلاح العصر ) في معارك الفنون والخبر والطوابير الخامسة، وهو أولاً وأخيراً الحامل (المضمون ) العقيدة التي نحيى لها وبها، ونستشهد في سبيلها (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمةٍ خبيثة كشجرةٍ خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاءُ ) (إبراهيم: 24ـ25ـ27).
واللغة العربية تستمد بقائها وتميزها من القرآن الكريم الذي كُتب بها، فزادها شرفاً ورفعة، وربطها بأعظم قيم الوجود وعقائده، وجعلها تمتد بين والأرض أبد الآبدين، ومن ثم فإنها اللغة الطبيعية والأساسية للأدب الإسلامي، ولكن هذا لا يعني قصر الأدب الإسلامي عليها وحدها، لأن تباين العالم الإسلامي واختلاف لغاتة يجعل من الضروري لهذا الأدب العالمي أن يكتب بلغات أخرى كالفارسية والأردية والتركية، بل والإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من لغات الدنيا، ولا غرابة في ذلك، فأدب الواقعية الاشتراكية، وكذلك الأدب الوجودي وغيره يكتب بمختلف اللغات، وفي كل لغة جمالياتها وقدرتها التعبيرية المؤثرة، والواقع أننا نظرنا لكلمات الشاعر الفليسوف إقبال كما نطرب لأشعار ابن الفارض والبوصيري وشوقي، ومن المعروف أن لغات العالم الإسلامي قد تطعمت بالكثير من الألفاظ العربية وأساليب لغة القرآن وجمالها، واستلهمت قيمة البلاغية والفصاحية، ونهلت من مضامينه الفكرية الخالد، والأهل يحدونا أن تصبح اللغة العربية سائدة في مختلف بلدان العالم الإسلامي، دون أن يعني ذلك إلغاء لغاته المحلية، ولا شك أن تجربة باكستان في هذا المضمار تعتبر تجربة رائدة، أن أصبحت العربية لغة أساسية في بعض مراحل التعليم، فضلاً عن القرآن يُقرأ بالعربية في كل الأنحاء، وكذلك الحديث الشريف. وقد يقول قائل:
( إنه من الخطر أن نهمل مصطلح (الأدب العربي ) الذي توارثناه جيلاً بعد جيل، وأصبح يشكل تراثاً ضخماً عامراً بالكنوز والعطاءات العلمية والفنية، ونحن لا نهدف إلى ذلك مطلقاً، فالعربية كما قلنا لغة القرآن، والحفاظ عليها فريضة، فضلاً عن أنها اللغة الأولى والأساسية للأدب الإسلامي، إن الذي نريده في الواقع هو أن يكون الأدب العربي أدباً إسلامياً، أو بتعبير آخر أن يكون مصطلح (الأدب الإسلامي ) ضمنياًّ أدب عربي بالدرجة الأولى، ولا يظنن ظان أدبنا العربي منذ فجر الدعوة ومروراً بعهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم حتى يومنا هذا، لم يكن هذا الأدب إلا ترجماناً للثقافة الإسلامية وحضارتها يستوي في ذلك الأدب المسلمون وغيرهم الذين نعموا بالحياة والحرية والتعبير والعمل في ظل المجتمع الإسلامي أبان صعوده وهبوطه، فالثقافة الحقيقية منهج في الفكر والسلوك، ولم يكن المجتمع الإسلامي بكل طوائفه وفئاته وأقلياته من معتنقي الأديان الأخرى إلا متأثرين بذلك الطابع الإسلامي الشامل، ولهذا فإن إحياء مصطلح (الأدب الإسلامي ) إنما هو في الواقع إيضاح لأيديولوجية ما نسميه بالأدب العربي أو الفارسي أو غيرهما، وهو بمثابة إعادة الأمور إلى وضعها الصحيح، ولا يمكن تفسير الغفلة التي سادت القرون الغابرة إلا لأنهم اعتبروا الأمر تحصيل، فالأدب العربي إسلامي بالضرورة، أو هكذا يجب يكون، لأنه ترجمان الحضارة الإسلامية بكل جوانبها، ولأنه كان وعاء للتبادلات الفنية والفلسفية العلمية بين مختلف الجنسيات والثقافات القديمة، ولا يقلل من هذه الحقيقة انسياق الشعراء وراء بدع العصبيات والمدح والفخر الجاهلي والمجون، فذلك التمرد ( الفني ) والذي يرتبط بالشعر أكثر من غيره ). ( والشعراء يتبعهم الغارون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ). (الشعراء : 224ـ 227).
إن النظرة العامة للشعر العربي القديم باعتبار (أعذبة أكذوبة ). وعلى أساس أن الشعراء يهيمون في كل وادٍ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، وقد جعل المؤرخين والكتاب يتقبلون مصطلح (الأدب العربي ) باقتناع ورضى، ولو أنهم استمسكوا بالآداب والقواعد التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم لشعراء الدعوة الإسلامية، حين أقام للشعر في المسجد منبراً، وحينما طلب منهم أن يجابهوا الشرك وأعداء الإسلام، لو أنهم فعلوا ذلك لما حدث الانفصال بين والشعر والدين بعد العصر الأول، ولما انعزل هؤلاء الإسلاميون من الشعراء في مواقعهم الخاصة، بعيدة عن انهيار الشعر وجنوحه إلى الانحراف والنفاق والتكسب، وبيع الكلمة في سوق الرقيق.
والأدب الإسلامي بداهة لا يرتبط بعصر دون عصر، إنما هو أدب كل العصر، لكن مفهومه الواضح المتصل بالعقيدة، يتشكل تبعاً لأحداث التطور، وترادف الإبداعات المتجددة، ونحن نرى المذاهب الأدبية الغربية نفسها ترتدي أثواباً جديدة من وقت لآخر، فالكلاسيكية القديمة اتخذت عند عصر البعث الأوروبي شكل الكلاسيكية الحديثة، كذلك تعددت (الواقعية )، وأصبح لها عشرات الأسماء والمفاهيم (والرمزية ) تتوعت، بل إن أدباء المذهب الواحد، في العصر الواحد، كانوا أنماطاً متمايزة ولم يتقوقعوا في قوالب محددة جامدة من صنع المذهب.
نقول: لم يغب المنهج الإسلامي عن الأدب العربي في مختلف العصور، فإذا ما تفحصنا كتابات أديب رائد مجدد (كالجاحظ ) نلاحظ أنه يحدد أهم وظيفة للأدب، وهي (إصلاح العالم، والمساهمة في تكوين الفرد تكويناً جديدا ً) وهذا التصور في معناه العام لا يختلف عما قاله الروائي السينمائي المعاصر (إنمار برجمان ) ـ (مهمة الفن إعادة تشكيل الحياة ).
ويقول الجاحظ أيضاً: (لكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء.. إن غاية البيان وعلم الجمال هو الفهم والإفهام ) وحينما يتحدث الجاحظ عن أحسن الكلام يقول:
(هو الذي يصنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة ) ويرى الجاحظ أيضاً أن الحداثة لا تتعلق دون آخر، لأنها لا تتعلق بالرمز بقدر ما تتعلق وقدرته على التأثير.. فالصياغة هي الجديدة وهي الحداثة، لأن المعاني موجودة فعلاً من قبل.
الأدب الإسلامي إذن لإفراز طبيعي لمجتمع مسلم، والذين يعارضون هذا التصور يهدرون الأصول والبديهات والوقائع التاريخية، ويتجاهلون التجارب الإنسانية الوفيرة، ويجعلون الفنون منبتة الصلة بتربتها وبيئتها وينابيعها الفكرية والدينية، ويخلعوها عنها صفة التعبير الصادق، وينزعون أواصرها التي تعطيها نموها وجمالها وـأثيرها، وإلا فأتوا إلينا بأدب لم يصدر عن منطلقات إنسانية عاطفية وفكراً وموقفاً، بصرف النظر عن ماهية هذه العاطفة، أو طبيعة هذا الفكر، أو كنه ذلك المؤلف .
كل ما أريد أن أخلص إليه في هذا الموقع هو أن نضع حداً لهذا الجدل الصاخب حول المشروعية الأدبية لمصطلح (الأدب الإسلامي )، وأن ينطلق الأباء الإسلاميون نحو غايتهم الواضحة، وفق برامج متفوقة، ووعي صادق، وأن يهتموا بتأصيل القيم الجمالية، ومضامينهم الفكرية الأصلية، لأن التجربة هي ساحة الامتحان الحقيقي، والنجاح الحق يفرضون وجوده، ويفسح للأديب مكاناً لائقاً في دنيا الكلمة، ويجعله شريكاً ـ بل رائداً ـ في بناء الإنسان والمجتمع الجديد، وهو في الوقت نفسه، يرتفع بالأذواق، ويسمو بالروح، ويحيى الوجدان، ويقوم اعوجاج النفس، ويتصدى للهجمة الشرسة التي تريد أن تعصف بمقومات وجودنا كله.
والأدب الإسلامي وثيق الصلة بالصحوة الإسلامية المعاصرة في مجالات التشريع والسياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام، وقيام هذا الأدب بمهامه يعتبر أمراً حيوياً لتجنب العثرات، واستمرار المسيرة، والتمهيد لغد أفضل، وحشد الطاقات لصنع التغير والتمهيد لغد أفضل، وحشد الطاقات لصنع التغيير المرتقب، وبدون الأدب الإسلامي نكون قد أهملنا سلاحاً فعالاً من أهم أسلحة المعركة.
البطل في الأدب الإسلامي
البطل في العمل الأدبي ـ قصة أو مسرحية أو ملحمةـ هو تجسيد لمعانٍ معينة، أو رمز لدور ما من أدوار الحياة وخاصة الهامة منها، وقد يكون هذا البطل أنموذجاً يحتذى، أو مثالاً سيئاً يولد النفور والاشمئزاز، وهو في كلا الحالين ذو تأثير إيجابي قبولاً أو رفضاً، وكلما كانت الشخصية ـ البطل ـ قريبة من الواقع، حافلة بعناصر الإقناع، مكتملة الملامح والسمات، أصبحت أكثر جاذبية وأعمق تأثيراً.
ولشخصية البطل مواصفات بدنية ونفسية وعقلية، كما أنه يرتبط بسلوكيات في الأفعال والأقوال والقيم، تجعله أكثر تحديداً وظهوراً، ولا ينفي ذلك التصور أن تخضع هذه الشخصية لمؤثرات وعوامل ومواقف تغير من تصرفاتها، وعواطفها وأفكارها وأحلامها، وتطورها من حال إلى حال، وقد تصاب هذه الشخصية ـ لأسباب فنية أو موضوعية ـ بالتجمد أو التحجر.
وترتبط شخصية البطل ـ وخاصة في المسرحية ـ بمظاهر خارجية لها دلالاتها كالملبس والحركة والصوت ورد الفعل وغير ذلك من الأمور الواضحة التي تبدو للعيان، وهذه كلها ـ في كثير من المواقف ـ جزء لا يتجزأ من تلك الشخصية.
وتختلف سمات الأبطال في الآداب العالمية قديماً وحديثاً من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى آخر، لأن الظروف التاريخية والجغرافية أو البيئة، تساهم في بلورة الشخصية وتعطيها أبعاداً داخلية وخارجية متميزة، كما تتغير المهمة المنوطة بالبطل وفق الكثير من التصورات العقائدية والنظرة إلى طبيعة الحياة وما يجري فيها من أحداث، وما يناط بالمرء فيها من عمل، وطرائق كسب العيش، والانهماك في قضايا عديدة تتعلق بالحرب أو السياسية أو الاقتصاد أو العمل اليومي وغير ذلك.
وكانت الترجيديات الإغريقية تختار بطلها من الملوك والأمراء والقادة الكبار، بينما الواقعيات الحديثة بالإنسان العادي البطل، الذي يصارع من أجل حياة أفضل، وكان المثال ـ البطل ـ الإغريقي يصارع قوى الشر وآلهة الأولمبي ، وفق قناعات وثنية مادية، بينما المثال في الواقعية الاشتراكية مثلاً ينازل التمايز الطبقي، والاستغلال الرأسمالي،في جو من الأحقاد والحزازات وسوء الظن، طبقاً لفلسفة معينة تستند إلى ما يسمى بحتمية الصراع الطبقي، وانتصار طبقة بعينها هي طبقة البروليتاريا.
ويتميز البطل (الوجودي ) بحساسية مفرطة، ووعي عقلي فلسفي يبدو جليا في تصرفاته وأحكامه وسلوكه، كما يبدو في رفضه الكامل لكل المسلمات القديمة ـ صحيحها وباطلها ـ وينفر من القيم الدينية وأخلاقية، ويظن أن هذه أنما جاءت لتكبل إرادة الإنسان، وتهدم حريته التي تعتبر أهم قيمة في وجوده، ولذلك جاء البطل متمرداً رافضاً ساخطاً على كل شيء في الحياة القائمة.
وفي هذا الجو أيضاً ولد البطل العبثي الذي لم يجد في الحقيقة قيمة يتشبث بها حسبما صور له وهمه، فلا هو نعم بالإيمان الموروث، ولا هو ابتدع بناء خلقياً جديداً، بل لم يجد أي جدوى من هذا أو ذاك، فانطلق دون وعي أو منهج، واعتبر اللا فلسفة، وكيف لا يفعل ذلك وهو يرى أن العشوائية والفوضى تسود كل ما في الوجود، وأن الموت قادم لا محالة، وأنه ليس وراء الموت شيء، هذا الخلاص المزعوم جعله يتخبط ويمارس حياته في طيش وجنون، بعد أن عطَّل وظيفة الضمير ، وأغلق قلبه وعقله عن فهم الحياة على وجه صحيح.
وكفر البطل الرومانسي بالعقل، وتشبث بحرقه العواطف وتهويماتها، وأخذ يتغنى بحرمانه وعذابه وأساة، واستعذب ذلك التوهم، وغرق في بحوره العاصفة، دون أن يحاول الخروج من هذا الكابوس الرهيب.
وكان البطل في إطار المادية والفرويدية والطبيعية وليداً والطبيعية وليداً للتقدم المادي الخارق في مجالات العلم والصناعة والتقنية، فهذا البطل لا يؤمن إلا بما يراه ويحسه ويسمعه أو يتذوقه، وليس وراء عالم الحواس شيء آخر، ولم يعد للجانب الروحي أو المينا فزيقي في الإنسان قيمة يعترف بها علميا، مادام خارج التصور المادي للحياة، ولا يمكن قياسة بالمقاييس، أو إثباته في أروقة معامل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وغيرها.
كانت الفلسفة والأدب في القرون الثلاثة ـ أو الأربعة ـ الأخيرة يسيران جنباً إلى جنب، واحتدمت حرارة الحوار، وبالتالي حرارة الصراع بين المدارس المختلفة الفكر والفن، بل في إطار المدرسة الواحدة كانت تخرج تيارات فرعية، تثير من الجدل والصراع في داخل المدرسة الواحدة، أكثر مما تثير مع المدارس الأخرى المخالفة ويكفي أن نشير إلى التيارات والمدارس الفرعية التي تولت عن الواقعية أو الرمزية أو الرومانسية مؤكدة في هذا البحر الهائج من الفلسفات والاتجاهات والتفسيرات، بل أن الدارس أيضا يقف مذهولاً وهو يقرا تاريخ تلك المدارس، وكيف سطعت وترعرعت، ثم كيف أخذت تتمزق وتذبل، ثم كيف يحكم عليها بالخطأ.. بل بالفناء، وقد يكون الأمر مقبولاً بالنسبة لاتجاهات فنية وتتوهج ثم يهال عليها تراب النسيان، أما الفلسفات ـ وهي عادة تقوم على أسس أدق وأعمق ـ فإن الأمر يعتبر غريباً، وخاصةً أن بناتها عرفوا بالتفكير المنهجي، والدقة في البحث، والتأني في الوصول إلى النتائج .
ولم يخل الأمر من وجود تيارات دينية فنية وفكرية في أوربا أباك ذلك الصراع المحتدم، حيث ظهرت فئة من رجال الدين المسيحي تبنوا قيماً دينية واخلاقية، وصاغرها في إطار فلسفي، ونجح منهم فنانون وأدباء في تقديم نماذج قادرة على التصدي والذيوع، لكن الزحف المادي الجديد كان أقوى من أن يتراجع أمام الأدب المسيحي المدافع.
في هذا الجو المشحون بالجنون الفكري والفن، أصبح لشخصية (البطل ) في الآداب الأوروبية الجديدة سمات وملامح تعبر بقوة عن هذه التيارات الصاخبة، التي كانت ومازالت غير قادرة على الرسوخ والصمود، وبدا البطل بصفة عامة عامة ـ كإنسان العصر ـ غريباً، هذه الغربة المحزنة وصمت البطل، وجعلته ساخطاً رافضاً متمرداً، لا يعرف المأنينة والاستقرار، ولا ينعم بالسعادة ولا ينعم أو الحب الحقيقي، إنه يعاني الأوراق والاكتئاب، والوحدة والعجز، عن خواءه الروحي، وإمكاناته المحدودة، وخضوعه لسيطرة الآلة، ودورانه في ساقية المطالب المعيشية الآنية، قد أفرغت كيانه من مقومات القوة وافرادة القادرة على صنع التغيير، وإن فقره العقائدي قد جرده من أهم أسلحة معركة الحياة.. ذلك هو البطل المعاصر في الآداب الأوروبية، بل وفي آداب الشرق التي تقلد وتعيش عالة على التراث العلمي والتكنولوجي والفكري للغرب
بطل يائس، يتغنى بيأسه، ويقدم التراتيل والصلوات المرذولة بطل متمرد رافض، قد تنكر لكل شيء، فمات بين جوانحه الأمل بطل منطوٍ منعزل، تقطعت روابطه بدفء الأخوة والصداقة، فأصبح في التيه وحدة.
بطل هارب إلى الحانات والمراقص والموسيقى المجنونة، يغرق تعاسة في الخمر والمخدات والشذوذ، يمضي مختاراٍ إلى حيث الفناء.
بطل غارق حتى أذنيه في الوهم، يخدعه الساسة، وتخدره الفنون، ويصنعة الإعلام دمية تتحرك حسب الأوهام والأهواء بطل بلا فضيلة.
ولو كان هذا الإنسان مدركاً حقاً لمأساته، راغباً في التخلص منها، لهان الأمر، لكن تراكم الترهات والخداع، واستغلال (العلم ) فيما يُقدم من تحليلات وتفسيرات، قد ذاد الطين بلة، وأكد أن الكارثة باقية، فالبطل لا يعرف أنه مريض ويحتاج إلى علاج، وهكذا تمضي الفنون بالإنسان التعس من متاهة إلى أخرى.
والآن، بعد أن استعرضنا صورة البطل في الآداب المعاصرة، فما هو التصور بالنسبة للبطل في الأدب الإسلامي؟؟
إننا لن نجد صعوبة تذكر في وضع التصور الملائم لذلك، فالبطل ـ إسلامياً ـ هو (القدرة ) أو النموذج أو المثال الحي، الذي تتجسد فيه القيم الإسلامية، هذه ناحية هامة، لكنها لا تغلق الباب أمام (نماذج ) الضعف البشري، أو البطولة الناقصة التي تحتاج إلى تجربة ومعاناة وهي في طريقها إلى النمو والاكتمال، وهذا دور هام لا بد وأن يختفي به الأدب الإسلامي، فما أكثر النماذج الشائهة أو الجانحة أو المنحرفة، وهي طبيعة كل مجتمع قديماً وحديثاً، وشرقاً وغرباً، بل ربما كانت هذه النماذج الناقصة أكثر جاذبية بالنسبة لحامل القلم، لنه يجد فيها مادة خصبة للمعالجة ومحاولة إخضاعها للعديد من العوامل والمؤثرات أو الأحداث حتى تحقق من خلال نموها وتطورها بأسلوب مقنع ليصل إلى المثال المطلوب، أو القدرة المنشودة، لأن مهمة الدعاة ليست قصراً على النماذج الصالحة الطبية وحمايتها من الانزلاق أو المروق فحسب، ولكن المهمة الأكبر تكمن في استنقاذ الجانحين، وإصلاح الفاسدين، وفتح باب الأمل اليائسين أو المترددين، والأخذ بأيدي التائهين إلى طريق الحق والخير والجمال.. البطل في العمل الأدبي الإسلامي هذا.. وذاك.. لأن الخروج من المأزق بطولة، وكذلك التخلص من سلبيات السلوك، وهواجس الضعف، الضعف، وإغراءات الحياة الزائفة، والانتقال من حال متردية إلى حال متسامية، والخروج من السلبية إلى الإيجابية، والتخلص من أدران الشك والخوف والتسيب، والقدرة على بدء حياة نقية جديدة.. كل هذا يعتبر ضرباً من البطولة، الجديرة بالإبراز والتمجيد لأنه يعني انتصار الخير على الشر في قلب الإنسان أولاً، وفي معترك الحياة ثانياً، ومن هنا كانت التوبة التي أنعم الله بها على المسلم، وجعلها باباً مفتوحاً حتى نهاية الحياة.
والبطل في الأدب الإسلامي حكراً على طبقة اجتماعية دون أخرى، فالإسلام مجتمع متجانس، أساس التفاصيل فيه (..إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى )، والتقوى ليست صلاة وصوماً وعبادة فحسب، ولكنها جهاد في سبيل الله، وكفاح من أجل لقمة العيش، ودأب على تحصيل العلم، وبراعة في الصناعة، وصدق في القول والعمل، وتكافل اجتماعي، وإبداع فكري، وزارعة وتجارة، وقيادة وجندية وأمانة وعدل ووفاء، وطهر، ونقاء ، وبر وتسامح، إنها ملتقى لكل القيم والمبادئ والآداب التي بها الإسلام الحنيف .
شخصية البطل إذن قد تكون (بلال بن رباح ) العبد الحبشي، وقد تكون (أبو بكر الصديق ) خليفة المسلمين، وقد تكون (سلمان الفارسي ) أو (حمزة بن عبد المطلب ) القرشي، وقد تكون (سمية) زوجة ياسر أو رفيدة أو غيرها من النساء، وقد يكون فتى يافعاً، أو شيخاً مسناً .
إن البطل ـ كما قلنا ـ تجسيد لفكرة يرى الكاتب إبرازها، لتؤدي دوراً تمتزج فيه المتعة لدى لفكري يرى المتلقي، فيتفاعل معها ويتأثر بها، ومن ثم تتولد لدى ذلك المتلقي قناعات بعينها، قد تدفعه إلى اتخاذ موقف، وهذا التأثير واسع الآفاق، رحب المدى، فقد ينمو ويتسع أكثر مما في شخصية البطل، وهذا راجع إلى عاملين أساسيين: أولهما قدرة الكاتب على الوفاء بمقتضيات الفن والفكر، بحيث لا يحد من رؤية المتلقي، ولكن يدفعه إلى مزيد من التفاعل والتفكير فيخرج بإضافات وتخيلات وابتكارات، تجعل الرؤية أكثر عمقاً وشمولاً، وكأن المتلقي في هذه الحالة يتحول ـ تلقائياً ـ إلى امتداد طبيعي لفكرة الكاتب وتصوراته المتنامية المتفاعلة، أما العامل الثاني فهو اندماج المتلقي مع العمل الأدبي، وتقبله له بحساسية ورضى صادق، ولا شك أن اكتمال هذه الدائرة يحقق الهدف الأسمى من الأدب، فالأدب الإسلامي بالضرورة قوة فاعلة، مغيرة إلى الأفضل، وإلا تكون وظيفته إذن؟؟
لكن كيف يبتكر الكاتب شخصية البطل ؟؟
إن الكاتب لا ينتخب الشخصية عشوائياً، كما أنه لا يسطر كلماته من فراغ، قد يلتقط الكاتب من الحياة شخصية جذبت انتباهه بقوتها أو نقائها أو صمودها أمام العواصف والأنواء، أو تمردها على الشر والباطل، أو جهاد في سبيل الحق والخير، أو استمساكها بقيم الحب والفضيلة، أو تضحياتها الملفتة للنظر، فيرى الكاتب أن هذه الشخصية الحقيقة تستطيع أن تؤدي دوراً أخاذاً في عمل أدبي، وأن تبلور فكرة أو سلوكاً أو قضية من القضايا، فيبدأ في تطويعها لعملة الأدبي..
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، لأن الكاتب لا ينقل الحياة أو الشخصية كما هي بأسلوب فوتوغرافي، إنه يضيف إلى تلك الشخصية لمسات وظلالاً وسمات جديدة، ويحشد لها الأحاديث المناسبة، ويتخيل الحوار المناسب، ويدخل بها ومعها في وقائع وممارسات متخيلة تكشف عن دخيلة الشخصية وتفسر حركتها وفكرها، المهم أن الكاتب قد يحذف وقد يضيف، حتى يستوي أمامه النموذج الذي يريد، وهكذا نرى أن شخصية البطل ليست صورة طبق الأصل من الواقع ولكنها كائن حي جديد تكاملت لديه المواصفات والأسباب التي تجعله قادراً على أداء دوره، وفي هذه النقطة بالذات تتفاوت القدرات الإبداعية من كاتب إلى آخر، ويتميز نتاج كاتب عن آخر، إنها الخصوصية، وهنا يحضرني ما قاله الأديب الكبير نجيب محفوظ في أحد أحاديثه الصحفية: (الشكل فيما أعتقد هو كيف يمكنك أن تبرز أسلوبك الشخصي في العمل الأدبي أو الفني، قد استفيد مثلاً من المؤرخين، لكن لا يصح أن يغيب أسلوبي .. إن التطور الطبيعي للأدب يستفيد من الأدب السابق، سواء أكان امتداداً له أم تطورياً، لكن ما الذي يضيفه الكاتب؛ الكاتب يضيف نفسه إلى الرواية.. فالجديد الفنان نفسه.. والفنان بالطبع هو عصره.. )
وهناك أدباء لا تكون شخصية البطل هي البداية، ولكنهم يبدأون بالفكرة، إن أدبياً مثل (برنارد شو ) يهتم بالفكرة أشد الاهتمام (الفكرة لديه هي البطل الحقيقي ) فإذا ما اكتملت الفكرة في ذهنه، بحث عن النموذج الإنساني الذي يتلبس بهذه الفكرة، ويتحرك في نطاقها وبتأثير منها، وهكذا تأتي ردود الأفعال مرتبطة بالفكر أكثر من ارتباطها بالبطل، إنه بلا شك يحاول أن يحافظ على (وضع ) الشخصية وإمكاناتها وتحركاتها، لكننا نلمح الفكر وراء كل حركة أو حوار، وقد لا يكتفي المؤلف بذلك، بل يلجأ إلى التعبير المباشر من خلال الحوار في المسرحية أو السرد في القصة أو الصياغة الشعرية في القصيدة أو في الملحمة، وعلى الرغم من اختلاف النقاد حول مشروعية ذلك التصرف في الأعمال الفنية، إلا أنه حقيقة واقعة، وبعضهم يتحمس لها، وخاصة أصحاب المذاهب والأفكار التي يروجون لها على حساب جزء من الصياغة الفنية .
ويرى بعض كتاب القصة والمسرحية في العمل الأدبي قد تتمرد!! كيف ؟؟ إن الكاتب يضع تصوراً عاماً عن الشخصية التي التقطها من الحياة، وأضاف إليها أو حذف منها لكن اندماجه في العمل ، ومسرحية في جنبات الرؤية التي يعايشها خيالاً، قد تجعله يخرج عن الخط المرسوم للشخصية فيضيف سمة أو عملاً أو قولاً لم يكن في الحسبان، ولم يخطر بباله قبل، لكن الأمر لا يبدو على هذه الصورة الحتمية في الواقع، لأن يقظه الكاتب، واستيعابه لأطراف القضية المطروحة قادراً على اتخاذ الموقف المناسب، أما الفئة الأخرى من الكتاب الذين يضيقون عادة بالالتزام فهم أكثر استسلاماً للتلقائية والعفوية في رسم الشخصية وتحريكها.
ويتساءل بعضهم عن مدى حرية الكاتب في تناول شخصية البطل التاريخي، هل يستطيع أن يضيف أو يحذف، وخاصة بالنسبة للشخصيات التي اكتسبت نوعاً من القداسة أو التبجيل على مدار الحقب
إن الكاتب إذا التزم حرفياً بما جاء في كتب التاريخ ، فلن يقدم عملاً فنياً، بل سيكون ما طرحه مجرد عرض تاريخي، وهو أدخل في باب العلوم، منه في باب الفنون، وهناك أمور تقتضيها القصة بمعناها الفني منها النوازع النفسية، والترجمة عنها في أعمال أو أقوال، وهناك المواقف الناقصة فنياً والتي تحتاج إلى استكمال، وهناك عوامل القوة والضعف التي قد تعتري الإنسان العادي، أو البشر بصفة عامة، وهناك نمو الحدث وما يتطلبه من صنعه قد تجر إلى الإطالة أو الإيجاز، وأمور أخرى كثيرة لا مجال لشرحها بالتفصيل، ويجد فيها الكاتب معاناة شخصية لا يستطيع أن يدركها على حقيقتها غيره، إنها مشكلة بالفعل، لكن بالتفكير الواقعي قد نجد لها بعض الحلول فإذا ما تناول الكاتب شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي مثلاً، فلا بد أن يكون قد درسها دراسة مستفيضة وألم بأبعادها، وعرف القيم والمبادئ التي شكلتها، والسلوكيات التي يتصف بها، ومواقفه المختلفة أمام الأحداث أمام الأحداث المتنوعة، وطريقة تعامله وعلاقاته مع الآخرين، ومنهجية في الحرب والسلم والسياسة، وغير ذلك مما يتصل بشخصيته اتصالاً وثيقاً، إن فهم الشخصية على هذا النحو يمد الكاتب بتصور سليم، ومن ثم يستطيع أن يضع الحوار، ويرسم الحركة، ويصف السلوك، ويتغلغل إلى النفس، وفق ذلك التصور الذي اقتنع به عن هذه الشخصية المعروفة، لكن يظل (الخطر ) ماثلاً بالنسبة لبعض الكتاب الذين تنقصهم الجدية في الدرس، والأمانة في الطرح، والنبل في الغاية أو الهدف، والاستمساك بالمبادئ .
ولقد عانيت من هذه المشكلة حينما كنت أكتب رواية (عمر يظهر في القدس ) ورواية
(قاتل حمزة ) وكذلك رواية (نور الله ) وغيرها، لكني كنت حريصاً أشد الحرص على ألا تأتي الشخصية الروائية بأفعال أو أقوال تتناقض مع طبيعة الشخصية التاريخية، ولم أجد في تقرير لجنة مسابقة مجمع اللغة العربية التي أعطت جائزة الروائية لقاتل حمزة (1972 ) ما يشير إلى اعتراض اللجنة على منهجي في كتابة هذه القصة التاريخية، وخاصة أن شيخ الأزهر آنذاك كان عضواً باللجنة .. وبالطبع فإن هذه (الرخصة المقترحة ) إن صح التعبير لا تنطبق فيما نكتبه على الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين.
ولا بد أن نشير إلى الشخصية الواقعية ـ سواء كانت منتجة من الواقع المعاصر أو الواقع التاريخي ـ تكون لها جاذبيتها، أما الشخصيات التي صنعت من الوهم أو الخيال المحض واتسمت بسمات وهمية تبدو عادة غير مقنعة وغير مقبول، حتى على مستوى الأطفال، الذين اصحبوا أكثر ميلاً للواقع في هذا العصر، نتيجة للتطورات ووسائل الإعلام المذهلة ولكن تظل قدرة الفنان على رسم الشخصية، ومدها بوسائل الإقناع، وهو ضرب من الصدق الفني يظل المعمول والمحك في النجاح أو الفشل.
لقد استطاعت آداب الغرب أن تضفي على الشخصيات العليلة المنطوية المتردية بطولة وبريقاً، فأفسدت فكر وأذواق الأجيال، لأنها أفسدت معنى البطولة، ألحقت به التشويه، فلم يعد يرى الناس في هذا التشويه إلا جمالاً ومثالاً احتذى، ودور الأدب الإسلامي ـ وفق منظوره الإلهي ـ أن يضع الأمور في حجمها الصحيح، وأن ينفي الزيف والخرق عن شخصيات البطولة، بحيث تصبح عامل بناء لا هدم، وهذا يعني بالطبع العودة بالأدب الإنساني إلى رسالته الصحيحة، البطل العليل المختل فكرياً ونفسياً وسلوكياً أصبح ينتزع في الغرب التصفيق ولإعجاب والتعاطف.. ويبدو أن عدوى ذلك التصور السقيم تزحف إلى أمم الشرق المسلمة اليوم مع فيروس (الإيدز ) ذلك الداء اللعين ...
أخطار تهدد الأدب الإسلامي
مما سبق يمكننا أن نتبين أهم الأخطار التي تواجه الأدب الإسلامي، وهي أخطار ليست بسيطة ولا يمكن تجاهلها، والتصدي لها لا يكون بالحماس المجرد، أو النوايا الطيبة فقط، ولكن بالفهم العميق لما تمثله تلك الأخطار من تيارات، وخاصة بعد أن تغلغلت في البنية الأدبية لشعوب العالم العربي خاصة، والإسلامي عامة، بل وأصبح لمن يحملون راياتها مكانة الأستاذية والقيادة، وقد حدث هذا الخلل لأسباب عدة، منها أننا ـ كإسلاميين ـ لم نعط الأمر حقه من الاهتمام ، ولم ندرك أبعاد الآثار الفعالة للأدب بصورة صحيحة، فأغفلنا سلاحاً من أهم الأسلحة في المعركة، ومنها عدم الحرص على بسط مفهوم الأدب الإسلامي وإشاعته، وعدم تقديم نماذج كافية مقنعة منه، وإغفال الجوانب النقدية وفق المنظور الحديث، وجهود النقاد في أنحاء العالم، كما لا نستطيع أن نغفل أيضاً الظروف السيئة التي كبلت حركة الأمة الإسلامية داخلياً وخارجياً وضياع الحرية في الممارسات الحياتية، لكن أخطر العوامل التي عطلت مسيرتنا كانت نابعة من تلك الفلسفات الحارة أو الجانحة التي غزت عالمنا، واستطاعت أن تخطف أبصاره وتوازنه ببريقها وصيغها الساحرة الفاتنة.
ومن البديهي أن تعرف عدوك، كي تحكم له أو عليه، ولكي تستطيع تجنب ما يسدده إليك من سهام قاتلة، وتنتخب الأسلوب الأمثل لردعه أو رده على عقبيه، وسوف نحاول في الصفحات التالية أن نشير إلى أهم التيارات التي يجب التنبه إليها والحرص منها.
اللا معقــــــول
لقد أكد (مالرو ) على أن العبثية تسيطر على اللحظات الجوهرية في حياة الأوربي،أي ذات سمة أوربية ترتبط بزمان ومكان وطبيعة خاصة، كما أشار (تاينن ) إلى أن رنة اليأس المتميز تشيع في نبرة العبثيين، ولقد استطاع بعضهم أن يلخص مأساة العبثية أو اللا معقول في جملة صغيرة حينما قال: (وجوب غياب الإله، لكي يوجد اللامعقول )، والمعنى القاموسي لكلمة (لا معقول ): غير منسجم مع العقل أو اللياقة = أو التضاد مع العقل = أو مضحك أو سخيف، وفي قاموس المسرح جاء عن اللامعقول مانصه:
(مصطلح يطلق على جماعة من الدراميين في حقبة 1950 لم يعدوا أنفسهم مدرسة، ولكن يبدو أنهم كانوا يشتركون في مواقف بعينها نحو (ورطة ) الإنسان في الكون .. وتشخيص الدراسة التي قدمها الوجودي (البير كامي ) مصير الإنسانية على أنه انعدام هدف، في وجود غير منسجم مع ما حوله .. والوعي بهذا العوز للهدف في جميع ما نفعل، يؤدي إلى حالة الكرب الميتا فيزيقي (الماوراء طبيعي )، وذلك هو الموضوع الرئيس لدى كتاب مسرح اللامعقول مثل (بيكيت ) و (أو نيسكو ) و(بنتر ) وغيرهم، وبحلول عام 1962 استنفدت الحركة قوتها، برغم أن آثارها في تحرير المسرح التقليدي ما تزال ماثلة(1) .
لقد جعلوا من المسرح مركز تجمع لصراع الخيال البشري السقيم الدائم ضد القناعة الدينية، وعدم الاكتراث الأخلاقي والانعزالية الاجتماعية، وهذا نابع من إيمانهم بأن الشقاء دائم، وأن العالم كابوس وجودي، يغيب عنه العقل والسماح والأمل، ولهذا نرى مسرحهم ينطق بالآتي:
ـ خيبة الأمل.
ـ ضياع اليقين.
ـ انعدام المعنى في الحياة.
ـ ضياع المثل العليا.
ـ غياب أي تفريق واضح بين الوهم والحقيقة.
ـ التهريج والهراء اللفظي.
ـ تغليب عناصر الحكاية المجازية.
ـ الاهتمام بموضوعات الموت والعزلة والتغريب والرؤية الفردية للعالم، والقلق والخيبة، والشعور تجاه غياب الحلول، بعد أن رفضوا الأنظمة القائمة والأديان والفلسفات التقليدية (1).
ولقد حاول المحللون دراسة هذه الظاهرة في الأدب والفكر، فعزوها إلى طبيعة الحياة الآلية الجافة في الغرب، واضطرار الإنسان لأن يركع أمام الحاجة، ويستسلم لسلطان الآلة وحركتها المنضبطة بلا عواطف أو شعور، بل استطاعت الآلة أن تتبوأ مكانة أسمى وأهم من مكانة الإنسان في عالم الصناعة الرهيب، مما دفع بالإنسان يتساءل عن قيمة وجوده، في هذا العالم الآلي المادي الذي لا يحفل بالأرقام والإنتاج والوفرة وتحقيق الربح، والنمو السريع، والانتصار في معركة المنافسة الضاربة.. لم يعد الإنسان مخلوقاً مكرماً مشرفاً، بل أصبح جسداً وعملاً وطعاماً ومخلفات، وأصبحت الساعة (الزمن ) تحدد حركاته وسكناته، حتى أصبح يعتبر الزمن قوة تدمير هائلة بخالقه، وفقد التواصل مع الآخرين، أن يرتمي في أحضان العزلة والتغريب، ويلوك الأسى والشقاء، ويفسر أحد الدارسين آراء ألبير كامي بقوله: (إن كان في الحياة خطيئة، فهي ليست في اليأس من الحياة، قدر ما هي الأمل في حياة أخرى.. ) أي أن الخطيئة في رأيه هي الإيمان بالعالم الآخر، وهي محاولة منه لقتل الأمل نهائياً في نفوس التعساء والمعذبين والمقهورين في عالم المدنية الأوروبية الحديثة.
ومع ذلك فإن الأدب المسرحي في اللامعقول لا يجادل بل يعرض فقط تلك التصورات المريضة، والكوابيس المخيفة، والهرطقات المحزنة، ولم لا وقد أصبح الإنسان بلا هدف، أصبح (شيئاً ) بعد أن كان (كائناً ) ـ حسب قولهم ـ وأصبحت اللغة أيضاً شيئاً ميتاً، يحد من التواصل، ويؤكد العزلة.
لقد حدث العالم والفلسفة في أوروبا فراغاً هائلاً، وانعكس ذلك على فكر الإنسان وسلوكه وعلى الآداب التي يفزها، تلك الآداب التي لا تحمل رسالة واضحة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، ولا تقدم شخصيات تحب أو تكره فضلاً عما يلتصق بأدب اللامعقول من فقر في الأفكار، وملل في التكرار، ولهذا نرى أن المنصفين من مفكري الغرب يقولون : إنَّ العبثية لا يمكن الدفاع عنها ، في عالم تثبت الأرقام أن غالبية سكانه يعتقدون بدياتة تجعل الحياة ذات نظام وهدف ومع الكفر بالله عند العبثيين غالباً إلاَّ أن عبثية (بيكيت ) و
(كافكا ) تدرك أن الحياة البشرية بدون الإيمان با لله تواجهه الخيبة، ومع ذلك فإنهما ـ عدا هذه النقطة ـ يدمرون اٍلكثير م ن القيم الخلاقة المتألقة التي جاء بها رسل الله وأنبياؤه، ولهذا يقول (مار وفتز ): (اللامعقول مرادف للتافه والمضطرب ) ويقول آخر: (إنها مرادف لكلمة الفوضى ).
لكن هل نقول(اللامعقول ) عندما نتحدث عن الأدب.
ونقول (العبثية ) عندما نتحدث عن الفلسفة..
أي أنهما وجهان لعملة واحدة..
ثم إن هذه وتلك تتداخلان مع الوجودية، برغم وجود بعض الاختلافات، ولم لا ونحن نرى كتاباً مثل (البير كامي ) وجوديَّا وعبثياً في الوقت نفسه، وإن غلبت عليه الصفة الأولى، والأمر غاية في البساطة، لأن الحدود القاطعة بين مذهب وآخر لا وجود لها، بل إن أصحاب المذهب الواحد ـ كما قلنا ـ قد يختلفون أشد الاختلاف في الرؤية والتفسير والتعبير.
بقي أن نمعن النظر في تلك العبارة الهامة التي قالها أحد الأوروبيين:
(إنَّ المرض يستشري نحو الشرق ).
وهذا ما ألمحنا إليه في بداية هذا الفصل، إن التحذير من الغزو الثقافي يجعل بعض المتحررين وأدعياء التطور والحداثة، ويرفعون عقيرتهم منددين معترضين وينكرون كلية مقولة الغزو الثقافي والفكري، ويفلسفون ذلك بأن عالم اليوم أصبح وحدة واحدة، بعد أن ذابت الحدود إزاء التطور الإعلامي الهائل، وأننا في حاجة إلى كل جديد، وأن معاداة التيارات الفكرية الغربية جمود ورجعية، أليس غريباً أن نسمع هذا القول من أخوة يعيشون بيننا في الوقت الذي يحذرنا فيه الأوروبيون المنصفون من ذلك (المرض الذي يستشري نحو الشرق )؟ أليس مرضاً أن يقول سارتر: (الإنسان عندما يقبل فكرة الحرية، لا تعود الآلهة قادرة على التدخل ) في شأنه ؟؟ أليس مرضاً أيضاً أن يقول: (اللغة والعالم منفصلاً دونما أمل في رجعه، ولا يمكن تجنب هذا الانفصال، إلاّ بوضع الكاتب في وضع متطرف )؟؟.
ثم ما هذا التناقض بين القول وآخره ؟؟
إن العقيدة الإسلامية، وما يصاحبها من قيم وتشريعات وآداب، ومنهجها الإلهي القويم قد استجابت للفطرة السلمية، وأعطت تصوراً واضحاً للإنسان وماهيته وطبيعة تكوينه وسلوكه، ثم مختلف نوازعه وأهوائه، ورسمت الخطوط العامة لعلاقاته المتعددة الجوانب والنواحي، فالحرية مكفولة تماماً لهذا الإنسان الذي كرَّمه الله، وبين له سبحانه وتعالى طريق الخير وطريق الشر (وهديناه النجدين ) (البلد:10)، وعلَّمه أن الحياة دائب، وصراع مع الشيطان مع الشر، وزوَّده بالأسلحة التي يمكنه أن ينتصر بها في هذه المعركة الحاسمة، وأكد لعبده أن النصر له ما استمسك بكتابه وسنة نبيه:
• ( … حقاً علينا نصر المؤمنين ) (الروم: 47)
• (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان.. ) ( الإسراء :65) .
• ( إن تنصرو الله ينصركم ويثبت أقدامكم.. ) (محمد:7)
• (.. استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.. ) (الأنفال: 24)
• (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين .. ) (يوسف:108)
• (وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدون، ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يُطعمون. إن الله هُو الرزاق ذو القوة المتين ) (الذاريات: 56 ـ 57 ـ 58)
• (قُل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام: 162).
• (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) (البقرة: 186)
• (إنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، ابشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم، ولكم فيها ما تدعون. نُزلاً من غفور رحيم. ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يُلقاها إلا الذين صبروا ، و يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم . .) (فصلت: 30 ـ 35)
• (ولقد كرمنا بني آدم .. ) ( الإسراء: 70).
وتلك بعض الآيات ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ لم أهدف إلى شرحها، فليس هذا مجاله، ولكني أردت أن أؤكِّد أن منطلقاتنا العقائدية أو الفكرية، قد حمتنا من براثن السقوط في متاهات الخوف والعزلة، واليأس والكفر، ولم تدفع بنا إلى رذيلة الوثنيات القديمة والحديثة في تحدي الله والقدر (حاشا لله )، ولم تجعل من الموت كابوساً مزعجاً، ولا حجة للهروب من الحياة والجهاد الأعظم فيها، ولم تنظر إلى الدنيا على أنها نهاية المطاف، وهكذا أشاع الإسلام قيم الحب والخير والفضيلة، وأجل الطيبات والاستمتاع بها بالأسلوب الصحيح، وحرَّم الخبائث والشرور والآثام لحماية الفرد والمجتمع، ومجَّد العقل والوعي والنظر إلى الأمور بروّية وحكمة واعتدال، كما أعتبر مشاكل الحياة والناس وما نصطدم به من سلبيات أمر لا بد منه، لكنه أوضح لنا كيف نواجه تلك الأمور المعرفة عن وعي وبصيرة، حتى تتقدم الحياة في طريق النمو والازدهار، وحتى ترفرف رايات الاطمئنان والرضى فوق جميع من يعيشون على هذه الأرض الشاسعة.
وانفصال اللغة عن منحى خطير، بل هو مقولة ساذجة، ولو أن هذا الانفصال دون رجعة كما يزعم (سارتر )، لما أفصحت كلماته عن فكره، ولما تلقى الجمهور مسرحياته وقصصه وانفعل بها أو وأنكرها، ولما أثارت ذلك الجو العاصف من اللغط والجدل، ولما استطاعت اللغة أن تترجم قوانين العصر العلمية، وتعبر عن منجزاته التكنولوجية، نستطيع القول: إن اللغة قد تقصرـ عند هذا أو ذاك ـ في أداء وظيفتها، وقد تعجز عن التعبير الوافي الشافي عمّا يدور في فكر الإنسان ومخيلته ونفسه، وقد تتخلف اللغة عن مواكبة المسيرة الإنسانية في وقت من الأوقات، لكن الجهود الإنسانية النبيلة الصادقة تدأب دائماً، في استكمال النقص، وسد الثغرات، فهو أمر مرتبط بطبيعة الحياة بقدر ما يجد من وقائع، وبطبيعة الناس بقدر ما يلزمهم من تطوير وسرعة في الفهم والاستيعاب، فاللغة لم تنفصل عن العالم دونما رجعة كما يقول سارتر، لم تصبح شيئاً ميتاً كما يزعمون.
إنَّ المشكلة عند هؤلاء المفكرين تكمن في ذلك الخلل الداخلي الذي ابتلوا به، وفي الخلط الأهوج بين الوسائل والغابات، وفي سوء النّية والعداء العجيب الذي ولدوا وعاشوا في ظله، تحت وطأة الحياة الآلية الحديث، وترجع أولاً وأخيراً إلى الخواء الروحي الذي دفعهم للتهكم من القيم، وإنكار العقيدة الدينية.
في وقت الاحتضار تلفت سارتر حوله في قلق وحيرة:
قالوا له:
ـ (أتريد شيئاً ).
وفغروا أفواههم دهشة عندما سمعوه يقول:
ـ (أريد قسِّيسا ً).
انزعجت رفيقته الشهير ( سيمون دي بوفوار ) وقالت:
ـ (معنى ذلك أنك تدمر فلسفتك ).
لم يلتفت إلى قولها، ولكنه استطرد:
ـ (لا أريده من باريس.. بل من القرية.. أتفهمون ).
وأصَّر على طلبه في الالتقاء برجل الدين برغم احتجاجهم واعتراضهم.. لقد كانت قضية العبث باللغة ذات أبعاد خطيرة في وطننا العربي، فقد هاجم الكثيرون من فاسدى الفكر والدين قواعد العربية وآدابها وتراثها، وحاولوا التهوين من شأن أسسها، بل وهاجموا قواعد الشعر من قافية ووزن ووضوح، وتلوثت فنون القصة والمسرح والشعر بهرطقات العبثية واللامعقول والوجودية، ووجدت هذه الدعوات الشاذة آذاناً صاغية لدى الذين يعيشون على أرض الإسلام بلا قيم أو جذور، إنَّ الدكتور عبد القادر القط أستاذ الأدب الحديث السابق، ورئيس تحرير مجلة (إبداع ) يعلن في صراحة أنه لا يفهم الكثير مما بعض الأدباء أو الشعراء المحدثين (وهو الأستاذ الشاعر الناقد )، وينشر بعضا منها في مجلته تحت عنوان (تجارب ) لعلَّ أحداً غيره يستطيع أن يفهم أو يستوعب ذلك اللون الغريب من الدب.
(إنَّ اللغة كما يقول أحد نقاد الغرب الكبار ـ هي حقاً ذلك الرباط الفريد الذي يصل الذاتي بالموضوعي.. إن اللغة تصوير كامل للعلاقة الجدلية بين أنفسنا والعالم ) (1).
ونحن كمسلمين لنا باللغة العربية ـ لغة القرآن ـ رباط وثيق، لا تنفصم عراه أبد الدهر، وقد كتب الله لهذه اللغة الخلود لخلود القرآن، ذلك المنبع الإلهي لعقيدتنا وتشريعاتنا وأحكامنا وقيمنا السامية، واللغة العربية فيها من إعجاز وحيوية وثراء لم تتقاعس في عصر من العصور، أو تتخلف عن مواكبة التطور وأداء دورها الخالد في أي وقت من الأوقات.
إن الأدب الإسلامي لا يؤرث ضياع اليقين كما تفعل العبثية، بل يجعل اليقين مناط العقيدة والحياة، والأدب الإسلامي يعلي من شأن الحياة ويمجدها، ويجعلها دار عمل وصلاح وتقوى وجهاد، وهي قنطرة إلى آخر أبقى وأخلد وأروع، وليست الحياة ـ في منظور الأدب الإسلامي ـ وهماً وحلماً مزعجاً وخيبة أمل وغريباً وعزلة، ولكنها مليئة بالحقائق الحية النابضة، مشرفة بالأمل والرجاء، دافئة بالأخوة والصلات الاجتماعية السامية، ومهمة المسلم أن ينير جنباتها المظلمة، وأن يبعث فيها رسالة العدل والخير والحرية والحب، وأن يبذر فيها العطاء والنماء، حتى تتألق بالنعمة والجمال والسعادة.. وعلى المؤمن أن يطرب للقاء الله في نهاية الرحلة، واثقاً أنه ذاهب إلى أعظم جناب..
الأدب الإسلامي ليس أدب يأس وانتحار.
لكنه أدب أمل وحياة.
فرص علينا أن نواجه ذلك (المرض الذي يستشري نحو الشرق ).
الأدب الإســــلامي والألتــزام
الالتزام ليس بدعاً في كثير من الآداب العالمية، قديمها وحديثها، حتى أولئك الذين يؤمنون ( بنظرية الفن للفن ) يعملون في نطاق التزام من نوع معين يرتبط بوجهة نظرهم في الفن، وكل مذهب من مذاهب الفن أو الأدب يتحرك في إطار معين، ويلتزم شكلاً وموضوعاً بقيم خاصة، يحرص عليها أشد الحرص ويدافع عنها في استماتة، فالذين يزعمون أنهم يرفضون الالتزام لأنه قيد على حرية الأديب، ومنافٍ للقيم الفنية والجمالية، يلتزمون ـ سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، واعترفوا به أم لم يعترفوا ـ بقواعد ومبادىء. الالتزام إذن منهج وأسلوب عمل وفق تصور معين، ويمكن القول: بأنه تقيد بمضمون أو بشكل، وهو أمر قديم قديم الفنون والآداب، لكنه لم يف قيداً على النمو والتطور سواء في مجال الإبداع والفكر، وهكذا يجب أن نفهمه، إن الكاتب ـ أي كاتب ـ في أية لغة من اللغات يلتزم بقواعد النحو والصرف مثلاً، ويعرف أن للنثر طريقة، وللشعر أسلوبه، والخلط بين الأثنين قد ينجب مولوداً ثالثاً يجمع بين صفات الشعر والنثر، وقد تغلب على ذلك المولود صفة أحدهما أكثر من الآخر، دون أن يلغي ـ أي الوليد ـ واحداً من الاثنين، وللشعرـ في القواعد المعترف بهاـ إياع وموسيقى برغم الدعوات المشبوهة التي تريد أن تسقط الفارق بين ما هو شعر أو نثر في هذ ه الصفة الهامة، وللـألفاظ دلالالتها التي لا تموت مع الزمن، فدلالة الشجرة أو النهر أو السماء تظل كامنة في اللفظ يعبر عن ذلك، على الرغم من ألوان المجاز والكناية، فالبحر قد يرمز إلى السعة والكرم، وقد يرمز إلى العنف والثورة، وقد يكون محط الغموض والخوف، أو قد تشرق على شاطئه ثغور الأمل، أو تتهادى على صفحة عرائس السفن، وهكذا يبقى اللفظ بدلالالة الأولى، مع ما قد يرمز إليه من عديد المعاني والصور وقديمها أو جديدها، إنه نوع نت الالتزام نحو اللغة بقواعدها ودلالاتها الأصلية، وينفتح باب الالتزام على مصراعيه أمام الدلالات المجازية، التي تشكل جانباً هاماً من جوانب الإبداع الفني.
وهناك ما يمكن أن نسميه الالتزام الداخلي أو الذاتي، وهو الوجه الآخر للصدق، فالتعبير عن النفس وما يعتمل فيها، والفكر وما يتفاعل فيه، والخيال ما يضطرم به، والروح وما ينبث عنها، كلها أمور خاصة قد تميز أدبياً عن آخر، وتجعل من الإبداعات ـ شكلاً ومضموناً ـ تجارب لها صفة الخصوصية، على الرغم من أنها تبدو في إطار النسق العام لهذا اللون الأدبي أو ذلك. فقد يتناول أدبيات حادثة بعينها ـ تاريخية أو معاصرة ـ لكن يكون لكل منهما رؤيته الذاتية، بعينها، دون أن يتناول ذلك بعض الأساسيات في فن القصة أو المسرحية أو القصيدة، فلسوف يظل هناك الحبكة أو الصورة الفنية المتميزة، وسيظل جو المتعة والتأثير، برغم تفاوت القدرات والأساليب، فهل يستطيع منصف أن ينكر ذلك الالتزام الداخلي أو الذاتي ؟
لكن يدور الجدل عادة حول ما يمكن تسميته (بالالتزام الخارجي ) إن صح التعبير، ففي كل مجتمع قيود أو نظم تم وضعها لتستقيم الحياة، وتتسق العلاقات، وهي أمور قانونية أو اقتصادية أو أخلاقية، وكثيراً ما يثور حولها الجدل، فقد يرى بعضهم فيها، غمطا لحقوق الإنسان، أو كبتاً للحريات، أو جموداً في مجال التطور، وهي على التقيض مما يتصوره واضعوها، والفنان يقف ازاء تلك النظم موقف التأييد، أو موقف الرفض، وقد نرى فريقاً ثالثاً يتحايل على التملص من هذه النظم بأسلوب أو بآخر، لكن يظل الالتزام بها هو الموقف السائد أو الغالب، ويكون ذلك الالتزام أشد كلما تصلبت مواقف السلطة، ولجأت إلى العقوبات الصارمة، واستغلت سلاح المصادرة أو المحاكمة أو التنكيل، وهذا أوضح في النظم الدكتاتورية بالذات، حيث يتحول الأديب ـ برغم أنفه ـ إلى بوق للسلطة التنفيذية، وترجمان لفلسفتها وقناعاتها، وهنا تتضاءل حرية الأديب، ويصبح الالتزام ضرباً من الالزام، ولعل هذا هو السبب الذي حدا ببعض النقاد إلى القول بأن الالتزام ينبع من الداخل، والإلزام يأتي من الخارج، ولكن الأمر يبدو صحيحاً في عمومه، وإن كنا لا نستطيع قبوله على إطلاقه، ففي المجتمعات الدكتاتورية قد نرى أدباء مؤمنين بهذا الأسلوب في الحياة عن عقيدة ويقين، ويعبرون عن قناعتهم تلك بفن يبدو جذاباً مؤثراً، كما نرى في إطار المذاهب المتمردة كالوجودية واللامعقول أدباء ملتزمين بتصوراتهم الفلسفية عن الإنسان والكون والحياة، ويعبرون بذلك عن رضى وقناعة، ويقدمون نماذج أدبية ذات جمال أو جاذبية من نوع خاص، ويحفل شكلها ببريق أخاذ يخدع جماهير عريضة من القراء، وخاصة في أوروبا وأمريكا، إن هؤلاء ملتزمون، ولا يشعرون بأي قيد من قيود الإلزام.. أليس هذا حادثاً ؟ قد نرفض ذلك ونعتبره (التزاماً ) منحرفاً أو مريضاً، ينبو عن المقاييس الإنسانية الرفيعة، ويتعارض مع القيم الدينية السامي ة، لكن الالتزام عند مثل هؤلاء الناس قد يلقى منهم الرفض، وينفرون منه أشد النفور، ولا يقرون بالحري ة وحدها ولا يلتزمون بسواها. لكن ماذا يعني الالتزام في الأدب الإسلامي؟ الألتزام بمعناه الإسلامي الواسع هو (الطاعة ). والطاعة الحقيقية قناعة إيمانية، وفرح في قلب المؤمن، وسلوك مطابق لحقيقة العقيدة وكل ما يتعلق بها، الالتزام إذن عمل، يبدأ بالنية الصادقة، والعزم الذي لا يتزعزع، وينطلق من ممارسات واقعية في مختلف جنبات الحياة، إنه وئام بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين، وهو يضم تحت جناحيه قيم الحياة الإسلامية وقوانينها أو أحكامها،
وتصورات المؤمن لما يحيط به من كون وسنن، وحيوان وجماد ونبات، ويمتد ذلك التصور ليربط الحياة الدنيا بالآخرة، ومرجع ذلك كله هو كتاب الله وس نة نبيه صلى الله عليه وسلم، والنفس ليست قوة تائهة ضالة، وإن كانت مسرح جهاد دائم، وصراع مستمر، فالصعود دائماً ليس حركة سلبية، والتسامى لا يتحقق دون جهد. وعمل المؤمن اليومي هو جهاد نحو الأفضل، ولا يموت الصراع مادام قوانينه وطرقه، له حلاوته ومراته، وفيها روعة النصر وألم الهزيمة، والأمل باق دائماً، وبالتالي فالمؤمن الحقيقي صاحب موقف.. وفي هذا الموقف لا يكون الإنسان وحيداً حائراً منبت الصلات، كما يحدث لدى العبثين أو الوجوديي ن وغيرهم، لكنه يستند في موقفه إلى رحمة الله وعونه وهدايته (.. ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( الأنعام: 38) فلا عدوانية إذن ولا غرابة ولا اغتراب، أو يأس أو أو كتئاب.. أو بمعنى آخر الطاعة هي المخرج من صحراء الخوف والآلام والتمزق والضلال (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً.. كتاب الله وسنتي .. ).
الالتزام هنا هو الطاعة، والطاعة تجد النور الذي يهدي، والغاية التي تتألق، والوسيلة التي توصل، والبيان التي تقنع، والتجربة التي تؤكد، واليقين الذي ينداح سعادة كبرى بين الجوانح.. فهل هذا الالتزام داخلي أم خارجي؟
إنه هذا وذاك، بل الأصح أن نقول: إن التصور الإسلامي، يجعل من الاثنين شيئاً واحداً، إنه الكل في واحد، أو وحدة الصفاء والتآلف والتجارب، فما في نفس المؤمن أو قلبه، ينسكب حباً وعدلاً وهداية، ويضيء جنبات الحياة، وما في الوجود من صور وحياة وكائنات، يتحول عبر التأمل الحواس تتداخل مع بصيرة المؤمن فتعطي للوجود كمال وروعته، وتؤكد معنى الإيمان بالله.
والالتزام ـ كما هو واضح ـ التزام مضمون، وهو يقتضي بداهة الحرص على اللغة العربيةـ لغة القرآن ـ فالحرص علىقواعده ودلالاتها الأصلية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما في كتاب الله من قيم وأحكام ومبادىء، يستوي في هذا الحرص الناطقون بالعربية والناطقون بغيرها في البلدان الإسلامية.
وارتباطنا بأشكال الفنون الأدبية يكون حفاظها على التمييز بين لون وآخر، كما أننا لا ننكر الصلة الوثيقة بين المضمون وما يتطلبه من شكل مناسب، ولهذا نعتقد أن باب التجديد في الأشكال باق ما بقيت الحياة، ولا قيد على هذا التجديد إلا ما أسلفناه من حفاظ على أصالة اللغة العربية وقواعدها، ولا شك أن ثراء اللغة العربية، وإمكاناتها الواسعة، وضوابط قواعدها المذهلة، في الصرف والاشتقاق وغيرهما، تجعلها قادرة تماماً على تقبل الأشكال الجديدة وتطورها،فالأشكال الفنية للعمل الأدبي ميراث عام مشترك جدواها، وتحققت فيها عناصر الجمال، وكانت قوية الأثر في النفس.
والالتزام ليس نقيض الحرية بمعناها الأصيل، إن مفهوم الحرية يختلف من فلسفة إلى أخرى، فالحرية في الدول الشيوعية ترتبط بلقمة العيش، ولا مجال لرأي أو فكر يضاد الفلسفة الماركسية أو يخرج على نظام الدولة، والحرية في أوروبا الغربية وأمريكا وغيرها لها مفهومها في حرية رأس المال، وفي التعبير الفردي مهما أضر بالقيم، أو جانب الطبيعة الإنسانية السوية، ويبقى الإنسان مع ذلك مقهوراً تحت وطأة الحياة الآلية، والعزلة القاتلة، والتمزق الاجتماعي، والتسيب الخلفي، ولا بأس أن يتمرد أو ينتحر أو يغرق نفسه في خضم المخدرات والمسكرات والجنس.. فهذا حقه.. أعني حريته..
وفي الإسلام هناك ضوابط لم يخترعها فرد، وموازين لم ينصفها حاكم بمحض فكرة وإرادته، إن الضوابط والموازين من صنع الخالق جل وعلا، وهي أحكام ليست مجال تحيز أو فتئات أو نزوات، روعيت فيها طبيعة الإنسان وإمكاناته وقدراته النفسية والعقلية والبدنية، أحكام لم تنبع من موقف آني سرعان ما يزول، أو ارتبطت بإنسان خاضع لسنة الموت والحياة، أو تصاعدت من رغبة دون أخرى، أو ارتبطت بقهر الإنسان وتطويعه وإهدار كرامته وإنسانيته، هذه الضواتبط والموازين أو الأحكام هي من صنع الخالق الرحيم العادل ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) غافر: 19، وهي في جملتها وحي (إن هو إلاّ يوحى ) (النجم:4)، والمسلم خاضع لحساب الدنيا ـ وفق الحدود والعقوبات الشرعيةـ ولحساب الآخرة عند من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وحرية المسلم في هذا الإطار، حق القوي والضعيف، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والمالك والأجير، ولك مطلق الحرية في مالك بشرط أن تكتسبه من حلال، وتنقية في حلال، وتعطي كل ذي حق حقه (.. وآتوهم من مالِ الله الذي آتكم ) ( النور:33)
والمعاشرة الجنسية حق في إطار المشروع، والسلطة حق في نطاق العدل الإلهي، والاستمتاع والرفاهية حق دون رذيلة أو وزر أو فساد، وهكذا نستطيع أن نسرد الاحتياجات والطموحات الإنسانية، فنجدها حلالاً طالماً لم تهدر حقوق الله أو العباد.
حرية المسلم مرتبطة بعقيدية، وبالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه.. والالتزام في هذا التصور لا يتضاد مع الحرية الأصلية، فلا هي مفسدة له، ولا هو معطل لها ـ ألم نقل في بداية هذا الحديث: إن الألتزام هو الطاعة، والطاعة موقف، وبالتالي فإن الحرية تصبح من أهم الحقوق للإنسان المؤمن، ورحم الله عمر رضي الله عنه إذ يقول: (كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا ً)، فالحرية دين وفطرة، ويتبلور الموقف في وقفة الصديق رضي الله عنه، حينما يعلن أمام أمته أنه إذا خرج عن إطار الحق الذي رسمه الله سبحانه فإنه (لا طاعة لي عليكم )، إن عدوان الحاكم، وإهداره لمنهج الله، إهدار للحرية وبالتالي فلا تجب الطاعة له..
الالتزام في فكرة المؤمن وقلبه ليس نقيضاً للحرية، فكيف يكون الالتزام الإسلامي نقيضاً للحرية وهي جزء منه؟ والالتزام الإسلامي ليس جموداً وتحنجراً.
وذلك لأنه التزام بالثوابت والأصول التي لا تتغير أبد الدهر، فالتوحيد عقيدة مستقرة لا تغيير فيها، والعبودية وحق، وفروض العبادة لمن وهبك الحياة، وأنعم عليك بمالا يحصى من النعم لا جدال فيها، والشورى أصل من أصول الحكم، والعدل عمادة، والصدق أمانة ـ كما قال أبوبكر رضي الله عنه ـ والكذب خيانة، وهكذا تبقى القيم الخالدة ما بقى الدهر، ويبقى الالتزام بها حفاظاً على الحياة، وحماية لها من الزيغ والفساد والانحرافات والظلم والفتن.
الحرية تكون حقيقة عندما يتحرر الإنسان من قيود الخوف وشهوة المال والجسد، وعندما ينطلق من سجن المادة وبطش السلطة، وأطماع الحياة، وعندما ينتصر على الأنانية المريضة، ويفك عن روحه وفكره وجسده حبائل الشيطان.. تلك هي الحرية.
يقول (بيرك ): (إن الحرية يجب أن تُفيد لكيما تُمتلك ) (1). ويقول آخر: (إن هناك رغبة متنامية في أدب القرن العشرين لاستعادة الدور والمركز الديني في ذلك الزمن، إذ غدت المخاوف والحرية التي تنطوي عليها نظريات الزمن في تطورها مما لا يصمد أمام النفس )(2).
وإذا كان الوجوديون يرفضون ذلك عندما يعلنون أن الحرية لا تبدأ إلاّ بعد إنكار وجود الله، فإنهم لا يشكلون إلا فريقاً زائغاً، بينماالكثيرون غيرهم لا يؤيدون ذلك الموقف، والحرية في الإسلام تكون بدايتها الحقيقة هي الإيمان بالله، على النقيض تماماً مما يتوهمه الوجوديون والماديون (خاصة الماركسيون ) وغيرهم.
الفهم الإسلامي للحرية فهم واقعي منطقي، وإذا لم يكن هذا الفهم مطبقاً في عالمنا، إلاّ أنه القاعدة التي تنطلق منها نظم الحكم الديموقراطية في العالم، على الرغم من تفاوتها في درجة الفهم، وتحويره من جيل إلى جيل، ويبقى التصور الإسلامي للحرية قمة عالية مطهرة، تتألق عليها قيم الحياة والإنسان، لا يعروها وهن، أو تتداولها أهواء ونزوات، أو تنال منها مصالح طبقية أو فئوية مهما كان العذر، ومهما تعددت التفسيرات.
والالتزام ـ في نطاق الحرية الإسلامية ـ لا يضع قيداً على فكر، ولا يعطل مسيرة أي جهد علمي، ولا يصادر إباعاً، إنه تحرير للطاقات الإنسانية كي تؤدي دورها، وتحقق ذاتها، ولا يحد من طبيعة التفاعل اإنساني الخلاق، وإذا كان التفاعل الكيميائي ـ بلغة العلم ـ له اشتراطاته وضوابطه حتى يتم وينجلي عن مركب جديد، فإن الحرية ـ إن صح التعبير ـ تحوطها اشترطات وضوابط تجعلها تفعل فعلها على النحو الأمثل، فيتشكل الإنسان على هيئة كيان معبر عن قيم الحضارة الإسلامية، وبذلك يؤدي دوره في الحياة، ويواصل الرسالة الخالدة بالصورة الصحيحة، دون تحريف أو تبديل، ومن ثم يقوم مجتمع متآخ متناغم، يتطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) أو كما قال. والأدب الإسلامي وسيلة لحمل هذه القيم، والتبشير بها بين البشر، يترنم بها في قصيدة جميلة، أو يرويها في قصة شيقة، أو يمزجها في إطار مسرحية تشد الألباب والقلوب، وتؤثر في النفوس، والالتزام بذلك جزء من طبيعة هذا الدين، ومسؤولية من مسؤولياته الكبير ة الكثيرة، وطريقة من طرائقه في التوصل بين الإسلام وبين بني البشر قاطبة، وذلك حتى تزدهر براعم الحب والخير والفضيلة في أنحاء الأرض، ويتحقق المجتمع الأمثل الذي تحلم به الآمال، أو (المدنية الفاضلة ) الحقيقية، التي كدح وراءها خيال الفلاسفة طوال القرون. والالتزام الأمثل انبثاق تلقائ من قلب المؤمن وفكرة ونفسه، وهو ليس تصوراً هلاميّـا ، أو شعوراً عاماً، لكنه حقيقة واقعة، تقوم الأحكام والآداب الإسلامية بتوصيفها، وتحديد ملامحها.
ولقد عاش شعراء الإسلام الأوائل، رأسهم حسان بن ثابت، في إطار هذا الالتزام، وهم ينافقون عن الدعوة، ويدفعون هجمات الشرك والوثنية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسفهون أحلام الجاهلية والضلال، ويرسمون المنهج السلي م لحركة الإنسان المؤمن في الحياة. وعاش حكام المسلمين الأوائل أيضاً في إطار هذا النظام أو هذا الالتزام، كما عاش الجندي في معارك الجهاد، والقاضي، على منصة القضاء، وصحاب رأس المال وهو ينمي تجارته، أو يطور صناعته ، كذلك عاشة الفقيه واللغوي والطبيب والمؤرخ والجغرافي والرياضي وغيرهم.
إنه الالتزام الشامل، الذي يعد الالتزام بمعناه الأدبي أو الفني شريحة منه، لا يمكن فصلها أو فصمها، ذلك الالتزام ـ كما أوضحنا ـ فن وفكر وسلوك وعلم، ومن هذا المنطلق يصبح للأدب رسالة شامخة، وعطاء متجدد، يحقق المتعة والفائدة معاً، ويسكب رحيق السعادة والأمل في الوجدان، وينفي عن النفس ذلك (الشقاء الدائم ) الذي عبر عنه (أيونيسكو )، ويبدد ذلك (الكابوس الوجودي ) حيث يغيب العقل والسماح والأمل كما يقولون، ويجعل الحياة جديرة بأن تعاش في طاعة.
الالتزام الذي قدمه الله نعمة لبني البشر، وتكريماً لهم، وحماية لكرامتهم، غير(الإلزام ) الذي يساق إليه الناس سوقاً بالسياط والحديد والنار، والذي يظلل آفاقه سحابات الرعب والوعيد والعذاب.. ذلك لأن الالتزام بمعناه الواسع ـ كما قلنا ـ هو الطاعة والالتزام هو الجحيم الذي صنعته حماقة الإنسان على الأرض.
الأدب الإسلامي وعلم الجمال
إن طبيعة الإنسان تنجذب إلى كل ما هو جميل(1)، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله جميل يحب الجمال )، وقد شاءت قدرة المبدع البديع الخالق سبحانه وتعالى أن يجعل من الجمال ـ في شتى صوره ـ مناط رضى وسعادة لدى الإنسان، واستساغة الجمال حق مشاع، وربما تختلف مقاييسه من فرد لفرد، ومن عصر لعصر، لكنه اختلاف محدود قد يمس جانباً من الجوانب، أو عنصاً من العناصر التي تشكل القيمة الجمالية، ولم يقف الإحساس بجمال عند النظرة الشاملة، أوالانطباع المبهم أو الإيحاء التلقائي السريع، ويقول الدكتور زكي نجيب محمود: (الإنسان العادي من جمهور الناس، إذا عرف في حياته الجارية، كيف يفرق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحبط به من أشياء، فإنه مع معرفته تلك، يظل بعيداً أشد البعد عن القدرة على بيان الأسس التي إذا توافرت في شيء ما، كان ذلك الشيء جميلاً، وإذا غابت عن شيء ما، كان ذلك الشيء مسلوب الجمال، بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس، وقد يحدث هنا أن يتصدى للممشكلة مفكر موهوب في عمق التفكير ودقته، فيتناول هذه التفرقة بين الجمال والقبح، حتى يصوغ أسسها ومبادئها وشروطها، وعندئذ يقال عن مثل هذا المفكر: إنه فيلسوف، كما يقال عما يكتبه في هذا الموضوع: إنه (فلسفة الجمال)، ولنلحظ هنا أن عملية النقد في مجال الفن والأدب، إنما هي فرع يتفرع عن ( فلسفة الجمال)، ولذلك فقد يختلف النقاد في الأساس الذي يقيمون عليه نقدهم، باختلافهم في المذهب الفلسفي الذي يناصرونه ) (1).
ومن الخطأ أن نعتقد أن للجمال مقاييسه الحسية وحدها، تلك التي تقع عليها العين، أو تسمعها الأذن، أو يشمها الأنف، أو يتذوقها اللسان، أو تتحرك لها لمسات الأطراف العصبية، فالجمال مادة وروح، واحساس وشعور، وعقل ووجدان، فإذا التقى فلاسفة الجمال في بعض الجوانب أو العناصر، فستظل هناك في عالم الجمال مناطق يعجز الفكر الفلسفي عن إدراك كنهها، والوصول إلى أبعادها، فليس العقل وحده هو القوة القادرة على استكناه كل أسرار الوجود وما خفي فيه، ولحكمة يقول الله في كتابه العزيز (.. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ( الحج: 46).
لقد استطاعت الفلسفات القديمة أن تصل إلى قناعة بأن القيم الثلاث (الحق ـ الخيرـ الجمال ) هي القيم الكبرى في الوجود، وأنه تحت مظلة هذه القي م الكبرى تندرج القيم الإنسانية جميعاً فروعاً لها، وقيمة (الخير ) تلك تنبثق من التفرقة بين ما هو رذيلة وشر، وبين ما هو فضيلة وخير، هذه التفرقة يقوم بها مفكر موهوب ـ طببقاً للتصور الفلسفي ـ يتميز بدقة التحليل، ونقاذ البصيرة، فيصوغ تلك الأسس التي على وجودها تبني الفضيلة، وعلى غيابها تبني الرذيلة، فإذا تحقق لذلك المفكر ما أراده، عددناه فيلسوفاً، وعددنا ما كتبه (فلسفة الأخلاق ) (1).
أما إذا كانت التفرقة بين الخطأ والصواب، بحيث يقوم بها مفكر دقيق، أوتي سعة الأفق، وأصالة الدقة، كان ذلك هو (علم المنطق ) وهو فرع من الفلسفة، وعن طريقة نصل فلسفياً إلى قيمة (الحق ).
الحق والخير والجمال إذن هي القيم الثلاث الكبرى في الفلسفات القديمة، وهي صناعة عقلية بشرية بحتة، ترعرعت في ظل التجربة والتاريخ والأحداث، ويقول الأستاذ محمد قطب في منهج الفن الإسلامي: إن كلا من الفن والدين يعبر عن الحقيقة الكبرى، كما يقول: إن القرآن يوجه الحس البشرى للجمال في شيء، وإنه يسعى لتحريك الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوباً حياً مع الأشياء، والأحياء، وهنا يتلقي الفن بالدين.. ( والفن الصحيح هو الذي يهيىء اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندما كل حقائق الوجود ) (2).
والجمال ليس قيمة سلبية لمجرد الزينة، كما أنه ـ كما أسلفنا ـ ليس تشكلاً مادياً فحسب، ولكنه بالمعنى الصحيح حقيقة مركبة في مداخلها وعناصرها وتأثيراتها المادية والروحية، وموجاته الظاهرة والخفية، وفي انعكاساته على الكائ ن الحي، لأن أثره يخالط الروح والنفس والعقل، فتنطلق ردود أفعال متبانية، بعضها يبدو جليّـا، وبعضها الآخر يفعل فعله داخلياً، لكن محصلة ذلك كله ما يتحقق للإنسان من سعادة ومتعة، وما ينبثق عن ذلك من منفعه، تتجلى فيما يأتي أو يدع من أفعال وأقوال، وفيما يحتدم داخله من انفعالات ومشاعر، والجمال بداهة لا يرتبط بالمظاهر الحسية وحدها، وهذه قضية، هامة من وجهة النظر الإسلامية الشهوة البهيمية، وارتكاب الرذيلة، واشباع الرغبة الاثمة، وجمال الطبيعة وما فيها من ورود وزهور وأنهار وجبال وطيور، وليس مجرد جمال سطحي، لكنه ينبع من قوة قادرة، خلقت فأحسنت، وصنعت فخلبت الألباب والأبصار، وأثارت الفكر والتأمل، وفتحت أبواب الإيمان واليقين بهذ ه القدرة المعجزة الخالقة، وإذا كان الاستمتاع بالجمال مباحاً في الأصول الإسلامية، فإنه مدخل إلى ارتقاء الروح والذوق، وسمو النفس وخلاصها من التردي والسقوط، ومحرك للفكر كي يجول إلى ما هو أبعد من المظاهر الحسية التي قد كتب عليها الزوال، فالجمال سبب من أسباب الإيمان، وعنصر من عناصره، والقيم الجمالية الفنية تحمل على جناحها ما يعمق هذا الإيمان ويقويه، ويجعله وسيلة للسعادة والخير في هذه الحياة.
والفلسفات المعاصرة ـ كما يقول الدكتور زكي نجيب محمود(1) : قد صبت الاهتمام كله على الكون في طبيعته التي نحيا بين جنباتها، فكأنما الإنسان في عصرنا هذا، قد اتجه بفكره نحو بيته الذي يقيم فيه، يحاول معرفة، فلم يظهر من فلاسفة العصر بنظرة لا لإثباتاً ولا نفياً ولا تعليقاً إلاّ في القليل النادر، ومن هذه الزاوية استحق عصرنا أن يوصف بما يوصف به كثيراً، وهو أنه عصر مادي، بمعنى أنه لا يجاوز حدود واقعة الذي يعيش فيه. إلى خالق ذلك الواقع بكل ما فيه ومن فيه، وهو سبحانه نالك يوم الدين، حين تفنى الدنيا ويكون الحساب .
فالمسلم إذ يقبل الجزء الأكبر مما قيل عن (البيت ) من الداخل، يرفض رفضاً قاطعاً أن تكون جدران (البيت ) هي أوله، وهي آخره، لأنه يعتقد أنه بيت إلى زوال، كان قبله أزل، وسيكون بعده أبد الخلود.
ويشير الأستاذ محمد قطب في (منهج الفن الإسلامي ) إلى أن التصور الأوروبي قائم على مادية الإنسان ، وحيوانية الإنسان، وإنكار الروح، وأن السبب في ذلك هو (الدارونية ) القديمة، التي تولدت عنها (الماركسية ) وعلم النفس الحديث، وعلم الاجتماع الحديث، وتأثر بها الأدب والفن في القرن التاس ع عشر والقرن العشرين.
ولقد تأثرت (فلسفة الجمال ) بهذه التصورات الجديدة للحياة، مثلما تأثرت فلسفة الجمال عند ارسطو بعوامل تاريخية وعقائدية، وحمل فلاسفة الجمال الجدد على كل الفلسفات الجمالية القديمة، كما حاولوا بكل قوة أو يعزلوا الفن عن الدين، وأن يصوروا العلاقة بينهما على أنها علاقة نفور وتضاد، فتارة يقولون: إن الفن غاية، شعارات الدين والسياسة وغيرهما تفسد الفنون، وتارة أخرى يزعمون أن الأديان قيود والفن حرية وانطلاق، ومرة ثالثة يدعون أن الدين عمادة الأخلاق ، والفن لا يعبأ بهذا الجانب، إذ أن الفنون في نظرهم لا تعبأ بما هو فضيلة أو رذيلة، ولكنها تهتم بكل ما هو جميل في تصوير الخير أو الشر، ففي كل جمال من نوع ما.
إن هناك من يرى أن الدين يبحث عن الحقيقة، وأن الفن يبحث عن الجمال، وهذه مقولة تحتاج إلى إعادة نظر، أليس في الحقيقة التي يقصدها الدين جمال من خاص ؟؟ ألم نقل: إن الجمال ليس مجرد صورة حسّية أو انفعاليةى ، وإن الأمر مركب، وليس على هذا النحو من التبسيط والسهولة؟ ثم ألا يبحث الفن أيضاً في إبراز الحقيقة ؟ إن المسرحية الجميلة ما هي إلا تصوير للصراع بين الخير والشر، أو بين الفضيلة والرذيلة، وإن المأساة تعكس هموماً إنسانية، وتشير إلى حقيقة أو مجموعة من الحقائق، والقصة تفعل الشيء نفسه بأسلوب مغاير ، وفي الإمكان ـ دون حيف ـ أن ننظر إلى الشعر إلى الشعر عموماً النظرة نفسها، ومن ثم يمكننا القول: إن ألوان الآداب المختلفة قد تبلور حقيقة نفسية، أو تجسد واقعاً اجتماعياً، أو تبرز قيمة من قيمة من القيم العليا في إطار معين ، وهكذا نرى أن الآداب لنا ألواناً من الحقيقة في ثوب أخاذ، أو في شكل جميل، لأن تغليف الحقيقة بما يجعلها جميلة ومؤثر ة لا ينفي عنها كونها حقيقة، وهذا الشكل الجميل الذي تزف فيه الحقيقة، يختلف تماماً عن الحقيقة العارية المجردة التي تتنتج عن البحوث العلمية البحتة، أو الفلسفية التقليدية .
إن اقتصار الفن على دور البحث عن الجمال وحده، تعطيل لوظيفة حيوية، وهو الذي يمكن أن ينقل الفنون والآداب إلى متاهات العبثية والانفلات، ومهما كان (الجمال ) مطلوباً لذاته، فإن فاعليته تكون أقوى وأجدى إذا ما الاتبطت أسبابه بتجلي الحقائق وإشراقاتها. وإذا كانت الحقائق قد شابها بعض الزيف أحياناً تحت التصورات الفلسفية وحديثاً، فإن القرآن قد وضع أيدينا على الحقائق الكبرى في الدنيا وفي الآخرة، وأعطى للمؤمن قناعات تامة لا تتزعزع في كثير من الجوانب، ولكن يبقى الباب مفتوحاً للكدح والتجربة من أجل الوصول إلى حقائق جديدة ثانية، ومن المعلوم أن صور الجمال لا تعد، وأ ن آفاق الحائق المختلفة لا تحدها حدود، والأديب المسلم يستطيع أن ينطلق دون عائق في عوالم الحق والجمال والخير والتوحيد والعدل والحب والرجاء.
وإذا كان الأدب أساساً هو التعبير الجميل، فإن (الفكرة ) هي عماد العمل الأدبي، ولها هي الأخرى جمالها، لأن العمل الأدبي كل لا يتجزأ، والجمال ينسحب على الشكل والمضمون معاً، وهذا ما أشار إليه بعض كبار النقاد، وفي الصدق الفني جمال يول حسان بن ثابت: وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يُقال ـ إذا أنشدته ـ صدقاً
والمنفعة في العمل الأدبي لا تتنافى مع القيم الجمالية، وهذا راجع إلى قدرة الكاتب وبراعته في الأداء، لكن الذي لا شك فيه أن الشعارات الفجة، والدعاوى الصريحة، قد تفسد الكثير من جماليات الفن، ولقد استطاع كتاب كبار أن يجمعوا بين المنفعة والقيم الجمالية، فابدعوا أدباً جديراً باحترام العصور، ويقول (راسين ) (1) .
(الذي استطيع تأكيده، إنني ما فعلت في مكان آخر، كما فعلت هنا (مسرحية فيدر) في ابراز الفضيلة بشكل واضح، فاخف الأخطاء هنا تنال أشد العقاب، وفكرة الجريمة ينظر إليها هنا بالرعب نفسه مثلما ينظر إلى الجريمة ذاتها، ومواطن الضعف في الحب تصور هنا كمواطن ضعيفٍ فعليه، والأشواق تصور لمحض أنها تظهر الاضطراب الشامل الذي تسببه، الرذيلة هنا تصور في كل مكان لتجعل المرء يدرك بشاعتها فيكرهها. هذه في الواقع هي الغاية الصحيحة التي يتوجب على كل امرىء يعمل من أجل المجموع أن يضعها نصب عينيه، وهي بالذات مما كان يشغل بال شعراء المأساة الأوائل قبل غيرهم، فمسرحهم كان مدرسة تعلم الفضيلة بشكل لا يقصر عما تعلمه مدارس الفلاسفة.. ).
وإذا كان (ديدرو ) يرى أن العقلانية مفسدة للشعر، فإن (فولتر ) على النقيض منه يقول: (أنا لا أقدر الشعر إلا عندما يكون زينة العقل ).
وهناك مذهب شهير في الفن يطلقونه عليه مذهب (الجمالية )، ويدخل في نطاقه مذهب (الفن للفن )، والجمالية بمعناها الواسع (محبة الجمال )، وترى طائفة كبيرة من أصحاب هذا المذهب أن قيمة الفن توجد في ممارستنا المباشرة له، وليس فيما يقال عن تاثيره في السلوك، والفن ـ كما يقولون ـ يختلف عن الحياة، ولكن الموقف الجمالي يؤكد ذلك الاختلاف إلى حد القول: إن الفن لا علاقة له بالحياة، ولذلك فهو لا يحمل مضموناً أخلاقية، والجمالية تعطي الشكل أهمية كبرى، وتكون قيمة العمل الفني في الشكل دون الموضوع، بينما يرى آخرون من أتباع الجمالية: أن الجمال قيمة لا غنى عنها، تقديرها ضروري للحياة الخيرة ولكن لا يمكن فصلها عن قيمتي الخير والحق، وهي في الواقع تأتي بعدهما.
ونرى معظم النقاد الجماليون يزعمون أن المعايير الأخلاقية والدينينة والفلسفية غير ذات مغزى تجاه قيمة العمل الفني، وإذا كان للمحتوى (المضمون ) من أهمية فهي في حدود ما يساهم فيه في إطار الانطباع الجالي العام، والنقد عندهم تقديري لا تقويمي، فمهمه الناقد (الجمالي ) تفسير الأعمال الفنية وليس الحكم عليها بالجودة أو الرداءة.
وهناك طائفة ينتمون إلى هذا المذهب أطلق عليهم (أصحاب النزعة الأخلاقية ) وهم يرون أن الأدب قد يكون ذا مغزى أخلاقي، دون أن يكون تلقيناً واضح ومباشر، أي دون الإعلام عن مغزى على طريقة الموعظة أو الحكاية التحذيرية، وقد عبر (جورج اليوت ) عن ذلك حينما طلب من الروائيين أن يدافعوا عن الاصلاحات الاجتماعية، وذلك بإثارة العواطف الأنبل، وليس بوصف إجراءات خاصة. وعلى الرغم من أن المفكر والأديب (بيتر ) كان من المحتمسين في البداية لمذهب الجمالية والفن للفن، إلا أنه عاد بعد عشرين عاماً ليقول: إن الفن العظيم لا ينفذ شروط الفن الجيد فحسب ـ وهو ما يجب أن يفعله ابتداءً ليكون فنّاً ـ ولكنه يجب أن يعالج كذلك المسائل الإنسانية الكبرى، وعظمة الفن لا تعتمد على الشكل بل على المادة ، وعندما يكون الأدب أكبر تكريساً لزيادة سعادة الناس، ولإنقاذ المظلومين، أو لتوسيع نطاق التعاطف الإنساني، أو لتقديم حقيقة جديدة أو قديمة عن أنفسنا وعلاقتنا بالعالم، مما قد يعلي من أقدارنا، أو يشد عزائمنا في مقامنا بهذه الحياة.. فإنه بهذه الصفة ـ أي الفن ـ من الفن العظيم(1).
ومن هنا نلاحظ تضاد الجمالية مع مفهوم الأدب الإسلامي عند الغلاة من أصحابها، واقترابها منه لدى الجماليين (أصحاب النزعة الأخلاقية ) الذين لا يشعرون بتناقض بين القيم الجمالية ومحتواها الفكري أو العقائدي، وقيام الأدب برسالة هادفة، لتحقيق القيم الإنسانية العليا التي تحقق السعادة للفرد والمجتمع، وتهب الحياة قوة وفاعلية، وتمدها بأسباب النجاح، وتؤكد قيم الفضيلة والحق والخير.
ولقد سأل طالب جامعي استاذه بيتر قائلاً:
ـ (لماذا يجب أن نكون اخلاقيين (في الفن ) ؟
فأجابه بيتر قائلاً:
ـ (لأن ذلك غاية الجمال ).
وقد أشار بعض الدارسين والباحثين إلى خطورة (مذهب الفن للفن ) أو الجمالية المنحرفة وخطرها على السلوك والمجتمع، وضربوا مثلاً لذلك بشذوذ (أوسكار وايلد ) وآثاره الدبية التي تروج لذلك الشذوذ والفساد الأخلاقي.
وعلى الرغم من أن المفكر الأمريكي (بو ) يقر بوجود المغزى الأخلاقي في العمل الفني بشرط أن يأتي بصورة عرضية (أو أكثر من عرضية )، إلا أنه يقسم العقل إلى:
(عقل خالص = وذوق = وحسن خُلُقي ... )
وهذه الثلاثة ـ في رأيه تتصل بالأجزاء الثلاثة في ثالوث القيم الأفلاطوني (الحق ـ الجمال ـ الخير )، فالعقل الخالص مع الحقيقة، والذوق مع الجمال، كما يرى (بو ) أيضاً أن الذوق يتصل بالواجب (الخير ) في مظهره الجمالي، وقد يستهويه جمال الفضيلة، وينفر من قبح الرذيلة.
إن الاضطراب الذي ساد المفهوم الجمالي، راجع إلى اختلاف المنطلق العقيدي الذي يبدأ منه المفكرون، وإن تزعزع القيم الدينية في الغرب، والموقف السيىء الذي وقفه المفكرون والأدباء والفنانون عامة من التصورات الكنسية وتاريخها قد ساعد على محاولة إقصائها عن الحياة والفكر والفن بصفة عامة، وهي ظاهرة خصام بين الكنيسة والفن، كما حدث بينها وبين السياسة والعلم، وقد ساهم هذا الموقف في انحرافات خطيرة للفلسفات والأداب الأوروبية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت عداوة إلى بلدان العالم الإسلامي والشرق بصفة عامكة، على الرغم من عدم وجود مبررات حقيقية لهذا الخصام في إطار المفهوم الإسلامي، ومهمتنا هنا أن نقضي على ظاهرة الخصام المفتعلة التي يحاول الضالون والمخدوعون الترويج لها في مجتمعنا الإسلامي. فالإسلام يعلي القيم الجمالية، ويعلي من شأنها، ويحيطها بسياج من العفة والنقاء والطهر، ويفتح الباب واسعاً أمام الإبداعات الفنية والأدبية الخلاقة، ويزيد (الكلمة الجميلة ) شرفاً حينما يكلفها بأعظم رسالة، وأسمى مهمة، وأرقى دعوة نزل بها الروح الأمين.
ورسالة الأدب الإسلامي، جزء من رسالة الإسلام الشاملة، ووسيلة من وسائله الفعالة، والإسلام الذي أمر المؤمنين أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، وعلمهم أن الله نظيف يحب النظافة، جميل يحب الجمال، لم يتنكر في يوم من الأيام للجمال الذي هو صنع الله وإبداعه، والبيان سحر وحكمة.. أي جمال ومعنى، صورة فنية أخاذة، وحقيقة تشرق بالخير والحق والفضيلة والنور.. أيمكن أن يكون الأدب أرفع وأروع من ذلك ؟؟
الأدب الإسلامي والمجتمع
يتوهم بعضهم أن الأدب الإسلامي يتقوقع في أحضان الماضي، وينجذب إلى الموضوعات التاريخية، وقد يرتبط شكلاً بها، سواء في مجال القصة أو الشعر أو المسرحية وغير ذلك، وآخرون يظنون أن الأدب الإسلامي لا يستطيع أن ينطلق إلى آفاق الإبداع الواسع، ويجوب تصور المستقبل، لالتزامه بقيم ثابتة لها من القداسة ما يجعل الخروج عليها أمراً مستعصياً، وترتب على هذه الأوهام والظنون نظرة ظالمة إلى الأدب الإسلامي ودوره وطبيعته وتاثيره وقيمه الجمالية، فعزلوا هذا الأدب ـ جهلاً ـ عن واقع الحياة والمجتمع، وعن قضايا العصر ومشاكلة، وعن أشواق الإنسان الجديد وأحلامه وآماله وآلامه.
وهناك فئة حسنة النية من الكتاب الإسلاميين حسبو أن الأدب الإسلامي لا يكون بهذه الصفة إلا إذا ترددت كلمة (إسلام وإسلامي ) صراحة في ثناياه، وإلا إذا كانت نبرة الكاتب بالتوجيه عالية واضحة صاخبة، متناسين أن ذلك قد يضر بالأدب ضرراً بليغاً، ويمحو الفواصل بين ألوان الأدب المتعارف عليها، وبين فنون أخرى تتعلق بالخطبة والحديث والوعظ، والأخضر من ذلك أن إخوة لنا قد فرضوا حظراً تاماً على بعض الموضوعات كالمرأة وعواطفها والعلاقات الجنسية وغير ذلك من الأمور التي تشكل حرجاً، بالإضافة إلى الحظر المفروض على بعض العبارات أو الكلمات البذيئة التي يأباها الدين، وتنبو عن الذوق السليم، واتسع نطاق الحظر عند بعض العلماء حتى حتى كاد يعطل وظيفة أدبية بنوعيتها وتصنيفها إلى جانب الشر والرذيلة والمروق ولعله من الواضح فيما أسلفنا من قول ، أن الأدب من خلال التصور الإسلامي يرتبط أشد الارتباط بالمجتمع.. بالإنسان ومشاكله وعلاقاته المتطورة والمجددة وبطبيعة الحياة التي تخضع دائماً للكثير من المستحدثات وخاصة في هذا الذي نعيش فيه، وبالعصور التالية قياساً على ما نراه، ولا شك العديد من الأسئلة الحارة التي تضطرم في قلب الحياة هذه الأسئلة لها علاقة وثيقة بتغير وسائل وأدوات الانتاج والنمو الصناعي، وبتغير توزيع الثروة، وبميزان القوى الاجتماعية في كل دولة، وموازين القوى العالمية، وبالفلسفات التي انبثقت في القرون الثلاثة الأخيرة، وما قبلها من فلسفات، وبالقيم التي تغيرت تحت إلحاح الدعوات الجديدة المارقة تحت (شعار الحرية ) القوية الجذابة، وبضعف الوازع الديني في أنحاء كثيرة من المعمورة،كما أن تخلي المرأة عن أوضاعها التقليدية، ومزاحمتها للرجل ومنافستها له، وتخلصها من القيود والأعراف التي عاشت في رحابها قروناً عديدة، وتضخم ظاهرة ما يسمى (بحقوق المرأة )، وخروج هذه الحقوق من دائرة الأمومة المقدسة، والرسالة المنزلية والأسرية، إلى مجالات السياسية والانتاج الصناعي والحرية الجنسية، وأندية الفن واللهو والتبرج، كل هذا وذاك أوجد واقعاً جديداً أكثر حدة وشراسة، وبالتالي أكثر تعقيداً ومشاكل، فكان لا بد أن تضج في مختلف الأنحاء تساؤلات ملحاحة، شغلت رجال الدراسات الاجتماعية والنفسية والتربوية والدينية والسياسية والأدبية أيضاً.
فهل في الإمكان أن يسد الأديب المسلم أذنيه عن هذه التساؤلات الصاخبة؟ إنها ظواهر لا نستطيع تجاهلها، وهي تشكل تعقيدات تحتاج إلى دراسة ونظر وتحليل، والأديب المسلم صاحب موقف، ولن يستطيع أن يؤدي رسالته على وجهها الصحيحح إلا إذا واجه تلك المآسي ـ أعني الظواهر ـ بشجاعة ووعي وتصور سليم، ومفتاح الحل معضلة يرتكز على نقطتين:
الأولى: توصيف الظاهرة، ومعرفة أبعادها وأسبابها ودوافعها، والخط المتوقع لمسيرتها ونهايتها أو تطورها إلى ما هو أخطر وأعتقد، وإدراك أبعادها الداخلية والخارجية (النفسية والمجمعية )..
الثانية: التصور الفكري، أو المنهج المناسب، أو العقيدي الراسخة التي يمكن استخدامها في التقويم، وفي معالجة هذه الظاهرة، حتى تستقيم الحياة، وتكون أكثر بهجة وسعادة.
وإذا كان ذلك هو أسلوب عام في تشخيص الظواهر والتعامل معها، إلا أن طريقة الباحث الاجتماعي، أو العالم النفسي، أو العالم الديني. تختلف عن طريقة الأديب أو الفنان، الذي يتميز بخصوصية في العرض والتصوير والأداء. كما يتميز بالتركيز على جانب معين ينفذ من خلاله إلى هدفه، حتى يحقق قيمة الجمال الأساسية في الفن، إلى جوار قيمة النفع (المتعة والمنفعة للمتلقي ).
إن تضحية الأديب المسلم بقيم الصورة الفنية (القيم الجمالية ) من أجل المضمون خطر كبير، فإلى جانب إهدار مواصفات الفن،وخروجه الصارخ عن نسقه، تأتي مشكلة أخرى أعمق أثراً وهي عدم قدرته على إيصال رسالته بالطريقة الصحيحة، وخروجه من دائرة الفن إلى دائرة أخرى قد تكون الابحاث، أو الموعظة المجردة، وهذه وتلك ساحات يشغلها غير الأديب، ويقوم بدوره فيها خير قيام.
والأديب الإسلامي لا يستطيع أن يخاصم العصر أو يهرب منه إلى عصور قديمة، والأدب الإسلامي حينما يتناول موضوعاً تاريخياً (قديما ) لا يهرب في الواقع من مجابهة المجتمع أو الحياة الحديثة، إته يتناول التاريخ وعينه ععلى الحاضر، ففي التاريخ كنوز ثمينة من التجارب اإنسانية العامة الشاملة التي لا تموت بمرور السنين، إنها قضايا الماضي والحاضر والمستق بل، فإذا قدم الأديب المسلم أنموذجاً أو مثلاً نابضاً عريقاً يرمز إلى قيمة من قيم أو الخير أو الفضيلة وغيرها، أو صور صراعاً بين خير وشر، وعدل وظلم، وإيثار وأثرة، كان لمثل هذا العمل الأدبي تأثير إيجابياً، لما يتضمنه وفائدة، والتاريخ واقع الأمس، وفيه قضايا متجددة هي قضايا كل عصر، ومن قال أن الحرب والسلام، والخير والشر، والحب وتالكره قضايا بعينه ؟؟ إن المضمون لا يختلف، وإن اختلف أسلوب التناول، ب ل قد ي ختلف أو يتحور المضمون أيضاً من منظور آني، دون إخلال بقواعد التطور والثبات في الإسلام.
وليس الأديب المسلم بدعاً في تعريجه على التاريخ، فكتاب أوروبا وأمريكا قد تناولوا الأساطير الإغريقية عشرات المرات ، كل بأسلوبه، الخاص، وفلسفته التي آمن بها، وفعل كتاب العالم الإسلامي المعاصرون الشيء نفسه، حتى سارتر تناول اسطورة أوديب (الذباب أو الندم ). كما تناولها توفيق الحكيم وعلي أحمد بأكثر وغيرهم، وتناول غيرهم أحداث التاريخ تناولاً أدبياً أو فنيَّـاً مثيراً، بل إن رواية تاريخية لكاتبة أوروبية (في أربعة أجزاء ) حققت أهلى أرقام توزيع في العام الماضي، ما نريد أن نقوله: إن تناول المادة التاريخية بعرض جديد أو أسلوب مبتكر، لا يشكل اتهاماً ذا قيمة بالنسبة للأدب الإسلامي، لكن استلهام التاريخ لا يعني تجاهل الفترة الزمنية التي يعاصرها الأديب، فالأحداث الجارية، والتفاعلات الأنيفة التي تهز المجتمع المعاصرجديرة دائماً بالالتفات والنظر، وهي تعني أن الأديب الإسلامي يعايش واقعه، ويحمل هموم مجتمعه فتؤرق نومه، وتهز وجدانه، وتحرك فكره، وتثير الحيوية والحرارة في قلمه، فيعبر عنها التعبير الفني الجميل، فإذا ما تحدث استمع إليه الناس، وشعروا أنه معهم، وأنه يشاركهم العناء، وأنه يترجم عن قلقهم وآلامهم وآمالهم بأسلوب يجذبهم إليه، فتتأكد تلك العلاقة الفكرية والروحية بين المبدع والمتلقي، ويحدث التجاوب الخلاق الذي يساهم في حفز الهمم، واتخاذ المواقف، وصنع التغيير إلى الأفضل. أما الزعم بأن الأدب الإسلامي ينطلق من مقولات ثابتة لا جديد فيها. وإن الإنسان (القارىء أو المشاهد ) يحتاج إلى الجديد.. والجديد دائماً، وهذه طبيعة الحياة، هذه المقولة في الواقع تنبىء عن سوء فهم أو سوء نية، فالأديب مهما كان مضمونه ـ إذاً أراد النجاح ـ لا بد أن يقدم رؤية جديدة، إن مئات الألوف من القصص والمسرحيات صورت صراع الخير والشر، لكن لكل واحدة منها مذاقها الخاص، ورموز الخير والشر في الأديان السماوية تكاد تكون واحدة، ونرى ذلك في (قصة الخلق ) ـ آدم وحواء والملائكة وإبليس ـ كما في دعوة الأنبياء والرسل إلى الفضيلة والحب والعدل والإخاء، وتترجمه ملايين الأحداث على سطح البسيطة في كل صقع وعصر، ولكن يبقى أمر هام وحيوي أشرنا إليه فيما سبق، وهو يتعلق بالتط ور والثبات في عقيدتنا الإسلامية الكاملة، وهي الرسالة الأخيرة إلى الأرض، وقد حسمت النصوص هذه القضية الحساسة منذ البداية، اللهم إلا إذا توهمت الهرطقات الضتالة أنه في الإمكان العديل لمنهج .. حاشا لله..
ولقد وضع الإسلام ضوابط وأطر عامة لمسيرة المؤمن في نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، وفي تناوله لقضايا المجتمع ومشاكله، وفي علاقات الإنسان وممارساته. وفي طبيعه هذا الكائن الحي الذي يمر بمراحل معينة من النمو، وتجري عليه القوة والضعف، والخوف والشجاعة، والطمع والقناعة، والصلاح والطلاح، والصحة والمرض، والنطنة والجهل، والهداية والضلال. ويبقى الحق حقّـاً، والخير خيراً، والشر شراً، على ضوء الهدى الإلهي، والتوجيه النبوي، وأحكام الشريعة الغراء.
ولهذا تقرأ أسطورة (أوديب ) في أصلها، فتجد لها منحى أو مضموناً عاماً، كما تجد فيها تفاوتاً في الهدف والأسلوب عند سارتر أو الحكيم أو بأكثر أو غيرهم من كتاب الشرق والغرب، وكل واحد من هؤلاء يوظف الحدث بطريقة خاصة ليعبر عن قيمة من القيم تتفق وفلسفته أو عقيدته.
ويظل القارىء يحترم قيمة (الشجاعة ) مثلاً، لا كفعل مجرد، ولكن لارتباطها بقيمة من القيم الخالدة، فشجاعة المجاهد في سبيل الله، غير شجاعة اللص أو قاطع الطريق، وشجاعة الطاغية أو القائد السفاح، غير شجاعة صاحب القلب الطاهر، والفكر النير، بل إن شجاعة القلب (الجسور ) غير شجاعة العقل (الألمعي ) ورحم الله شوقي إذ يقول:
إن الشجاعة في القلوب كثيرة ووجدت شجعان العقول قليلاً
ليست الشجاعة كقيمة تصوراً مجرداً، ولكنها ترتبط بإيمان الإنسان، وقدرته على التضحية من أجل قضية عليا، والتفاني في إعلاء الحق، وإحياء العدل، وقهر الشر، وحماية المقهورين والمستضعفين، أي جديد وأي قديم في ذلك؟ وكيف نسطتيع أن نتصور بقاء حياة إنسانية راقية دون هذه المقومات الأساسية.
إن القيم النابعة من الإسلام هي المقومات الأساسية لبناء حياة جديرة بأن تعاش.. وعندما تتلبد السحب، وتحارب وتسجن هذ ه القيم، فسيكون ذل ك بمثابة إعلان عن بداية الشقاء البشري.
ثم يأتي ذلك الموضوع الحساس الذي يتعلق بالمرأة، وحركتها في المجتمع، إن هناك واقع قائم يتعلق بوضعية المرأة، وهناك أمل في تناول هذه الوضعية بالنظر ومحاولة السموبه على ضوء المعايير الإسلامية الصحيحة.
إذا برزن المرأة في أي أدبي، انصرف الذهن مباشرة إلى غريزة الجنس، وإلى الحب بمعناه المحدود، وإلى العواطف المشتعلة والانغماس في اللذة البهيمية، وما يتبع ذلك من تصورات وانفعالات.
ولقد تمادت الآداب العالمية في ابراز هذا الجانب الجنسي وركزت عليه، حتى أصبح أمراً يكاد يكون مألوفاً لا يثير الدهشة أو الغرابة أو الاشمئزاز، وغرقت السينما أيضاً في هذا البحر الهائج من الإثارة والإغراء، وأصبحت هناك سينما وجلات ونجوم تخصصوا في هذا اللون من الفن الساقط. ووجد ذلك قبولاً لدى المراهقين والمنحلين وتجار الرقيق الأبيض، أصبح الجنس سلعة رائجة في سوق الفنون الحديثة، وانتقل الوباء إلى أمم الشرق الإسلامي، وفعل فعله في إتلاف القيم والخلاق، وسمم العواطف والأفكار، ودمغ الأدب ـ بالنسبة لعلماء الدين والأخلاقيين والمصلحين ـ بالفساد والرذيلة.
والمرأة كما يقال نصف المجتمع، وهي كالرجل لها أشواقها وآمالها، وتنتابها عوامل القوة والضعف، والنصر والهزيمة، وتستقيم وتنحرف، ولها مشاكلها كعضو في الهيئة الاجتماعية، لكن رسالته الأولى ترتبط بواجباتها الزوجية وبالأ موة، ولقد وضع الإسلام لها الإطار الصحيح الذي تسعد به، وينعكس على المجتمع بالخير والفلاح، كما أوضح لها حقوقها المختلفة في الزواج والطلاق والميراث والتعليم وغير ذلك من الأمور التي لا مجال للاستطراد فيها.
ما هو موقف الأدب الإسلامي ـ في تصورنا ـ حيال هذه القضية؟
بداهة لا يمكن أن يتجاهل هذا الجنس، وهو أمر لا خلاف عليه. والمرأة أم وابنة وأخت وزوجة.. والمرأة قارئة وعالمة وشاعرة وكاتبة.. والمرأة طبيبة ومعلمة وممرضة ومصلحة اجتماعية، وغير ذلك من المواقع المختلفة التي حفل بها التاريخ قديماً وحديثاً، ومن يتصفح التاريخ الإسلامي ومواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين يستطيع أن يخرج ببعض النتائج الهامة في هذا الجانب.
هناك المرأة التي جاءت إلى الرسول تشكو من أنها لا تحب زوجها ولا تطيق الحياة معه.. وهناك النسوة اللائي بايعن الرسول صلى الله عليه وسلم، والللائي ضمدن جراح المصابين في المعركة، ثم المرأة التي وقفت تنافح بسيفها أعداء الله عن رسول الله، ثم المرأة التي جاءت لتعترف بأنها زنت.. أو التي أقيم عليها الحد وقال عنها الرسول (لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم.. )
وتلك المرأة الجميلة (زوجة الشهداء ) التي تزوجها إبن ابي بكر رضي الله عنهما، فافتتن بجمالها حتى كادت تصرفه عن أداء بعض الصلوات، فأصر أبوبكر على تطليقها من ولده، فعانى من ألم وحزن شديدين، حتى توسط له بعض الصحابة، فردها إلى عصمته بعد أن وعد بالالتزام بفرائضه وواجباته الإسلامية، وظل وفيا بعهده إلى أن مات شهيداً..
ما أكثر الأحداث التي وردت عن النساء في التراث الإسلامي، ولم يكن نوعاً معيناً، بل حفل التاريخ بنماذج عديدة، فيها السىء والحسن، والفاسد والصالح، والمستقيم والمنحرف.
حتى الانحراف في المرأة لم يكن ينظر إليه على أنه لعنة أبدية، ولكن ينظر إليه كمرض أو كلحظة ضعف تحتاج إلى من ينهض بها أو يقويها، حتى تبرأ من آثاره ومضاعفاته، وحينما سمع عمر بن الخطاب امرأة تترنم بشعر الشوق والهيام تحت جنح الليل، لم يعاقبها على تصرفها، وإنما ذهب ليسأل عن المدة التي تستطيع المرأة أن تتحملها دون زوجها، وعندما علم بالحقيقة أصدر أوامره ـ كقائد ـ بترتيب أمور الجند بحيث يعودون لزيارة زوجاتهم من آن لآخر. إنه اعتراف بالحقيقة وبنوازع البشر واحتياجاتهم الجسدية والروحية، لأن تجاهل مشاعر الإنسان واحتياجاته الضرورية فيه ظلم
فأية أمور تخص المرأة يمكن الحظر عليها في الأدب الإسلامي؟
إن منطقة الحظر ليست كما يظن بعضهم ـ فهي محدودة جداً.
الأدب الإسلامي يستطيع أن يتناول المرأة من شتى جوانب حياتها، بشرط ألا ينزع بالقارىء أو المتلقي منازع الفتنة والإثارة والاغراء بإرتكاب الموبقات ، والواقع هذا كلام قد يبدو مقبولاً في إجماله، لكن الصعوبة قد تأتي عند التطبيق، ومن ثم فهي تتراوح في مدى إمكانية النجاح من كاتب لآخر، لكن الأمر يجب ألا نغفله هو: إلى أي شيء ترمز شخصية المرأة في أي عمل أدبي؟ قد ترمز المرأة فس قصة من القصص مثلا إلى الطهر والنقاء، ومن ثم فإن الكاتب يصورها وهي تقاوم الإغراء، وتتجنب السقوط تظل متمسكة بطهرها ونقائها، وتكتمل الصورة كلما حاول الكاتب إلقاء الضوء على شخصيات (الشياطين ) الذين يحيطون بهذه المرأة، ويزينون لها الإثم، ويفلسفون الرذيلة، وهي تقف بين نداء ضميرها ودينها وبين وسوسة الشهوةوالإغراء، لكنها في النهاية يتحقق لها النصر على الضعف والهوى والفساد..
وقد ترمز شخصية المرأة في قصة أو مسرحية إلى بيئة منحطة، وسلوكيات متهتكة، وتسيب أخلاقي لسبب أو لاخر، والكاتب هنا لا يستطيع أن يرسم الصورة المعبرة بدقة، إلا إذا انتخب الأحداث والحوار المناسب لهذه الشخصية المتبذلة فلن يكون رداء مثل تلك المرأة إلا ترجمة لانحرافها، ولن يكون حديثها إلا تعبيراً عن فساد ممارساتها وتكوينها، ولن تتسم تصرفاتها إلا بما يثير الإشمئزاز والضيق والنفور. ولا تكون هذه الصورة دائماً دعوة الاقتداء بها، والنسج على منوالها، ووظيفة الكاتب المسلم هنا أن يختار ما يثير الرفض والإدانة لهذا المسلك المعيب، لا ما يبرر الانطلاق في دنيا الحرية الآثمة، ويرى بعض النقاد الإسلاميين أن على الأدب الإسلامي الاقتصاد في مثل تلك الصور والمشاهد، وهذا رأي يحتاج إلى نظر، لأن الأمر ليس أمر (الكم) ولكن (الكيف )، فقد يكون الاستطراد والاطالة ضرورية لبسط الصورة، وتوضيح الفكرة، وتشريح السلوك المنحل، حتى يكون انطباع النفور قويّاً شاملاً وحتى يستطيع الأديب أن يوصل رسالته إلى المتلقي بوضوح وإيجابية، أما الإيجاز يقتضي التفصيل، أو الإطالة فيما يحتاج إلى اختصار وتركيز، فكلاهما يضر بالعمل الفني، ويؤثر في النتيجة النهائية، أو بلوغ الهدف النبيل الذي يطمح إليه الكاتب المسلم.
في روايتي (رحلة إلى الله ) كنت أهدف إلى تشريح شخصية قائد السجن وما تميز به من شذوذ وقوة وطغيان، وجعلته محوراً تدور حوله كثير من الحداث، ولم يكن هذا الطاغية مجرد سجان، بل كان صورة مجسدة لفساد الحكم والإدارة والتربية والمنهج، لقد انعكست عليه كل خطايا العصر، حتى في علاقاته الخاصة، وحياته المنزلية، وصداقاته ونظرته إلى الإنسان والحيوان، كان سيرة حية للضياع والضلال الأكبر الذي يسم الحكم والسادسة والرؤية، كما حاولت من خلال تعامله مع الضحايا والشرفاء الذين يرسفون في الأغلال، أن أبين عدالة قضيتهم، وصق توجههم، واستعذابهم للجهاد والتضحية في سبيل الله، وكان رأي النقاد الإسلاميين وغير الإسلاميين مشيراً إلى نجاح العمل الأدبي شكلاً ومضموناً.
ليست القضية إذن عدد السطور أو الصفحات التي تصور اللحظات الساقطة الخاطئة في حياة المرأة الفاسدة أو الرجل الفاسد، ولكنها تعتمد على مدى الأثر الذي يتركه العمل الأدبي في نفس الملتقي كما أسلفنا.
يقول جونسون (لأن الرذيلة يجب أن تُكشف، لا بد وأن تثير النفور دائما ً). وهو يضع أيدينا بهذا القول على لب القضية، ليس المهم هو (كم ) نكتب في تصوير السلوك الشائن، ولكن المهم هو (كيف ) نكتب.. لكي نصل إلى ما سماه (جونسون ) (إثارة النفور ) لدى المتلقي.
وقد أشرت إلى قضية (الجنس ) في (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) وفي بعض المقالات(1). من خلال تحليلي لقصة (يوسف ) في القرآن الكريم، ومعظم كتب النقاد والمنظرين النقديين الإسلاميين أشاروا إلى القصة نفسها بعد ذلك، حتى أصبح من الصعب على المؤرخين معرفة من الذي بدأ بذلك، ولهذا حرصت في كتابي المشار إليه تسجيل تاريخ مقالتي الأولى بهذا الشأن في مجلة الأفق الجديد (بالقدس ). وكانت هذه المقالة رداً على شاب أردني بعث يسأل عن أدب الجنس.
وقد أثار أيضاً موضوع ظهور المرأة على المسرح اعتراضاً كبيراً لدى بعض المفكرين الإسلاميين، وقد تعرضت لهذا الأمر في كتابي (المسرح الإسلامي ) الذي بحثا عنه في المؤتمر الثالث للأدب الإسلامي بالرياض، وكان موجز ما رأيته أنه لا مانع من ظهور المرأة على المسرح، واشترطت بضعة شروط أهمها الزي المحتشم (الشرعي )، وتجنب الإثارة في الحركات المكشوفة والكلمات التي تخدش الحياء، لأن هناك قضايا وأموراً حساسة لا يمكن أن تقدم إلا من خلال المرأة، فضلاً عن أن (وضعية ) المرأة في المجتمع وما يلابسها من محاذير وحرج وسلبيات لا يمكن تناولها إلا بالتواجد المباشر.
إذا كانت الخمر محرمة، وهي أم الخبائث، فهل هذا يمنع من طرح مشكلتها وآثارها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، من خلال شخصية سكير عربيد، تتجسد فيه مأساة الخمر؟ وإذا كان قطع الطريق، وقتل البريء جريمة بشعة ممقوتة، أفلا يجب أن نتناول هؤلاء القتلة والطغاة والمنحرفين من خلال أعمال أدبية، تهدي المتلقي إلى المواقف الإنسانية النبيلة، حيث تحترم حرية الإنسان وحقه في الحياة، فلا يعتدي عليها معتد؟
وإذا كان الزنا ـ صورة الجنس المنحرف الحرام ـ وباء خطراً، أفلا يمكن تناوله بما يستحقه من تقبيح وتنفير، وما يصاحبه من مقدمات وإغراءات وسقوط ؟
والجنس في الإسلام له شرائعه وآدابه، وقد تناول ذلك بعض علماء المسلمين بقدر من الصراحة كبير، كذلك وردت بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال ذلك الحديث الذي يوصي المسلم بألا يرتمي على زوجة كالبهيمة، ولكن يقبلها ويداعبها، وإني لأذكر تلك الحلقة الدراسية التي أقيمت في بيروت (أواسط السبعينيات )، وتحدث فيها أستاذ بالجامعة الأمريكية عن مشكلة الجنس، وقال ضمن ما قال: إن دراساته أثبتت أن الانحراف الجنسية في مجتمع كلبنان سببها العقائد الدينية وما تفرضه من كبت وغموض، ولما طلبت التعلق أخذت أطرح القضية من منظور إسلامي، وقدمت عدداً من التصورات الإسلامية والنصوص حول موضوع الجنس، ثم ذكرت بعض المؤلفات التراثية التي اهتمت بالبموضوع ، وكان الحضور ـ والمحاضر نفسه أيضاً ـ في دهشة بالغة، إذ قالوا: إنهم يسمعون هذا الكلام لأول مرة، ثم تناولوا أقلامهم ليسجلوا المراجع القديمة التي ذكرتها.
إن تصورنا لموضوع الجنس يجب أن يكون واضحاً دون تعقيد أو غموض، لأن القرآن الكريم ـ كتابنا المقدس ـ عرضها في قصة طويلة، حيث تحتدم الشهوة في جسد امرأة جرئية، تتحدى القيم والموضوعات الاجتماعية، وتلهث وراء نبي الله يوسف عليه السلام، لتطفىء شعلة شهوتها وهياجها وتعلن في تبجج أمام نسوة المدينة إصرارها على الإثم.. يقول الله في كتابه العزيز:
(وقال نسوةُ في المدينة، امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، قد شغفها حُباً، إنا لنراها في ضلالٍ مبينٍ . فلما سمعت بمكرهنَّ، أرسلتْ إليهنَّ، واعتدت لهن متكأ، وءاتت كل واحدةٍ منهنَّ سكيناً، وقالت: اخرج عليهن، فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن، وقلن حاشا لله ما هذا بشراً، إن هذا ملك كريمٌ، قالت: فذلكنَّ الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما امره ليسجننَّ وليكونا من الصاغرين. قال ربَّ السجن أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه، وإلاًّ تصرف عني كيدهن أصيب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربُّه فصرف عنه كيدهن، إنه هو السميع العليم، ثم بدا لهُم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) (يوسف: 30 ـ 35).
وللقرآن الكريم نسق متفرد معجز في قصصه (إنَّ هذا لهو القصص الحق )
(آل عمران:62)، ونماذجه تحتذى، لكنها تظل على القمة مثلاً أعلى، يتطلع إليها المؤمنون في كل عصر وارض، ولم يترك القرآن جانباً من جوانب الحياة الاجتماعية، او مسالك النفس الإنسانية، أو البنية السياسية والاقتصادية إلا وتناولها بمنهج رباني، وأسلوب متميز (.. ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ٍ) ( الأنعام : 38)، والرسول صلى الله عليه وسلم (كان خلقه القرآن ) وأمتنا أمة القرآن، ومنه نأخذ النور والعون والهداية، وعلى طريقه نصل إلى قيم الحق والخير والجمال، ومن آدابه وأحكامه تتشكل علاقاتنا وأفكارنا وآدابنا، ومن فضل الله أنه كان قرآنا عربياً، وبلسان عربي مبين، وغير ذي عوج، يمتلىء بالعظات والأمثال (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ ) (الروم: 58).
والأدب الإسلامي حينما يحتفي بقضايا المجتمع والعصر. فإنه ينهج نهج القرآن الكريم، وأحاديث نبينا المختار، صاحب الرسالة العظمى عليه الصلاة والسلام.
تبقى علاقة الأديب المسلبم بمجتمعه، أية علاقة تلك؟ هل تعكس هذه العلاقة استجابة الأديب لواقع المجتمع والتعبير عما يدور فيه؟ إذا كان الأمر على هذا النحو من التصور، فإن دور الأديب يبدوا سلبياً، وقد يبقى الأمر في هذا المجتمع على ما هو عليه من فساد، وهنا تنعدم (المسؤولية الأدبية ) أو(الرسالة )، ويصير الالتزام ضرباًَ من الجمود على ما هو قائم، وتمجيداً لما هو راسخ، ومن ثم تزمن العلل الاجتماعية، وتنطمس معالم التغيير الايجابي والتطوير، ويصبح الأدب بحق مجرد تسلية وترفيه، لكن طبيعة الأدب الإسلامي تنفر من هذه الاستاتيكية) فالإسلام حركة ونمو وفعل متواتر، وصعود دائم، وغايات وآمال تتحقق، لتصب في الغاية الكبرى التي من أجلها كان خلق الإنسان على هذه الأرض، وما نقوله الآن ليس بدعاً.
يقول الأستاذ الدكتور عز الدين لإسماعيل في كتابه القيم ( الأدب وفنونه ) (1):
(فالأديب حين يتأثر بالمجتمع، إنما يعكس فهمه هو على هذا المجتمع، والأدب تصوير لهذا الفهم ونقل له، أما أن ينقل الأديب حياة المجتمع، أو يكون المرآة العاكسة لحياة هذا المجتمع، ليتلقاها أو يراها المجتمع ذاته، فعبث ليس من الأدب في شيء ) .
فالأديب يتخذ لفسه دائماً موقفاً فكرياً من مجتمعه، ومن هنا فقط تأتي الفرصة لأن نقول: إن الأديب في مجتمعه، إنه يعيش في مجتمعه، ولكنه لا ينتج أدبه إلا في الحالة التي تستقل فيها ذاته عن هذا المجتمع، متخذة موقفاً فكرياً خاصاً به.
(الحد الفاصل بين الأدب العظيم والأدب التجاري غاية في الدقة، فالأديب العظيم يستطيع أن يؤثر في مجتمعه، وأن يمتسب رضاه دون أن يخضع لإرادة هذا المجتمع، بل ربما استطاع تحقيق ذلك وهو يقف معارضاً للمجتمع، والأديب التجاري وحده هو الذي يتملق الجماهير، ويخضع لها، ويترك إرادته تذوب في إرادتها، الأول هو الذي يؤدي دور الأديب الحق في مجتمعه، حين يتأثر بهذا المجتع ثم يحاول التأثير فيه، وهو تأثير له خطورته، لأن له خطته وهدفه، أما الثاني فلا يمكن أن يكون عامل دفع في مجتمعه، لأنه سيترك المجتمع يدور في نطاق ذاته.. )
والمضمون الاجتماعي للعمل الدبي بهذا المعنهى لا يستمد في الحقيقة من واقع الحياة في المجتمع، بل من (موقف ) الديب الفكري من الحياة في هذا المجتمع، والمضمون في ذاته قيمة، وهو قيمة تتولد عن موقف الأديب الفكري من القيم الأخرى السائدة في المجتمع).
(والأديب له فرديته ولا شك، ولكنها الفردية المتحققة بوجود المجموع فيها، وهو كذلك له عبقريته المبدعة، ولكن ما يبدعه لا تكون له قيمة إلا بما يحدث من أثر المجموعة ).
إن علاقة الأدب الإسلامي بالمجتمع علاقة وطيدة، وهي تستمد خيوطها من التصور الإسلامي العام، ولا ينظر الأدب الإسلامي إلى المجتمع (نظرة دونية ) مهما تعاورت ذلك المجتمع نوب الفساد والانحلال والضلال، فالمسؤولية المقدسة في عنق الأديب المسلبم تجعله يهدف أول ما ما يهدف إلى تحقيق السعادة والتوزان النفسي لدى الأفراد، واعتدال الموازين بين فئات المجتمع، والانطلاق من موقف إيماني صحيح والنظر إلى سوءات الحياة الاجتماعية نظرة الطيب لمريضه، حيث تقتضي هذه العلاقة الحب والفهم والولوج إلى القلوب لتحقيق الثقة والإيمان والأمل والقناعة الخاصة، ومن ثم يتولد (الموقف ) الإيجابي .. الموقف الذي يتحول إلى مماترسة وتغيير للأفضل.
الإبداع والتربية
من الطبيعي أن يكون الإبداع ـ في المنهج الإسلامي ـ وسيلة خاصة من وسائل التربية، وبعيداً عن المصطلحات والمداس المختلفة لتفسير العلاقة بين الإبداع والتربية، فإنه يمكننا القول: إن الإبداع الفني أو الأدبي له تأثيره المتميز على نفسه المتلقي وفكره سواء أدرك المتلقي ذلك أو لم يدركه، إن البهجة أو المتعة التي يخلفها الأثر الأدبي، أو استئناف التفكير في المشاكل أو الصراعات التي يطرحها الفنان، أو اتخاذ موقف من المواقف، إنما ينبع ذلك كله مما نسميه بالتأثير، حتى ولو افترضنا أن الفنان كان جمالياً صرفا، وتلك المصطلحات التي نقرأ عنها في التراث المسرحي القديم عند الإغريق أو الرومان كالتطهير أو التعاطف أو التسامي وما إلى ذلك، إنما ترمز جملتها إلى الأثر التربوي للإبداع، كما تعبر عن التفاعل الوجداني بين ذلك الأثر والمتلقي، ولا نستطيع أن نفصل المضمون الفكري عن الشكل الفني في هذا التصور، فكلاهما ترجمة متلاحقة للإبداع الصحيح.
والأدب الإسلامي يتمثل ذلك المفهوم، ويوظف إمكاناته المختلفة في إحداث الأثر الإيجابي، المرتبط بذات الأديب المسلم وتصوراته وتطلعاته، ويأتي هذا تلقائياً دون تصنع أو زيف، لأن التكليف يوهي من عرى الإبداع، ويعطل من تأثيره الفعال، ويهبط بمنزله الأديب إلى مرتبة تجعله قاصراً عن القيام بدوره، في تخليص الإنسان من الوثنية والانحراف والتخبط، وتعزله عن دوره الحضاري والاجتماعي.
يقول الدكتور منير مبشور(1): إن العلاقة بين الإبداع والتربية قد بدئ الاهتمام بها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي تنقسم إلى فترتين رئيستين الأولى يمكن تسميتها بالفترة الانطباعية أو الاستنباطية وهذه تبدأ مع العالم (فرنسيس جالتي) الذي كتب عام 1869 حول موضوع الإبداتع واعتبره عملية وراثة، أما الفترة الثانية فهي الفترة التجريبية أو الاستقرائية التي بدأت مع السلوكين، وبلغت ذروتها بعد تجارب العالم الأمريكي (جلفورد) وهي التجارب المشهورة في أوائل الخمسينيات.. ولا شك أن الفترة الانطباعية تختلف عن التجريبية، وذلك بأن الذين بحثوا في عملية الإبداع ودوافعه استندوا إلى قراءاتهم الخاصة (بالنسبة للانطباعيين) لشخصيات أبطالهم، واستخدموا وسائل الاستنباط والمنطق الداخلي للتوصل إلى خلاصاتهم دون استقراء آراء وأفكار هؤلاء الأبطال أنفسهم بشكل مباشر، بينما ـ على العكس من ذلك ـ توصلت الفترة التجريبية إلى خلاصاتها استناداً لاستجابات أشخاص محددين على أساس دوائر وامتحانات ذكاء أو امتحانات إبداع واستجابات على أنواع.
ومن الضروري التأكيد على أن الطريقة الثانية تستخدم الدوائر والامتحانات لم تؤد بالضرورة إلى نتائج أهم أو حتى أقرب إلى الصحة والقبول، فالمسألة تعود إلى اختلاف فلسفي عميق بين طريقتين في المنهج.. وعلى جانب آخر في هذه الفئة (النظرية الاستنباطية أو الجماعة التي تنظر في مسائل الذات وعلم النفس ) هناك العالم الفرنسي (برجسون ) المتوفى عام 1941 وقد استعمل المنهجية الانطباعية أو الاستنباطية نفسها كما استعملها جالتي، ولكن المادة التي استخدمها (برجسون ) كانت مختلفة، فبدلاً من مراجعة حياة الأشخاص، أي تاريخ حياتهم الخاصة، عكف برجسون على الغوص في أعماق ذاته بشكل انطوائي (أو شخصي ) ليستخلص منها أهم أفكاره عن طبيعة النفس البشرية وعن عمليات المعرفة والإبداع، وتوصل إلى نظريته في (الحدس ) ونظريته في إثبات الوجود، وقد اعتبر برجسون أن الناس لا يمارسون هذا الشعور، وهو شعور الوحدة مع العالم، إلا في ظروف معينة، كما أن الناس يختلفون في القدرة على هذه الممارسة التي يعتبرها (برجسون ) قدرة فطرية، وبهذه الطريقة يلتقي مع جالتي.
ويؤكد برجسون هنا على أهمية الانفعال العميق (لا السطحي ) إزاء عملية الإبداع حيث يقول: (الابتكار وإن كان عقلياً، فإن الانفعال جوهره الثاوي في أعماقنا ) بمعنى أن الانفعال هو الذي يعطي الشرارة للإبداع..
ويرى (فرويد ) أن الإبداع عملية تسامي أو إعلاء عن دافع رغبة جنسية، في حين يظن
(أدركر ) أن الإبداع هو عملية تعويض عن شعور بالنقص، أما (كارل يونج ) فقد وسع دائرة اهتمامه أكثر حين انتقل من الشخص الفرد إلى (الشخص الجماعة )، حيث كرس جهوده إلى توضح الا شعور الجمعي أو السلالي الذي ينتقل إلى الفرد حاملاً آثار خبرة الأسلاف وتجاربهم، وهذا الشعور الجمعي عند (يونج ) هو مصدر الأعمال الفنية العظيمة، لكن العالم الألماني النفسي الفيلسوف (هايمر ) يتجه إلى ناحية أخرى، ليس باتجاه الباطن أو الداخل، كما فعل (الفرويدون ) و(برجسون )، إنما باتجاه الخارج، فحاول أن يربط بين مؤثرات الخارج بشكل جديد يتلخص بأن قوى معينة في الباطن تثيؤ اضطراباً أو قلقاً أو انعداماً في الاستقرار يؤدي إلى إدراك خصائص الأشياء بكليتها، والدافع إلى هذا هو قوة (لأنا ) من الداخل.
وعلى أي فإن (ولس ) ـ عام 1926 ـ اعتبر أن عملية الإبداع المعقدة تمر بأربع مراحل:
1- مرحلة الإعداد والتهيئة، وهذه تنشأ عند ظهور الحاجة أو المشكلة، أو الإحساس بعدم التوازن.
2- مرحلة الاحتضان أو الاختمار، حيث تختمر الأفكار والمشاعر والتجارب المتعلقة بهذه الحاجات أو المشكلات في النفس لمدة من الزمن.
3- مرحلة حالة الإشراف، حيث يتم العثور على الحل، أو تنجح الفكرة المختمرة في الخروج إلى الضوء.
4- مرحلة التحقيق، إذ يتم لها التحقق وتخضع للمعالجة
ويرى التجريبيون ـ خلافاً للانطباعيين ـ أن الإبداع صفة عامة يمتلكها جميع الناس، وأنه خاضع كغيره من الخصائص التي يمتلكها الناس للتأثير وبالتالي إلى التغيير عن طريق التدريب، ويرى (كليفورد ) أحد كبار منظري المدرسة التجريبية أن أهم عوامل أو قدرات الإبداع (القدرات الإنتاجية ) هي الأصالة والطلاقة والمرونة، لكن هذه القدرات كامنة لا تنتج أعمالاً إبداعية بدون وجود دوافع أو سمات مزاجية للفرد، وخلص ـ بعد تجارب ـ إلى القول: بأن الإبداع أمر قابل للتطور، وليس أمراً مطلقاً أو مكتسباً أو موروثاً على النقيض مما قرره (جالتي ) قبل مائة عام.
إن هذه الدراسات أو المدارس الفكرية نظرت إلى (المبدع ) والإبداع من عدة زوايا، ولا نستطيع أن نخطئ هذه المدرسة أو تلك بصورة كاملة، كما أننا لا نستطيع أن نؤيد إحداها تأييداً مطلقاً، والسبب في ذلك لا يبدو غامضاً أو مختلفاً إذا نظرنا إلى الأمور نظرة واقعية محايدة، لأن العوامل المؤثرة في الشخصية ـ ومنها شخصية المبدع بالذات ـ شاملة ومتنوعة، فهناك العوامل الوراثية التي لا يمكن علمياً تجاهلها، وهناك العوامل المكتسبة من ثقافة وقيم دينية واجتماعية وأخلاقية، وهناك الظروف البيئية والنفسية والشخصية، وهناك أيضاً العلاقات (النفس بدنية ) أو السيكوسوماتية، وكون القدرات الإبداعية قابلة للتطوير لا ينفي المؤتمرات الوراثية أو المكتسبة.
والقارئ لفلسفة الشاعر الفيلسوف (محمد إقبال ) ـ فلسفة الذات ـ يدرك بعض النقاط التي يلتقي فيها مع (برجسون ) إذ أن إقبال يشير دائماً إلى نمو (الذات ) وجهادنا ونموها الدائب نحو الكمال، وانفعالها بما يسميه العشق الذي يتسم بالنقاء والطهر والتفاني والتضحية وخاصة حب الله والمصطفى، وله في ذلك قصائد طوال تنبض بالقوة والحرارة، فالذات المؤمنة العاشقة المجاهدة تتحدى الفناء، وتقهر الصعاب، وتتأبى على الهزيمة(1).
والأديب المسلم يعايش عقيدة وفكراً وسلوكاً من نوع، وهي تؤثر في مكوناته النفسية والعقلية، وفي قدراته الإبداعية، ومن الطبيعي أن تكون علاقاته الخارجية، وانفعالاته الداخلية، متسمة بلون من الصراعات أو التساؤلات التي تنبعث أساساً من موقفه من الحياة وحركتها وما تموج به من تناقضات وصراعات، وليس من المنطقي أن تكون نفس المؤمن خالية من هذه الحركة الموارة، فهو يرفض ويقبل، ويحب ويكره، ويحلم ويأمل، وينفعل ويعبر، إنه ليس بحيرة ساكنة هادئة نائمة، ومن يتصور غير ذلك فهو واهم، ثم إن هذا الوضع لا يتناقض مع قوة اليقين، واطمئنان النفس، وعمق الإيمان، وعظمة التسليم لله.
أن تكون علاقاته الخارجية، وانفعالاته الداخلية، متسمة بلون من الصراعات أو التساؤلات التي تنبعث أساساً من موقفه من الحياة وحركتها وما تموج به من تناقضات وصراعات، وليس من المنطقي أن تكون نفس المؤمن خالية من هذه الحركة الموارة، فهو يرفض ويقبل، ويحب ويكره، ويحلم ويأمل، وينفعل ويعبر، إنه ليس بحيرة ساكنة هادئة نائمة، ومن يتصور غير ذلك فهو واهم، ثم إن هذا الوضع لا يتناقض مع قوة اليقين، واطمئنان النفس، وعمق الإيمان، وعظمة التسليم لله.
إن صورة الحياة الهائجة المائجة المضطربة تنعكس على فكر المؤمن ونفسه فتحرك عواطفه ووجدانه، وتثير فكرة، فيبع صوراً أدبية جميلة تتسم بالحيوية والصدق، وبديهي أن استقراره العقائدي يعصمه من الزيف والزيغ والانحراف، فنحن نقبل من انطباعيين ما يوافق تصورنا، ونرفض ما يتناقض مع مفاهيمنا، ونحترم جهودنا التجريبيين، ونحتفظ بالنسبة لبعض تحليلاتهم استنتاجاتهم، فليس من المعقول أن نقبل وجهة نظر فرويد في الفن على عواهنها، أو تفسيرات (ادرلر )و(ويونج )، فلن يكون الكبت الجنسي دافعاً للإبداع، أو ترجمة لما يحدث في الفن من تسام، ولن يكون تعويضاً عن مركب نقص كامن في الإنسان، وإذا جاز ذلك في بعض الأحوال، فليس من السهل منطقياً قبوله كقاعدة عامة.
ولقد كان الإسلام أصدق تعبيراً وتحليلاً للنفس الإنسانية، حين جلى صفات القوة والضعف فيها، وحين أوضح العوامل المختلفة التي تحركها سلباً وإيجاباً، وحين ضرب الأمثلة الحية على صدق التصور الإلهي وعظمة والإنسان كشجرة تؤتي أكلها كل حين بأمر ربها، أو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.. وعطاء المؤمن الحق حينما يبدع ما هو إلى ثمر طيب لشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن ثم فإن الأدب الإسلامي وفق هذا التصور يمكن أن ينحو بالتربية المنحى الصحيح المؤثر..
لقد اجمع الدارسون في مجال الإبداع والتربية أن القهر والتسلط والكبت تعطل من القدرات الإبداعية، وتضع أثرها الهام، وتحرم الكبار والصغار من حب الاستطلاع والفضول والتعجب والدهشة والاستكشاف، والانطلاق في التفكير والتعبير، وإذا كانت هناك رغبة حقيقية في تنمية الإنسان فلا بد لنا قبل كل شيء أن نعطيه حرية التعبير، وحرية الاحتجاج، وحرية المشاركة في إبداء الرأي والقرار، وحرية أن يملك فضول الطفل وحركته، فلا إبداع بدون حرية، والقهر يدفع إلى الهروب وارتداء الأقنعة الزائفة، كما يدفع إلى الإغريق في الرموز والإبهام، ويدفع إلى اليأس والملل، وقد تتولد عنه قيم نفعية جديدة، تضر بالفن وبالتربية معاً، ولكي يؤدي الإبداع دوره البناء في التربية فلا بد له من التربية الصالحة، والهواء النقي، والتحرر من قيود الذل والهوان، والقضاء على بطش السلطة ونزواتها وأهوائها.
ولا بد أيضاً من أساليب تربوية، ومناهج دراسية، تلتزم بالقيم العليا التي نزلت من السماء مطهرة صافية منزهة عن جشع الإنسان، ورغاباته الذاتية، وأنانيته المفرطة، وأمانة الكلمة لا تتحقق إلا في ظل العقيدة السمحاء، والحرية الأصلية، فقد ولد الناس أحراراً بالفطرة، لكن الغرور الإنساني، والانحراف الأخلاقي، قد مهد لصنع القيود والأغلال.
ولا يستطيع ناقد أن ينكر ما تحلى به الشعر العربي عندنا من قيم رائدة جعلت أحد النقاد الفرنسيين المعاصريين يقول: (إن الشعر العربي في مجال الإحساس والشعور أنقى شعر عرفة الإنسان: فالأمانة والصدق والشهامة والصداقة واحترام المرأة، وقرى الضيف والكرم، وعظمة النفس والبطولة والفخر، هي بعض ما يتغنى به هذا الشعر، وهو يسمو به فوق شعر الأمم فحوله ونبلاً
ولهذا كان أسلافنا المسلمون في العصور الإسلامية الأولى يجعلون الشعر عنصراً من أهم عناصر التربية لأبنائهم، إلى جانب السير والمغازي والقرآن الكريم والسيرة والأحاديث، وليس في القيم العليا قديم وحديث، يقول الدكتور زكي نجيب محمود (1): (بينما الإنسان في وجوده الحضاري لا غناء له عن جوانب كثيرة، كلها أساسي وجوهري لذلك الوجود، إلا أن جانباً واحداً منها هو الذي يتغير مع الزمن تغيراً يصحح به أخطاء نفسه، وذلك هو جانب العلم، وأما سائر الجوانب ففكرة الخطأ ووجوب تصحيحه غير واردة فيها، فالعقيدة الدينية لها عند المؤمن بها كما من لحظتها الأولى، لأنها جاءت وحياً، وبهذا يكون معيار القياس بعد ذلك، هو الأصل كما أوحى به، وعلى ذلك فلا يكون للزمن وامتداده قدرة على تكملة ما هو منذ أوله كاملاً، وأما مجالات الإبداع في الفن والأدب، فهي كذلك لا يسهل علينا أن نفاضل فيها بين قديم وجديد مفاضلة نفترض فيها أن ما هو جديد يكون بحكم الضرورة أصح وأكمل مما هو قديم، وذلك لأن الأمر فيها مرهون بموهبة الفنان أو الأديب، وليس ثمة ما يمنع أن تكون أقدم موهبة أعظم من أحداثها، فماذا يمنع ألا يكون في شعراء العرب المعاصرين من يرتفع إلى مستوى شعراء الجاهلية؟؟ وماذا يمنع ألا يكون بين أدباء المسرح اليوم من ينافس سوفو كليس أو شكسبير ؟؟ .. واضح إذن أن هذه الجوانب كلها(1) التي هي بمثابة الروح في الجسد، لا تخضع للتقدم مع ما يتقدم من جوانب الحضارة، وأما الذي يتقدم بحكم طبيعته بحيث يكون اليوم أصح منه بالأمس فهو العلم ).
هل نستطيع أن نجرد افبداع من القيم ؟؟ وإذا كان الإبداع خاوياً من القيم العليا فكيف يؤدي دوره التربوي ؟؟ وهل القيم الإسلامية وقدمتها يقف حائلاً دون جدواها وفعاليتها ؟؟ ثم ما هي حدود تلك القيم ؟؟ إن مفهوم الحرية لدى الماركسيين والوجوديين والنفسيين يختلف عن مفهومها لدى الإسلاميين فهل اختلاف التصور مدعاة للحيرة والارتباك والملل والشطط ؟؟
إن اليقين المستمر في قلب المؤمن . يدفع عنه أذى التصورات الخاطئة والأوهام الفلسفية الجانحة، فهو بمأمن من الخلل النفسي والفكري الذي يتعرض له المتحللون من قيم السماء ومبادئها، ولنتساءل عن أي شيء انجلت تلك المعارك الطاحنة بين الفلاسفة القدامى والمحدثين ؟؟ إن جدلهم الصاخب سيظل محتدماً عبر العصور، إلى أن يتبينوا أن الحق كل الحق في منهج الله.
ثم .. إن الأدب الإسلامي لا يستسلم لوهم الغرور حينما يعتقد أن الإبداع الفني أو الأدبي هو الوسيلة المثلى للتربية، فالتربية الصحيحة تترعرع في ظل القدرة الحسنة أولاً، وتنمو في إطار الأسرة المسلمة، المدرسة، والمسجد أيضاً وما الفن إلا وسيلة من الوسائل المكملة أو المدعمة لعملية التربية السليمة متى استقام له الطريق ، واتضحت أمامه الرؤية ، وسار في ركب الدعوة الإلهية التي تنشد السعادة والخير للجميع، ولا قيمة لإبداع يثير التمزق والتشتت في الشخصية ، أو يورثها مزيداً من العلل والأسقام.. والله سبحانه وتعالى هو المبدع الأعظم.. هو البديع ...
مصطلحات جديدة للأدب الإسلامي
المصطلحات الكثيرة التي يكتظ بها النقد الأدبي وتاريخ الأدب العالمية، والمدارس الفنية المختلفة مصطلحات اضطربت واختلطت، وفقد أغلبها معناه، وهذه المصطلحات ولدت في ظروف خاصة، أو ارتبط بمناسبات وأيديولوجيات ولغات معينة، بدأ ذلك منذ الإغريق بتصوراتهم الدينية والأسطورية والفلسفية، وظل توليد المصطلحات سارياً عبر العصور المختلفة، ولما جاءت النهضة العلمية الأوروبية، وبرزت إلى الساحة علوم جديدة كالفيزياء والجيولوجيا والرياضيات وعلم النفس والاجتماع والمدارس التاريخية المستحدثة، استطاعت هذه كلها أن تمد الأدب بتصورات وتفسيرات ومصطلحات جديدة، فسمعنا التأريخ النفسي أو البيولوي أو الاجتماعي للأدب، وفي إطار المذهب الواحد كما قلنا حدثت تفرعات واختلافات وتناقضات، حتى أصبح الأمر مثيراً للدهشة والحيرة.
فتعلوا معنا لنرى مذهباً مثل الرومانسية.. ماذا يقول العلماء الموسوعيون عنه:
الرومانتيكي مصطلح له تاريخ بالغ التعقيد، كما أن له ـ دون مبالغة ـ ما لا يحصى من الدلالات والمعاني، لقد لاحظ الباحث الأمريكي (لا فسجوي ) ذات مرة أن لكلمة رومانتيكي من المعاني ما جعلها لا تكاد تعني شيئاً بالتحديد، وفي كتاب (تدهور وسقوط المثال الرومانتيكي ) للوكاسن (1948 ) إحصاء لنحو 11396 تعريفاً لهذا المصطلح، كما أن
(بارزوني ) لا حظ هذا المصطلح قادر على أن يدل على كل ما يريده أي كاتب من المعاني، وهو يشير إلى استخدامات له تدل على معاني: جذاب ـ متحفظ ـ عاطفي ـ خيالي ـ بلا شكل ـ استهوائي ـ خصب ـ لاعقلي ـ مادي ـ غامض ـ بدري ـ بدائي ـ زخرفي ـ واقعي ـ غبي ـ غير حقيقي ـ غيري ـ انفعالي ـ متظاهر ـ ذاتي ـ انعزالي ـ جمالي ـ شكلي ـ معنوي ـ 'نساني ـ طبيعي.. الخ حتى يصل إلى معاني جسور ـ اجتماعي ـ وحشي..
ولقد بدأ استخدام أصل المصطلح في (روما ) بكلمة (رومانسي ) التي كانت صفة تطلق على العاميات الإيطالية المتباعدة عن اللاتينية، التي كانت لغة العلم والمعرفة، أي رومانسي كانت تعني المتكلم الروماني بلا تنينية شعبية.
ثم كانت القصص والحكايات الخيالية هي أول ما عرف من المؤلفات بهذه اللغة، وأطلق عليها لهذا السبب ربما اسم (روماني ) أو (رومانسي )، وبهذا الاسم عُرف أيضاً أي كتاب شعبي مليء بالمغامرات الخيالية، والشطحات العاطفية، والانفعالات، والأعمال الغربية التي لا ترقى إلى مستوى الأساطير القديمة، ولا تعبر عما عبرت عنه الأساطير من علاقات بالأديان الوثنية القديمة وأربابها وأبطالها.
وفي القرن السابع عشر أصبحت الحكاية أو الرواية من هذا النوع، أي الرومانسي، صفة لكل عمل أدبي، غريب المكان والموضوع، مثير للخيال، مسرف في مبالغته عن مشاعر أبطاله، وسلوك شخصياته وسحري، السابقة، وكلمة رومانتيكي Romantique التي أصبحت تعني: الرقيق ـ الحنون ـ المشتاق ـ الشاعري ـ العاطفي ـ الحزين، واستخدمها الإنجليز بهذه المعاني منذ القرن الثامن عشر.. ثم تبعهم الألمان.
ذلك مثل من أمثلة المذاهب الأدبية الشائعة، التي احتلت حيزاً ضخماً في دراسات الباحثين والنقاد، وفي كتابات المبدعين، ويبدو واضحاً من هذا (المثل ) كيف تنشأ المصطلحات الأدبية، ومدى ارتباطها باللغة والعقائد والمفاهيم الفلسفية أو الاجتماعية السائدة، في مكان من الأمكنة، أو في عصر من العصور ، أو في عقيدة من العقائد، هل يمكن الاعتماد على مثل هذه المذاهب والالتزام بها؟؟ إننا لا نمانع في قراءتها وفهمها، لكننا نقف بصلابة في وجه من يلتزمون بها، وبأي شيء يلتزمون وسط هذا الركام الهائل من المعاني والأفكار؟؟
وإذا ما تركنا (الرومانسية ) واتجهنا إلى (الواقعية ) وهي من أشهر المذاهب الأدبية أيضاً، وجدنا عشرات المعاني المتناقضة المتعنتة أحياناً لهذا المصطلح، فنجد الواقعية السوداء، والواقعية الاشتراكية، والواقعية المثالية، والواقعية العلمية.. الخ من الأنواع العديدة والتي أشار إليها النقاد المتخصصون في دراساتهم المختلفة، وقس على ذلك النماذج الوجودية التي ذكرنا فيما سبق اختلاف مفاهيمها وتطبيقاتها عند كتاب تلك الفلسفة، بل إن العلماء اختلفوا أيضاً في تفسير معنى كلمة الواقع بل والحقيقة أيضاً، يقول قاسم حداد: (لأن الواقع لا يمثل كياناً ثابتاً بنية ذا بنية متماسكة ـ وإنما هو مفهوم في غاية التعقيد والتشابك ـ تتعدد أبعاده واتجاهاته وتضاريسه، المرئية وغير المرئيةـ وفق التصورات والرؤى المتعددة المتناقضة ) والواقع ـ كما يعلق عبد الله خليفة ـ مفهوم ذات ي، وليس وجوداً وكياناً موضوعياً، إنه مجرد تصور وليس (مجتمعا ً)، وبهذا تنتفي إمكانية فهمه بشكل علمي موضوعي، يستطيع كل منا أن يشكل مفهومه عن الواقع حسب الرؤى المتناقضة كافة، لقد تم إزالة الحقيقة الموضوعية هنا، ومن الطبيعي أن يظل هذا الواقع، بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة، تسهم في اكتشافه علمياً، أي أنه حتى العلم يصبح وجهة نظر ذاتية، ويمكن لأية وجهات نظر متناقضة أن تكون عملية، وبهذا يمكننا مثلاً أن نقول: إن الصراع الاجتماعي موجود، ويمكننا أيضاً أن نقول، وعلى الحالة نفسها: إنه غير موجود، ويعتبر كلا القولين علمياً، وهكذا تتم إزالة العلم باسم العلم.
وفي مكان آخر يقدم قاسم حداد رأياً آخر عن الواقع فيقول: (وكلما أوغلنا في أعماق الواقع، كلما اكتشفنا أعماقاً أكثر غوراً، وما المنجزات الفنية في التقنية والأسلوب والرؤية سوى محاولة ـ قابلة للنجاح والإخفاق ـ للإنسان بهذا الواقع وفهمه وتحليل جوهره ) ويعود عبد الله خليفة للتعليق مرة أخرى فيقول: أي أن للواقع هنا جوهراً، يمكن الوصول إليه وتحليله، وليس مفهوماً (يتمطط ) ويتشكل حسب التصورات الخاصة، أي أن للواقع وحركته قوانين مستقلة عن مزاجنا ورغاباتنا وتصوراتنا الذاتية، وحين نكتشف تلك القوانين يكون هذا هو العلم.. ومن هنا نجد ـ مما سبق ـ رأيين متناقضين: الأول، عدم قدرتنا على اكتشاف الواقع لأنه ذاتي، والثاني، يمكننا ذلك لأنه جوهر، ولكن الرأي الثاني لا يستمر طويلاً، فسرعان ما يصل إلى تعدد العلم، فبعد تلك العبارات يأتي ليقول: (ومن الطبيعي أن يظل هذا الواقع بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة، تسهم في اكتشافه علمياً ) فإننا نعود من جديد إلى العلم الذاتي، لأنه من المستحيل أن تكون هناك أكثر من نظرة علمية للعالم، وتكون كلها صحيحة وعلمية.. إنه تلاعب لغوي.. ومع إزالة مفهوم العلم والرؤية الموضوعية للعالم، أزيل الأساس المعرفي (للواقعية )، حيث لم يعد أمامها شيء حقيقي تكتشفه، وهنا يفتح الباب (للنزعة الشكلية ) (1).
لقد وقع كثير من الأدباء أسرى (الشكل ) من هذا المنطلق، وأخذوا يلعبون باللغة، وسقطوا في هوة البهارج والتقديس للألفاظ وتراكيبها، وكان ذلك على حساب المضامين الفكرية والعلمية والعقائدية، كما أن ذلك فتح الباب أمام الترويج للنزوات والانفعالات والغرائز باعتبارها ـ في إطار مدرسة التحليل النفسي ـ هي الباعث الأول والأهم للسلوك، وانغمس الأدباء في عبادة اللاوعي، حتى جنى ذلك لا على المضمون وحده، بل تخطى ذلك إلى رواسخ وأسس الشكل الفني الأصيل..
يمكننا أن ننتقل من الرومانسية والواقعية إلى الرمزية إلى اللامعقول وإلى الطبيعة والبرنانسية والعلمية وغيرها من المدارس الأدبية المختلفة لنتأكد من مدى العبث الذي يحيط بالمصطلحات، والذي لا يخلف وراءه غير مزيد من الحيرة والضياع والتخبط والإفلاس، ويمكننا ـ اختصاراً للوقت والصفحات ـ أن نحيل القارئ إلى الموسوعات النقدية سوف يتأكد له ما أشرنا إيجازاً مع ضرب المثلين السابقين، من أن موضوع المصطلحات الأدبية أو النقدية من المؤمنين بأهمية الأدب الإسلامي وقفة موضوعية..
إنني أريد أن أقول إن علينا أن نبحث عن:
مصطلحات جديدة
مصطلحات لها ارتباط وثيق بتراثنا، وبالتجاوب الأدبية والتاريخية التي مرت بنا، وبالعقيدة التي نؤمن بها، بدلاً من العيش في ظل المصطلحات الأجنبية المستوردة التي كان لها أعمق وأخطر الأثر في انحراف مسيرتنا الأدبية الإسلامية.. نعم كان لها أخطر الأثر، ويكفي أن نقول: إننا جميعاً نردد المصطلحات ونحاول أن نلبسها الزي العربي أو الإسلامي، وإذا كان هذا اضطراراً في بداية النهضة الأدبية، فإنه اليوم بات حراماً إن صح التعبير، وعلينا أن نجد في البحث عن مصطلحات جديدة بدلاً من الكلاسيكية أو الرومانسية أو الواقعية أو غيرها، أرجو ألا يستفز هذا القول الأخوة الكتاب من الإسلاميين أو غير الإسلاميين، لأن البحث عن شخصية مستقلة ليس أمراً هيناً، وإن لم نستطعه اليوم، فلا بد أن نحققه غداً بإذن الله.
وأواجه ندائي على وجه الخصوص إلى النقاد الإسلاميين، وإلى أساتذة الجامعات في العالم الإسلامي، وهذا بالتبعية يقتضي أن نعيد النظر في تراث أدٍبائنا القدامى والمحدثين الذين ارتبطوا بقيم الإسلام وتقاليد مجتمعاته السامية، واستوعبوا ثقافته وكتابه وسنة نبيه وفقهائه وأدبائه وقادة الفكر فيه.. ولن تتضح ملامح الأدب الإسلامي أو تستكمل إلا بالاهتمام بهذا الجانب الحيوي.. جانب المصطلحات الخاصة بأدبنا الإسلامي.
والله أسأل أن يفتح أمامنا أبواب التوفيق والنجاح، وأن يلهمنا الرشد إنه على ما يشاء قدير..
منقول للفائدة
تقديم بقلم الأستاذ: عمر عبيد حسنة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ، بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاَّ إله إلاّ الله،الذي خلق الإنسان، علمه البيان، وأوجب القراءة والتعليم، واعتبر ذلك مفتاحاً للدين منذ اللحظات الأولى لبدء الوحي والخطوات الأولى لمسيرة النبوة. قال تعالى:
(إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ) وجعل معجزة الإسلام كتاباً خالداً، مجرداً عن حدود الزمان والمكان، وتحديه بياناً، ومهمة رسوله صلى الله عليه وسلم الرئيسة، البلاغ، قال تعالى: وما على الرسول إلا البلاغ المبين)، وناط فوز المسلم ونجاته من المسؤولية وأداءه لأمانة التكليف، بالسير على قدم النبوة في البلاغ والدعوة إلى الله بكل ما تقتضيه عملية البلاغ المبين، من وسائل وآفاق وأبعاد وحكمة وحسن أداء (قُل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً. إلاّ بلاغاً من الله ورسالاته.. ). وجعل القول السيد صنو التقوى وثمرة لها ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً.. ) فكانت الكلمة القرآنية ركيزة جهاد الأمة المسلمة. والقرآن منهل الأدب الخالد، ومصدر كل عطاء ثقافي وحضاري، من خلال آياته نشأت أمة الإسلام، وتحددت معالم عقيدتها وعبادتها وأخلاقها وتصورها عن الحياة والأحياء، ومنه تشكلت ثقافتها وبُني ذوقها العام، فكان القرآن درع الأمة المسلمة في الصمود، وميثاقها للنهوض. وأشهد أنه محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم فكان في الذروة من العرب فصاحة وبلاغه وبيان، بلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة، فهو المثل الكامل للتأسي والإقتداء ( لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة لمن يرجو الله واليوم الآخر ) .
وبعد:
فهذا الكتاب الرابع عشر ـ مدخل إلى الأدب الإسلامي ـ للدكتور نجيب الكيلاني. نقدمه في سلسلة ( كتاب الأمة ) التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، مساهمة منها في تحقيق الوعي الحضاري والتحصين الثقافي، وفك قيود التحكم التي وضعتها الأفكار والمعاهد والمؤسسات الأجنبية على حياتنا، حتى يسترد مسلم اليوم موقعه في الشهادة والقيادة، ويستأنف دوره الذي ناطه الله به، مستثمراً إمكاناته الروحية والذهنية والمادية كلها، مبدعاً وسائل وأساليب في الدعوة إلى الله، والعمل الإسلامي، في مستوى مسؤولياته الإسلامية، إلى جانب الفهم والإدراك لمتغيرات العصر من حوله، متقدماً إلى الإنسانية بأنموذج الإنسان المسلم الجديد الذي يثير الاقتداء ويغري بالاتباع.
ولا شك أن وسائل الدعوة إلى الله وأساليبها، وميادين العمل الإسلامي ومواقعة المؤثرة والفاعلة، أوسع من أن تُحصرَ أو تجمد على شكل، أو تُحاصر من قبل طاغية أو عدو أو كافر. إذا استشعر المسلم مسؤوليته واستعاد فاعليته، وأخلص النية، وتلمس الصواب، والتزام الحكمة والبصيرة التي أمره الله في البلاغ المبين. وإنما تجئ محاصرتها من المسلمين أنفسهم.
ولعل ميدان الكلمة ـ مكتوبة أو مقروءة أو مسموعة، وفعلها وأثرها ـ كان ولا يزال من أهم ميادين الحوار والصراع والمواجهة بين الخير والشر، والحق والباطل. وقد برز المعنى أكثر فأكثر في العصر الحاضر بعد أن سكت صوت الأسلحة بسبب من التوازن الدولي، وأخذت ساحات المواجهة والصراع والحوار الحضاري والثقافي ألواناً جديدة، إنها الحروب الحديثة، حروب المعلومات والإعلام، وصراع المبادئ والعقائد والمذاهب المعاصرة والدعايات السياسية والمذهبية، التي تغرق العالم بسيلها الجارف، وتحاول إعادة تشكيل عقله، وزرع عواطفه، وتحديد استجاباته، والتحكم بنزوعه وسلوكه ابتداءً، إلى درجة أصبحت معها الدول والشعوب المتخلفة في هذا الميدان، تعيش وكأنها في معسكرات الأسر والاعتقال الفكري. إنه عصر الجبر والتسيير الإعلامي،والتحكم الثقافي والسياسي، الذي أصبح يملكنا ويقتحم علينا بيوتنا ويطاردنا في أخص خصائصنا ويخطف منا أبناءنا.
لقد ولَّى الزمان الذي كان فيه بناء الأسوار، وإقامة الحدود وحراستها يحولان دون وصول ما لا نريد من المذاهب، والكتب والأفكار والأشخاص، في عصر الدولة الإعلامية. ووسائل الإعلام الفتاكة والمتنوعة، التي لم تعد تنتظر الإنسان يسعى إليها وإنما هي التي تسعى إليه وتطارده وتلاحقه وتشاركه طعامه وشرابه ولا تنفك ملازمة له حتى يستسلم إلى النوم.
فليست المشكلة اليوم، في أن نفتح أبوابنا ونوافذنا، أو نغلقها أمام المذاهب والمعلومات والدراسات الثقافية، والفنون الأدبية المختلفة، والقضايا العالمية المطروحة، وإنما المشكلة الحقيقية، هي في أن نمتلك قوة الإرادة وبصيرة الأخيار، وانضباط المقياس، فيما نأخذ وما ندع، ونمتلك القدرة على تقديم البديل، الذي يرقى إلى المستوى العالمي، ونكون قادرين على إثبات وجودنا في ساحات الامتحان الحقيقي.
لقد أصبح من الأهمية بمكان أن ندرك أن الصراع بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة أبدي، وأن المعارك الفكرية بأساليبها الفنية المتعددة هي الأخطر في حياة الأمم وبنائها الحضاري، وأن الساحة الفكرية هي الميدان الحقيقي للمعركة، وأن الله سبحانه وتعالى جعل سلاح المسلم الدائب هو المجاهد بالقرآن. قال تعالى: (فلا تُطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيرا ً) ونحن المسلمين لسنا بحاجة إلى أدلة وشواهد على ذلك. وقد ولدت أمتنا، وحملت رسالتها إلى الإنسانية، من خلال هذا الكتاب كما أسلفنا، وابتدأت الخطوة الإسلامية الأولى من غار حراء وسلاحها الأوحد إلى العالم (اقرأ باسم ربك الذي خلق ) وتجاوزت مبادئ الإسلام البلاد المفتوحة، لتعم العالم بقوة نفاذها وحسن إبلاغها، فالمعركة في حقيقتها فكرية، والمشكلة في جذورها ثقافية، والصراع عقائدي، وإن اتخذ أشكالاً شتى، لقد أصبح سلاح الكلمة اليوم أقوى تأثيراً وأكثر نفاذاً، وتطور فن الكتابة والإعلام، إلى درجة يوهم معها، أن الحق باطل والباطل حق ـ وإنَّ من البيان لسحراً ـ وأصبحت بلاد الدنيا ضواحي لدولة الأقوياء، وبدأ عصر الدولة الإعلامية العالمية سواء اعترفت بذلك الأنظمة السياسية الإقليمية أو تجاهلته، ولم تعد قضية العزلة والنزوع إلى الفردية قضية اختيارية .
ومن هنا نقول: بأن الجهود الفردية مهما بلغت سوف تبقى جهداً ضائعاً محدود الأثر، والرؤية الفردية مهما شملت، هي رؤية حسيرة، وإمكانات الأفراد مهما بلغت، سوف تبقى دون سوية الإحاطة بالقضايا والمشكلات كلها، والقدرة على مواجهتها، واختيار الوسيلة الملائمة لذلك، هذا إلى جانب العجز عن تصنيف تلك المشكلات وترتيب الأولويات المطلوبة في المعالجة، والقصور عن المشاركة في القضايا العالمية التي باتت مفروضة، ولا بد من رأي فيها وموقف تجاهها.
إن الكثير من قضايانا الفكرية ومشكلاتنا الثقافية على الساحة الإسلامية ما تزال تحكمها روح العفوية وتتحكم فيها الرؤى الفردية.
ونحن بهذا لا نريد أن نغمط الأفراد حقهم، ولا أن نقلل من شأن ما قدموا، خاصة أولئك الذين اتسمت مساهماتهم الفكرية والأدبية بالصبغة العالمية، وإنما نرى المطلوب بإلحاح هو الانتقال إلى الرؤية الجماعية ووضع (استراتيجية ) خطة ثقافية يأخذ كل منا فيها بطرف من خلال روح فريق العمل الجماعي، وندرك جميعاً انتهاء عصر الرجل الملحمة الذي يمكن أن يحسن كل شيء، فيكتب في الشعر والقصة المسرحية والفكر والتاريخ والفقه والتفسير.. إلخ حتى لا يضرب كل منا في اتجاه فتتبعثر جهودنا، والنظرات الجزئية، وتحول دون مشاركتنا ومساهمتنا في مرحلة الأفكار والآداب العالمية، الأمر الذي يتسق مع رسالة الإسلام العالمية ووظيفة المسلم في البلاغ المبين ..
لقد أصبح من الضرورة بمكان وضع خطة واضحة ودقيقة من أجل مراعاة مبدأ تراكم المعرفة في الإنتاج الفكري والأدبي الإسلامي الجديد، حفاظاً على الطاقات، ورعاية للقابليات ورغبة في الوصول إلى نتائج تخدم قضية (الأدب الإسلامي )، كما لا بد أن تقوم دراسات ناقدة، تجيب عن مجموعة أسئلة، تحدد أهداف العمل وغاياته، والحدود والشروط والوسائل اللازمة لترشيده، وتوجيهه الوجهة السليمة، وتجلي السلبيات والإيجابيات، وتفك قيود التحكم الثقافي، الذي يشل ويعطل فاعلية المسلمين اليوم.
إن غياب حركة النقد للأعمال الأدبية الإسلامية ـ إلى جانب أنه يساهم بشكل سلبي بمحاصرة الأعمال الأدبية وقبرها ـ يؤدي إلى فوضى فكرية تتمثل في ضياع مقاييس التقويم، وكثرة التكرار في الأشكال والمضامين، وغلبة السطو الأدبي، والنقاد والدارسون مسؤولون عن تقويم الأدب الإسلامي، وإبراز عناصره، وتقدير أهميتة، في صياغة الشخصية المسلمة، وبناء الذوق السليم، والناقد والأديب شريكان في عملية البناء هذه.
ومن البشائر التي طالما هفت إليها قلوبنا الإعلان عن قيام رابطة للأدب الإسلامي، الأمر الذي يضع الأدباء الإسلاميين أمام مسؤولياتهم في خدمة الإسلام وإبلاغ رسالته ـ من خلال الصورة الجمالية المؤثرة، والأساليب الفنية المتنوعة ـ وحفظ أمانة الكلمة التي تستمد جوهرها من مشكاة الوحي وهدي النبوة.
ورابطة الأدب الإسلامي إنما ولدت ـ في تقديرنا ـ كثمرة للصحوة الإسلامية، وحركة الوعي الإسلامي المعاصر، التي استطاعت أن تحيي الأصول الإسلامية في نفوس المسلمين وتجدد عملية الانتماء إلى الإسلام والالتزام والاستعلاء به، وقدرته على استيعاب الحياة المتجمدة، إلى جانب ما قدمته من الاستشعار المبكر، والقراءة الواعية والدقيقة لمجموعة من المشكلات الثقافية، وعابر الغزو، وتنبيه الأمة إلى مواطن الخطر. والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها هنا: أن الصحوة الإسلامية لم تعط قضية الأدب الإسلامي القدر المطلوب من الاهتمام وقد لا تكون قدرت كما ينبغي دور الأدب في عملية البلاغ المبين، وتأثيره في صياغة الوجدان، وتشكيل الأمة الثقافي، وبناء ذوقها الاجتماعي المشترك.
إن إقبال الجماهير على الفنون الحديثة، من القصة والأقصوصة والمسرحية، وغير ذلك من الفنون، يجب أن يفتح عيوننا على هذا السلاح الخطير، الذي يتسلح به الشر، على أرض الله الواسعة، وقد لا نكون مغالين إذا قلنا: بأن القصة والمسرح كان لهما النصيب الأوفر في تشكيل الرؤية العقائدية وإقناع الناس بها لإحدى الدول الكبرى التي تحاول أن تسيطر عقائدياً على العالم اليوم.
والخطورة التي يمكن أن تحاصر الرابطة، وتحيط بها، هي وقوعها ضحية التحزب لأشخاصها، وإعجابها بنفسها وإنتاجها، وعدم قدرتها على استيعاب العطاءات المتعددة، وتوسيع دائرة المشاركة، في الإنتاج الأدبي، أو وقوعها في أسر الأشكال والمؤسسات الرسمية، التي لها ارتباطاتها وظروفها وسياساتها الخاصة بها.
وفي اعتقادنا أنه لا بد لمسيرة الأدب الإسلامي المعاصرة، من الخروج من دائرة
التحكم، وموقع الأدب الدفاعي، والتطلع إلى الآفاق المستقبلية، ومواجهة المشكلات المستجدة، والتحديات القائمة، والانطلاق إلى البعد العالمي، والمشاركة في قضايا ومشكلات الإنسان وحمل هموم الجماهير المسلمة، بشكل خاص، وهموم الإنسانية بشكل عام، والانحياز إلى جانب المستضعفين، وتحصين الناس دون مهادنة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي.
ذلك أن التمركز في مواقع الأدب الدفاعي، والاقتصار في الجهد الكبير على مواجهة الأدب المنحل وردّ شبهاته، قد ينتهي بنا إلى نتائج سلبية، تجعل من شُبَه أعداء الإسلام والمشكلات التي يثيرونها، القضية والمساحة التي يُحكم على الأدب الإسلامي بعدم تجاوزها، وفي الأمر ما فيه من تحكم أعداء الإسلام في الساحة الفكرية والأدبية الإسلامية، ومحاصرة الجهد والنشاط الفكري والأدبي عند المسلمين بشكل عام، وتحديد ساحته ومجاله ابتداءً. هذا من جانب ومن جانب آخر قد يؤدي الأمر بناـ دون قصد منا إلى تكبير الخصوم وعملقتهم وإذاعة شهرتهم وإعطائهم من الحجم أكثر مما يستحقون.
وقد يكون من المفيد الاعتراف في هذا المجال: أن الفكر الإسلامي ـ والأدب الإسلامي جزء منه ـ ما يزال على الأرض نفسها، التي تحرك عليها أديب الإسلام والعربية، مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وما تزال القضايا التي أثارها طه حسين، وسلامة موسى، وغيرهم خلال النصف الأول من القرن العشرين ، هي المحور لمعظم الكتابات والدراسات، على الرغم مما استجد من قضايا ومشكلات حتى في مستوى الساحة الأدبية نفسها هذا إضافة إلى الغياب الكامل لأدب الطفل، الذي أصبحت له مؤسساته ودورياته ومتخصصوه على المستوى العالمي، بينما لا يزال عندنا يتعثر، ويفتقر إلى التجارب الجادة.
وأمر آخر:
فمنذ الكتابات التمهيدية الأولى، التي بدأها ونبه إليها فضيلة الشيخ أبو الحسن الندوي، حين اختير عضواً في المجتمع العلمي العربي بدمشق حيث دعا إلى إقامة أدب إسلامي، ثم جاءت كتابات الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الدعوة إلى أدب إسلامي متميز، وتلاه الأستاذ محمد قطب في كتابه (منهج الفن الإسلامي ). ثم كتاب الدكتور نجيب الكيلاني في (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) وجاءت بعد ذلك خطوة الدكتور عماد الدين خليل الرائد في هذا الطريق، في كتابه (النقد الإسلامي المعاصر ) والحديث لا ينقطع، عن أصول وطريقة الكتابة الفنية الإسلامية وهي ما تزال أطروحات عامة ـ إلى حدٍ بعيد ـ لم تنعكس بالقدر المطلوب في صورة نماذج مكتوبة، بأقلام إسلامية واعية، وعارمة بأصول الصنعة الفنية.
المشكلة في رأينا لم تعد مشكلة حوار وجدل، حول التنظير بالدرجة الأولى، ولكنها في الحقيقة مشكلة ممارسة وإنتاج وإبداع، وعبر التجارب يتبلور وجه الحق والصدق، فلا قيمة للجدل دون تقديم النماذج المعبرة عن نظرية الأدب الإسلامي، مدعومة بالنقد الذي يعرف كيف يرعى القابليات، ويكشف العثرات، ويمهد لأدب إسلامي حقيقي، ذي صفات مميزة.
ولا شك أن الطبيب الأديب الدكتور نجيب الكيلاني، لم ينطلق في كتابه هذا (مدخل إلى الأدب الإسلامي ) من فراغ. بعيداً عن المعاناة والتجربة، وتقديم النماذج الأدبية، حيث يعتبر كتابه (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) من بواكير هذا الاتجاه، إلى جانب رواياته التي قدمها كأنموذج للأدب الإسلامي (ليالي تركستان، عمالقة الشمال، عذراء جاكرتا، عمر يظهر في القدس، رحلة إلى اله.. ) والتي قدمت للجيل المسلم زاداً، في وقت كان أحوج ما يكون إليه، واستطاعت أن تنقل هموم المسلمين ومعاناتهم، على أكثر من موقع في خارطة العالم، بأسلوب أدبي أخَّاذ، أمكنه المرور على الرغم من الحراسات والرقابات الرسمية المفروضة.
من هنا نستطيع أن نقول: بأن هذا الكتاب يأتي مساهمةً طيبة، في بناء التكامل المراد. لسلسلة (كتاب الأمة ) كما أنه يشكل لبنة أساسية،في بناء منهج الأدب الإسلامي المرتقب، واستكمال مفاهيمه وتحديد قسماته وبلورة مصطلحاته، ورسم بعض الآفاق والأبعاد، التي يمكن أن يرتادها الأدباء الإسلاميون، من حيث الأشكال الفنية، بشرط أن لا تخرج هذه الأشكال عن الالتزام بالقيم الإسلامية؛ الثابتة ؛ لأن الانفلات من القيم وعدم الالتزام بها يؤدي إلى الهيام في كل واد ويفتح سبل الغواية أمام الجماهير ويغري بها .
فالقرآن الكريم ـ الذي يعتبر منهل الأدب الخالد للأدباء الإسلاميين ـ استخدم القصة والحوار، والمثل، والمواقف الخطابية، ودعا إلى المباهلة، ووظف الحدث التاريخي، واعتمد الجدل الفكري، وأسلوب المواجهة، والتقرير المباشر، والوعظ المؤثر، في سبيل تحقيق أغراضه في هداية الإنسان، وتوجيهه صوب الخالق، فالأشكال متسعة متطورة، بشرط الحفاظ على القيم الثابتة.. والله نسأل أن يلهمنا رشدنا ويهدينا إلى القول الطيب والعمل المرفوع إنه نعم المسؤول .
المقدمـــة
إن التصور البشري للحضارة يرتبط بعديد من العناصر التي لا بد من تآلفها وتفاعلها لكي ينبثق عنها ذلك الشيء الروحي والمادي وأعني به الحضارة، ومن أهم عناصرها العقيدة والعلم والتشريع والسلوك الراقي والفنون والآداب، وقيم الخير والحق والجمال والحرية وغيرها، ولقد سادت حضارات في التاريخ على اختلاف مراحله، ثم بادت، ولقد كان عطاء هذه الحضارات متفاوتاً. وكانت إحداها تركز على عنصر من العناصر، أو جانب من الجوانب أكثر من غيره، بعضها بالجانب المادي أكثر من الجانب الروحي، وبعضها الآخر أعطى النواحي الروحية العناية الأكبر، بصرف النظر عما شاب هذا الجانب أو ذاك من تصورات خاطئة أو مبتورة أو مشوهة، ولعل تلك السلبيات هي التي شكلت بذور الفناء والتلاشي في الحضارة.
الحضارة إذن في صميمها ترمز إلى القوة الفعالة في صنع التكامل البشري والرخاء والسعادة والتقدم لبني الإنسان، ومن ثم كانت لهذه الحضارات الغلبة والمنعة، وتحقق النفوذ والسيطرة، مما جعلها مثلاً يحتذى.
ونحن في واقع الأمر ـ برغم اندثار هذه الحضارات القديمة ـ نجد لها صدى في الفكر المعاصر، وفي أصول المدنية الحديثة، سواء خفت هذا الصدى أو ارتفعت نبرته، فشد اليه الأسماع.
وتقف الحضارة الإسلامية فريدة في طابعها وتأثيرها ومنابعها، ونحن لا نبالغ أو نلقي القول على عواهنه، إذا قررنا أن الحضارة الإسلامية لا تموت، لأن خلودها مرتبط بالروح التي تسري في أنسجتها وخلاياها وشرايينها ألا وهي روح القرآن كلمة الله الخالدة، وإذا كانت الحضارة الإسلامية تخضع في بعض الفترات التاريخية لعوامل الضعف والوهن والكمون، فإن ذلك لا يعني فناءها أو انتهاء دورها الخالد، والحقيقة المؤكدة أنها (فاعلة ) دائماً، ومؤثرة في كل زمان ومكان، وحينما ذكر المفكر عباس العقاد رحمه الله أن في الإسلام قوة غالبة وقوة صامدة، فقد كان يعني بالقوة الصامدة تلك القوة السحرية التي تعمل عملها في زمن الضعف والوهن في الأمة الإسلامية، وضرب مثلاً لذلك الصمود استمرار انتشار الإسلام، وقيام أكبر دولتين إسلامستين في تلك الفترة وهما أندونيسيا وباكستان(1).
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الأدب كان عنصراً من عناصر هذه الحضارة الإسلامية المتوازنة الخالدة، التي تمتد أسبابها إلى السماء، وفق تصورات واضحة صحيحية، ولم يكن من باب المصادفة أن يكون فقهاء الإسلام وفلاسفته وعلماؤه وقواده من أكثر الناس اهمتاماً وممارسة لفن الأدب شعراً ونثراً، نرى ذلك واضحاً عند ابن سينا والشافعي وابن المقفع والجاحظ وغيرهم من أعلام الفكر المسلمين عرباً وعجماً، قديماً وحديثاً.
ولم يشغل الأقدمون أنفسهم كثيراً بفلسفة الأدب وتعريفه ومفهومه، ولقد حفل نخبة ضئيلة منهم بوضع بعض التعريفات الموجزة للأدب، وخاصة الشعر، ومن العجيب أن هذه النظرات ـ ولا أقول التعريفات ـ ضمت بصفة عامة ما جال وصال فيه النقاد ومؤرخو الأدب المحدثين، ولقد وجدنا فئة منهم تهتم بنفعية الأدب من اهتمامها بمؤثراته الأخرى، بينما نجد فئة ثانية تركز أساساً على النواحي الجمالية والتأثيرية، في حين أن فئة ثالثة جمعت بين المنفعة والجمالية، وهي المدرسة الوسط التي كانت لها الغلبة في الأدب العربي القديم، وسواء أسادت هذه الموجة أم تلك، فإن حركات التجديد لم تتوقف، ولقد تناولت حركات التجديد الأسلوب، فنجد كاتباً كالجاحظ يتخذ لنفسه منهجاً وسمتا معينا في كتاباته المميزة الفريدة، وفي موضوعاته المبتكرة، التي فتحت آفاقاً جديدة في تصوير النماذج والنفسيات الإنسانية، وأبرزت عدداً من الشخصيات النمطية الباقية أبد الدهر كالبخلاء وغيرهم ، كما تناولت حركات التجديد مطالع القصائد، والصور البلاغية التي أصبحت متنوعة بتنوع الشخصيات والبيئات والأمصار، وتناول التجديد أيضاً الموضوعات، خاصة بعد الصراعات السياسية والمذهبية والمدارس الفكرية التي امتدت أصولها إلى الفقه والأحكام ووجهة النظر السياسية، وبعد التأثيرات المتنوعة لقيم الإسلام ومبادئه، ظهر شعر الزهد والحب العذري، وفي فترات أخرى شعر اللهو والمجون المنحرف، الذي كان استجابة لتغيرات جذرية فاسدة تتعلق بالعواطف والعلاقات الإنسانية، وتناول التجديدات أيضاً شكل القصيدة بصفة عامة، فظهرت المقطوعات والتواشيح والرباعيات وغيرها مما نوع في القافية، واحتفظ بالوزن، كما دخلت إلى اللغة ألفاظ جديدة، وشتقاقات مبتكرة، رفضها بعضهم وقبلها بعضهم الآخر.
وعلى الرغم من حدوث اضطرابات في القيم والمفاهيم العامة إلاّ أن النغمة الإسلامية لم تخفت أبداً، كان هناك دائماً أدباء أوفياء يحرسون التوجه الإسلامي عبر الفنون والآداب، لا يقعدهم عن ذلك شطط عابث، أو غواية متحلل فاسد أخضع الكلمة للهوه وشهواته ومجونه، ولم يكن (فن المديح كله تأليهاً وتنزيهاً لأمراء وحكام وقادة، بل حفل هذا الفن بالكثير من التغني بقيم الحضارة الإسلامية ومجدها، وبعظمة الرجال الأبرار الذين استطاعوا أن يملأوا الأرض عدلاً ورفاهية وسعادة ).
والأدب الإسلامي في تصورنا عنصر من عناصر الحضارة الإسلامية لا شك فيه، ولسان من ألسنة الدعوة الإسلامية التي تحرص أول ما تحرص على القدوة والمثل، وتهتم بالفعل دون أن تهدر قيمة القول، وقد يختلف بعضهم ـ وهم معنا في هذا التصور، وردنا على ذلك بسيط غاية البساطة، ألا وهو أن المعجزة الكبرى في الإسلام هي القرآن.. الكلمة المنزلة من عند الله، في إطار من الصدق والجمال والإعجاز، كما أن الدعوة إلى الله بنص القرآن الكريم بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (125: النحل).
وقد تبدو عملية (التنظير ) للأدب الإسلامي ميسوة وسهلة لأول وهلة، وإنها لكذلك بالفعل إذا انصب التنظير على (مضمون ) الأدب أو منبعه الفكري، لكن الأمر سوف تكتنفه الصعوبة إذا ما نظرنا إلى الشكل أو الصور الجمالية لأي فن من فنون الأدب.
التنظير للأدب الإسلامي لا يثير كثير جدل في ناحية المضمون، لكن الأشكال الفنية التي لا تكاد تستقر على حال، والتي تختلف فيها الأذواق والأفهام والمناهج الفلسفية هي المشكلة، بل أكاد أقول هي العقبة التي تعترض طريق الباحثين عن نظرية سوية مقنعة للأدب الإسلامي.
ويجب ألا يتبادر إلى الأذهان أن ذلك أمر موقع في اليأس أو محبط للعزيمة، فالخلاف حول الصورة الفنية خلاف أبدي حتى بين أبناء المدرسة الأدبية أو الواحدة، فضلاً عن أنه من الصعب، بل يكاد يكون من المستحيل تحديد أبعاد صورة أدبية واحدة لفن من فنون الأدب، فالقصة يتناولها كل كاتب بأسلوبه وطريقته الخاصة، ولو كان الأسلوب أو الطريقة واحدة لا نهدم جانب أساسي من عملية الإبداع، المقلدون وحدهم هم الذين يدورون في إطار الصورة المحددة، وحتى هؤلاء قد يتجاوزون ـ قليلاً، أو كثيراً ـ الحدود المرسومة، أما خصوصية الكاتب المبدع وتميزه فتجعله ينجب عملاً فنياً مرتبطاً بفكره وذوقه وإمكاناته الخاصة، وقد نتصفح عدداً من دواوين الشعراء العموديين مثلاً، فنجدهم يكتبون وفق قواعد عامة متفق عليها، لكننا نجد شوقي غير حافظ غير البارودي غير محمد الأسمر غير الجوهري غير الزهاوي أو العقاد وهكذا، والشيء بالنسبة لمن يسمون بأعلام الشعر الحديث والشعر الحر، وإذا انتقلنا إلى المسرح أو القصة القصيرة تواجهنا الحقيقة نفسها التي لا يمكن الهروب منها. ماذا يعني ذلك كله ؟؟
إنه يعني أن قضية الشكل الفني أو الصورة الفنية مفتوحة..
وحينما أقول مفتوحة !!! لا أعني أنها فوضى .. يتخبط فيها كل من هب ودب.. فهناك أساسيات تتعلق بالقواعد.. قواعد اللغة .. وباستقامة التعبير.. وبالموسيقى في الشعر، وبالحديث في القصة والمسرحية، وبالجماليات الأدبية الأخرى من رموز وإيحاء وإشعاع، وبأمور تخصصية أخرى في شتى ألوان الأدب، وهذه بدورها ليست قواعد جامدة، ولكنها خاضعة للمواهب الإبدائية القادرة على الإضافة والتعديل والابتكار.
الشكل الفني مشكلة في مجال وضع النظرية، لكنها مشكلة ذات طبيعة خاصة، ويمكن فهمها في إطار التجربة الطويلة، والتنوع الواسع، وفي إطار المنطق والمقبول أو المعقول، وعلى الأدباء الإسلاميين ألا ينزعجوا من مناقشة هذه المشكلة أو يتهربوا منها، ولنقرر في صلب نظرية الأدب الإسلامي أن الشكل الفني ميراث وتراث، وأنه بطبيعته متغير ومتنوع، وأن مجال العمل فيه يلتصق بابداع المبدعين، أكثر من التصاقه بآراء المؤرخين والنقاد، وهو قضية قبول بين المبدع والملتقي بالدرجة الأولى، والنافذ مجرد وسيط وجهة نظر قد تصدق وقد يجانبها الصواب، ولا شك أن حرص الإسلاميين على المضمون الفكري واطمئنانهم له، سوف يجعلهم أكثر ثقة في ارتياد التجارب الإبداعية الجديدة في كل لون من ألوان الأدب شعراً ونثراً ينطلق الأديب الإسلامي في مجال الصور الفنية دون خوف أو عقد، ويدرك يقينا معنى الحرية الصحيحة في الإبداع، تحت الفكر السليم وقد يكون لبعضهم تحفظات على هذا المنطلق، وربما يبدون وجهات نظر بصدده.. لا بأس !! لكن القضية ليست قضية حوار وجدل بالدرجة الأولى، لكنها في حقيقتها ممارسة وإنتاج وإبداع. وعبر التجارب الشجاعة نستطيع أن نتبين وجه الصدق، ونضع أيدينا على كل ما هو إيجابي ونافع ومؤثر، فلا جدوى من أن نملأ الدنيا ضجيجاً وجدلاً صاخباً، دون أن نقدم النماذج الأدبية التي تعبر بصدق وجمال عن نظرية الأدب الإسلامي.
ويتضح لنا مما سبق أن للأدب الإسلامي جانباً خاصاً وآخر عاماً.
الجانب الخاص هو جانب فكري يرتبط بالإسلام عقيدة وفكراً وتصوراً وعاطفة، والجانب العام تمتمد جذوره إلى الإبداع العربي القديم وإلى التراث العالمي المشترك الذي ساهم فيه كل شعب بنصيب، وخاصة فيما يتعلق بالأشكال الفنية التي أصبحت في عصرنا ملكاً للجميع، ولا تحجزها نزوات التعصب العرقية أو الدينية أو السياسية أو المذهبية أو الجغرافية، ولقد ضرب أسلافنا الإسلاميون العظام أروع المثل حينما لم يحجموا عن قراءة تراث الحضارات القديمة، وسهروا على النظر فيه وترجمته ونقده والرد عليه سواء أكان إغريقياً أم هندياً أم فارسياً.. فنحن ـ قديماً وحديثاً ـ جزء من هذا العالم الكبير من حولنا، أعطيناه الكثير، وتبادلنا معه الخبرات والثقافات، وهذه سمة رائعة من سمات الحضارة الإسلامية الخالدة، التي تغذت بلبان الإسلام، وترجمت بصدق عن فكرة وروحه.
ويستطيع القارىء المدقق المنصف أن يعرف ـ ازاء ما سبق ـ لماذا سميت هذا الكتاب باسم (مدخل إلى الأدب الإسلامي )، حيث أبرزت الأسس الفكرية لهذا التوجه الإسلامي، وحاولت أن أتناول أهم القضايا والمشاكل التي كانت تطرح في الندوات العالمية التي عقدت بخصوص (الأدب الإسلامي ) والتي كانت تثور في أروقة بعض الجامعات، وعلى صفحات بعض المجلات المتخصصة والصحف، وفي الندوات النقدية المختلفة.
لقد شغلني موضوع الأدب الإسلامي في فترة مبكرة من العمر، ودفعني الحماس إلى كتابة عدد من المقالات في الصحف العربية تتصل بهذه الناحية، وكانت قراءاتي للشاعر الفيلسوف محمد اقبال بداية اهتمامي الأساسي، وكثيراً ما رددت من شعره حول هذا الموضوع، شبه فيها فنون المشرق بزيف (السامري ) ـ وهو من قوم موسى ـ حينما صنع لبني إسرائيل عجلاً من ذهب له خوار، كانت هذه الأبيات تقول:
يئست فلا أرجّي في أناس لهم فن كفن السامريِّ
سقاةٌ في ربوع الشرق طافوا على الندماء بالكأس الخليِّ
سحاب ما حوى برقا قديماً وليس لديه من برق فتيِّ(1)
وكان لأعجابي بإقبال وتقديري الأثر الكبير في وضع مؤلف عنه تحت عنوان (إقبال الشاعر الثائر ) (2)، ثم أصدرت كتاب (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) من أكثر من ربع قرن، ولقد كانت هذه الدراسة المبدئية تعبيراً عما يلح في خاطري بخصوص قضية الأدب الإسلامي، لكني وجدت فيما بعد أن القضية أكبر من ذلك بكثير وأن المهمة الأولى لجيل الكتاب الإسلاميين اليوم هي المشاركة الإبداعية الإيجابية في تقديم نماذج من القصة والشعر والمسرحيات، لملء الفراغ الناجم عن غياب الحركة الأدبية الإسلامية الجادة، إيمانا مني بأن النماذج الناجحة هي الرد العلمي على حملات التشويه والتسكيك، وبدأنا..
وإذا كان الأدب الإسلامي قد اتسعت دائرة الاهتمام به في السنوات الأخيرة، فإن الجهد المبذول لم يزل دون الآمال الكبيرة التي تخفق في الصدور، ولا يفوتني في هذا المقام إلاّ أن أشير إلى الأعمال الرائدة في هذا المجال والتي قام بها إخوة فضلاء أوفياء أذكرمنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ أبو الحسن الندوي والإمام الشهيد حسن البنا،والسفير صلاح الدين السلجوقي، والأخوان الشهيد سيد قطب ومحمد قطب، والأستاذ الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، والدكتور عماد الدين خليل والدكتور أحمد بسام ساعي وغيرهم من الشعراء وكتاب الرويات والقصة القصيرة والمسرحية والنقاد.
ولقد كانت النية متجهة إلى أن أفرد فصولاً لمختلف فنون الأدب لولا ضيق المقام، فضلاً عن أننا قد أصدرنا قبل ذلك مؤلفات عن (المسرح الإسلامي ) و(أدب الأطفال في ضوء الإسلام )، ونأمل إن شاء الله في المستقبل أن نفرد مؤلفا لأدب القصة لأهميتها..
والله أسأل أن يجنبنا الزلل، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، وأن يسدد على طريق الحق والخير خطانا، وأن يغفر لنا ويرحمنا، إنه سميع مجيب الدعاء.
الدكتور نجيب الكيلاني
مفهوم الأدب الإســـلامي
الأدب بصفة عامة لون من ألوان الفنون، وهو أكثرها شيوعاً وتأثيراً وشعبية، لأنه يضم الشعر وأنواع النثر الفني كالقصة والمسرحية والمقالة والمخاطرة وترجمة الحياة وغيرها، وعلى الرغم من اختلاف التعارف التي وضعت للأدب في مختلف العصور، إلا أننا نستطيع أن نستخلص منها سمات أساسية للعمل الفني الأدبي، فهناك (الصورة الفنية ) المؤثرة التي تتشكل من عناصر عدة أولها اللغة المنتقاة، حيث تؤدي اللفظة الموحية المؤثرة وظيفة خاصة مميزة، هذه اللفظة لا تقوم بذلك وحدها، ولكن بارتباطها العضوي مع باقي الألفاظ في نسق معين، وبما تعكسه من فكرة، وتثيره من خيال، وبما تحركه من عاطفة، وتولده من اندماج، فالصورة الفنية تكاد تكون تجربة حية يحدث فيها نوع من التمازج بين الأديب والملتقى، ولوناً من ألوان الحوار الحار، والتفاعل الخصب، تلك التجربة الحياتية في إطار هذه الصيغة الفنية تبدو جديدة شيقة، وتكشف الكثير عما غمض في حياتنا العامة، وعلاقاتنا العديدة المتشابكة، وتضفي على وجودنا ثراء ومعرفة ومتعة، ومن الوهم أن نتصور أن هذا الأثر الجمالي هو كل شيء، إنه وثيق الصلة بنفوسنا وحركتها، وبعواطفنا وتوجيهاتها، وبأفكارنا ونموها، وبأرواحنا وسموها، وإذا كان إحساسنا بالمتعة والجمال في حد ذاته أثراً إيجابياً، إلا أنه يظل فرد النزعة، محصور الطاقة، محمود الفاعلية، إلا إذا حرك في داخلنا البحيرات الراكدة، وأشعل النيران الخامدة، فانطلقنا إلى مواقف جديدة، وبدأنا الرحيل إلى آفاق وعوالم أكثر حيوية ودفئاً وحاولنا أن نتفيأ ظلال واقع يمور بالحركة والتطلع، وتلك هي الإيجابية بمعناها الواسع الصحيح، فالمتعة المجردة الساكنة المنطوية، تحمل في ثناياها على نفسية تمضي بصاحبها إلى الانطواء والعزلة وأحلام اليقظة العليلة.
ولقد حاول الدارسون أن يجعلوا من الأدب مضموناً وشكلاً، وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين الشكل والمضمون، إلا أن هذا التبسيط أو التصور يبدو ضرورياً في بعض الأحيان توارثناه عن الفلسفات القديمة التي تحاول التجزئة أو التشريح من أجل الوصول إلى إدراك أوضح للأمور المعقدة، والمسائل التجريدية، ألا يمكن أن يكون في الفكرة نفسها جمال من نوع ما، ثم ألا يوحي الشكل أو الصورة الأدبية المركبة بطريقة فريدة، ألا توحي بانطباعات وتصورات تساهم في اكتمال المعنى، وبلورة الفكرة، وتجسيد المفاهيم؟ ومع ذلك فإن هذا التقسيم للعمل الأدبي إلى شكل ومضمون يبدو ـ كما ألمحنا ـ ضرورة، وليس أدل على ذلك من أن جميع المدارس الأدبية، تحاول أن توضح جذورها الفكرية والفلسفية، أو تترجم تصوراتها عن الإنسان والكون والحياة إلى وقائع في القصة أو الرواية أو العمل المسرحي، بل وفي الشعر أيضاً، وتجعل من شخصيات العمل الدرامي بالذات نماذج معبرة ـ في حوارها وسلوكها وعلاقاتها ـ عن المضامين الفلسفية التي تؤمن بها أو تروج لها.
ولقد كان لتقسيم الأدب إلى عنصري الشكل والمضمون أثر سلبي لا يمكن تجاهله، فلقد احتفى بعض الأدباء احتفاءً زائداً بالفكرة على حساب الشكل الفني، فاختلت الموازين الفنية، وضعف التأثير، وقلت المتعة، وكان ذلك واضحاً أشد الوضوح (الآداب الموجهة ) ـ بفتح الجيم وتشديدها ـ فتحول الأدب إلى نشرات سياسية، تنطق باسم حزب من الأحزاب، أو شعارات طنانة تهتم وتهتف باسم زعيم من الزعماء، أو أبواقاً إعلامية تتغنى بمجد حكومة من الحكومات، وتوارت القيم الفنية، فتعطلت وظيفة الأدب الأساسية في السمو بالأرواح والأذواق، وفقدت الأفكار حيويتها وجاذبيتها، وتضعضعت القيم الإبداعية، وأصبح الأدباء في ذيل الموكب للحاق بركب المنفعة، ولم تعد لهم الريادة والقيادة، فلم يكن غريباً أن تتدهور آدابنا المعاصرة، وتتمرغ في أوحال الذلة والهوان.
وهناك فئة أخرى من الأدباء المعاصرين، حاولوا الإفلات من جحيم الحصار والقهر، فاحتموا بغابات الإبهام والغموض السوداء، وأغرقوا في الرمز والهروب حتى يحافظوا على نقائهم الفكري، وقيمهم الإبداعية، فتقوقعوا في عالم خاص بهم، وأداروا الحوار الخاص بينهم وبين أنفسهم، ففقدوا الصلة المقدسة التي تقيم العلاقات بينهم وبين الآخرين، ولم يعد لهم التأثير المأمول في حركة الحياة، وتحريك العواطف، واتخاذ المواقف، وقد عبر أحد الشعراء المحدثين عن هذه المأساة بقوله (1):
((شاعركم جبان
يخاف من ترجمة الإفصاح
لذا تراه يختفي خلف حلكة العبارة
ينسجها من أغرب الرموز
يملؤها بالليل والأشباح
وكل قطعة تلوح كالمغارة
مغلقة على عجائب الكنوز ))
إن الغموض والإبهام ساد الآداب المعاصرة أمر مخيف بالنسبة للحاضر والمستقبل، إنه ضرب من الشذوذ وقد أصبح قاعدة، بل فلسفة يٍروج لها النقاد في مختلف الأنحاء ويعتبرونها معيار الحداثة والإبداع، فإذا الحياة المعقدة في الغرب، والخواء الروحي، والتخمة المادية، والنمط الميكانيكي للحركة اليومية، والتفكك الأسري، وطغيان الفردية، والفوضى الفكرية والسلوكية تحت شعار الحرية، والأمراض النفسية الفتاكة، إذا كان هذا كله قد أفرز في الغرب آداباً وفنوناً معتلة، فما معنى أن نختط لحياتنا في الشرق تصوراً شبيهاً لما يجري في هذا الغرب ؟؟ أيمكن القول: إن السلطة القاهرة الجائرة قد خلقت جوًّا مناسباً شبيها لما يجري في الغرب؛ لقد أشرنا فيما سبق إلى فئة من الأدباء تحت ذلك المنحى، وتوفرت لديها مبررات كافية للإغراق في الغموض، لكن البناء النفسي للشعوب الإسلامية، وطبيعة تكوينها ومثلها العقائدية والاجتماعية يمكن أن تقيها شر هذا الفساد، ولا بد أن نجهز على الفكرة القائلة بأن الإبداع هو الغموض، والصور الفنية المبهمة التي تتدفق من تيار الوعي والأوعي، فمسؤولية الكلمة ـ إن كنا نؤمن بها ـ تقتضي الوضوح دون إهدار للقيم الفنية الجمالية..
ولنتوقف عند هذه النقطة الجوهرية، فالقرآن ـ قمة البيان ـ وصورة الأدب الخالدة واضح ميسر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17) فالكلمة رمز يحمل رسالة ما، هذا في المجال العام، لكن هذه الرسالة ـ في المجال العلمي ـ محدودة، ولا تحتمل التأويل، ولا تحفل بقيم جمالية، لكنها في مجال الأدب تتوقد حيوية وإثارة، وتتسم بالجمال والمتعة، فالكلمة وسيلة، بل اللغة كلها وسيلة، وبالإضافة إلى ذلك فهي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية، يخضع مبدعها للحساب، كالفعل تماماً، وتتحدد المسؤولية بداهة فيما تحمله الكلمة من معنى، وما تخلفه من انطباع أو تأثير، فقد ربطت المسؤولية بين مبدع الكلمة ومتلقيها وبالتبعية الحركية (أو الديناميكية ) التي تشعلها الكلمة أو تغرسها في نفس وروح وفكر الآخرين، وقد يظن ظان أن المسؤولية هنا مع الغموض، فالرسالة المبهمة عبث، ولكن الواقع غير ذلك إذا أن (الصورة الفنية ) الغامضة قد تنقل إلى ذهن المتلقي وروحه اضطراباً أو تحركاً أعمى، أو انفعالاً طائشاً بلا فهم أو هدف، ولا يتولد عنها إلا التمرد العشوائي، أو الرفض الجنوني، هذا الانطباع المختل، أو الأثر المشتت يعد خروجاً على النسق البديع الذي تشربناه مع قيم الإسلام ومبادئه، وخلاصة الأمر أن المسؤولية تقتضي الوضوح، ولكنها لا تتعارض مع القيم الجمالية، وتقتضي الأثر الهادف البناء، كما لا تهدر المتعة،وإصرارنا على هذه النقطة بالذات مرتبط بأهمية اعتبار الأدب ضرورة حياتية تخص الناس جميعاً، وحق المنفعة والمتعة ميراث مشاع لمختلف المستويات، إن هناك معنى يريد أن يعبرعنه الأديب ولن تتوافر للتعبير عوامل النجاح ما لم يكن مفهوماً وقادراً على جلب المتعة والمنفعة، وهذا التصور من ناحية أخرى يرتبط بقيم الصدق والأمانة، فإذا كان بعضهم في جزء من هذا العالم أو آخر يعاني من التيه والتخبط والحيرة، فلا معنى لأن نعالج أساه بمزيد من الآداب المضطربة، المبهمة، التي تزيد من أساه، وتؤكد عذابه، وتنقل إليه مزيداً من الحيرة، وإلا كنا كما قال الشاعر(وداوني بالتي كانت هي الداءُ ).
لكن هل الغموض ضرورة عصرية، تترجم عن عصر أوغل في البذاءة والضلالة؟ ليكن.. إنها قد تقدم أعراضاً لمرض العصر، لكن أين موقف الأديب القادر على المساهمة في صنع حياة أفضل وأجمل ؟؟ وإذا كان الأديب يعبر عن الحياة خلال نفسه وفكرة، ويبدع لها صورة مؤثرة أخاذة ترتبط بذاته وخصوصياته، فتبدو متفردة جديدة، تضيف إلى عالم المتلقي كائنات وعلاقات وانفعالات مستحدثة جذابة، فلا بد أن يكون الهدف من وراء ذلك تفجير طاقات بناءة في داخل الإنسان، وإشعاره بالرضى والإمتاع، وإثراء وجوده بحيوات أخرى قد لا تتيسر له في واقع الحياة التي يعيشها، وهكذا لا يقعد به الخيال كسيراً كسيحاً، بل ينهض به إلى آفاق أسمى وأروع، وبذلك تتوقف الطاقات الإنسانية وتتحفز، وتلعب دورها الفعال في صنع حياة أفضل، ولا يتيسر ذلك إلا من خلال تصور صحيح للإنسان والكون والحياة، والعلاقات التي تنسق مسيرة المخلوقات، والقيم الأصلية التي ترسخ خطى السائرين في طريق الخير والنماء والحق والحرية والجمال الأدب الإسلامي أدب مسؤول، والمسؤولية الإسلامية التزام، نابع من قلب المؤمن وقناعاته، التزم تمتد أواصره إلى كتاب الله الذي جاء (بلسان عربي مبين ) ولا يصح أن ننخدع بالتزام الوجوديين وغيرهم (فسارتر ) يقرر أن حريته تبدأ عندما (يموت ) الإله ـ والعياذ بالله ـ لأن فلسفته تقوم أساساً على رفض الأديان والقيم والأعراف السابقة، أي أن التزامه يبدأ بعدم الالتزام بأي قيم سابقة، وبالطبع فقد أصبح كل وجودي ـ وليس سارتر وحده ـ صاحب قيم جديدة يصنعها لنفسه وبنفسه، وهكذا أصبح التفتت شعاراً، ووجد في عالم الوجوديين أنبياء زائفون بعددهم، واستهوت البدعة هذه الفارغين واليائسين، واستمالت المتحللين من القيم والأخلاق والمبادئ، ولم لا وقد فهموا أن معنى ذلك هو قمة الحرية.
إن ارتباط الأدب الإسلامي بالمسؤولية النابعة من صميم الإسلام، يقي أجيالنا المحاصرة، من السقوط في براثن تيه الفلسفات التي تعد بالمئات، إن الفلسفة الوجودية مثلاً لم تعد فلسفة واحدة بل عشرات، وحتى مدرسة التحليل النفسى انقسمت إلى مدارس عدة، والمادية الجدلية تفرعت وتنوعت، وخاصة في مجال التطبيق والممارسة، وما كان بالأمس يعد فتحاً جديداً. بل ديناً حديثاً، أصبح الاستمساك به كفراً بواحاً، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم (.. إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) ( النجم:28) وشتان بين الظن والحق.
وفي إطار هذا (الحق ) ـ لا الظن ـ يتحرك الأدب الإسلامي، وسلاحه الكلمة الطبية (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) (إبراهيم 24 ـ 25).
يقول أحد النقاد المعاصرين: (علاوة على الدور المدرك للفن، هناك مغزاه التعليمي، ولكن الفن يثقف المتفرج (أو المتلقي) بطرقه الخاصة، إنه يؤثر أول ما يؤثر على إحساسناً، ويستحوذ على انفعالنا، ويطوقها.. فالفن الأصيل يكون دوماً أخلاقياً، ما دام قد أملته قناعة الفنان الروحية الحية، ليخدم الخير، ويكافح الشر.. )
وحتى الشاعر نزار قباني يقول: (الأدب عبارة عن خنجر يغمده الشاعر في صدر الخرافات والعاهات، والانحرافات بكل أشكالها السياسية والاجتماعية .. ) (1) .
الأدب الإسلامي إذن ليس أدباً مجانباً للقيم الفنية الجمالية، فهو يحرص عليها الحرص، بل ينميها ويضيف إبداعاته إليها، والتراث الجمالي العالمي ملكية شائعة كالدين والفلسفة والعلوم، لا يحتكرها شعب دون آخر، ولا تستحوذ عليها أمة دون باقي الأمم، على الرغم من اختلاف اللغات الفنية، وخصوصيتها في التعبير والاستعارة والمجازات المختلفة، ويبقى دائماً في الفنون الأدبية عناصر تكاد تكون لازمة لهذا اللون أو ذاك، فللشعر مثلاً موسيقاه وإيقاعاته وأخيلته، وللقصة أحداثها وعقدتها وشخصياتها، ولها بدايتها ونهايتها، وللمسرحية أشرا طها الزمانية والحوارية وجاذبيتها الدرامية الخاصة، وهذه كلها كما قلنا ميراث مشترك.
والأدب الإسلامي يحرص أشد الحرص على مضمونه الفكري النابع من قيم الإسلام العريقة، ويجعل من ذلك المضمون ومن الشكل الفني نسيجاً واحداً معبراً أصدق تعبير، ويعول كثيراً على الأثر أو الانطباع الذي يترسب لدى الملتقى، ويتفاعل معه، ويساهم في تشكيل أهوائه ومواقفه وحركته الصامدة أو المتدفقة إلى الأمام.
والأدب الإسلامي يستوعب الحياة بكل ما فيها، ويتناول شتى قضاياها ومظاهرها ومشاكلها، وفق التصور الإسلامي الصحيح لهذه الحياة، ولا يزيف حقيقة، أو يخلق وهماً فاسداً، أو يحابي ضلالاً، أو يزين نفاقاً، ويطلق نيرانه على شياطين الانحراف والقهر والظلم، ومن ثم ينهض بعزائم المستعفين، وينصر قضايا المظلومين، ويخفف من بلايا وأحزان المعذبين، ويبشر بالخير والحب والحق والجمال.
والأدب الإسلامي يعبر بصدق وأمانة عن آمال الإنسان الخيرة، ويتناول نواحي الضعف والتردد والانحراف فيه بتسليط الأضواء عليها لفهمها والشفاء منها، لا لمجرد تبريرها، أو التماس الأعذار لها، تصور الأدب الإسلامي للإنسان نابع من وصف الخالق للمخلوق (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ( الملك 14)، وهو أمر يجب أن يحفل به الأديب المسلم، بعد أن قدمت الآداب الغربية ـ بل والشرقية أيضاً ، نماذج شوهاء للإنسان، وجعلت من التشوه بطولة وحرية، وصنعت من التمرد الفاسد تحقيقياً للذات، وإعلاء لشأن المخلوق.
والأدب الإسلامي ليس (عبثيًّا )، ولا يمكن أن يكون كذلك فليست الحياة ولا قصة الخلق، أو دور القدر، ولا حادث الميلاد أو الموت ليس ذلك كله عبثاً (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم 'لينا لا ترجعون ) (المؤمنون:115)، وهذا لا ينفي عن الحياة أنها (متاع الغرور )، أو أنها (.. لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد.. ) (الحديد: 20)، إنها امتحان وتجربة ودار أعمال، خلقت لهدف وغاية، ورسم لها الخالق سنناً وشرائع ونظاماً وقيماً، والمؤمن ـ دون ـ يستطيع أن يستوعب دوره الصحيح في هذه الحياة، وأن يمضي على النهج الذي اختطته يد العناية الإلهية فيسعد وينجو ويفوز.
والأدب الإسلامي ليس قواعد جامدة، أو صيغ معزولة عن الحياة والواقع، أو خطباً وعظمة تثقلها النصوص والأحكام، ولكنه صور جميلة نامية متطورة، تتزيَّى بما يزيدها جمالاً وجلالاً، ويجعلها أقوى تأثيراً وفاعلية، ولا يستنكف هذا الأدب أن يبتكر الجديد النافع الممتع، فالحياة في تجدد وتطور، وكذلك الإنسان وأساليب حياته العملية والعلمية والترفيهية، على أن يظل أدبنا في نطاق القيم الإسلامية الأصلية، ملتزماً بجوهرها وغايتها.
والأدب الإسلامي أدب الضمير الحي، والوجدان السليم، والتصور الصحيح، والخيال البناء، والعواطف المستقيمة، لا ينجرف إلى انحراف نفسي، أو اعتلال شعوري، أو مرض فلسفي تفشت جراثيمه في الماء والهواء والفنون والأفكار والسلوكيات.
والأدب الإسلامي أدب الوضوح لا يجنح إلى إبهام مضلل، أو سوداوية محيرة قاتلة، أو يأس مدمر، فالوضوح هو شاطئ الأمان الذي يأوي إليه الحائرون والتائهون في بيداء الحياة المحرقة المخيفة.
والأدب الإسلامي لا يمكن أن يصدر إلا عن ذات نعمت باليقين، وسعدت بالاقتناع، وتشعبت بمنهج الله، ونهلت من ينابيع العقيدة الصافية ومن ثم أفرزت أدباً صادقاً، وعبرت عن التزامها الذاتي الداخلي دونما قهر أو إرغام.
ذلك هو مفهومنا الشامل للأدب الإسلامي:
• تعبير فني جميل مؤثر
• نابع من ذات مؤمنة
• مترجمٌ عن الحياة والإنسان والكون
• وفق الأسس العقائدية للمسلم
• وباعث للمتعة والمنفعة
• ومحرك للوجدان والفكر
• ومحفز لاتخاذ موقف والقيام بنشاط ما .
الأدب الإسلامي مصطلح لكل العصور
إن القيم الإسلامية الكبرى تفرض سلطانها على كل العصور، تستوي في ذلك عصور الازدهار والتسامي، وعصور التخلف والتدهور، لأن هذه القيم مرتبطة أوثق الارتباط بالعقيدة الإسلامية وبمنهجها، والعجيب أيضاً أنها تبسط هيمنتها على كل الذين يعيشون على أرض الإسلام، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، لأنها في حقيقة الأمر قيم حضارية عامة، تتغلغل في النظر إلى الأشياء، وفي الفكر والسلوك، وفي العلوم الدنيوية والدينية، وفي التشريع والسياسة والحرب والسلم والاقتصاد، وفي الهدف والوسيلة، وفي آداب الكلمة أيضاً، وقد يشذ الأفراد، أو تضل الجماعات، أو يضعف السلطان وتختل الموازين، لكن هذه القيم تظل واضحة بارزة مهما ظل بعض فعلها معطلاً، فهي باقية ما بقيت السماء والأرض، صامدة صمود القرآن العظيم، تشع بأنوارها الباهرة عبر العصور المتلاحقة، لأنها أولاً وأخيراً من الرسالة الخاتمة، ومن الكلمة الأخيرة التي نزلت من السماء إلى الأرض.
وتتميز هذه القيم بأنها تضم تصوراً كاملاً شاملاً نموذجياً لكل نواحي الحياة، فالفصيلة خلق شخصي، وسلوك اجتماعي، ومنهج عملي، وحكم راشد، وعدالة سمحاء، وجهاد وعرق، وإبداع وتطور، وسياسة أمنية، وعاطفة نقية، لا تلبس الحق بالباطل، ولا تغرق في متاهات اللذة الآثمة، والجشع القاتل، والسيطرة الجائرة، والحرية الضالة، والأنانية المدمرة ، والمادية الفتاكة.. من هنا استطاعت هذه القيم أن تصنع حضارة فذة، وتقدم تجربة حية رائدة، ثم اعتورتها عوامل الضعف والقوة، والارتفاع والانخفاض، والنصر والهزيمة لكن هذه التغيرات كانت تعكس دائماً مدى الالتزام بهذه القيم أو التحلل منها، كانت حركة الإنسان سلباً أو إيجاباً، وانحرافاً أو تطابقاً، هي المؤشر لظاهرة النجاح والفشل في أي عصر من العصور.
وكان طبيعياً أن تفرز هذه القيم أدباً..
وكان منطقياً أن نطلق على هذا الأدب مصطلح (الأدب الإسلامي )، تماماً كما وضع المسلمون مصطلحات أخرى وثيقة الصلة بتلك القيم، كمصطلحات: الفقه الإسلامي، والاقتصادي الإسلامي، والحكم الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، والفتوحات الإسلامية.. الخ، فالإسلام هو الأدب الشرعي، دفع هذه (الكائنات ) من روحه ودمه، فجعلها تعيش وتنمو، وتغلغل في أعماق التحرك التاريخي، وتصبغ الفكر والسلوك والتصور، وتصنع المنهج الضابط لهذه النشاطات وغيرها.
ولم يكن هذا التصور أمراً شاذًّا كما يدعي بعضهم، لأن الفلسفات الكبيرة كلها ـ دعك من صوابها أو خطئها ـ أفرزت آداباً ـ وانطلقت من قيم معينة، فسميت آدابها بأسمائها، وتمتلئ ساحة الآداب المعاصرة اليوم بأسماء لها دلالاتها وعلاقاتها بتصورات فلسفية متباينة.. الأدب الوجودي.. الأدب الاشتراكي أو الماركسي أو الواقعي الاشتراكي.. الأدب العبثي.. أدب اللامعقول.. الأدب التبشيري أو التنصيري أو المسيحي.. الأدب الصيهوني.. حتى الرومانسية والكلاسيكية والرمزية والفرويدية والطبيعية وغيرها، كلها نبتت في (أرضية فلسفية ) معينة، فلا نرى لونا من ألوان الأدب في أوروبا مثلاً إلا وارتبط تنظيره بفيلسوف من الفلاسفة المحدثين أو القدامى، وعلى الرغم من أن الوجوديين قد أقروا بالالتزام في فنون النثر، ورفضوه بالنسبة للشعر، إلا أن غالبية الشعراء قديماً وحديثاً ينتمون إلى مدارس فلسفية أو فكرية بعينها، ويترجمون عن التأثر بها. فلماذا يعاب على المسلمين بالذات دعواهم إلى الأدب الإسلامي؟
أحرم على بلابله الدوحُ حلال للطير من كل جنسِ؟
وإذا كانت العلاقة بين بعض المدارس الأدبية والفلسفية التي تنتمي إليها علاقة تبدو أحياناً مخلخلة أو مفتعلة، أو قل غير مقنعة، فإن علاقة الأدب الإسلامي بأبيه الشرعي الإسلامي علاقة عضوية وثيقة لا يمكن فصمها إلا في الفترات الشاذة العصيبة، وفي عصور الجهل الأيديولوجي والمحن السياسية والاستعمارية، وهذا راجع لسبب أساسي ورئيس وهو أن الإسلام ليس فلسفة تجريدية، ولا منهجياً فضوليًّا يسمح له بالولوج إلى جهة، ويمنع من الدخول إلى جهة أخرى، بل هو صيغة شاملة كاملة تغطي جوانب الحياة كلها، كما أن الإسلام ليس مجرد فرضية أو نظرية تقف في استعلاء على ربوة منزلة، وتنتظر من يتوسل إليها بالقرابين والكلمات، ولكنه واقع حي معاش، فيه عظمة العصمة الإلهية، والاستجابة الصحية لواقع الحياة الإنسانية بما فيها من استقامة وشذوذ،وقوة وضعف، ومادة وروح، وفيه أيضاً انفتاح واع على تجارب البشر، ومستجدات الحياة، دون شعور بالخوف والتردد، أو عقد من نقص ومهانة، إن صلابة الاستمساك بالثابت، وعظمة المسايرة مع المتطور، والقدرة على المرونة الأصلية، على ضوء المفاهيم والقواعد الشامخة ذات الصبغة الإلهية، كما أن فيه سماحة الفهم الصحيح للأديان الأخرى وما فيها من صدق أو تحريف ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحدٍ من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك وإليك المصير ) (البقرة: 285).
ومن الطبيعي والمنطقي أن(الأدب الإسلامي ) ينمو وترعرع في ظل (القرآن الكريم ) ورحابه، وينهل من فيضه، ويغتني بمنهجية وأسلوبه ونماذجه، ويستمد منه عناصر الصدق والطهارة والقوة والدقة والأمانة، ويستشرف منه الغاية، ويغتنم الوسيلة، وفي فجر الدعوة الإسلامية، أقام الرسول صلى الله عليه وسلم للشعر منبراً في المسجد، كما قال عن شاعره حسان (إنه ينطق بروح القدس )، كما قال صلى الله عليه وسلم أيضاً (إن من الشعر حكمه، وإن من البيان لسحراً )، وهكذا استمد الشعر الإسلامي منذ شروق الدعوة ألفاظ القرآن وعباراته وقيمه وأحكامه، وسار الشعر ـ وهو أهم فنون الأدب آنذاك ـ ركاب الزحف الإسلامي المقدس، موشحاً بالقيم الفكرية والفنية أو الجمالية، منطلقاً إلى غايات أسمى وأعمق من غايات الشعر الجاهلي الذي ظل أسير العصبيات والقبليات والفخر والهجاء والمديح..
إن إشعاعات القيم الإسلامية اخترقت الحواجز والسدود، وخالطت علم العلماء، وأدب الأدباء، وسلوك الساحة واللغويين والفقهاء،وحققت ذلك التجانس الهائل في مجالات الفكر والسلوك، دون قيود على الإبداع الفني، أو التجريب العلمي، أو الابتكار الحربي والإداري والحرفي، ومن هنا تولدت حضارة فذة، بعيدة عن التشوهات الخلفية والخلًقية، فضربت مثلاً رائداً في تاريخ الحضارات الإنسانية قديمها وحديثها، ثم كانت هي الأساس لما جاء بعدها من حضارات تالية أو معاصرة، على الرغم من الانتكاسة الرهيبة التي يعاني منها المجتمع الإسلامي اليوم.
وعلى الرغم من وجود فئات ظلت معتنقة للنصرانية أو اليهودية في إطار المجتمع المسلم إلا أن هذه الفئات ـ مع ولائها لدينها ـ ظلت معتنقة لتقاليد الحضارة الإسلامية لمنهجها وسلوكها، فصدرت عن هؤلاء آداب وفنون وعلوم لا تختلف كثيراً عن نتاج القرائح المسلمة الملتزمة، وهكذا طغى عليهم النصر التاريخي النادر المثال للحضارة الإسلامية، ولو لم يفعلوا ذلك لانقرضوا وما سمع بهم أحد، وهذه الظاهرة فيها أيضاً ما يدل دلالة واضحة على تسامح الإسلام وشموخه، كما أن فيها أن النصر لا يكون بالحديد والنار، وإنما بعظمة المبادئ الإلهية الخالدة التي تنحني أمام عظمتها الرؤوس.
الأدب الإسلامي ـ برغم ترهات المبطلين والمخدوعين ـ جزء من بنية البناء الإسلامي الكبير، وهو التعبير بالكلمة عن أيديولوجيتنا العظيمة، ووسيلة أساسية من وسائل الدعوة في هذا العصر، وهو منهج إعلامنا في مواجهة الإعلام الصليبي والشيوعي والماركسي والوجودي المدمر، هو (سلاح العصر ) في معارك الفنون والخبر والطوابير الخامسة، وهو أولاً وأخيراً الحامل (المضمون ) العقيدة التي نحيى لها وبها، ونستشهد في سبيلها (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمةٍ خبيثة كشجرةٍ خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاءُ ) (إبراهيم: 24ـ25ـ27).
واللغة العربية تستمد بقائها وتميزها من القرآن الكريم الذي كُتب بها، فزادها شرفاً ورفعة، وربطها بأعظم قيم الوجود وعقائده، وجعلها تمتد بين والأرض أبد الآبدين، ومن ثم فإنها اللغة الطبيعية والأساسية للأدب الإسلامي، ولكن هذا لا يعني قصر الأدب الإسلامي عليها وحدها، لأن تباين العالم الإسلامي واختلاف لغاتة يجعل من الضروري لهذا الأدب العالمي أن يكتب بلغات أخرى كالفارسية والأردية والتركية، بل والإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من لغات الدنيا، ولا غرابة في ذلك، فأدب الواقعية الاشتراكية، وكذلك الأدب الوجودي وغيره يكتب بمختلف اللغات، وفي كل لغة جمالياتها وقدرتها التعبيرية المؤثرة، والواقع أننا نظرنا لكلمات الشاعر الفليسوف إقبال كما نطرب لأشعار ابن الفارض والبوصيري وشوقي، ومن المعروف أن لغات العالم الإسلامي قد تطعمت بالكثير من الألفاظ العربية وأساليب لغة القرآن وجمالها، واستلهمت قيمة البلاغية والفصاحية، ونهلت من مضامينه الفكرية الخالد، والأهل يحدونا أن تصبح اللغة العربية سائدة في مختلف بلدان العالم الإسلامي، دون أن يعني ذلك إلغاء لغاته المحلية، ولا شك أن تجربة باكستان في هذا المضمار تعتبر تجربة رائدة، أن أصبحت العربية لغة أساسية في بعض مراحل التعليم، فضلاً عن القرآن يُقرأ بالعربية في كل الأنحاء، وكذلك الحديث الشريف. وقد يقول قائل:
( إنه من الخطر أن نهمل مصطلح (الأدب العربي ) الذي توارثناه جيلاً بعد جيل، وأصبح يشكل تراثاً ضخماً عامراً بالكنوز والعطاءات العلمية والفنية، ونحن لا نهدف إلى ذلك مطلقاً، فالعربية كما قلنا لغة القرآن، والحفاظ عليها فريضة، فضلاً عن أنها اللغة الأولى والأساسية للأدب الإسلامي، إن الذي نريده في الواقع هو أن يكون الأدب العربي أدباً إسلامياً، أو بتعبير آخر أن يكون مصطلح (الأدب الإسلامي ) ضمنياًّ أدب عربي بالدرجة الأولى، ولا يظنن ظان أدبنا العربي منذ فجر الدعوة ومروراً بعهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم حتى يومنا هذا، لم يكن هذا الأدب إلا ترجماناً للثقافة الإسلامية وحضارتها يستوي في ذلك الأدب المسلمون وغيرهم الذين نعموا بالحياة والحرية والتعبير والعمل في ظل المجتمع الإسلامي أبان صعوده وهبوطه، فالثقافة الحقيقية منهج في الفكر والسلوك، ولم يكن المجتمع الإسلامي بكل طوائفه وفئاته وأقلياته من معتنقي الأديان الأخرى إلا متأثرين بذلك الطابع الإسلامي الشامل، ولهذا فإن إحياء مصطلح (الأدب الإسلامي ) إنما هو في الواقع إيضاح لأيديولوجية ما نسميه بالأدب العربي أو الفارسي أو غيرهما، وهو بمثابة إعادة الأمور إلى وضعها الصحيح، ولا يمكن تفسير الغفلة التي سادت القرون الغابرة إلا لأنهم اعتبروا الأمر تحصيل، فالأدب العربي إسلامي بالضرورة، أو هكذا يجب يكون، لأنه ترجمان الحضارة الإسلامية بكل جوانبها، ولأنه كان وعاء للتبادلات الفنية والفلسفية العلمية بين مختلف الجنسيات والثقافات القديمة، ولا يقلل من هذه الحقيقة انسياق الشعراء وراء بدع العصبيات والمدح والفخر الجاهلي والمجون، فذلك التمرد ( الفني ) والذي يرتبط بالشعر أكثر من غيره ). ( والشعراء يتبعهم الغارون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ). (الشعراء : 224ـ 227).
إن النظرة العامة للشعر العربي القديم باعتبار (أعذبة أكذوبة ). وعلى أساس أن الشعراء يهيمون في كل وادٍ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، وقد جعل المؤرخين والكتاب يتقبلون مصطلح (الأدب العربي ) باقتناع ورضى، ولو أنهم استمسكوا بالآداب والقواعد التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم لشعراء الدعوة الإسلامية، حين أقام للشعر في المسجد منبراً، وحينما طلب منهم أن يجابهوا الشرك وأعداء الإسلام، لو أنهم فعلوا ذلك لما حدث الانفصال بين والشعر والدين بعد العصر الأول، ولما انعزل هؤلاء الإسلاميون من الشعراء في مواقعهم الخاصة، بعيدة عن انهيار الشعر وجنوحه إلى الانحراف والنفاق والتكسب، وبيع الكلمة في سوق الرقيق.
والأدب الإسلامي بداهة لا يرتبط بعصر دون عصر، إنما هو أدب كل العصر، لكن مفهومه الواضح المتصل بالعقيدة، يتشكل تبعاً لأحداث التطور، وترادف الإبداعات المتجددة، ونحن نرى المذاهب الأدبية الغربية نفسها ترتدي أثواباً جديدة من وقت لآخر، فالكلاسيكية القديمة اتخذت عند عصر البعث الأوروبي شكل الكلاسيكية الحديثة، كذلك تعددت (الواقعية )، وأصبح لها عشرات الأسماء والمفاهيم (والرمزية ) تتوعت، بل إن أدباء المذهب الواحد، في العصر الواحد، كانوا أنماطاً متمايزة ولم يتقوقعوا في قوالب محددة جامدة من صنع المذهب.
نقول: لم يغب المنهج الإسلامي عن الأدب العربي في مختلف العصور، فإذا ما تفحصنا كتابات أديب رائد مجدد (كالجاحظ ) نلاحظ أنه يحدد أهم وظيفة للأدب، وهي (إصلاح العالم، والمساهمة في تكوين الفرد تكويناً جديدا ً) وهذا التصور في معناه العام لا يختلف عما قاله الروائي السينمائي المعاصر (إنمار برجمان ) ـ (مهمة الفن إعادة تشكيل الحياة ).
ويقول الجاحظ أيضاً: (لكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء.. إن غاية البيان وعلم الجمال هو الفهم والإفهام ) وحينما يتحدث الجاحظ عن أحسن الكلام يقول:
(هو الذي يصنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة ) ويرى الجاحظ أيضاً أن الحداثة لا تتعلق دون آخر، لأنها لا تتعلق بالرمز بقدر ما تتعلق وقدرته على التأثير.. فالصياغة هي الجديدة وهي الحداثة، لأن المعاني موجودة فعلاً من قبل.
الأدب الإسلامي إذن لإفراز طبيعي لمجتمع مسلم، والذين يعارضون هذا التصور يهدرون الأصول والبديهات والوقائع التاريخية، ويتجاهلون التجارب الإنسانية الوفيرة، ويجعلون الفنون منبتة الصلة بتربتها وبيئتها وينابيعها الفكرية والدينية، ويخلعوها عنها صفة التعبير الصادق، وينزعون أواصرها التي تعطيها نموها وجمالها وـأثيرها، وإلا فأتوا إلينا بأدب لم يصدر عن منطلقات إنسانية عاطفية وفكراً وموقفاً، بصرف النظر عن ماهية هذه العاطفة، أو طبيعة هذا الفكر، أو كنه ذلك المؤلف .
كل ما أريد أن أخلص إليه في هذا الموقع هو أن نضع حداً لهذا الجدل الصاخب حول المشروعية الأدبية لمصطلح (الأدب الإسلامي )، وأن ينطلق الأباء الإسلاميون نحو غايتهم الواضحة، وفق برامج متفوقة، ووعي صادق، وأن يهتموا بتأصيل القيم الجمالية، ومضامينهم الفكرية الأصلية، لأن التجربة هي ساحة الامتحان الحقيقي، والنجاح الحق يفرضون وجوده، ويفسح للأديب مكاناً لائقاً في دنيا الكلمة، ويجعله شريكاً ـ بل رائداً ـ في بناء الإنسان والمجتمع الجديد، وهو في الوقت نفسه، يرتفع بالأذواق، ويسمو بالروح، ويحيى الوجدان، ويقوم اعوجاج النفس، ويتصدى للهجمة الشرسة التي تريد أن تعصف بمقومات وجودنا كله.
والأدب الإسلامي وثيق الصلة بالصحوة الإسلامية المعاصرة في مجالات التشريع والسياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام، وقيام هذا الأدب بمهامه يعتبر أمراً حيوياً لتجنب العثرات، واستمرار المسيرة، والتمهيد لغد أفضل، وحشد الطاقات لصنع التغير والتمهيد لغد أفضل، وحشد الطاقات لصنع التغيير المرتقب، وبدون الأدب الإسلامي نكون قد أهملنا سلاحاً فعالاً من أهم أسلحة المعركة.
البطل في الأدب الإسلامي
البطل في العمل الأدبي ـ قصة أو مسرحية أو ملحمةـ هو تجسيد لمعانٍ معينة، أو رمز لدور ما من أدوار الحياة وخاصة الهامة منها، وقد يكون هذا البطل أنموذجاً يحتذى، أو مثالاً سيئاً يولد النفور والاشمئزاز، وهو في كلا الحالين ذو تأثير إيجابي قبولاً أو رفضاً، وكلما كانت الشخصية ـ البطل ـ قريبة من الواقع، حافلة بعناصر الإقناع، مكتملة الملامح والسمات، أصبحت أكثر جاذبية وأعمق تأثيراً.
ولشخصية البطل مواصفات بدنية ونفسية وعقلية، كما أنه يرتبط بسلوكيات في الأفعال والأقوال والقيم، تجعله أكثر تحديداً وظهوراً، ولا ينفي ذلك التصور أن تخضع هذه الشخصية لمؤثرات وعوامل ومواقف تغير من تصرفاتها، وعواطفها وأفكارها وأحلامها، وتطورها من حال إلى حال، وقد تصاب هذه الشخصية ـ لأسباب فنية أو موضوعية ـ بالتجمد أو التحجر.
وترتبط شخصية البطل ـ وخاصة في المسرحية ـ بمظاهر خارجية لها دلالاتها كالملبس والحركة والصوت ورد الفعل وغير ذلك من الأمور الواضحة التي تبدو للعيان، وهذه كلها ـ في كثير من المواقف ـ جزء لا يتجزأ من تلك الشخصية.
وتختلف سمات الأبطال في الآداب العالمية قديماً وحديثاً من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى آخر، لأن الظروف التاريخية والجغرافية أو البيئة، تساهم في بلورة الشخصية وتعطيها أبعاداً داخلية وخارجية متميزة، كما تتغير المهمة المنوطة بالبطل وفق الكثير من التصورات العقائدية والنظرة إلى طبيعة الحياة وما يجري فيها من أحداث، وما يناط بالمرء فيها من عمل، وطرائق كسب العيش، والانهماك في قضايا عديدة تتعلق بالحرب أو السياسية أو الاقتصاد أو العمل اليومي وغير ذلك.
وكانت الترجيديات الإغريقية تختار بطلها من الملوك والأمراء والقادة الكبار، بينما الواقعيات الحديثة بالإنسان العادي البطل، الذي يصارع من أجل حياة أفضل، وكان المثال ـ البطل ـ الإغريقي يصارع قوى الشر وآلهة الأولمبي ، وفق قناعات وثنية مادية، بينما المثال في الواقعية الاشتراكية مثلاً ينازل التمايز الطبقي، والاستغلال الرأسمالي،في جو من الأحقاد والحزازات وسوء الظن، طبقاً لفلسفة معينة تستند إلى ما يسمى بحتمية الصراع الطبقي، وانتصار طبقة بعينها هي طبقة البروليتاريا.
ويتميز البطل (الوجودي ) بحساسية مفرطة، ووعي عقلي فلسفي يبدو جليا في تصرفاته وأحكامه وسلوكه، كما يبدو في رفضه الكامل لكل المسلمات القديمة ـ صحيحها وباطلها ـ وينفر من القيم الدينية وأخلاقية، ويظن أن هذه أنما جاءت لتكبل إرادة الإنسان، وتهدم حريته التي تعتبر أهم قيمة في وجوده، ولذلك جاء البطل متمرداً رافضاً ساخطاً على كل شيء في الحياة القائمة.
وفي هذا الجو أيضاً ولد البطل العبثي الذي لم يجد في الحقيقة قيمة يتشبث بها حسبما صور له وهمه، فلا هو نعم بالإيمان الموروث، ولا هو ابتدع بناء خلقياً جديداً، بل لم يجد أي جدوى من هذا أو ذاك، فانطلق دون وعي أو منهج، واعتبر اللا فلسفة، وكيف لا يفعل ذلك وهو يرى أن العشوائية والفوضى تسود كل ما في الوجود، وأن الموت قادم لا محالة، وأنه ليس وراء الموت شيء، هذا الخلاص المزعوم جعله يتخبط ويمارس حياته في طيش وجنون، بعد أن عطَّل وظيفة الضمير ، وأغلق قلبه وعقله عن فهم الحياة على وجه صحيح.
وكفر البطل الرومانسي بالعقل، وتشبث بحرقه العواطف وتهويماتها، وأخذ يتغنى بحرمانه وعذابه وأساة، واستعذب ذلك التوهم، وغرق في بحوره العاصفة، دون أن يحاول الخروج من هذا الكابوس الرهيب.
وكان البطل في إطار المادية والفرويدية والطبيعية وليداً والطبيعية وليداً للتقدم المادي الخارق في مجالات العلم والصناعة والتقنية، فهذا البطل لا يؤمن إلا بما يراه ويحسه ويسمعه أو يتذوقه، وليس وراء عالم الحواس شيء آخر، ولم يعد للجانب الروحي أو المينا فزيقي في الإنسان قيمة يعترف بها علميا، مادام خارج التصور المادي للحياة، ولا يمكن قياسة بالمقاييس، أو إثباته في أروقة معامل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وغيرها.
كانت الفلسفة والأدب في القرون الثلاثة ـ أو الأربعة ـ الأخيرة يسيران جنباً إلى جنب، واحتدمت حرارة الحوار، وبالتالي حرارة الصراع بين المدارس المختلفة الفكر والفن، بل في إطار المدرسة الواحدة كانت تخرج تيارات فرعية، تثير من الجدل والصراع في داخل المدرسة الواحدة، أكثر مما تثير مع المدارس الأخرى المخالفة ويكفي أن نشير إلى التيارات والمدارس الفرعية التي تولت عن الواقعية أو الرمزية أو الرومانسية مؤكدة في هذا البحر الهائج من الفلسفات والاتجاهات والتفسيرات، بل أن الدارس أيضا يقف مذهولاً وهو يقرا تاريخ تلك المدارس، وكيف سطعت وترعرعت، ثم كيف أخذت تتمزق وتذبل، ثم كيف يحكم عليها بالخطأ.. بل بالفناء، وقد يكون الأمر مقبولاً بالنسبة لاتجاهات فنية وتتوهج ثم يهال عليها تراب النسيان، أما الفلسفات ـ وهي عادة تقوم على أسس أدق وأعمق ـ فإن الأمر يعتبر غريباً، وخاصةً أن بناتها عرفوا بالتفكير المنهجي، والدقة في البحث، والتأني في الوصول إلى النتائج .
ولم يخل الأمر من وجود تيارات دينية فنية وفكرية في أوربا أباك ذلك الصراع المحتدم، حيث ظهرت فئة من رجال الدين المسيحي تبنوا قيماً دينية واخلاقية، وصاغرها في إطار فلسفي، ونجح منهم فنانون وأدباء في تقديم نماذج قادرة على التصدي والذيوع، لكن الزحف المادي الجديد كان أقوى من أن يتراجع أمام الأدب المسيحي المدافع.
في هذا الجو المشحون بالجنون الفكري والفن، أصبح لشخصية (البطل ) في الآداب الأوروبية الجديدة سمات وملامح تعبر بقوة عن هذه التيارات الصاخبة، التي كانت ومازالت غير قادرة على الرسوخ والصمود، وبدا البطل بصفة عامة عامة ـ كإنسان العصر ـ غريباً، هذه الغربة المحزنة وصمت البطل، وجعلته ساخطاً رافضاً متمرداً، لا يعرف المأنينة والاستقرار، ولا ينعم بالسعادة ولا ينعم أو الحب الحقيقي، إنه يعاني الأوراق والاكتئاب، والوحدة والعجز، عن خواءه الروحي، وإمكاناته المحدودة، وخضوعه لسيطرة الآلة، ودورانه في ساقية المطالب المعيشية الآنية، قد أفرغت كيانه من مقومات القوة وافرادة القادرة على صنع التغيير، وإن فقره العقائدي قد جرده من أهم أسلحة معركة الحياة.. ذلك هو البطل المعاصر في الآداب الأوروبية، بل وفي آداب الشرق التي تقلد وتعيش عالة على التراث العلمي والتكنولوجي والفكري للغرب
بطل يائس، يتغنى بيأسه، ويقدم التراتيل والصلوات المرذولة بطل متمرد رافض، قد تنكر لكل شيء، فمات بين جوانحه الأمل بطل منطوٍ منعزل، تقطعت روابطه بدفء الأخوة والصداقة، فأصبح في التيه وحدة.
بطل هارب إلى الحانات والمراقص والموسيقى المجنونة، يغرق تعاسة في الخمر والمخدات والشذوذ، يمضي مختاراٍ إلى حيث الفناء.
بطل غارق حتى أذنيه في الوهم، يخدعه الساسة، وتخدره الفنون، ويصنعة الإعلام دمية تتحرك حسب الأوهام والأهواء بطل بلا فضيلة.
ولو كان هذا الإنسان مدركاً حقاً لمأساته، راغباً في التخلص منها، لهان الأمر، لكن تراكم الترهات والخداع، واستغلال (العلم ) فيما يُقدم من تحليلات وتفسيرات، قد ذاد الطين بلة، وأكد أن الكارثة باقية، فالبطل لا يعرف أنه مريض ويحتاج إلى علاج، وهكذا تمضي الفنون بالإنسان التعس من متاهة إلى أخرى.
والآن، بعد أن استعرضنا صورة البطل في الآداب المعاصرة، فما هو التصور بالنسبة للبطل في الأدب الإسلامي؟؟
إننا لن نجد صعوبة تذكر في وضع التصور الملائم لذلك، فالبطل ـ إسلامياً ـ هو (القدرة ) أو النموذج أو المثال الحي، الذي تتجسد فيه القيم الإسلامية، هذه ناحية هامة، لكنها لا تغلق الباب أمام (نماذج ) الضعف البشري، أو البطولة الناقصة التي تحتاج إلى تجربة ومعاناة وهي في طريقها إلى النمو والاكتمال، وهذا دور هام لا بد وأن يختفي به الأدب الإسلامي، فما أكثر النماذج الشائهة أو الجانحة أو المنحرفة، وهي طبيعة كل مجتمع قديماً وحديثاً، وشرقاً وغرباً، بل ربما كانت هذه النماذج الناقصة أكثر جاذبية بالنسبة لحامل القلم، لنه يجد فيها مادة خصبة للمعالجة ومحاولة إخضاعها للعديد من العوامل والمؤثرات أو الأحداث حتى تحقق من خلال نموها وتطورها بأسلوب مقنع ليصل إلى المثال المطلوب، أو القدرة المنشودة، لأن مهمة الدعاة ليست قصراً على النماذج الصالحة الطبية وحمايتها من الانزلاق أو المروق فحسب، ولكن المهمة الأكبر تكمن في استنقاذ الجانحين، وإصلاح الفاسدين، وفتح باب الأمل اليائسين أو المترددين، والأخذ بأيدي التائهين إلى طريق الحق والخير والجمال.. البطل في العمل الأدبي الإسلامي هذا.. وذاك.. لأن الخروج من المأزق بطولة، وكذلك التخلص من سلبيات السلوك، وهواجس الضعف، الضعف، وإغراءات الحياة الزائفة، والانتقال من حال متردية إلى حال متسامية، والخروج من السلبية إلى الإيجابية، والتخلص من أدران الشك والخوف والتسيب، والقدرة على بدء حياة نقية جديدة.. كل هذا يعتبر ضرباً من البطولة، الجديرة بالإبراز والتمجيد لأنه يعني انتصار الخير على الشر في قلب الإنسان أولاً، وفي معترك الحياة ثانياً، ومن هنا كانت التوبة التي أنعم الله بها على المسلم، وجعلها باباً مفتوحاً حتى نهاية الحياة.
والبطل في الأدب الإسلامي حكراً على طبقة اجتماعية دون أخرى، فالإسلام مجتمع متجانس، أساس التفاصيل فيه (..إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى )، والتقوى ليست صلاة وصوماً وعبادة فحسب، ولكنها جهاد في سبيل الله، وكفاح من أجل لقمة العيش، ودأب على تحصيل العلم، وبراعة في الصناعة، وصدق في القول والعمل، وتكافل اجتماعي، وإبداع فكري، وزارعة وتجارة، وقيادة وجندية وأمانة وعدل ووفاء، وطهر، ونقاء ، وبر وتسامح، إنها ملتقى لكل القيم والمبادئ والآداب التي بها الإسلام الحنيف .
شخصية البطل إذن قد تكون (بلال بن رباح ) العبد الحبشي، وقد تكون (أبو بكر الصديق ) خليفة المسلمين، وقد تكون (سلمان الفارسي ) أو (حمزة بن عبد المطلب ) القرشي، وقد تكون (سمية) زوجة ياسر أو رفيدة أو غيرها من النساء، وقد يكون فتى يافعاً، أو شيخاً مسناً .
إن البطل ـ كما قلنا ـ تجسيد لفكرة يرى الكاتب إبرازها، لتؤدي دوراً تمتزج فيه المتعة لدى لفكري يرى المتلقي، فيتفاعل معها ويتأثر بها، ومن ثم تتولد لدى ذلك المتلقي قناعات بعينها، قد تدفعه إلى اتخاذ موقف، وهذا التأثير واسع الآفاق، رحب المدى، فقد ينمو ويتسع أكثر مما في شخصية البطل، وهذا راجع إلى عاملين أساسيين: أولهما قدرة الكاتب على الوفاء بمقتضيات الفن والفكر، بحيث لا يحد من رؤية المتلقي، ولكن يدفعه إلى مزيد من التفاعل والتفكير فيخرج بإضافات وتخيلات وابتكارات، تجعل الرؤية أكثر عمقاً وشمولاً، وكأن المتلقي في هذه الحالة يتحول ـ تلقائياً ـ إلى امتداد طبيعي لفكرة الكاتب وتصوراته المتنامية المتفاعلة، أما العامل الثاني فهو اندماج المتلقي مع العمل الأدبي، وتقبله له بحساسية ورضى صادق، ولا شك أن اكتمال هذه الدائرة يحقق الهدف الأسمى من الأدب، فالأدب الإسلامي بالضرورة قوة فاعلة، مغيرة إلى الأفضل، وإلا تكون وظيفته إذن؟؟
لكن كيف يبتكر الكاتب شخصية البطل ؟؟
إن الكاتب لا ينتخب الشخصية عشوائياً، كما أنه لا يسطر كلماته من فراغ، قد يلتقط الكاتب من الحياة شخصية جذبت انتباهه بقوتها أو نقائها أو صمودها أمام العواصف والأنواء، أو تمردها على الشر والباطل، أو جهاد في سبيل الحق والخير، أو استمساكها بقيم الحب والفضيلة، أو تضحياتها الملفتة للنظر، فيرى الكاتب أن هذه الشخصية الحقيقة تستطيع أن تؤدي دوراً أخاذاً في عمل أدبي، وأن تبلور فكرة أو سلوكاً أو قضية من القضايا، فيبدأ في تطويعها لعملة الأدبي..
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، لأن الكاتب لا ينقل الحياة أو الشخصية كما هي بأسلوب فوتوغرافي، إنه يضيف إلى تلك الشخصية لمسات وظلالاً وسمات جديدة، ويحشد لها الأحاديث المناسبة، ويتخيل الحوار المناسب، ويدخل بها ومعها في وقائع وممارسات متخيلة تكشف عن دخيلة الشخصية وتفسر حركتها وفكرها، المهم أن الكاتب قد يحذف وقد يضيف، حتى يستوي أمامه النموذج الذي يريد، وهكذا نرى أن شخصية البطل ليست صورة طبق الأصل من الواقع ولكنها كائن حي جديد تكاملت لديه المواصفات والأسباب التي تجعله قادراً على أداء دوره، وفي هذه النقطة بالذات تتفاوت القدرات الإبداعية من كاتب إلى آخر، ويتميز نتاج كاتب عن آخر، إنها الخصوصية، وهنا يحضرني ما قاله الأديب الكبير نجيب محفوظ في أحد أحاديثه الصحفية: (الشكل فيما أعتقد هو كيف يمكنك أن تبرز أسلوبك الشخصي في العمل الأدبي أو الفني، قد استفيد مثلاً من المؤرخين، لكن لا يصح أن يغيب أسلوبي .. إن التطور الطبيعي للأدب يستفيد من الأدب السابق، سواء أكان امتداداً له أم تطورياً، لكن ما الذي يضيفه الكاتب؛ الكاتب يضيف نفسه إلى الرواية.. فالجديد الفنان نفسه.. والفنان بالطبع هو عصره.. )
وهناك أدباء لا تكون شخصية البطل هي البداية، ولكنهم يبدأون بالفكرة، إن أدبياً مثل (برنارد شو ) يهتم بالفكرة أشد الاهتمام (الفكرة لديه هي البطل الحقيقي ) فإذا ما اكتملت الفكرة في ذهنه، بحث عن النموذج الإنساني الذي يتلبس بهذه الفكرة، ويتحرك في نطاقها وبتأثير منها، وهكذا تأتي ردود الأفعال مرتبطة بالفكر أكثر من ارتباطها بالبطل، إنه بلا شك يحاول أن يحافظ على (وضع ) الشخصية وإمكاناتها وتحركاتها، لكننا نلمح الفكر وراء كل حركة أو حوار، وقد لا يكتفي المؤلف بذلك، بل يلجأ إلى التعبير المباشر من خلال الحوار في المسرحية أو السرد في القصة أو الصياغة الشعرية في القصيدة أو في الملحمة، وعلى الرغم من اختلاف النقاد حول مشروعية ذلك التصرف في الأعمال الفنية، إلا أنه حقيقة واقعة، وبعضهم يتحمس لها، وخاصة أصحاب المذاهب والأفكار التي يروجون لها على حساب جزء من الصياغة الفنية .
ويرى بعض كتاب القصة والمسرحية في العمل الأدبي قد تتمرد!! كيف ؟؟ إن الكاتب يضع تصوراً عاماً عن الشخصية التي التقطها من الحياة، وأضاف إليها أو حذف منها لكن اندماجه في العمل ، ومسرحية في جنبات الرؤية التي يعايشها خيالاً، قد تجعله يخرج عن الخط المرسوم للشخصية فيضيف سمة أو عملاً أو قولاً لم يكن في الحسبان، ولم يخطر بباله قبل، لكن الأمر لا يبدو على هذه الصورة الحتمية في الواقع، لأن يقظه الكاتب، واستيعابه لأطراف القضية المطروحة قادراً على اتخاذ الموقف المناسب، أما الفئة الأخرى من الكتاب الذين يضيقون عادة بالالتزام فهم أكثر استسلاماً للتلقائية والعفوية في رسم الشخصية وتحريكها.
ويتساءل بعضهم عن مدى حرية الكاتب في تناول شخصية البطل التاريخي، هل يستطيع أن يضيف أو يحذف، وخاصة بالنسبة للشخصيات التي اكتسبت نوعاً من القداسة أو التبجيل على مدار الحقب
إن الكاتب إذا التزم حرفياً بما جاء في كتب التاريخ ، فلن يقدم عملاً فنياً، بل سيكون ما طرحه مجرد عرض تاريخي، وهو أدخل في باب العلوم، منه في باب الفنون، وهناك أمور تقتضيها القصة بمعناها الفني منها النوازع النفسية، والترجمة عنها في أعمال أو أقوال، وهناك المواقف الناقصة فنياً والتي تحتاج إلى استكمال، وهناك عوامل القوة والضعف التي قد تعتري الإنسان العادي، أو البشر بصفة عامة، وهناك نمو الحدث وما يتطلبه من صنعه قد تجر إلى الإطالة أو الإيجاز، وأمور أخرى كثيرة لا مجال لشرحها بالتفصيل، ويجد فيها الكاتب معاناة شخصية لا يستطيع أن يدركها على حقيقتها غيره، إنها مشكلة بالفعل، لكن بالتفكير الواقعي قد نجد لها بعض الحلول فإذا ما تناول الكاتب شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي مثلاً، فلا بد أن يكون قد درسها دراسة مستفيضة وألم بأبعادها، وعرف القيم والمبادئ التي شكلتها، والسلوكيات التي يتصف بها، ومواقفه المختلفة أمام الأحداث أمام الأحداث المتنوعة، وطريقة تعامله وعلاقاته مع الآخرين، ومنهجية في الحرب والسلم والسياسة، وغير ذلك مما يتصل بشخصيته اتصالاً وثيقاً، إن فهم الشخصية على هذا النحو يمد الكاتب بتصور سليم، ومن ثم يستطيع أن يضع الحوار، ويرسم الحركة، ويصف السلوك، ويتغلغل إلى النفس، وفق ذلك التصور الذي اقتنع به عن هذه الشخصية المعروفة، لكن يظل (الخطر ) ماثلاً بالنسبة لبعض الكتاب الذين تنقصهم الجدية في الدرس، والأمانة في الطرح، والنبل في الغاية أو الهدف، والاستمساك بالمبادئ .
ولقد عانيت من هذه المشكلة حينما كنت أكتب رواية (عمر يظهر في القدس ) ورواية
(قاتل حمزة ) وكذلك رواية (نور الله ) وغيرها، لكني كنت حريصاً أشد الحرص على ألا تأتي الشخصية الروائية بأفعال أو أقوال تتناقض مع طبيعة الشخصية التاريخية، ولم أجد في تقرير لجنة مسابقة مجمع اللغة العربية التي أعطت جائزة الروائية لقاتل حمزة (1972 ) ما يشير إلى اعتراض اللجنة على منهجي في كتابة هذه القصة التاريخية، وخاصة أن شيخ الأزهر آنذاك كان عضواً باللجنة .. وبالطبع فإن هذه (الرخصة المقترحة ) إن صح التعبير لا تنطبق فيما نكتبه على الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين.
ولا بد أن نشير إلى الشخصية الواقعية ـ سواء كانت منتجة من الواقع المعاصر أو الواقع التاريخي ـ تكون لها جاذبيتها، أما الشخصيات التي صنعت من الوهم أو الخيال المحض واتسمت بسمات وهمية تبدو عادة غير مقنعة وغير مقبول، حتى على مستوى الأطفال، الذين اصحبوا أكثر ميلاً للواقع في هذا العصر، نتيجة للتطورات ووسائل الإعلام المذهلة ولكن تظل قدرة الفنان على رسم الشخصية، ومدها بوسائل الإقناع، وهو ضرب من الصدق الفني يظل المعمول والمحك في النجاح أو الفشل.
لقد استطاعت آداب الغرب أن تضفي على الشخصيات العليلة المنطوية المتردية بطولة وبريقاً، فأفسدت فكر وأذواق الأجيال، لأنها أفسدت معنى البطولة، ألحقت به التشويه، فلم يعد يرى الناس في هذا التشويه إلا جمالاً ومثالاً احتذى، ودور الأدب الإسلامي ـ وفق منظوره الإلهي ـ أن يضع الأمور في حجمها الصحيح، وأن ينفي الزيف والخرق عن شخصيات البطولة، بحيث تصبح عامل بناء لا هدم، وهذا يعني بالطبع العودة بالأدب الإنساني إلى رسالته الصحيحة، البطل العليل المختل فكرياً ونفسياً وسلوكياً أصبح ينتزع في الغرب التصفيق ولإعجاب والتعاطف.. ويبدو أن عدوى ذلك التصور السقيم تزحف إلى أمم الشرق المسلمة اليوم مع فيروس (الإيدز ) ذلك الداء اللعين ...
أخطار تهدد الأدب الإسلامي
مما سبق يمكننا أن نتبين أهم الأخطار التي تواجه الأدب الإسلامي، وهي أخطار ليست بسيطة ولا يمكن تجاهلها، والتصدي لها لا يكون بالحماس المجرد، أو النوايا الطيبة فقط، ولكن بالفهم العميق لما تمثله تلك الأخطار من تيارات، وخاصة بعد أن تغلغلت في البنية الأدبية لشعوب العالم العربي خاصة، والإسلامي عامة، بل وأصبح لمن يحملون راياتها مكانة الأستاذية والقيادة، وقد حدث هذا الخلل لأسباب عدة، منها أننا ـ كإسلاميين ـ لم نعط الأمر حقه من الاهتمام ، ولم ندرك أبعاد الآثار الفعالة للأدب بصورة صحيحة، فأغفلنا سلاحاً من أهم الأسلحة في المعركة، ومنها عدم الحرص على بسط مفهوم الأدب الإسلامي وإشاعته، وعدم تقديم نماذج كافية مقنعة منه، وإغفال الجوانب النقدية وفق المنظور الحديث، وجهود النقاد في أنحاء العالم، كما لا نستطيع أن نغفل أيضاً الظروف السيئة التي كبلت حركة الأمة الإسلامية داخلياً وخارجياً وضياع الحرية في الممارسات الحياتية، لكن أخطر العوامل التي عطلت مسيرتنا كانت نابعة من تلك الفلسفات الحارة أو الجانحة التي غزت عالمنا، واستطاعت أن تخطف أبصاره وتوازنه ببريقها وصيغها الساحرة الفاتنة.
ومن البديهي أن تعرف عدوك، كي تحكم له أو عليه، ولكي تستطيع تجنب ما يسدده إليك من سهام قاتلة، وتنتخب الأسلوب الأمثل لردعه أو رده على عقبيه، وسوف نحاول في الصفحات التالية أن نشير إلى أهم التيارات التي يجب التنبه إليها والحرص منها.
اللا معقــــــول
لقد أكد (مالرو ) على أن العبثية تسيطر على اللحظات الجوهرية في حياة الأوربي،أي ذات سمة أوربية ترتبط بزمان ومكان وطبيعة خاصة، كما أشار (تاينن ) إلى أن رنة اليأس المتميز تشيع في نبرة العبثيين، ولقد استطاع بعضهم أن يلخص مأساة العبثية أو اللا معقول في جملة صغيرة حينما قال: (وجوب غياب الإله، لكي يوجد اللامعقول )، والمعنى القاموسي لكلمة (لا معقول ): غير منسجم مع العقل أو اللياقة = أو التضاد مع العقل = أو مضحك أو سخيف، وفي قاموس المسرح جاء عن اللامعقول مانصه:
(مصطلح يطلق على جماعة من الدراميين في حقبة 1950 لم يعدوا أنفسهم مدرسة، ولكن يبدو أنهم كانوا يشتركون في مواقف بعينها نحو (ورطة ) الإنسان في الكون .. وتشخيص الدراسة التي قدمها الوجودي (البير كامي ) مصير الإنسانية على أنه انعدام هدف، في وجود غير منسجم مع ما حوله .. والوعي بهذا العوز للهدف في جميع ما نفعل، يؤدي إلى حالة الكرب الميتا فيزيقي (الماوراء طبيعي )، وذلك هو الموضوع الرئيس لدى كتاب مسرح اللامعقول مثل (بيكيت ) و (أو نيسكو ) و(بنتر ) وغيرهم، وبحلول عام 1962 استنفدت الحركة قوتها، برغم أن آثارها في تحرير المسرح التقليدي ما تزال ماثلة(1) .
لقد جعلوا من المسرح مركز تجمع لصراع الخيال البشري السقيم الدائم ضد القناعة الدينية، وعدم الاكتراث الأخلاقي والانعزالية الاجتماعية، وهذا نابع من إيمانهم بأن الشقاء دائم، وأن العالم كابوس وجودي، يغيب عنه العقل والسماح والأمل، ولهذا نرى مسرحهم ينطق بالآتي:
ـ خيبة الأمل.
ـ ضياع اليقين.
ـ انعدام المعنى في الحياة.
ـ ضياع المثل العليا.
ـ غياب أي تفريق واضح بين الوهم والحقيقة.
ـ التهريج والهراء اللفظي.
ـ تغليب عناصر الحكاية المجازية.
ـ الاهتمام بموضوعات الموت والعزلة والتغريب والرؤية الفردية للعالم، والقلق والخيبة، والشعور تجاه غياب الحلول، بعد أن رفضوا الأنظمة القائمة والأديان والفلسفات التقليدية (1).
ولقد حاول المحللون دراسة هذه الظاهرة في الأدب والفكر، فعزوها إلى طبيعة الحياة الآلية الجافة في الغرب، واضطرار الإنسان لأن يركع أمام الحاجة، ويستسلم لسلطان الآلة وحركتها المنضبطة بلا عواطف أو شعور، بل استطاعت الآلة أن تتبوأ مكانة أسمى وأهم من مكانة الإنسان في عالم الصناعة الرهيب، مما دفع بالإنسان يتساءل عن قيمة وجوده، في هذا العالم الآلي المادي الذي لا يحفل بالأرقام والإنتاج والوفرة وتحقيق الربح، والنمو السريع، والانتصار في معركة المنافسة الضاربة.. لم يعد الإنسان مخلوقاً مكرماً مشرفاً، بل أصبح جسداً وعملاً وطعاماً ومخلفات، وأصبحت الساعة (الزمن ) تحدد حركاته وسكناته، حتى أصبح يعتبر الزمن قوة تدمير هائلة بخالقه، وفقد التواصل مع الآخرين، أن يرتمي في أحضان العزلة والتغريب، ويلوك الأسى والشقاء، ويفسر أحد الدارسين آراء ألبير كامي بقوله: (إن كان في الحياة خطيئة، فهي ليست في اليأس من الحياة، قدر ما هي الأمل في حياة أخرى.. ) أي أن الخطيئة في رأيه هي الإيمان بالعالم الآخر، وهي محاولة منه لقتل الأمل نهائياً في نفوس التعساء والمعذبين والمقهورين في عالم المدنية الأوروبية الحديثة.
ومع ذلك فإن الأدب المسرحي في اللامعقول لا يجادل بل يعرض فقط تلك التصورات المريضة، والكوابيس المخيفة، والهرطقات المحزنة، ولم لا وقد أصبح الإنسان بلا هدف، أصبح (شيئاً ) بعد أن كان (كائناً ) ـ حسب قولهم ـ وأصبحت اللغة أيضاً شيئاً ميتاً، يحد من التواصل، ويؤكد العزلة.
لقد حدث العالم والفلسفة في أوروبا فراغاً هائلاً، وانعكس ذلك على فكر الإنسان وسلوكه وعلى الآداب التي يفزها، تلك الآداب التي لا تحمل رسالة واضحة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، ولا تقدم شخصيات تحب أو تكره فضلاً عما يلتصق بأدب اللامعقول من فقر في الأفكار، وملل في التكرار، ولهذا نرى أن المنصفين من مفكري الغرب يقولون : إنَّ العبثية لا يمكن الدفاع عنها ، في عالم تثبت الأرقام أن غالبية سكانه يعتقدون بدياتة تجعل الحياة ذات نظام وهدف ومع الكفر بالله عند العبثيين غالباً إلاَّ أن عبثية (بيكيت ) و
(كافكا ) تدرك أن الحياة البشرية بدون الإيمان با لله تواجهه الخيبة، ومع ذلك فإنهما ـ عدا هذه النقطة ـ يدمرون اٍلكثير م ن القيم الخلاقة المتألقة التي جاء بها رسل الله وأنبياؤه، ولهذا يقول (مار وفتز ): (اللامعقول مرادف للتافه والمضطرب ) ويقول آخر: (إنها مرادف لكلمة الفوضى ).
لكن هل نقول(اللامعقول ) عندما نتحدث عن الأدب.
ونقول (العبثية ) عندما نتحدث عن الفلسفة..
أي أنهما وجهان لعملة واحدة..
ثم إن هذه وتلك تتداخلان مع الوجودية، برغم وجود بعض الاختلافات، ولم لا ونحن نرى كتاباً مثل (البير كامي ) وجوديَّا وعبثياً في الوقت نفسه، وإن غلبت عليه الصفة الأولى، والأمر غاية في البساطة، لأن الحدود القاطعة بين مذهب وآخر لا وجود لها، بل إن أصحاب المذهب الواحد ـ كما قلنا ـ قد يختلفون أشد الاختلاف في الرؤية والتفسير والتعبير.
بقي أن نمعن النظر في تلك العبارة الهامة التي قالها أحد الأوروبيين:
(إنَّ المرض يستشري نحو الشرق ).
وهذا ما ألمحنا إليه في بداية هذا الفصل، إن التحذير من الغزو الثقافي يجعل بعض المتحررين وأدعياء التطور والحداثة، ويرفعون عقيرتهم منددين معترضين وينكرون كلية مقولة الغزو الثقافي والفكري، ويفلسفون ذلك بأن عالم اليوم أصبح وحدة واحدة، بعد أن ذابت الحدود إزاء التطور الإعلامي الهائل، وأننا في حاجة إلى كل جديد، وأن معاداة التيارات الفكرية الغربية جمود ورجعية، أليس غريباً أن نسمع هذا القول من أخوة يعيشون بيننا في الوقت الذي يحذرنا فيه الأوروبيون المنصفون من ذلك (المرض الذي يستشري نحو الشرق )؟ أليس مرضاً أن يقول سارتر: (الإنسان عندما يقبل فكرة الحرية، لا تعود الآلهة قادرة على التدخل ) في شأنه ؟؟ أليس مرضاً أيضاً أن يقول: (اللغة والعالم منفصلاً دونما أمل في رجعه، ولا يمكن تجنب هذا الانفصال، إلاّ بوضع الكاتب في وضع متطرف )؟؟.
ثم ما هذا التناقض بين القول وآخره ؟؟
إن العقيدة الإسلامية، وما يصاحبها من قيم وتشريعات وآداب، ومنهجها الإلهي القويم قد استجابت للفطرة السلمية، وأعطت تصوراً واضحاً للإنسان وماهيته وطبيعة تكوينه وسلوكه، ثم مختلف نوازعه وأهوائه، ورسمت الخطوط العامة لعلاقاته المتعددة الجوانب والنواحي، فالحرية مكفولة تماماً لهذا الإنسان الذي كرَّمه الله، وبين له سبحانه وتعالى طريق الخير وطريق الشر (وهديناه النجدين ) (البلد:10)، وعلَّمه أن الحياة دائب، وصراع مع الشيطان مع الشر، وزوَّده بالأسلحة التي يمكنه أن ينتصر بها في هذه المعركة الحاسمة، وأكد لعبده أن النصر له ما استمسك بكتابه وسنة نبيه:
• ( … حقاً علينا نصر المؤمنين ) (الروم: 47)
• (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان.. ) ( الإسراء :65) .
• ( إن تنصرو الله ينصركم ويثبت أقدامكم.. ) (محمد:7)
• (.. استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.. ) (الأنفال: 24)
• (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين .. ) (يوسف:108)
• (وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدون، ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يُطعمون. إن الله هُو الرزاق ذو القوة المتين ) (الذاريات: 56 ـ 57 ـ 58)
• (قُل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام: 162).
• (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) (البقرة: 186)
• (إنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، ابشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم، ولكم فيها ما تدعون. نُزلاً من غفور رحيم. ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يُلقاها إلا الذين صبروا ، و يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم . .) (فصلت: 30 ـ 35)
• (ولقد كرمنا بني آدم .. ) ( الإسراء: 70).
وتلك بعض الآيات ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ لم أهدف إلى شرحها، فليس هذا مجاله، ولكني أردت أن أؤكِّد أن منطلقاتنا العقائدية أو الفكرية، قد حمتنا من براثن السقوط في متاهات الخوف والعزلة، واليأس والكفر، ولم تدفع بنا إلى رذيلة الوثنيات القديمة والحديثة في تحدي الله والقدر (حاشا لله )، ولم تجعل من الموت كابوساً مزعجاً، ولا حجة للهروب من الحياة والجهاد الأعظم فيها، ولم تنظر إلى الدنيا على أنها نهاية المطاف، وهكذا أشاع الإسلام قيم الحب والخير والفضيلة، وأجل الطيبات والاستمتاع بها بالأسلوب الصحيح، وحرَّم الخبائث والشرور والآثام لحماية الفرد والمجتمع، ومجَّد العقل والوعي والنظر إلى الأمور بروّية وحكمة واعتدال، كما أعتبر مشاكل الحياة والناس وما نصطدم به من سلبيات أمر لا بد منه، لكنه أوضح لنا كيف نواجه تلك الأمور المعرفة عن وعي وبصيرة، حتى تتقدم الحياة في طريق النمو والازدهار، وحتى ترفرف رايات الاطمئنان والرضى فوق جميع من يعيشون على هذه الأرض الشاسعة.
وانفصال اللغة عن منحى خطير، بل هو مقولة ساذجة، ولو أن هذا الانفصال دون رجعة كما يزعم (سارتر )، لما أفصحت كلماته عن فكره، ولما تلقى الجمهور مسرحياته وقصصه وانفعل بها أو وأنكرها، ولما أثارت ذلك الجو العاصف من اللغط والجدل، ولما استطاعت اللغة أن تترجم قوانين العصر العلمية، وتعبر عن منجزاته التكنولوجية، نستطيع القول: إن اللغة قد تقصرـ عند هذا أو ذاك ـ في أداء وظيفتها، وقد تعجز عن التعبير الوافي الشافي عمّا يدور في فكر الإنسان ومخيلته ونفسه، وقد تتخلف اللغة عن مواكبة المسيرة الإنسانية في وقت من الأوقات، لكن الجهود الإنسانية النبيلة الصادقة تدأب دائماً، في استكمال النقص، وسد الثغرات، فهو أمر مرتبط بطبيعة الحياة بقدر ما يجد من وقائع، وبطبيعة الناس بقدر ما يلزمهم من تطوير وسرعة في الفهم والاستيعاب، فاللغة لم تنفصل عن العالم دونما رجعة كما يقول سارتر، لم تصبح شيئاً ميتاً كما يزعمون.
إنَّ المشكلة عند هؤلاء المفكرين تكمن في ذلك الخلل الداخلي الذي ابتلوا به، وفي الخلط الأهوج بين الوسائل والغابات، وفي سوء النّية والعداء العجيب الذي ولدوا وعاشوا في ظله، تحت وطأة الحياة الآلية الحديث، وترجع أولاً وأخيراً إلى الخواء الروحي الذي دفعهم للتهكم من القيم، وإنكار العقيدة الدينية.
في وقت الاحتضار تلفت سارتر حوله في قلق وحيرة:
قالوا له:
ـ (أتريد شيئاً ).
وفغروا أفواههم دهشة عندما سمعوه يقول:
ـ (أريد قسِّيسا ً).
انزعجت رفيقته الشهير ( سيمون دي بوفوار ) وقالت:
ـ (معنى ذلك أنك تدمر فلسفتك ).
لم يلتفت إلى قولها، ولكنه استطرد:
ـ (لا أريده من باريس.. بل من القرية.. أتفهمون ).
وأصَّر على طلبه في الالتقاء برجل الدين برغم احتجاجهم واعتراضهم.. لقد كانت قضية العبث باللغة ذات أبعاد خطيرة في وطننا العربي، فقد هاجم الكثيرون من فاسدى الفكر والدين قواعد العربية وآدابها وتراثها، وحاولوا التهوين من شأن أسسها، بل وهاجموا قواعد الشعر من قافية ووزن ووضوح، وتلوثت فنون القصة والمسرح والشعر بهرطقات العبثية واللامعقول والوجودية، ووجدت هذه الدعوات الشاذة آذاناً صاغية لدى الذين يعيشون على أرض الإسلام بلا قيم أو جذور، إنَّ الدكتور عبد القادر القط أستاذ الأدب الحديث السابق، ورئيس تحرير مجلة (إبداع ) يعلن في صراحة أنه لا يفهم الكثير مما بعض الأدباء أو الشعراء المحدثين (وهو الأستاذ الشاعر الناقد )، وينشر بعضا منها في مجلته تحت عنوان (تجارب ) لعلَّ أحداً غيره يستطيع أن يفهم أو يستوعب ذلك اللون الغريب من الدب.
(إنَّ اللغة كما يقول أحد نقاد الغرب الكبار ـ هي حقاً ذلك الرباط الفريد الذي يصل الذاتي بالموضوعي.. إن اللغة تصوير كامل للعلاقة الجدلية بين أنفسنا والعالم ) (1).
ونحن كمسلمين لنا باللغة العربية ـ لغة القرآن ـ رباط وثيق، لا تنفصم عراه أبد الدهر، وقد كتب الله لهذه اللغة الخلود لخلود القرآن، ذلك المنبع الإلهي لعقيدتنا وتشريعاتنا وأحكامنا وقيمنا السامية، واللغة العربية فيها من إعجاز وحيوية وثراء لم تتقاعس في عصر من العصور، أو تتخلف عن مواكبة التطور وأداء دورها الخالد في أي وقت من الأوقات.
إن الأدب الإسلامي لا يؤرث ضياع اليقين كما تفعل العبثية، بل يجعل اليقين مناط العقيدة والحياة، والأدب الإسلامي يعلي من شأن الحياة ويمجدها، ويجعلها دار عمل وصلاح وتقوى وجهاد، وهي قنطرة إلى آخر أبقى وأخلد وأروع، وليست الحياة ـ في منظور الأدب الإسلامي ـ وهماً وحلماً مزعجاً وخيبة أمل وغريباً وعزلة، ولكنها مليئة بالحقائق الحية النابضة، مشرفة بالأمل والرجاء، دافئة بالأخوة والصلات الاجتماعية السامية، ومهمة المسلم أن ينير جنباتها المظلمة، وأن يبعث فيها رسالة العدل والخير والحرية والحب، وأن يبذر فيها العطاء والنماء، حتى تتألق بالنعمة والجمال والسعادة.. وعلى المؤمن أن يطرب للقاء الله في نهاية الرحلة، واثقاً أنه ذاهب إلى أعظم جناب..
الأدب الإسلامي ليس أدب يأس وانتحار.
لكنه أدب أمل وحياة.
فرص علينا أن نواجه ذلك (المرض الذي يستشري نحو الشرق ).
الأدب الإســــلامي والألتــزام
الالتزام ليس بدعاً في كثير من الآداب العالمية، قديمها وحديثها، حتى أولئك الذين يؤمنون ( بنظرية الفن للفن ) يعملون في نطاق التزام من نوع معين يرتبط بوجهة نظرهم في الفن، وكل مذهب من مذاهب الفن أو الأدب يتحرك في إطار معين، ويلتزم شكلاً وموضوعاً بقيم خاصة، يحرص عليها أشد الحرص ويدافع عنها في استماتة، فالذين يزعمون أنهم يرفضون الالتزام لأنه قيد على حرية الأديب، ومنافٍ للقيم الفنية والجمالية، يلتزمون ـ سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، واعترفوا به أم لم يعترفوا ـ بقواعد ومبادىء. الالتزام إذن منهج وأسلوب عمل وفق تصور معين، ويمكن القول: بأنه تقيد بمضمون أو بشكل، وهو أمر قديم قديم الفنون والآداب، لكنه لم يف قيداً على النمو والتطور سواء في مجال الإبداع والفكر، وهكذا يجب أن نفهمه، إن الكاتب ـ أي كاتب ـ في أية لغة من اللغات يلتزم بقواعد النحو والصرف مثلاً، ويعرف أن للنثر طريقة، وللشعر أسلوبه، والخلط بين الأثنين قد ينجب مولوداً ثالثاً يجمع بين صفات الشعر والنثر، وقد تغلب على ذلك المولود صفة أحدهما أكثر من الآخر، دون أن يلغي ـ أي الوليد ـ واحداً من الاثنين، وللشعرـ في القواعد المعترف بهاـ إياع وموسيقى برغم الدعوات المشبوهة التي تريد أن تسقط الفارق بين ما هو شعر أو نثر في هذ ه الصفة الهامة، وللـألفاظ دلالالتها التي لا تموت مع الزمن، فدلالة الشجرة أو النهر أو السماء تظل كامنة في اللفظ يعبر عن ذلك، على الرغم من ألوان المجاز والكناية، فالبحر قد يرمز إلى السعة والكرم، وقد يرمز إلى العنف والثورة، وقد يكون محط الغموض والخوف، أو قد تشرق على شاطئه ثغور الأمل، أو تتهادى على صفحة عرائس السفن، وهكذا يبقى اللفظ بدلالالة الأولى، مع ما قد يرمز إليه من عديد المعاني والصور وقديمها أو جديدها، إنه نوع نت الالتزام نحو اللغة بقواعدها ودلالاتها الأصلية، وينفتح باب الالتزام على مصراعيه أمام الدلالات المجازية، التي تشكل جانباً هاماً من جوانب الإبداع الفني.
وهناك ما يمكن أن نسميه الالتزام الداخلي أو الذاتي، وهو الوجه الآخر للصدق، فالتعبير عن النفس وما يعتمل فيها، والفكر وما يتفاعل فيه، والخيال ما يضطرم به، والروح وما ينبث عنها، كلها أمور خاصة قد تميز أدبياً عن آخر، وتجعل من الإبداعات ـ شكلاً ومضموناً ـ تجارب لها صفة الخصوصية، على الرغم من أنها تبدو في إطار النسق العام لهذا اللون الأدبي أو ذلك. فقد يتناول أدبيات حادثة بعينها ـ تاريخية أو معاصرة ـ لكن يكون لكل منهما رؤيته الذاتية، بعينها، دون أن يتناول ذلك بعض الأساسيات في فن القصة أو المسرحية أو القصيدة، فلسوف يظل هناك الحبكة أو الصورة الفنية المتميزة، وسيظل جو المتعة والتأثير، برغم تفاوت القدرات والأساليب، فهل يستطيع منصف أن ينكر ذلك الالتزام الداخلي أو الذاتي ؟
لكن يدور الجدل عادة حول ما يمكن تسميته (بالالتزام الخارجي ) إن صح التعبير، ففي كل مجتمع قيود أو نظم تم وضعها لتستقيم الحياة، وتتسق العلاقات، وهي أمور قانونية أو اقتصادية أو أخلاقية، وكثيراً ما يثور حولها الجدل، فقد يرى بعضهم فيها، غمطا لحقوق الإنسان، أو كبتاً للحريات، أو جموداً في مجال التطور، وهي على التقيض مما يتصوره واضعوها، والفنان يقف ازاء تلك النظم موقف التأييد، أو موقف الرفض، وقد نرى فريقاً ثالثاً يتحايل على التملص من هذه النظم بأسلوب أو بآخر، لكن يظل الالتزام بها هو الموقف السائد أو الغالب، ويكون ذلك الالتزام أشد كلما تصلبت مواقف السلطة، ولجأت إلى العقوبات الصارمة، واستغلت سلاح المصادرة أو المحاكمة أو التنكيل، وهذا أوضح في النظم الدكتاتورية بالذات، حيث يتحول الأديب ـ برغم أنفه ـ إلى بوق للسلطة التنفيذية، وترجمان لفلسفتها وقناعاتها، وهنا تتضاءل حرية الأديب، ويصبح الالتزام ضرباً من الالزام، ولعل هذا هو السبب الذي حدا ببعض النقاد إلى القول بأن الالتزام ينبع من الداخل، والإلزام يأتي من الخارج، ولكن الأمر يبدو صحيحاً في عمومه، وإن كنا لا نستطيع قبوله على إطلاقه، ففي المجتمعات الدكتاتورية قد نرى أدباء مؤمنين بهذا الأسلوب في الحياة عن عقيدة ويقين، ويعبرون عن قناعتهم تلك بفن يبدو جذاباً مؤثراً، كما نرى في إطار المذاهب المتمردة كالوجودية واللامعقول أدباء ملتزمين بتصوراتهم الفلسفية عن الإنسان والكون والحياة، ويعبرون بذلك عن رضى وقناعة، ويقدمون نماذج أدبية ذات جمال أو جاذبية من نوع خاص، ويحفل شكلها ببريق أخاذ يخدع جماهير عريضة من القراء، وخاصة في أوروبا وأمريكا، إن هؤلاء ملتزمون، ولا يشعرون بأي قيد من قيود الإلزام.. أليس هذا حادثاً ؟ قد نرفض ذلك ونعتبره (التزاماً ) منحرفاً أو مريضاً، ينبو عن المقاييس الإنسانية الرفيعة، ويتعارض مع القيم الدينية السامي ة، لكن الالتزام عند مثل هؤلاء الناس قد يلقى منهم الرفض، وينفرون منه أشد النفور، ولا يقرون بالحري ة وحدها ولا يلتزمون بسواها. لكن ماذا يعني الالتزام في الأدب الإسلامي؟ الألتزام بمعناه الإسلامي الواسع هو (الطاعة ). والطاعة الحقيقية قناعة إيمانية، وفرح في قلب المؤمن، وسلوك مطابق لحقيقة العقيدة وكل ما يتعلق بها، الالتزام إذن عمل، يبدأ بالنية الصادقة، والعزم الذي لا يتزعزع، وينطلق من ممارسات واقعية في مختلف جنبات الحياة، إنه وئام بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين، وهو يضم تحت جناحيه قيم الحياة الإسلامية وقوانينها أو أحكامها،
وتصورات المؤمن لما يحيط به من كون وسنن، وحيوان وجماد ونبات، ويمتد ذلك التصور ليربط الحياة الدنيا بالآخرة، ومرجع ذلك كله هو كتاب الله وس نة نبيه صلى الله عليه وسلم، والنفس ليست قوة تائهة ضالة، وإن كانت مسرح جهاد دائم، وصراع مستمر، فالصعود دائماً ليس حركة سلبية، والتسامى لا يتحقق دون جهد. وعمل المؤمن اليومي هو جهاد نحو الأفضل، ولا يموت الصراع مادام قوانينه وطرقه، له حلاوته ومراته، وفيها روعة النصر وألم الهزيمة، والأمل باق دائماً، وبالتالي فالمؤمن الحقيقي صاحب موقف.. وفي هذا الموقف لا يكون الإنسان وحيداً حائراً منبت الصلات، كما يحدث لدى العبثين أو الوجوديي ن وغيرهم، لكنه يستند في موقفه إلى رحمة الله وعونه وهدايته (.. ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( الأنعام: 38) فلا عدوانية إذن ولا غرابة ولا اغتراب، أو يأس أو أو كتئاب.. أو بمعنى آخر الطاعة هي المخرج من صحراء الخوف والآلام والتمزق والضلال (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً.. كتاب الله وسنتي .. ).
الالتزام هنا هو الطاعة، والطاعة تجد النور الذي يهدي، والغاية التي تتألق، والوسيلة التي توصل، والبيان التي تقنع، والتجربة التي تؤكد، واليقين الذي ينداح سعادة كبرى بين الجوانح.. فهل هذا الالتزام داخلي أم خارجي؟
إنه هذا وذاك، بل الأصح أن نقول: إن التصور الإسلامي، يجعل من الاثنين شيئاً واحداً، إنه الكل في واحد، أو وحدة الصفاء والتآلف والتجارب، فما في نفس المؤمن أو قلبه، ينسكب حباً وعدلاً وهداية، ويضيء جنبات الحياة، وما في الوجود من صور وحياة وكائنات، يتحول عبر التأمل الحواس تتداخل مع بصيرة المؤمن فتعطي للوجود كمال وروعته، وتؤكد معنى الإيمان بالله.
والالتزام ـ كما هو واضح ـ التزام مضمون، وهو يقتضي بداهة الحرص على اللغة العربيةـ لغة القرآن ـ فالحرص علىقواعده ودلالاتها الأصلية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما في كتاب الله من قيم وأحكام ومبادىء، يستوي في هذا الحرص الناطقون بالعربية والناطقون بغيرها في البلدان الإسلامية.
وارتباطنا بأشكال الفنون الأدبية يكون حفاظها على التمييز بين لون وآخر، كما أننا لا ننكر الصلة الوثيقة بين المضمون وما يتطلبه من شكل مناسب، ولهذا نعتقد أن باب التجديد في الأشكال باق ما بقيت الحياة، ولا قيد على هذا التجديد إلا ما أسلفناه من حفاظ على أصالة اللغة العربية وقواعدها، ولا شك أن ثراء اللغة العربية، وإمكاناتها الواسعة، وضوابط قواعدها المذهلة، في الصرف والاشتقاق وغيرهما، تجعلها قادرة تماماً على تقبل الأشكال الجديدة وتطورها،فالأشكال الفنية للعمل الأدبي ميراث عام مشترك جدواها، وتحققت فيها عناصر الجمال، وكانت قوية الأثر في النفس.
والالتزام ليس نقيض الحرية بمعناها الأصيل، إن مفهوم الحرية يختلف من فلسفة إلى أخرى، فالحرية في الدول الشيوعية ترتبط بلقمة العيش، ولا مجال لرأي أو فكر يضاد الفلسفة الماركسية أو يخرج على نظام الدولة، والحرية في أوروبا الغربية وأمريكا وغيرها لها مفهومها في حرية رأس المال، وفي التعبير الفردي مهما أضر بالقيم، أو جانب الطبيعة الإنسانية السوية، ويبقى الإنسان مع ذلك مقهوراً تحت وطأة الحياة الآلية، والعزلة القاتلة، والتمزق الاجتماعي، والتسيب الخلفي، ولا بأس أن يتمرد أو ينتحر أو يغرق نفسه في خضم المخدرات والمسكرات والجنس.. فهذا حقه.. أعني حريته..
وفي الإسلام هناك ضوابط لم يخترعها فرد، وموازين لم ينصفها حاكم بمحض فكرة وإرادته، إن الضوابط والموازين من صنع الخالق جل وعلا، وهي أحكام ليست مجال تحيز أو فتئات أو نزوات، روعيت فيها طبيعة الإنسان وإمكاناته وقدراته النفسية والعقلية والبدنية، أحكام لم تنبع من موقف آني سرعان ما يزول، أو ارتبطت بإنسان خاضع لسنة الموت والحياة، أو تصاعدت من رغبة دون أخرى، أو ارتبطت بقهر الإنسان وتطويعه وإهدار كرامته وإنسانيته، هذه الضواتبط والموازين أو الأحكام هي من صنع الخالق الرحيم العادل ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) غافر: 19، وهي في جملتها وحي (إن هو إلاّ يوحى ) (النجم:4)، والمسلم خاضع لحساب الدنيا ـ وفق الحدود والعقوبات الشرعيةـ ولحساب الآخرة عند من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وحرية المسلم في هذا الإطار، حق القوي والضعيف، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والمالك والأجير، ولك مطلق الحرية في مالك بشرط أن تكتسبه من حلال، وتنقية في حلال، وتعطي كل ذي حق حقه (.. وآتوهم من مالِ الله الذي آتكم ) ( النور:33)
والمعاشرة الجنسية حق في إطار المشروع، والسلطة حق في نطاق العدل الإلهي، والاستمتاع والرفاهية حق دون رذيلة أو وزر أو فساد، وهكذا نستطيع أن نسرد الاحتياجات والطموحات الإنسانية، فنجدها حلالاً طالماً لم تهدر حقوق الله أو العباد.
حرية المسلم مرتبطة بعقيدية، وبالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه.. والالتزام في هذا التصور لا يتضاد مع الحرية الأصلية، فلا هي مفسدة له، ولا هو معطل لها ـ ألم نقل في بداية هذا الحديث: إن الألتزام هو الطاعة، والطاعة موقف، وبالتالي فإن الحرية تصبح من أهم الحقوق للإنسان المؤمن، ورحم الله عمر رضي الله عنه إذ يقول: (كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا ً)، فالحرية دين وفطرة، ويتبلور الموقف في وقفة الصديق رضي الله عنه، حينما يعلن أمام أمته أنه إذا خرج عن إطار الحق الذي رسمه الله سبحانه فإنه (لا طاعة لي عليكم )، إن عدوان الحاكم، وإهداره لمنهج الله، إهدار للحرية وبالتالي فلا تجب الطاعة له..
الالتزام في فكرة المؤمن وقلبه ليس نقيضاً للحرية، فكيف يكون الالتزام الإسلامي نقيضاً للحرية وهي جزء منه؟ والالتزام الإسلامي ليس جموداً وتحنجراً.
وذلك لأنه التزام بالثوابت والأصول التي لا تتغير أبد الدهر، فالتوحيد عقيدة مستقرة لا تغيير فيها، والعبودية وحق، وفروض العبادة لمن وهبك الحياة، وأنعم عليك بمالا يحصى من النعم لا جدال فيها، والشورى أصل من أصول الحكم، والعدل عمادة، والصدق أمانة ـ كما قال أبوبكر رضي الله عنه ـ والكذب خيانة، وهكذا تبقى القيم الخالدة ما بقى الدهر، ويبقى الالتزام بها حفاظاً على الحياة، وحماية لها من الزيغ والفساد والانحرافات والظلم والفتن.
الحرية تكون حقيقة عندما يتحرر الإنسان من قيود الخوف وشهوة المال والجسد، وعندما ينطلق من سجن المادة وبطش السلطة، وأطماع الحياة، وعندما ينتصر على الأنانية المريضة، ويفك عن روحه وفكره وجسده حبائل الشيطان.. تلك هي الحرية.
يقول (بيرك ): (إن الحرية يجب أن تُفيد لكيما تُمتلك ) (1). ويقول آخر: (إن هناك رغبة متنامية في أدب القرن العشرين لاستعادة الدور والمركز الديني في ذلك الزمن، إذ غدت المخاوف والحرية التي تنطوي عليها نظريات الزمن في تطورها مما لا يصمد أمام النفس )(2).
وإذا كان الوجوديون يرفضون ذلك عندما يعلنون أن الحرية لا تبدأ إلاّ بعد إنكار وجود الله، فإنهم لا يشكلون إلا فريقاً زائغاً، بينماالكثيرون غيرهم لا يؤيدون ذلك الموقف، والحرية في الإسلام تكون بدايتها الحقيقة هي الإيمان بالله، على النقيض تماماً مما يتوهمه الوجوديون والماديون (خاصة الماركسيون ) وغيرهم.
الفهم الإسلامي للحرية فهم واقعي منطقي، وإذا لم يكن هذا الفهم مطبقاً في عالمنا، إلاّ أنه القاعدة التي تنطلق منها نظم الحكم الديموقراطية في العالم، على الرغم من تفاوتها في درجة الفهم، وتحويره من جيل إلى جيل، ويبقى التصور الإسلامي للحرية قمة عالية مطهرة، تتألق عليها قيم الحياة والإنسان، لا يعروها وهن، أو تتداولها أهواء ونزوات، أو تنال منها مصالح طبقية أو فئوية مهما كان العذر، ومهما تعددت التفسيرات.
والالتزام ـ في نطاق الحرية الإسلامية ـ لا يضع قيداً على فكر، ولا يعطل مسيرة أي جهد علمي، ولا يصادر إباعاً، إنه تحرير للطاقات الإنسانية كي تؤدي دورها، وتحقق ذاتها، ولا يحد من طبيعة التفاعل اإنساني الخلاق، وإذا كان التفاعل الكيميائي ـ بلغة العلم ـ له اشتراطاته وضوابطه حتى يتم وينجلي عن مركب جديد، فإن الحرية ـ إن صح التعبير ـ تحوطها اشترطات وضوابط تجعلها تفعل فعلها على النحو الأمثل، فيتشكل الإنسان على هيئة كيان معبر عن قيم الحضارة الإسلامية، وبذلك يؤدي دوره في الحياة، ويواصل الرسالة الخالدة بالصورة الصحيحة، دون تحريف أو تبديل، ومن ثم يقوم مجتمع متآخ متناغم، يتطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) أو كما قال. والأدب الإسلامي وسيلة لحمل هذه القيم، والتبشير بها بين البشر، يترنم بها في قصيدة جميلة، أو يرويها في قصة شيقة، أو يمزجها في إطار مسرحية تشد الألباب والقلوب، وتؤثر في النفوس، والالتزام بذلك جزء من طبيعة هذا الدين، ومسؤولية من مسؤولياته الكبير ة الكثيرة، وطريقة من طرائقه في التوصل بين الإسلام وبين بني البشر قاطبة، وذلك حتى تزدهر براعم الحب والخير والفضيلة في أنحاء الأرض، ويتحقق المجتمع الأمثل الذي تحلم به الآمال، أو (المدنية الفاضلة ) الحقيقية، التي كدح وراءها خيال الفلاسفة طوال القرون. والالتزام الأمثل انبثاق تلقائ من قلب المؤمن وفكرة ونفسه، وهو ليس تصوراً هلاميّـا ، أو شعوراً عاماً، لكنه حقيقة واقعة، تقوم الأحكام والآداب الإسلامية بتوصيفها، وتحديد ملامحها.
ولقد عاش شعراء الإسلام الأوائل، رأسهم حسان بن ثابت، في إطار هذا الالتزام، وهم ينافقون عن الدعوة، ويدفعون هجمات الشرك والوثنية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسفهون أحلام الجاهلية والضلال، ويرسمون المنهج السلي م لحركة الإنسان المؤمن في الحياة. وعاش حكام المسلمين الأوائل أيضاً في إطار هذا النظام أو هذا الالتزام، كما عاش الجندي في معارك الجهاد، والقاضي، على منصة القضاء، وصحاب رأس المال وهو ينمي تجارته، أو يطور صناعته ، كذلك عاشة الفقيه واللغوي والطبيب والمؤرخ والجغرافي والرياضي وغيرهم.
إنه الالتزام الشامل، الذي يعد الالتزام بمعناه الأدبي أو الفني شريحة منه، لا يمكن فصلها أو فصمها، ذلك الالتزام ـ كما أوضحنا ـ فن وفكر وسلوك وعلم، ومن هذا المنطلق يصبح للأدب رسالة شامخة، وعطاء متجدد، يحقق المتعة والفائدة معاً، ويسكب رحيق السعادة والأمل في الوجدان، وينفي عن النفس ذلك (الشقاء الدائم ) الذي عبر عنه (أيونيسكو )، ويبدد ذلك (الكابوس الوجودي ) حيث يغيب العقل والسماح والأمل كما يقولون، ويجعل الحياة جديرة بأن تعاش في طاعة.
الالتزام الذي قدمه الله نعمة لبني البشر، وتكريماً لهم، وحماية لكرامتهم، غير(الإلزام ) الذي يساق إليه الناس سوقاً بالسياط والحديد والنار، والذي يظلل آفاقه سحابات الرعب والوعيد والعذاب.. ذلك لأن الالتزام بمعناه الواسع ـ كما قلنا ـ هو الطاعة والالتزام هو الجحيم الذي صنعته حماقة الإنسان على الأرض.
الأدب الإسلامي وعلم الجمال
إن طبيعة الإنسان تنجذب إلى كل ما هو جميل(1)، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله جميل يحب الجمال )، وقد شاءت قدرة المبدع البديع الخالق سبحانه وتعالى أن يجعل من الجمال ـ في شتى صوره ـ مناط رضى وسعادة لدى الإنسان، واستساغة الجمال حق مشاع، وربما تختلف مقاييسه من فرد لفرد، ومن عصر لعصر، لكنه اختلاف محدود قد يمس جانباً من الجوانب، أو عنصاً من العناصر التي تشكل القيمة الجمالية، ولم يقف الإحساس بجمال عند النظرة الشاملة، أوالانطباع المبهم أو الإيحاء التلقائي السريع، ويقول الدكتور زكي نجيب محمود: (الإنسان العادي من جمهور الناس، إذا عرف في حياته الجارية، كيف يفرق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحبط به من أشياء، فإنه مع معرفته تلك، يظل بعيداً أشد البعد عن القدرة على بيان الأسس التي إذا توافرت في شيء ما، كان ذلك الشيء جميلاً، وإذا غابت عن شيء ما، كان ذلك الشيء مسلوب الجمال، بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس، وقد يحدث هنا أن يتصدى للممشكلة مفكر موهوب في عمق التفكير ودقته، فيتناول هذه التفرقة بين الجمال والقبح، حتى يصوغ أسسها ومبادئها وشروطها، وعندئذ يقال عن مثل هذا المفكر: إنه فيلسوف، كما يقال عما يكتبه في هذا الموضوع: إنه (فلسفة الجمال)، ولنلحظ هنا أن عملية النقد في مجال الفن والأدب، إنما هي فرع يتفرع عن ( فلسفة الجمال)، ولذلك فقد يختلف النقاد في الأساس الذي يقيمون عليه نقدهم، باختلافهم في المذهب الفلسفي الذي يناصرونه ) (1).
ومن الخطأ أن نعتقد أن للجمال مقاييسه الحسية وحدها، تلك التي تقع عليها العين، أو تسمعها الأذن، أو يشمها الأنف، أو يتذوقها اللسان، أو تتحرك لها لمسات الأطراف العصبية، فالجمال مادة وروح، واحساس وشعور، وعقل ووجدان، فإذا التقى فلاسفة الجمال في بعض الجوانب أو العناصر، فستظل هناك في عالم الجمال مناطق يعجز الفكر الفلسفي عن إدراك كنهها، والوصول إلى أبعادها، فليس العقل وحده هو القوة القادرة على استكناه كل أسرار الوجود وما خفي فيه، ولحكمة يقول الله في كتابه العزيز (.. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ( الحج: 46).
لقد استطاعت الفلسفات القديمة أن تصل إلى قناعة بأن القيم الثلاث (الحق ـ الخيرـ الجمال ) هي القيم الكبرى في الوجود، وأنه تحت مظلة هذه القي م الكبرى تندرج القيم الإنسانية جميعاً فروعاً لها، وقيمة (الخير ) تلك تنبثق من التفرقة بين ما هو رذيلة وشر، وبين ما هو فضيلة وخير، هذه التفرقة يقوم بها مفكر موهوب ـ طببقاً للتصور الفلسفي ـ يتميز بدقة التحليل، ونقاذ البصيرة، فيصوغ تلك الأسس التي على وجودها تبني الفضيلة، وعلى غيابها تبني الرذيلة، فإذا تحقق لذلك المفكر ما أراده، عددناه فيلسوفاً، وعددنا ما كتبه (فلسفة الأخلاق ) (1).
أما إذا كانت التفرقة بين الخطأ والصواب، بحيث يقوم بها مفكر دقيق، أوتي سعة الأفق، وأصالة الدقة، كان ذلك هو (علم المنطق ) وهو فرع من الفلسفة، وعن طريقة نصل فلسفياً إلى قيمة (الحق ).
الحق والخير والجمال إذن هي القيم الثلاث الكبرى في الفلسفات القديمة، وهي صناعة عقلية بشرية بحتة، ترعرعت في ظل التجربة والتاريخ والأحداث، ويقول الأستاذ محمد قطب في منهج الفن الإسلامي: إن كلا من الفن والدين يعبر عن الحقيقة الكبرى، كما يقول: إن القرآن يوجه الحس البشرى للجمال في شيء، وإنه يسعى لتحريك الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوباً حياً مع الأشياء، والأحياء، وهنا يتلقي الفن بالدين.. ( والفن الصحيح هو الذي يهيىء اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندما كل حقائق الوجود ) (2).
والجمال ليس قيمة سلبية لمجرد الزينة، كما أنه ـ كما أسلفنا ـ ليس تشكلاً مادياً فحسب، ولكنه بالمعنى الصحيح حقيقة مركبة في مداخلها وعناصرها وتأثيراتها المادية والروحية، وموجاته الظاهرة والخفية، وفي انعكاساته على الكائ ن الحي، لأن أثره يخالط الروح والنفس والعقل، فتنطلق ردود أفعال متبانية، بعضها يبدو جليّـا، وبعضها الآخر يفعل فعله داخلياً، لكن محصلة ذلك كله ما يتحقق للإنسان من سعادة ومتعة، وما ينبثق عن ذلك من منفعه، تتجلى فيما يأتي أو يدع من أفعال وأقوال، وفيما يحتدم داخله من انفعالات ومشاعر، والجمال بداهة لا يرتبط بالمظاهر الحسية وحدها، وهذه قضية، هامة من وجهة النظر الإسلامية الشهوة البهيمية، وارتكاب الرذيلة، واشباع الرغبة الاثمة، وجمال الطبيعة وما فيها من ورود وزهور وأنهار وجبال وطيور، وليس مجرد جمال سطحي، لكنه ينبع من قوة قادرة، خلقت فأحسنت، وصنعت فخلبت الألباب والأبصار، وأثارت الفكر والتأمل، وفتحت أبواب الإيمان واليقين بهذ ه القدرة المعجزة الخالقة، وإذا كان الاستمتاع بالجمال مباحاً في الأصول الإسلامية، فإنه مدخل إلى ارتقاء الروح والذوق، وسمو النفس وخلاصها من التردي والسقوط، ومحرك للفكر كي يجول إلى ما هو أبعد من المظاهر الحسية التي قد كتب عليها الزوال، فالجمال سبب من أسباب الإيمان، وعنصر من عناصره، والقيم الجمالية الفنية تحمل على جناحها ما يعمق هذا الإيمان ويقويه، ويجعله وسيلة للسعادة والخير في هذه الحياة.
والفلسفات المعاصرة ـ كما يقول الدكتور زكي نجيب محمود(1) : قد صبت الاهتمام كله على الكون في طبيعته التي نحيا بين جنباتها، فكأنما الإنسان في عصرنا هذا، قد اتجه بفكره نحو بيته الذي يقيم فيه، يحاول معرفة، فلم يظهر من فلاسفة العصر بنظرة لا لإثباتاً ولا نفياً ولا تعليقاً إلاّ في القليل النادر، ومن هذه الزاوية استحق عصرنا أن يوصف بما يوصف به كثيراً، وهو أنه عصر مادي، بمعنى أنه لا يجاوز حدود واقعة الذي يعيش فيه. إلى خالق ذلك الواقع بكل ما فيه ومن فيه، وهو سبحانه نالك يوم الدين، حين تفنى الدنيا ويكون الحساب .
فالمسلم إذ يقبل الجزء الأكبر مما قيل عن (البيت ) من الداخل، يرفض رفضاً قاطعاً أن تكون جدران (البيت ) هي أوله، وهي آخره، لأنه يعتقد أنه بيت إلى زوال، كان قبله أزل، وسيكون بعده أبد الخلود.
ويشير الأستاذ محمد قطب في (منهج الفن الإسلامي ) إلى أن التصور الأوروبي قائم على مادية الإنسان ، وحيوانية الإنسان، وإنكار الروح، وأن السبب في ذلك هو (الدارونية ) القديمة، التي تولدت عنها (الماركسية ) وعلم النفس الحديث، وعلم الاجتماع الحديث، وتأثر بها الأدب والفن في القرن التاس ع عشر والقرن العشرين.
ولقد تأثرت (فلسفة الجمال ) بهذه التصورات الجديدة للحياة، مثلما تأثرت فلسفة الجمال عند ارسطو بعوامل تاريخية وعقائدية، وحمل فلاسفة الجمال الجدد على كل الفلسفات الجمالية القديمة، كما حاولوا بكل قوة أو يعزلوا الفن عن الدين، وأن يصوروا العلاقة بينهما على أنها علاقة نفور وتضاد، فتارة يقولون: إن الفن غاية، شعارات الدين والسياسة وغيرهما تفسد الفنون، وتارة أخرى يزعمون أن الأديان قيود والفن حرية وانطلاق، ومرة ثالثة يدعون أن الدين عمادة الأخلاق ، والفن لا يعبأ بهذا الجانب، إذ أن الفنون في نظرهم لا تعبأ بما هو فضيلة أو رذيلة، ولكنها تهتم بكل ما هو جميل في تصوير الخير أو الشر، ففي كل جمال من نوع ما.
إن هناك من يرى أن الدين يبحث عن الحقيقة، وأن الفن يبحث عن الجمال، وهذه مقولة تحتاج إلى إعادة نظر، أليس في الحقيقة التي يقصدها الدين جمال من خاص ؟؟ ألم نقل: إن الجمال ليس مجرد صورة حسّية أو انفعاليةى ، وإن الأمر مركب، وليس على هذا النحو من التبسيط والسهولة؟ ثم ألا يبحث الفن أيضاً في إبراز الحقيقة ؟ إن المسرحية الجميلة ما هي إلا تصوير للصراع بين الخير والشر، أو بين الفضيلة والرذيلة، وإن المأساة تعكس هموماً إنسانية، وتشير إلى حقيقة أو مجموعة من الحقائق، والقصة تفعل الشيء نفسه بأسلوب مغاير ، وفي الإمكان ـ دون حيف ـ أن ننظر إلى الشعر إلى الشعر عموماً النظرة نفسها، ومن ثم يمكننا القول: إن ألوان الآداب المختلفة قد تبلور حقيقة نفسية، أو تجسد واقعاً اجتماعياً، أو تبرز قيمة من قيمة من القيم العليا في إطار معين ، وهكذا نرى أن الآداب لنا ألواناً من الحقيقة في ثوب أخاذ، أو في شكل جميل، لأن تغليف الحقيقة بما يجعلها جميلة ومؤثر ة لا ينفي عنها كونها حقيقة، وهذا الشكل الجميل الذي تزف فيه الحقيقة، يختلف تماماً عن الحقيقة العارية المجردة التي تتنتج عن البحوث العلمية البحتة، أو الفلسفية التقليدية .
إن اقتصار الفن على دور البحث عن الجمال وحده، تعطيل لوظيفة حيوية، وهو الذي يمكن أن ينقل الفنون والآداب إلى متاهات العبثية والانفلات، ومهما كان (الجمال ) مطلوباً لذاته، فإن فاعليته تكون أقوى وأجدى إذا ما الاتبطت أسبابه بتجلي الحقائق وإشراقاتها. وإذا كانت الحقائق قد شابها بعض الزيف أحياناً تحت التصورات الفلسفية وحديثاً، فإن القرآن قد وضع أيدينا على الحقائق الكبرى في الدنيا وفي الآخرة، وأعطى للمؤمن قناعات تامة لا تتزعزع في كثير من الجوانب، ولكن يبقى الباب مفتوحاً للكدح والتجربة من أجل الوصول إلى حقائق جديدة ثانية، ومن المعلوم أن صور الجمال لا تعد، وأ ن آفاق الحائق المختلفة لا تحدها حدود، والأديب المسلم يستطيع أن ينطلق دون عائق في عوالم الحق والجمال والخير والتوحيد والعدل والحب والرجاء.
وإذا كان الأدب أساساً هو التعبير الجميل، فإن (الفكرة ) هي عماد العمل الأدبي، ولها هي الأخرى جمالها، لأن العمل الأدبي كل لا يتجزأ، والجمال ينسحب على الشكل والمضمون معاً، وهذا ما أشار إليه بعض كبار النقاد، وفي الصدق الفني جمال يول حسان بن ثابت: وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يُقال ـ إذا أنشدته ـ صدقاً
والمنفعة في العمل الأدبي لا تتنافى مع القيم الجمالية، وهذا راجع إلى قدرة الكاتب وبراعته في الأداء، لكن الذي لا شك فيه أن الشعارات الفجة، والدعاوى الصريحة، قد تفسد الكثير من جماليات الفن، ولقد استطاع كتاب كبار أن يجمعوا بين المنفعة والقيم الجمالية، فابدعوا أدباً جديراً باحترام العصور، ويقول (راسين ) (1) .
(الذي استطيع تأكيده، إنني ما فعلت في مكان آخر، كما فعلت هنا (مسرحية فيدر) في ابراز الفضيلة بشكل واضح، فاخف الأخطاء هنا تنال أشد العقاب، وفكرة الجريمة ينظر إليها هنا بالرعب نفسه مثلما ينظر إلى الجريمة ذاتها، ومواطن الضعف في الحب تصور هنا كمواطن ضعيفٍ فعليه، والأشواق تصور لمحض أنها تظهر الاضطراب الشامل الذي تسببه، الرذيلة هنا تصور في كل مكان لتجعل المرء يدرك بشاعتها فيكرهها. هذه في الواقع هي الغاية الصحيحة التي يتوجب على كل امرىء يعمل من أجل المجموع أن يضعها نصب عينيه، وهي بالذات مما كان يشغل بال شعراء المأساة الأوائل قبل غيرهم، فمسرحهم كان مدرسة تعلم الفضيلة بشكل لا يقصر عما تعلمه مدارس الفلاسفة.. ).
وإذا كان (ديدرو ) يرى أن العقلانية مفسدة للشعر، فإن (فولتر ) على النقيض منه يقول: (أنا لا أقدر الشعر إلا عندما يكون زينة العقل ).
وهناك مذهب شهير في الفن يطلقونه عليه مذهب (الجمالية )، ويدخل في نطاقه مذهب (الفن للفن )، والجمالية بمعناها الواسع (محبة الجمال )، وترى طائفة كبيرة من أصحاب هذا المذهب أن قيمة الفن توجد في ممارستنا المباشرة له، وليس فيما يقال عن تاثيره في السلوك، والفن ـ كما يقولون ـ يختلف عن الحياة، ولكن الموقف الجمالي يؤكد ذلك الاختلاف إلى حد القول: إن الفن لا علاقة له بالحياة، ولذلك فهو لا يحمل مضموناً أخلاقية، والجمالية تعطي الشكل أهمية كبرى، وتكون قيمة العمل الفني في الشكل دون الموضوع، بينما يرى آخرون من أتباع الجمالية: أن الجمال قيمة لا غنى عنها، تقديرها ضروري للحياة الخيرة ولكن لا يمكن فصلها عن قيمتي الخير والحق، وهي في الواقع تأتي بعدهما.
ونرى معظم النقاد الجماليون يزعمون أن المعايير الأخلاقية والدينينة والفلسفية غير ذات مغزى تجاه قيمة العمل الفني، وإذا كان للمحتوى (المضمون ) من أهمية فهي في حدود ما يساهم فيه في إطار الانطباع الجالي العام، والنقد عندهم تقديري لا تقويمي، فمهمه الناقد (الجمالي ) تفسير الأعمال الفنية وليس الحكم عليها بالجودة أو الرداءة.
وهناك طائفة ينتمون إلى هذا المذهب أطلق عليهم (أصحاب النزعة الأخلاقية ) وهم يرون أن الأدب قد يكون ذا مغزى أخلاقي، دون أن يكون تلقيناً واضح ومباشر، أي دون الإعلام عن مغزى على طريقة الموعظة أو الحكاية التحذيرية، وقد عبر (جورج اليوت ) عن ذلك حينما طلب من الروائيين أن يدافعوا عن الاصلاحات الاجتماعية، وذلك بإثارة العواطف الأنبل، وليس بوصف إجراءات خاصة. وعلى الرغم من أن المفكر والأديب (بيتر ) كان من المحتمسين في البداية لمذهب الجمالية والفن للفن، إلا أنه عاد بعد عشرين عاماً ليقول: إن الفن العظيم لا ينفذ شروط الفن الجيد فحسب ـ وهو ما يجب أن يفعله ابتداءً ليكون فنّاً ـ ولكنه يجب أن يعالج كذلك المسائل الإنسانية الكبرى، وعظمة الفن لا تعتمد على الشكل بل على المادة ، وعندما يكون الأدب أكبر تكريساً لزيادة سعادة الناس، ولإنقاذ المظلومين، أو لتوسيع نطاق التعاطف الإنساني، أو لتقديم حقيقة جديدة أو قديمة عن أنفسنا وعلاقتنا بالعالم، مما قد يعلي من أقدارنا، أو يشد عزائمنا في مقامنا بهذه الحياة.. فإنه بهذه الصفة ـ أي الفن ـ من الفن العظيم(1).
ومن هنا نلاحظ تضاد الجمالية مع مفهوم الأدب الإسلامي عند الغلاة من أصحابها، واقترابها منه لدى الجماليين (أصحاب النزعة الأخلاقية ) الذين لا يشعرون بتناقض بين القيم الجمالية ومحتواها الفكري أو العقائدي، وقيام الأدب برسالة هادفة، لتحقيق القيم الإنسانية العليا التي تحقق السعادة للفرد والمجتمع، وتهب الحياة قوة وفاعلية، وتمدها بأسباب النجاح، وتؤكد قيم الفضيلة والحق والخير.
ولقد سأل طالب جامعي استاذه بيتر قائلاً:
ـ (لماذا يجب أن نكون اخلاقيين (في الفن ) ؟
فأجابه بيتر قائلاً:
ـ (لأن ذلك غاية الجمال ).
وقد أشار بعض الدارسين والباحثين إلى خطورة (مذهب الفن للفن ) أو الجمالية المنحرفة وخطرها على السلوك والمجتمع، وضربوا مثلاً لذلك بشذوذ (أوسكار وايلد ) وآثاره الدبية التي تروج لذلك الشذوذ والفساد الأخلاقي.
وعلى الرغم من أن المفكر الأمريكي (بو ) يقر بوجود المغزى الأخلاقي في العمل الفني بشرط أن يأتي بصورة عرضية (أو أكثر من عرضية )، إلا أنه يقسم العقل إلى:
(عقل خالص = وذوق = وحسن خُلُقي ... )
وهذه الثلاثة ـ في رأيه تتصل بالأجزاء الثلاثة في ثالوث القيم الأفلاطوني (الحق ـ الجمال ـ الخير )، فالعقل الخالص مع الحقيقة، والذوق مع الجمال، كما يرى (بو ) أيضاً أن الذوق يتصل بالواجب (الخير ) في مظهره الجمالي، وقد يستهويه جمال الفضيلة، وينفر من قبح الرذيلة.
إن الاضطراب الذي ساد المفهوم الجمالي، راجع إلى اختلاف المنطلق العقيدي الذي يبدأ منه المفكرون، وإن تزعزع القيم الدينية في الغرب، والموقف السيىء الذي وقفه المفكرون والأدباء والفنانون عامة من التصورات الكنسية وتاريخها قد ساعد على محاولة إقصائها عن الحياة والفكر والفن بصفة عامة، وهي ظاهرة خصام بين الكنيسة والفن، كما حدث بينها وبين السياسة والعلم، وقد ساهم هذا الموقف في انحرافات خطيرة للفلسفات والأداب الأوروبية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت عداوة إلى بلدان العالم الإسلامي والشرق بصفة عامكة، على الرغم من عدم وجود مبررات حقيقية لهذا الخصام في إطار المفهوم الإسلامي، ومهمتنا هنا أن نقضي على ظاهرة الخصام المفتعلة التي يحاول الضالون والمخدوعون الترويج لها في مجتمعنا الإسلامي. فالإسلام يعلي القيم الجمالية، ويعلي من شأنها، ويحيطها بسياج من العفة والنقاء والطهر، ويفتح الباب واسعاً أمام الإبداعات الفنية والأدبية الخلاقة، ويزيد (الكلمة الجميلة ) شرفاً حينما يكلفها بأعظم رسالة، وأسمى مهمة، وأرقى دعوة نزل بها الروح الأمين.
ورسالة الأدب الإسلامي، جزء من رسالة الإسلام الشاملة، ووسيلة من وسائله الفعالة، والإسلام الذي أمر المؤمنين أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، وعلمهم أن الله نظيف يحب النظافة، جميل يحب الجمال، لم يتنكر في يوم من الأيام للجمال الذي هو صنع الله وإبداعه، والبيان سحر وحكمة.. أي جمال ومعنى، صورة فنية أخاذة، وحقيقة تشرق بالخير والحق والفضيلة والنور.. أيمكن أن يكون الأدب أرفع وأروع من ذلك ؟؟
الأدب الإسلامي والمجتمع
يتوهم بعضهم أن الأدب الإسلامي يتقوقع في أحضان الماضي، وينجذب إلى الموضوعات التاريخية، وقد يرتبط شكلاً بها، سواء في مجال القصة أو الشعر أو المسرحية وغير ذلك، وآخرون يظنون أن الأدب الإسلامي لا يستطيع أن ينطلق إلى آفاق الإبداع الواسع، ويجوب تصور المستقبل، لالتزامه بقيم ثابتة لها من القداسة ما يجعل الخروج عليها أمراً مستعصياً، وترتب على هذه الأوهام والظنون نظرة ظالمة إلى الأدب الإسلامي ودوره وطبيعته وتاثيره وقيمه الجمالية، فعزلوا هذا الأدب ـ جهلاً ـ عن واقع الحياة والمجتمع، وعن قضايا العصر ومشاكلة، وعن أشواق الإنسان الجديد وأحلامه وآماله وآلامه.
وهناك فئة حسنة النية من الكتاب الإسلاميين حسبو أن الأدب الإسلامي لا يكون بهذه الصفة إلا إذا ترددت كلمة (إسلام وإسلامي ) صراحة في ثناياه، وإلا إذا كانت نبرة الكاتب بالتوجيه عالية واضحة صاخبة، متناسين أن ذلك قد يضر بالأدب ضرراً بليغاً، ويمحو الفواصل بين ألوان الأدب المتعارف عليها، وبين فنون أخرى تتعلق بالخطبة والحديث والوعظ، والأخضر من ذلك أن إخوة لنا قد فرضوا حظراً تاماً على بعض الموضوعات كالمرأة وعواطفها والعلاقات الجنسية وغير ذلك من الأمور التي تشكل حرجاً، بالإضافة إلى الحظر المفروض على بعض العبارات أو الكلمات البذيئة التي يأباها الدين، وتنبو عن الذوق السليم، واتسع نطاق الحظر عند بعض العلماء حتى حتى كاد يعطل وظيفة أدبية بنوعيتها وتصنيفها إلى جانب الشر والرذيلة والمروق ولعله من الواضح فيما أسلفنا من قول ، أن الأدب من خلال التصور الإسلامي يرتبط أشد الارتباط بالمجتمع.. بالإنسان ومشاكله وعلاقاته المتطورة والمجددة وبطبيعة الحياة التي تخضع دائماً للكثير من المستحدثات وخاصة في هذا الذي نعيش فيه، وبالعصور التالية قياساً على ما نراه، ولا شك العديد من الأسئلة الحارة التي تضطرم في قلب الحياة هذه الأسئلة لها علاقة وثيقة بتغير وسائل وأدوات الانتاج والنمو الصناعي، وبتغير توزيع الثروة، وبميزان القوى الاجتماعية في كل دولة، وموازين القوى العالمية، وبالفلسفات التي انبثقت في القرون الثلاثة الأخيرة، وما قبلها من فلسفات، وبالقيم التي تغيرت تحت إلحاح الدعوات الجديدة المارقة تحت (شعار الحرية ) القوية الجذابة، وبضعف الوازع الديني في أنحاء كثيرة من المعمورة،كما أن تخلي المرأة عن أوضاعها التقليدية، ومزاحمتها للرجل ومنافستها له، وتخلصها من القيود والأعراف التي عاشت في رحابها قروناً عديدة، وتضخم ظاهرة ما يسمى (بحقوق المرأة )، وخروج هذه الحقوق من دائرة الأمومة المقدسة، والرسالة المنزلية والأسرية، إلى مجالات السياسية والانتاج الصناعي والحرية الجنسية، وأندية الفن واللهو والتبرج، كل هذا وذاك أوجد واقعاً جديداً أكثر حدة وشراسة، وبالتالي أكثر تعقيداً ومشاكل، فكان لا بد أن تضج في مختلف الأنحاء تساؤلات ملحاحة، شغلت رجال الدراسات الاجتماعية والنفسية والتربوية والدينية والسياسية والأدبية أيضاً.
فهل في الإمكان أن يسد الأديب المسلم أذنيه عن هذه التساؤلات الصاخبة؟ إنها ظواهر لا نستطيع تجاهلها، وهي تشكل تعقيدات تحتاج إلى دراسة ونظر وتحليل، والأديب المسلم صاحب موقف، ولن يستطيع أن يؤدي رسالته على وجهها الصحيحح إلا إذا واجه تلك المآسي ـ أعني الظواهر ـ بشجاعة ووعي وتصور سليم، ومفتاح الحل معضلة يرتكز على نقطتين:
الأولى: توصيف الظاهرة، ومعرفة أبعادها وأسبابها ودوافعها، والخط المتوقع لمسيرتها ونهايتها أو تطورها إلى ما هو أخطر وأعتقد، وإدراك أبعادها الداخلية والخارجية (النفسية والمجمعية )..
الثانية: التصور الفكري، أو المنهج المناسب، أو العقيدي الراسخة التي يمكن استخدامها في التقويم، وفي معالجة هذه الظاهرة، حتى تستقيم الحياة، وتكون أكثر بهجة وسعادة.
وإذا كان ذلك هو أسلوب عام في تشخيص الظواهر والتعامل معها، إلا أن طريقة الباحث الاجتماعي، أو العالم النفسي، أو العالم الديني. تختلف عن طريقة الأديب أو الفنان، الذي يتميز بخصوصية في العرض والتصوير والأداء. كما يتميز بالتركيز على جانب معين ينفذ من خلاله إلى هدفه، حتى يحقق قيمة الجمال الأساسية في الفن، إلى جوار قيمة النفع (المتعة والمنفعة للمتلقي ).
إن تضحية الأديب المسلم بقيم الصورة الفنية (القيم الجمالية ) من أجل المضمون خطر كبير، فإلى جانب إهدار مواصفات الفن،وخروجه الصارخ عن نسقه، تأتي مشكلة أخرى أعمق أثراً وهي عدم قدرته على إيصال رسالته بالطريقة الصحيحة، وخروجه من دائرة الفن إلى دائرة أخرى قد تكون الابحاث، أو الموعظة المجردة، وهذه وتلك ساحات يشغلها غير الأديب، ويقوم بدوره فيها خير قيام.
والأديب الإسلامي لا يستطيع أن يخاصم العصر أو يهرب منه إلى عصور قديمة، والأدب الإسلامي حينما يتناول موضوعاً تاريخياً (قديما ) لا يهرب في الواقع من مجابهة المجتمع أو الحياة الحديثة، إته يتناول التاريخ وعينه ععلى الحاضر، ففي التاريخ كنوز ثمينة من التجارب اإنسانية العامة الشاملة التي لا تموت بمرور السنين، إنها قضايا الماضي والحاضر والمستق بل، فإذا قدم الأديب المسلم أنموذجاً أو مثلاً نابضاً عريقاً يرمز إلى قيمة من قيم أو الخير أو الفضيلة وغيرها، أو صور صراعاً بين خير وشر، وعدل وظلم، وإيثار وأثرة، كان لمثل هذا العمل الأدبي تأثير إيجابياً، لما يتضمنه وفائدة، والتاريخ واقع الأمس، وفيه قضايا متجددة هي قضايا كل عصر، ومن قال أن الحرب والسلام، والخير والشر، والحب وتالكره قضايا بعينه ؟؟ إن المضمون لا يختلف، وإن اختلف أسلوب التناول، ب ل قد ي ختلف أو يتحور المضمون أيضاً من منظور آني، دون إخلال بقواعد التطور والثبات في الإسلام.
وليس الأديب المسلم بدعاً في تعريجه على التاريخ، فكتاب أوروبا وأمريكا قد تناولوا الأساطير الإغريقية عشرات المرات ، كل بأسلوبه، الخاص، وفلسفته التي آمن بها، وفعل كتاب العالم الإسلامي المعاصرون الشيء نفسه، حتى سارتر تناول اسطورة أوديب (الذباب أو الندم ). كما تناولها توفيق الحكيم وعلي أحمد بأكثر وغيرهم، وتناول غيرهم أحداث التاريخ تناولاً أدبياً أو فنيَّـاً مثيراً، بل إن رواية تاريخية لكاتبة أوروبية (في أربعة أجزاء ) حققت أهلى أرقام توزيع في العام الماضي، ما نريد أن نقوله: إن تناول المادة التاريخية بعرض جديد أو أسلوب مبتكر، لا يشكل اتهاماً ذا قيمة بالنسبة للأدب الإسلامي، لكن استلهام التاريخ لا يعني تجاهل الفترة الزمنية التي يعاصرها الأديب، فالأحداث الجارية، والتفاعلات الأنيفة التي تهز المجتمع المعاصرجديرة دائماً بالالتفات والنظر، وهي تعني أن الأديب الإسلامي يعايش واقعه، ويحمل هموم مجتمعه فتؤرق نومه، وتهز وجدانه، وتحرك فكره، وتثير الحيوية والحرارة في قلمه، فيعبر عنها التعبير الفني الجميل، فإذا ما تحدث استمع إليه الناس، وشعروا أنه معهم، وأنه يشاركهم العناء، وأنه يترجم عن قلقهم وآلامهم وآمالهم بأسلوب يجذبهم إليه، فتتأكد تلك العلاقة الفكرية والروحية بين المبدع والمتلقي، ويحدث التجاوب الخلاق الذي يساهم في حفز الهمم، واتخاذ المواقف، وصنع التغيير إلى الأفضل. أما الزعم بأن الأدب الإسلامي ينطلق من مقولات ثابتة لا جديد فيها. وإن الإنسان (القارىء أو المشاهد ) يحتاج إلى الجديد.. والجديد دائماً، وهذه طبيعة الحياة، هذه المقولة في الواقع تنبىء عن سوء فهم أو سوء نية، فالأديب مهما كان مضمونه ـ إذاً أراد النجاح ـ لا بد أن يقدم رؤية جديدة، إن مئات الألوف من القصص والمسرحيات صورت صراع الخير والشر، لكن لكل واحدة منها مذاقها الخاص، ورموز الخير والشر في الأديان السماوية تكاد تكون واحدة، ونرى ذلك في (قصة الخلق ) ـ آدم وحواء والملائكة وإبليس ـ كما في دعوة الأنبياء والرسل إلى الفضيلة والحب والعدل والإخاء، وتترجمه ملايين الأحداث على سطح البسيطة في كل صقع وعصر، ولكن يبقى أمر هام وحيوي أشرنا إليه فيما سبق، وهو يتعلق بالتط ور والثبات في عقيدتنا الإسلامية الكاملة، وهي الرسالة الأخيرة إلى الأرض، وقد حسمت النصوص هذه القضية الحساسة منذ البداية، اللهم إلا إذا توهمت الهرطقات الضتالة أنه في الإمكان العديل لمنهج .. حاشا لله..
ولقد وضع الإسلام ضوابط وأطر عامة لمسيرة المؤمن في نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، وفي تناوله لقضايا المجتمع ومشاكله، وفي علاقات الإنسان وممارساته. وفي طبيعه هذا الكائن الحي الذي يمر بمراحل معينة من النمو، وتجري عليه القوة والضعف، والخوف والشجاعة، والطمع والقناعة، والصلاح والطلاح، والصحة والمرض، والنطنة والجهل، والهداية والضلال. ويبقى الحق حقّـاً، والخير خيراً، والشر شراً، على ضوء الهدى الإلهي، والتوجيه النبوي، وأحكام الشريعة الغراء.
ولهذا تقرأ أسطورة (أوديب ) في أصلها، فتجد لها منحى أو مضموناً عاماً، كما تجد فيها تفاوتاً في الهدف والأسلوب عند سارتر أو الحكيم أو بأكثر أو غيرهم من كتاب الشرق والغرب، وكل واحد من هؤلاء يوظف الحدث بطريقة خاصة ليعبر عن قيمة من القيم تتفق وفلسفته أو عقيدته.
ويظل القارىء يحترم قيمة (الشجاعة ) مثلاً، لا كفعل مجرد، ولكن لارتباطها بقيمة من القيم الخالدة، فشجاعة المجاهد في سبيل الله، غير شجاعة اللص أو قاطع الطريق، وشجاعة الطاغية أو القائد السفاح، غير شجاعة صاحب القلب الطاهر، والفكر النير، بل إن شجاعة القلب (الجسور ) غير شجاعة العقل (الألمعي ) ورحم الله شوقي إذ يقول:
إن الشجاعة في القلوب كثيرة ووجدت شجعان العقول قليلاً
ليست الشجاعة كقيمة تصوراً مجرداً، ولكنها ترتبط بإيمان الإنسان، وقدرته على التضحية من أجل قضية عليا، والتفاني في إعلاء الحق، وإحياء العدل، وقهر الشر، وحماية المقهورين والمستضعفين، أي جديد وأي قديم في ذلك؟ وكيف نسطتيع أن نتصور بقاء حياة إنسانية راقية دون هذه المقومات الأساسية.
إن القيم النابعة من الإسلام هي المقومات الأساسية لبناء حياة جديرة بأن تعاش.. وعندما تتلبد السحب، وتحارب وتسجن هذ ه القيم، فسيكون ذل ك بمثابة إعلان عن بداية الشقاء البشري.
ثم يأتي ذلك الموضوع الحساس الذي يتعلق بالمرأة، وحركتها في المجتمع، إن هناك واقع قائم يتعلق بوضعية المرأة، وهناك أمل في تناول هذه الوضعية بالنظر ومحاولة السموبه على ضوء المعايير الإسلامية الصحيحة.
إذا برزن المرأة في أي أدبي، انصرف الذهن مباشرة إلى غريزة الجنس، وإلى الحب بمعناه المحدود، وإلى العواطف المشتعلة والانغماس في اللذة البهيمية، وما يتبع ذلك من تصورات وانفعالات.
ولقد تمادت الآداب العالمية في ابراز هذا الجانب الجنسي وركزت عليه، حتى أصبح أمراً يكاد يكون مألوفاً لا يثير الدهشة أو الغرابة أو الاشمئزاز، وغرقت السينما أيضاً في هذا البحر الهائج من الإثارة والإغراء، وأصبحت هناك سينما وجلات ونجوم تخصصوا في هذا اللون من الفن الساقط. ووجد ذلك قبولاً لدى المراهقين والمنحلين وتجار الرقيق الأبيض، أصبح الجنس سلعة رائجة في سوق الفنون الحديثة، وانتقل الوباء إلى أمم الشرق الإسلامي، وفعل فعله في إتلاف القيم والخلاق، وسمم العواطف والأفكار، ودمغ الأدب ـ بالنسبة لعلماء الدين والأخلاقيين والمصلحين ـ بالفساد والرذيلة.
والمرأة كما يقال نصف المجتمع، وهي كالرجل لها أشواقها وآمالها، وتنتابها عوامل القوة والضعف، والنصر والهزيمة، وتستقيم وتنحرف، ولها مشاكلها كعضو في الهيئة الاجتماعية، لكن رسالته الأولى ترتبط بواجباتها الزوجية وبالأ موة، ولقد وضع الإسلام لها الإطار الصحيح الذي تسعد به، وينعكس على المجتمع بالخير والفلاح، كما أوضح لها حقوقها المختلفة في الزواج والطلاق والميراث والتعليم وغير ذلك من الأمور التي لا مجال للاستطراد فيها.
ما هو موقف الأدب الإسلامي ـ في تصورنا ـ حيال هذه القضية؟
بداهة لا يمكن أن يتجاهل هذا الجنس، وهو أمر لا خلاف عليه. والمرأة أم وابنة وأخت وزوجة.. والمرأة قارئة وعالمة وشاعرة وكاتبة.. والمرأة طبيبة ومعلمة وممرضة ومصلحة اجتماعية، وغير ذلك من المواقع المختلفة التي حفل بها التاريخ قديماً وحديثاً، ومن يتصفح التاريخ الإسلامي ومواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين يستطيع أن يخرج ببعض النتائج الهامة في هذا الجانب.
هناك المرأة التي جاءت إلى الرسول تشكو من أنها لا تحب زوجها ولا تطيق الحياة معه.. وهناك النسوة اللائي بايعن الرسول صلى الله عليه وسلم، والللائي ضمدن جراح المصابين في المعركة، ثم المرأة التي وقفت تنافح بسيفها أعداء الله عن رسول الله، ثم المرأة التي جاءت لتعترف بأنها زنت.. أو التي أقيم عليها الحد وقال عنها الرسول (لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم.. )
وتلك المرأة الجميلة (زوجة الشهداء ) التي تزوجها إبن ابي بكر رضي الله عنهما، فافتتن بجمالها حتى كادت تصرفه عن أداء بعض الصلوات، فأصر أبوبكر على تطليقها من ولده، فعانى من ألم وحزن شديدين، حتى توسط له بعض الصحابة، فردها إلى عصمته بعد أن وعد بالالتزام بفرائضه وواجباته الإسلامية، وظل وفيا بعهده إلى أن مات شهيداً..
ما أكثر الأحداث التي وردت عن النساء في التراث الإسلامي، ولم يكن نوعاً معيناً، بل حفل التاريخ بنماذج عديدة، فيها السىء والحسن، والفاسد والصالح، والمستقيم والمنحرف.
حتى الانحراف في المرأة لم يكن ينظر إليه على أنه لعنة أبدية، ولكن ينظر إليه كمرض أو كلحظة ضعف تحتاج إلى من ينهض بها أو يقويها، حتى تبرأ من آثاره ومضاعفاته، وحينما سمع عمر بن الخطاب امرأة تترنم بشعر الشوق والهيام تحت جنح الليل، لم يعاقبها على تصرفها، وإنما ذهب ليسأل عن المدة التي تستطيع المرأة أن تتحملها دون زوجها، وعندما علم بالحقيقة أصدر أوامره ـ كقائد ـ بترتيب أمور الجند بحيث يعودون لزيارة زوجاتهم من آن لآخر. إنه اعتراف بالحقيقة وبنوازع البشر واحتياجاتهم الجسدية والروحية، لأن تجاهل مشاعر الإنسان واحتياجاته الضرورية فيه ظلم
فأية أمور تخص المرأة يمكن الحظر عليها في الأدب الإسلامي؟
إن منطقة الحظر ليست كما يظن بعضهم ـ فهي محدودة جداً.
الأدب الإسلامي يستطيع أن يتناول المرأة من شتى جوانب حياتها، بشرط ألا ينزع بالقارىء أو المتلقي منازع الفتنة والإثارة والاغراء بإرتكاب الموبقات ، والواقع هذا كلام قد يبدو مقبولاً في إجماله، لكن الصعوبة قد تأتي عند التطبيق، ومن ثم فهي تتراوح في مدى إمكانية النجاح من كاتب لآخر، لكن الأمر يجب ألا نغفله هو: إلى أي شيء ترمز شخصية المرأة في أي عمل أدبي؟ قد ترمز المرأة فس قصة من القصص مثلا إلى الطهر والنقاء، ومن ثم فإن الكاتب يصورها وهي تقاوم الإغراء، وتتجنب السقوط تظل متمسكة بطهرها ونقائها، وتكتمل الصورة كلما حاول الكاتب إلقاء الضوء على شخصيات (الشياطين ) الذين يحيطون بهذه المرأة، ويزينون لها الإثم، ويفلسفون الرذيلة، وهي تقف بين نداء ضميرها ودينها وبين وسوسة الشهوةوالإغراء، لكنها في النهاية يتحقق لها النصر على الضعف والهوى والفساد..
وقد ترمز شخصية المرأة في قصة أو مسرحية إلى بيئة منحطة، وسلوكيات متهتكة، وتسيب أخلاقي لسبب أو لاخر، والكاتب هنا لا يستطيع أن يرسم الصورة المعبرة بدقة، إلا إذا انتخب الأحداث والحوار المناسب لهذه الشخصية المتبذلة فلن يكون رداء مثل تلك المرأة إلا ترجمة لانحرافها، ولن يكون حديثها إلا تعبيراً عن فساد ممارساتها وتكوينها، ولن تتسم تصرفاتها إلا بما يثير الإشمئزاز والضيق والنفور. ولا تكون هذه الصورة دائماً دعوة الاقتداء بها، والنسج على منوالها، ووظيفة الكاتب المسلم هنا أن يختار ما يثير الرفض والإدانة لهذا المسلك المعيب، لا ما يبرر الانطلاق في دنيا الحرية الآثمة، ويرى بعض النقاد الإسلاميين أن على الأدب الإسلامي الاقتصاد في مثل تلك الصور والمشاهد، وهذا رأي يحتاج إلى نظر، لأن الأمر ليس أمر (الكم) ولكن (الكيف )، فقد يكون الاستطراد والاطالة ضرورية لبسط الصورة، وتوضيح الفكرة، وتشريح السلوك المنحل، حتى يكون انطباع النفور قويّاً شاملاً وحتى يستطيع الأديب أن يوصل رسالته إلى المتلقي بوضوح وإيجابية، أما الإيجاز يقتضي التفصيل، أو الإطالة فيما يحتاج إلى اختصار وتركيز، فكلاهما يضر بالعمل الفني، ويؤثر في النتيجة النهائية، أو بلوغ الهدف النبيل الذي يطمح إليه الكاتب المسلم.
في روايتي (رحلة إلى الله ) كنت أهدف إلى تشريح شخصية قائد السجن وما تميز به من شذوذ وقوة وطغيان، وجعلته محوراً تدور حوله كثير من الحداث، ولم يكن هذا الطاغية مجرد سجان، بل كان صورة مجسدة لفساد الحكم والإدارة والتربية والمنهج، لقد انعكست عليه كل خطايا العصر، حتى في علاقاته الخاصة، وحياته المنزلية، وصداقاته ونظرته إلى الإنسان والحيوان، كان سيرة حية للضياع والضلال الأكبر الذي يسم الحكم والسادسة والرؤية، كما حاولت من خلال تعامله مع الضحايا والشرفاء الذين يرسفون في الأغلال، أن أبين عدالة قضيتهم، وصق توجههم، واستعذابهم للجهاد والتضحية في سبيل الله، وكان رأي النقاد الإسلاميين وغير الإسلاميين مشيراً إلى نجاح العمل الأدبي شكلاً ومضموناً.
ليست القضية إذن عدد السطور أو الصفحات التي تصور اللحظات الساقطة الخاطئة في حياة المرأة الفاسدة أو الرجل الفاسد، ولكنها تعتمد على مدى الأثر الذي يتركه العمل الأدبي في نفس الملتقي كما أسلفنا.
يقول جونسون (لأن الرذيلة يجب أن تُكشف، لا بد وأن تثير النفور دائما ً). وهو يضع أيدينا بهذا القول على لب القضية، ليس المهم هو (كم ) نكتب في تصوير السلوك الشائن، ولكن المهم هو (كيف ) نكتب.. لكي نصل إلى ما سماه (جونسون ) (إثارة النفور ) لدى المتلقي.
وقد أشرت إلى قضية (الجنس ) في (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) وفي بعض المقالات(1). من خلال تحليلي لقصة (يوسف ) في القرآن الكريم، ومعظم كتب النقاد والمنظرين النقديين الإسلاميين أشاروا إلى القصة نفسها بعد ذلك، حتى أصبح من الصعب على المؤرخين معرفة من الذي بدأ بذلك، ولهذا حرصت في كتابي المشار إليه تسجيل تاريخ مقالتي الأولى بهذا الشأن في مجلة الأفق الجديد (بالقدس ). وكانت هذه المقالة رداً على شاب أردني بعث يسأل عن أدب الجنس.
وقد أثار أيضاً موضوع ظهور المرأة على المسرح اعتراضاً كبيراً لدى بعض المفكرين الإسلاميين، وقد تعرضت لهذا الأمر في كتابي (المسرح الإسلامي ) الذي بحثا عنه في المؤتمر الثالث للأدب الإسلامي بالرياض، وكان موجز ما رأيته أنه لا مانع من ظهور المرأة على المسرح، واشترطت بضعة شروط أهمها الزي المحتشم (الشرعي )، وتجنب الإثارة في الحركات المكشوفة والكلمات التي تخدش الحياء، لأن هناك قضايا وأموراً حساسة لا يمكن أن تقدم إلا من خلال المرأة، فضلاً عن أن (وضعية ) المرأة في المجتمع وما يلابسها من محاذير وحرج وسلبيات لا يمكن تناولها إلا بالتواجد المباشر.
إذا كانت الخمر محرمة، وهي أم الخبائث، فهل هذا يمنع من طرح مشكلتها وآثارها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، من خلال شخصية سكير عربيد، تتجسد فيه مأساة الخمر؟ وإذا كان قطع الطريق، وقتل البريء جريمة بشعة ممقوتة، أفلا يجب أن نتناول هؤلاء القتلة والطغاة والمنحرفين من خلال أعمال أدبية، تهدي المتلقي إلى المواقف الإنسانية النبيلة، حيث تحترم حرية الإنسان وحقه في الحياة، فلا يعتدي عليها معتد؟
وإذا كان الزنا ـ صورة الجنس المنحرف الحرام ـ وباء خطراً، أفلا يمكن تناوله بما يستحقه من تقبيح وتنفير، وما يصاحبه من مقدمات وإغراءات وسقوط ؟
والجنس في الإسلام له شرائعه وآدابه، وقد تناول ذلك بعض علماء المسلمين بقدر من الصراحة كبير، كذلك وردت بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال ذلك الحديث الذي يوصي المسلم بألا يرتمي على زوجة كالبهيمة، ولكن يقبلها ويداعبها، وإني لأذكر تلك الحلقة الدراسية التي أقيمت في بيروت (أواسط السبعينيات )، وتحدث فيها أستاذ بالجامعة الأمريكية عن مشكلة الجنس، وقال ضمن ما قال: إن دراساته أثبتت أن الانحراف الجنسية في مجتمع كلبنان سببها العقائد الدينية وما تفرضه من كبت وغموض، ولما طلبت التعلق أخذت أطرح القضية من منظور إسلامي، وقدمت عدداً من التصورات الإسلامية والنصوص حول موضوع الجنس، ثم ذكرت بعض المؤلفات التراثية التي اهتمت بالبموضوع ، وكان الحضور ـ والمحاضر نفسه أيضاً ـ في دهشة بالغة، إذ قالوا: إنهم يسمعون هذا الكلام لأول مرة، ثم تناولوا أقلامهم ليسجلوا المراجع القديمة التي ذكرتها.
إن تصورنا لموضوع الجنس يجب أن يكون واضحاً دون تعقيد أو غموض، لأن القرآن الكريم ـ كتابنا المقدس ـ عرضها في قصة طويلة، حيث تحتدم الشهوة في جسد امرأة جرئية، تتحدى القيم والموضوعات الاجتماعية، وتلهث وراء نبي الله يوسف عليه السلام، لتطفىء شعلة شهوتها وهياجها وتعلن في تبجج أمام نسوة المدينة إصرارها على الإثم.. يقول الله في كتابه العزيز:
(وقال نسوةُ في المدينة، امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، قد شغفها حُباً، إنا لنراها في ضلالٍ مبينٍ . فلما سمعت بمكرهنَّ، أرسلتْ إليهنَّ، واعتدت لهن متكأ، وءاتت كل واحدةٍ منهنَّ سكيناً، وقالت: اخرج عليهن، فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن، وقلن حاشا لله ما هذا بشراً، إن هذا ملك كريمٌ، قالت: فذلكنَّ الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما امره ليسجننَّ وليكونا من الصاغرين. قال ربَّ السجن أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه، وإلاًّ تصرف عني كيدهن أصيب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربُّه فصرف عنه كيدهن، إنه هو السميع العليم، ثم بدا لهُم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) (يوسف: 30 ـ 35).
وللقرآن الكريم نسق متفرد معجز في قصصه (إنَّ هذا لهو القصص الحق )
(آل عمران:62)، ونماذجه تحتذى، لكنها تظل على القمة مثلاً أعلى، يتطلع إليها المؤمنون في كل عصر وارض، ولم يترك القرآن جانباً من جوانب الحياة الاجتماعية، او مسالك النفس الإنسانية، أو البنية السياسية والاقتصادية إلا وتناولها بمنهج رباني، وأسلوب متميز (.. ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ٍ) ( الأنعام : 38)، والرسول صلى الله عليه وسلم (كان خلقه القرآن ) وأمتنا أمة القرآن، ومنه نأخذ النور والعون والهداية، وعلى طريقه نصل إلى قيم الحق والخير والجمال، ومن آدابه وأحكامه تتشكل علاقاتنا وأفكارنا وآدابنا، ومن فضل الله أنه كان قرآنا عربياً، وبلسان عربي مبين، وغير ذي عوج، يمتلىء بالعظات والأمثال (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ ) (الروم: 58).
والأدب الإسلامي حينما يحتفي بقضايا المجتمع والعصر. فإنه ينهج نهج القرآن الكريم، وأحاديث نبينا المختار، صاحب الرسالة العظمى عليه الصلاة والسلام.
تبقى علاقة الأديب المسلبم بمجتمعه، أية علاقة تلك؟ هل تعكس هذه العلاقة استجابة الأديب لواقع المجتمع والتعبير عما يدور فيه؟ إذا كان الأمر على هذا النحو من التصور، فإن دور الأديب يبدوا سلبياً، وقد يبقى الأمر في هذا المجتمع على ما هو عليه من فساد، وهنا تنعدم (المسؤولية الأدبية ) أو(الرسالة )، ويصير الالتزام ضرباًَ من الجمود على ما هو قائم، وتمجيداً لما هو راسخ، ومن ثم تزمن العلل الاجتماعية، وتنطمس معالم التغيير الايجابي والتطوير، ويصبح الأدب بحق مجرد تسلية وترفيه، لكن طبيعة الأدب الإسلامي تنفر من هذه الاستاتيكية) فالإسلام حركة ونمو وفعل متواتر، وصعود دائم، وغايات وآمال تتحقق، لتصب في الغاية الكبرى التي من أجلها كان خلق الإنسان على هذه الأرض، وما نقوله الآن ليس بدعاً.
يقول الأستاذ الدكتور عز الدين لإسماعيل في كتابه القيم ( الأدب وفنونه ) (1):
(فالأديب حين يتأثر بالمجتمع، إنما يعكس فهمه هو على هذا المجتمع، والأدب تصوير لهذا الفهم ونقل له، أما أن ينقل الأديب حياة المجتمع، أو يكون المرآة العاكسة لحياة هذا المجتمع، ليتلقاها أو يراها المجتمع ذاته، فعبث ليس من الأدب في شيء ) .
فالأديب يتخذ لفسه دائماً موقفاً فكرياً من مجتمعه، ومن هنا فقط تأتي الفرصة لأن نقول: إن الأديب في مجتمعه، إنه يعيش في مجتمعه، ولكنه لا ينتج أدبه إلا في الحالة التي تستقل فيها ذاته عن هذا المجتمع، متخذة موقفاً فكرياً خاصاً به.
(الحد الفاصل بين الأدب العظيم والأدب التجاري غاية في الدقة، فالأديب العظيم يستطيع أن يؤثر في مجتمعه، وأن يمتسب رضاه دون أن يخضع لإرادة هذا المجتمع، بل ربما استطاع تحقيق ذلك وهو يقف معارضاً للمجتمع، والأديب التجاري وحده هو الذي يتملق الجماهير، ويخضع لها، ويترك إرادته تذوب في إرادتها، الأول هو الذي يؤدي دور الأديب الحق في مجتمعه، حين يتأثر بهذا المجتع ثم يحاول التأثير فيه، وهو تأثير له خطورته، لأن له خطته وهدفه، أما الثاني فلا يمكن أن يكون عامل دفع في مجتمعه، لأنه سيترك المجتمع يدور في نطاق ذاته.. )
والمضمون الاجتماعي للعمل الدبي بهذا المعنهى لا يستمد في الحقيقة من واقع الحياة في المجتمع، بل من (موقف ) الديب الفكري من الحياة في هذا المجتمع، والمضمون في ذاته قيمة، وهو قيمة تتولد عن موقف الأديب الفكري من القيم الأخرى السائدة في المجتمع).
(والأديب له فرديته ولا شك، ولكنها الفردية المتحققة بوجود المجموع فيها، وهو كذلك له عبقريته المبدعة، ولكن ما يبدعه لا تكون له قيمة إلا بما يحدث من أثر المجموعة ).
إن علاقة الأدب الإسلامي بالمجتمع علاقة وطيدة، وهي تستمد خيوطها من التصور الإسلامي العام، ولا ينظر الأدب الإسلامي إلى المجتمع (نظرة دونية ) مهما تعاورت ذلك المجتمع نوب الفساد والانحلال والضلال، فالمسؤولية المقدسة في عنق الأديب المسلبم تجعله يهدف أول ما ما يهدف إلى تحقيق السعادة والتوزان النفسي لدى الأفراد، واعتدال الموازين بين فئات المجتمع، والانطلاق من موقف إيماني صحيح والنظر إلى سوءات الحياة الاجتماعية نظرة الطيب لمريضه، حيث تقتضي هذه العلاقة الحب والفهم والولوج إلى القلوب لتحقيق الثقة والإيمان والأمل والقناعة الخاصة، ومن ثم يتولد (الموقف ) الإيجابي .. الموقف الذي يتحول إلى مماترسة وتغيير للأفضل.
الإبداع والتربية
من الطبيعي أن يكون الإبداع ـ في المنهج الإسلامي ـ وسيلة خاصة من وسائل التربية، وبعيداً عن المصطلحات والمداس المختلفة لتفسير العلاقة بين الإبداع والتربية، فإنه يمكننا القول: إن الإبداع الفني أو الأدبي له تأثيره المتميز على نفسه المتلقي وفكره سواء أدرك المتلقي ذلك أو لم يدركه، إن البهجة أو المتعة التي يخلفها الأثر الأدبي، أو استئناف التفكير في المشاكل أو الصراعات التي يطرحها الفنان، أو اتخاذ موقف من المواقف، إنما ينبع ذلك كله مما نسميه بالتأثير، حتى ولو افترضنا أن الفنان كان جمالياً صرفا، وتلك المصطلحات التي نقرأ عنها في التراث المسرحي القديم عند الإغريق أو الرومان كالتطهير أو التعاطف أو التسامي وما إلى ذلك، إنما ترمز جملتها إلى الأثر التربوي للإبداع، كما تعبر عن التفاعل الوجداني بين ذلك الأثر والمتلقي، ولا نستطيع أن نفصل المضمون الفكري عن الشكل الفني في هذا التصور، فكلاهما ترجمة متلاحقة للإبداع الصحيح.
والأدب الإسلامي يتمثل ذلك المفهوم، ويوظف إمكاناته المختلفة في إحداث الأثر الإيجابي، المرتبط بذات الأديب المسلم وتصوراته وتطلعاته، ويأتي هذا تلقائياً دون تصنع أو زيف، لأن التكليف يوهي من عرى الإبداع، ويعطل من تأثيره الفعال، ويهبط بمنزله الأديب إلى مرتبة تجعله قاصراً عن القيام بدوره، في تخليص الإنسان من الوثنية والانحراف والتخبط، وتعزله عن دوره الحضاري والاجتماعي.
يقول الدكتور منير مبشور(1): إن العلاقة بين الإبداع والتربية قد بدئ الاهتمام بها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي تنقسم إلى فترتين رئيستين الأولى يمكن تسميتها بالفترة الانطباعية أو الاستنباطية وهذه تبدأ مع العالم (فرنسيس جالتي) الذي كتب عام 1869 حول موضوع الإبداتع واعتبره عملية وراثة، أما الفترة الثانية فهي الفترة التجريبية أو الاستقرائية التي بدأت مع السلوكين، وبلغت ذروتها بعد تجارب العالم الأمريكي (جلفورد) وهي التجارب المشهورة في أوائل الخمسينيات.. ولا شك أن الفترة الانطباعية تختلف عن التجريبية، وذلك بأن الذين بحثوا في عملية الإبداع ودوافعه استندوا إلى قراءاتهم الخاصة (بالنسبة للانطباعيين) لشخصيات أبطالهم، واستخدموا وسائل الاستنباط والمنطق الداخلي للتوصل إلى خلاصاتهم دون استقراء آراء وأفكار هؤلاء الأبطال أنفسهم بشكل مباشر، بينما ـ على العكس من ذلك ـ توصلت الفترة التجريبية إلى خلاصاتها استناداً لاستجابات أشخاص محددين على أساس دوائر وامتحانات ذكاء أو امتحانات إبداع واستجابات على أنواع.
ومن الضروري التأكيد على أن الطريقة الثانية تستخدم الدوائر والامتحانات لم تؤد بالضرورة إلى نتائج أهم أو حتى أقرب إلى الصحة والقبول، فالمسألة تعود إلى اختلاف فلسفي عميق بين طريقتين في المنهج.. وعلى جانب آخر في هذه الفئة (النظرية الاستنباطية أو الجماعة التي تنظر في مسائل الذات وعلم النفس ) هناك العالم الفرنسي (برجسون ) المتوفى عام 1941 وقد استعمل المنهجية الانطباعية أو الاستنباطية نفسها كما استعملها جالتي، ولكن المادة التي استخدمها (برجسون ) كانت مختلفة، فبدلاً من مراجعة حياة الأشخاص، أي تاريخ حياتهم الخاصة، عكف برجسون على الغوص في أعماق ذاته بشكل انطوائي (أو شخصي ) ليستخلص منها أهم أفكاره عن طبيعة النفس البشرية وعن عمليات المعرفة والإبداع، وتوصل إلى نظريته في (الحدس ) ونظريته في إثبات الوجود، وقد اعتبر برجسون أن الناس لا يمارسون هذا الشعور، وهو شعور الوحدة مع العالم، إلا في ظروف معينة، كما أن الناس يختلفون في القدرة على هذه الممارسة التي يعتبرها (برجسون ) قدرة فطرية، وبهذه الطريقة يلتقي مع جالتي.
ويؤكد برجسون هنا على أهمية الانفعال العميق (لا السطحي ) إزاء عملية الإبداع حيث يقول: (الابتكار وإن كان عقلياً، فإن الانفعال جوهره الثاوي في أعماقنا ) بمعنى أن الانفعال هو الذي يعطي الشرارة للإبداع..
ويرى (فرويد ) أن الإبداع عملية تسامي أو إعلاء عن دافع رغبة جنسية، في حين يظن
(أدركر ) أن الإبداع هو عملية تعويض عن شعور بالنقص، أما (كارل يونج ) فقد وسع دائرة اهتمامه أكثر حين انتقل من الشخص الفرد إلى (الشخص الجماعة )، حيث كرس جهوده إلى توضح الا شعور الجمعي أو السلالي الذي ينتقل إلى الفرد حاملاً آثار خبرة الأسلاف وتجاربهم، وهذا الشعور الجمعي عند (يونج ) هو مصدر الأعمال الفنية العظيمة، لكن العالم الألماني النفسي الفيلسوف (هايمر ) يتجه إلى ناحية أخرى، ليس باتجاه الباطن أو الداخل، كما فعل (الفرويدون ) و(برجسون )، إنما باتجاه الخارج، فحاول أن يربط بين مؤثرات الخارج بشكل جديد يتلخص بأن قوى معينة في الباطن تثيؤ اضطراباً أو قلقاً أو انعداماً في الاستقرار يؤدي إلى إدراك خصائص الأشياء بكليتها، والدافع إلى هذا هو قوة (لأنا ) من الداخل.
وعلى أي فإن (ولس ) ـ عام 1926 ـ اعتبر أن عملية الإبداع المعقدة تمر بأربع مراحل:
1- مرحلة الإعداد والتهيئة، وهذه تنشأ عند ظهور الحاجة أو المشكلة، أو الإحساس بعدم التوازن.
2- مرحلة الاحتضان أو الاختمار، حيث تختمر الأفكار والمشاعر والتجارب المتعلقة بهذه الحاجات أو المشكلات في النفس لمدة من الزمن.
3- مرحلة حالة الإشراف، حيث يتم العثور على الحل، أو تنجح الفكرة المختمرة في الخروج إلى الضوء.
4- مرحلة التحقيق، إذ يتم لها التحقق وتخضع للمعالجة
ويرى التجريبيون ـ خلافاً للانطباعيين ـ أن الإبداع صفة عامة يمتلكها جميع الناس، وأنه خاضع كغيره من الخصائص التي يمتلكها الناس للتأثير وبالتالي إلى التغيير عن طريق التدريب، ويرى (كليفورد ) أحد كبار منظري المدرسة التجريبية أن أهم عوامل أو قدرات الإبداع (القدرات الإنتاجية ) هي الأصالة والطلاقة والمرونة، لكن هذه القدرات كامنة لا تنتج أعمالاً إبداعية بدون وجود دوافع أو سمات مزاجية للفرد، وخلص ـ بعد تجارب ـ إلى القول: بأن الإبداع أمر قابل للتطور، وليس أمراً مطلقاً أو مكتسباً أو موروثاً على النقيض مما قرره (جالتي ) قبل مائة عام.
إن هذه الدراسات أو المدارس الفكرية نظرت إلى (المبدع ) والإبداع من عدة زوايا، ولا نستطيع أن نخطئ هذه المدرسة أو تلك بصورة كاملة، كما أننا لا نستطيع أن نؤيد إحداها تأييداً مطلقاً، والسبب في ذلك لا يبدو غامضاً أو مختلفاً إذا نظرنا إلى الأمور نظرة واقعية محايدة، لأن العوامل المؤثرة في الشخصية ـ ومنها شخصية المبدع بالذات ـ شاملة ومتنوعة، فهناك العوامل الوراثية التي لا يمكن علمياً تجاهلها، وهناك العوامل المكتسبة من ثقافة وقيم دينية واجتماعية وأخلاقية، وهناك الظروف البيئية والنفسية والشخصية، وهناك أيضاً العلاقات (النفس بدنية ) أو السيكوسوماتية، وكون القدرات الإبداعية قابلة للتطوير لا ينفي المؤتمرات الوراثية أو المكتسبة.
والقارئ لفلسفة الشاعر الفيلسوف (محمد إقبال ) ـ فلسفة الذات ـ يدرك بعض النقاط التي يلتقي فيها مع (برجسون ) إذ أن إقبال يشير دائماً إلى نمو (الذات ) وجهادنا ونموها الدائب نحو الكمال، وانفعالها بما يسميه العشق الذي يتسم بالنقاء والطهر والتفاني والتضحية وخاصة حب الله والمصطفى، وله في ذلك قصائد طوال تنبض بالقوة والحرارة، فالذات المؤمنة العاشقة المجاهدة تتحدى الفناء، وتقهر الصعاب، وتتأبى على الهزيمة(1).
والأديب المسلم يعايش عقيدة وفكراً وسلوكاً من نوع، وهي تؤثر في مكوناته النفسية والعقلية، وفي قدراته الإبداعية، ومن الطبيعي أن تكون علاقاته الخارجية، وانفعالاته الداخلية، متسمة بلون من الصراعات أو التساؤلات التي تنبعث أساساً من موقفه من الحياة وحركتها وما تموج به من تناقضات وصراعات، وليس من المنطقي أن تكون نفس المؤمن خالية من هذه الحركة الموارة، فهو يرفض ويقبل، ويحب ويكره، ويحلم ويأمل، وينفعل ويعبر، إنه ليس بحيرة ساكنة هادئة نائمة، ومن يتصور غير ذلك فهو واهم، ثم إن هذا الوضع لا يتناقض مع قوة اليقين، واطمئنان النفس، وعمق الإيمان، وعظمة التسليم لله.
أن تكون علاقاته الخارجية، وانفعالاته الداخلية، متسمة بلون من الصراعات أو التساؤلات التي تنبعث أساساً من موقفه من الحياة وحركتها وما تموج به من تناقضات وصراعات، وليس من المنطقي أن تكون نفس المؤمن خالية من هذه الحركة الموارة، فهو يرفض ويقبل، ويحب ويكره، ويحلم ويأمل، وينفعل ويعبر، إنه ليس بحيرة ساكنة هادئة نائمة، ومن يتصور غير ذلك فهو واهم، ثم إن هذا الوضع لا يتناقض مع قوة اليقين، واطمئنان النفس، وعمق الإيمان، وعظمة التسليم لله.
إن صورة الحياة الهائجة المائجة المضطربة تنعكس على فكر المؤمن ونفسه فتحرك عواطفه ووجدانه، وتثير فكرة، فيبع صوراً أدبية جميلة تتسم بالحيوية والصدق، وبديهي أن استقراره العقائدي يعصمه من الزيف والزيغ والانحراف، فنحن نقبل من انطباعيين ما يوافق تصورنا، ونرفض ما يتناقض مع مفاهيمنا، ونحترم جهودنا التجريبيين، ونحتفظ بالنسبة لبعض تحليلاتهم استنتاجاتهم، فليس من المعقول أن نقبل وجهة نظر فرويد في الفن على عواهنها، أو تفسيرات (ادرلر )و(ويونج )، فلن يكون الكبت الجنسي دافعاً للإبداع، أو ترجمة لما يحدث في الفن من تسام، ولن يكون تعويضاً عن مركب نقص كامن في الإنسان، وإذا جاز ذلك في بعض الأحوال، فليس من السهل منطقياً قبوله كقاعدة عامة.
ولقد كان الإسلام أصدق تعبيراً وتحليلاً للنفس الإنسانية، حين جلى صفات القوة والضعف فيها، وحين أوضح العوامل المختلفة التي تحركها سلباً وإيجاباً، وحين ضرب الأمثلة الحية على صدق التصور الإلهي وعظمة والإنسان كشجرة تؤتي أكلها كل حين بأمر ربها، أو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.. وعطاء المؤمن الحق حينما يبدع ما هو إلى ثمر طيب لشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن ثم فإن الأدب الإسلامي وفق هذا التصور يمكن أن ينحو بالتربية المنحى الصحيح المؤثر..
لقد اجمع الدارسون في مجال الإبداع والتربية أن القهر والتسلط والكبت تعطل من القدرات الإبداعية، وتضع أثرها الهام، وتحرم الكبار والصغار من حب الاستطلاع والفضول والتعجب والدهشة والاستكشاف، والانطلاق في التفكير والتعبير، وإذا كانت هناك رغبة حقيقية في تنمية الإنسان فلا بد لنا قبل كل شيء أن نعطيه حرية التعبير، وحرية الاحتجاج، وحرية المشاركة في إبداء الرأي والقرار، وحرية أن يملك فضول الطفل وحركته، فلا إبداع بدون حرية، والقهر يدفع إلى الهروب وارتداء الأقنعة الزائفة، كما يدفع إلى الإغريق في الرموز والإبهام، ويدفع إلى اليأس والملل، وقد تتولد عنه قيم نفعية جديدة، تضر بالفن وبالتربية معاً، ولكي يؤدي الإبداع دوره البناء في التربية فلا بد له من التربية الصالحة، والهواء النقي، والتحرر من قيود الذل والهوان، والقضاء على بطش السلطة ونزواتها وأهوائها.
ولا بد أيضاً من أساليب تربوية، ومناهج دراسية، تلتزم بالقيم العليا التي نزلت من السماء مطهرة صافية منزهة عن جشع الإنسان، ورغاباته الذاتية، وأنانيته المفرطة، وأمانة الكلمة لا تتحقق إلا في ظل العقيدة السمحاء، والحرية الأصلية، فقد ولد الناس أحراراً بالفطرة، لكن الغرور الإنساني، والانحراف الأخلاقي، قد مهد لصنع القيود والأغلال.
ولا يستطيع ناقد أن ينكر ما تحلى به الشعر العربي عندنا من قيم رائدة جعلت أحد النقاد الفرنسيين المعاصريين يقول: (إن الشعر العربي في مجال الإحساس والشعور أنقى شعر عرفة الإنسان: فالأمانة والصدق والشهامة والصداقة واحترام المرأة، وقرى الضيف والكرم، وعظمة النفس والبطولة والفخر، هي بعض ما يتغنى به هذا الشعر، وهو يسمو به فوق شعر الأمم فحوله ونبلاً
ولهذا كان أسلافنا المسلمون في العصور الإسلامية الأولى يجعلون الشعر عنصراً من أهم عناصر التربية لأبنائهم، إلى جانب السير والمغازي والقرآن الكريم والسيرة والأحاديث، وليس في القيم العليا قديم وحديث، يقول الدكتور زكي نجيب محمود (1): (بينما الإنسان في وجوده الحضاري لا غناء له عن جوانب كثيرة، كلها أساسي وجوهري لذلك الوجود، إلا أن جانباً واحداً منها هو الذي يتغير مع الزمن تغيراً يصحح به أخطاء نفسه، وذلك هو جانب العلم، وأما سائر الجوانب ففكرة الخطأ ووجوب تصحيحه غير واردة فيها، فالعقيدة الدينية لها عند المؤمن بها كما من لحظتها الأولى، لأنها جاءت وحياً، وبهذا يكون معيار القياس بعد ذلك، هو الأصل كما أوحى به، وعلى ذلك فلا يكون للزمن وامتداده قدرة على تكملة ما هو منذ أوله كاملاً، وأما مجالات الإبداع في الفن والأدب، فهي كذلك لا يسهل علينا أن نفاضل فيها بين قديم وجديد مفاضلة نفترض فيها أن ما هو جديد يكون بحكم الضرورة أصح وأكمل مما هو قديم، وذلك لأن الأمر فيها مرهون بموهبة الفنان أو الأديب، وليس ثمة ما يمنع أن تكون أقدم موهبة أعظم من أحداثها، فماذا يمنع ألا يكون في شعراء العرب المعاصرين من يرتفع إلى مستوى شعراء الجاهلية؟؟ وماذا يمنع ألا يكون بين أدباء المسرح اليوم من ينافس سوفو كليس أو شكسبير ؟؟ .. واضح إذن أن هذه الجوانب كلها(1) التي هي بمثابة الروح في الجسد، لا تخضع للتقدم مع ما يتقدم من جوانب الحضارة، وأما الذي يتقدم بحكم طبيعته بحيث يكون اليوم أصح منه بالأمس فهو العلم ).
هل نستطيع أن نجرد افبداع من القيم ؟؟ وإذا كان الإبداع خاوياً من القيم العليا فكيف يؤدي دوره التربوي ؟؟ وهل القيم الإسلامية وقدمتها يقف حائلاً دون جدواها وفعاليتها ؟؟ ثم ما هي حدود تلك القيم ؟؟ إن مفهوم الحرية لدى الماركسيين والوجوديين والنفسيين يختلف عن مفهومها لدى الإسلاميين فهل اختلاف التصور مدعاة للحيرة والارتباك والملل والشطط ؟؟
إن اليقين المستمر في قلب المؤمن . يدفع عنه أذى التصورات الخاطئة والأوهام الفلسفية الجانحة، فهو بمأمن من الخلل النفسي والفكري الذي يتعرض له المتحللون من قيم السماء ومبادئها، ولنتساءل عن أي شيء انجلت تلك المعارك الطاحنة بين الفلاسفة القدامى والمحدثين ؟؟ إن جدلهم الصاخب سيظل محتدماً عبر العصور، إلى أن يتبينوا أن الحق كل الحق في منهج الله.
ثم .. إن الأدب الإسلامي لا يستسلم لوهم الغرور حينما يعتقد أن الإبداع الفني أو الأدبي هو الوسيلة المثلى للتربية، فالتربية الصحيحة تترعرع في ظل القدرة الحسنة أولاً، وتنمو في إطار الأسرة المسلمة، المدرسة، والمسجد أيضاً وما الفن إلا وسيلة من الوسائل المكملة أو المدعمة لعملية التربية السليمة متى استقام له الطريق ، واتضحت أمامه الرؤية ، وسار في ركب الدعوة الإلهية التي تنشد السعادة والخير للجميع، ولا قيمة لإبداع يثير التمزق والتشتت في الشخصية ، أو يورثها مزيداً من العلل والأسقام.. والله سبحانه وتعالى هو المبدع الأعظم.. هو البديع ...
مصطلحات جديدة للأدب الإسلامي
المصطلحات الكثيرة التي يكتظ بها النقد الأدبي وتاريخ الأدب العالمية، والمدارس الفنية المختلفة مصطلحات اضطربت واختلطت، وفقد أغلبها معناه، وهذه المصطلحات ولدت في ظروف خاصة، أو ارتبط بمناسبات وأيديولوجيات ولغات معينة، بدأ ذلك منذ الإغريق بتصوراتهم الدينية والأسطورية والفلسفية، وظل توليد المصطلحات سارياً عبر العصور المختلفة، ولما جاءت النهضة العلمية الأوروبية، وبرزت إلى الساحة علوم جديدة كالفيزياء والجيولوجيا والرياضيات وعلم النفس والاجتماع والمدارس التاريخية المستحدثة، استطاعت هذه كلها أن تمد الأدب بتصورات وتفسيرات ومصطلحات جديدة، فسمعنا التأريخ النفسي أو البيولوي أو الاجتماعي للأدب، وفي إطار المذهب الواحد كما قلنا حدثت تفرعات واختلافات وتناقضات، حتى أصبح الأمر مثيراً للدهشة والحيرة.
فتعلوا معنا لنرى مذهباً مثل الرومانسية.. ماذا يقول العلماء الموسوعيون عنه:
الرومانتيكي مصطلح له تاريخ بالغ التعقيد، كما أن له ـ دون مبالغة ـ ما لا يحصى من الدلالات والمعاني، لقد لاحظ الباحث الأمريكي (لا فسجوي ) ذات مرة أن لكلمة رومانتيكي من المعاني ما جعلها لا تكاد تعني شيئاً بالتحديد، وفي كتاب (تدهور وسقوط المثال الرومانتيكي ) للوكاسن (1948 ) إحصاء لنحو 11396 تعريفاً لهذا المصطلح، كما أن
(بارزوني ) لا حظ هذا المصطلح قادر على أن يدل على كل ما يريده أي كاتب من المعاني، وهو يشير إلى استخدامات له تدل على معاني: جذاب ـ متحفظ ـ عاطفي ـ خيالي ـ بلا شكل ـ استهوائي ـ خصب ـ لاعقلي ـ مادي ـ غامض ـ بدري ـ بدائي ـ زخرفي ـ واقعي ـ غبي ـ غير حقيقي ـ غيري ـ انفعالي ـ متظاهر ـ ذاتي ـ انعزالي ـ جمالي ـ شكلي ـ معنوي ـ 'نساني ـ طبيعي.. الخ حتى يصل إلى معاني جسور ـ اجتماعي ـ وحشي..
ولقد بدأ استخدام أصل المصطلح في (روما ) بكلمة (رومانسي ) التي كانت صفة تطلق على العاميات الإيطالية المتباعدة عن اللاتينية، التي كانت لغة العلم والمعرفة، أي رومانسي كانت تعني المتكلم الروماني بلا تنينية شعبية.
ثم كانت القصص والحكايات الخيالية هي أول ما عرف من المؤلفات بهذه اللغة، وأطلق عليها لهذا السبب ربما اسم (روماني ) أو (رومانسي )، وبهذا الاسم عُرف أيضاً أي كتاب شعبي مليء بالمغامرات الخيالية، والشطحات العاطفية، والانفعالات، والأعمال الغربية التي لا ترقى إلى مستوى الأساطير القديمة، ولا تعبر عما عبرت عنه الأساطير من علاقات بالأديان الوثنية القديمة وأربابها وأبطالها.
وفي القرن السابع عشر أصبحت الحكاية أو الرواية من هذا النوع، أي الرومانسي، صفة لكل عمل أدبي، غريب المكان والموضوع، مثير للخيال، مسرف في مبالغته عن مشاعر أبطاله، وسلوك شخصياته وسحري، السابقة، وكلمة رومانتيكي Romantique التي أصبحت تعني: الرقيق ـ الحنون ـ المشتاق ـ الشاعري ـ العاطفي ـ الحزين، واستخدمها الإنجليز بهذه المعاني منذ القرن الثامن عشر.. ثم تبعهم الألمان.
ذلك مثل من أمثلة المذاهب الأدبية الشائعة، التي احتلت حيزاً ضخماً في دراسات الباحثين والنقاد، وفي كتابات المبدعين، ويبدو واضحاً من هذا (المثل ) كيف تنشأ المصطلحات الأدبية، ومدى ارتباطها باللغة والعقائد والمفاهيم الفلسفية أو الاجتماعية السائدة، في مكان من الأمكنة، أو في عصر من العصور ، أو في عقيدة من العقائد، هل يمكن الاعتماد على مثل هذه المذاهب والالتزام بها؟؟ إننا لا نمانع في قراءتها وفهمها، لكننا نقف بصلابة في وجه من يلتزمون بها، وبأي شيء يلتزمون وسط هذا الركام الهائل من المعاني والأفكار؟؟
وإذا ما تركنا (الرومانسية ) واتجهنا إلى (الواقعية ) وهي من أشهر المذاهب الأدبية أيضاً، وجدنا عشرات المعاني المتناقضة المتعنتة أحياناً لهذا المصطلح، فنجد الواقعية السوداء، والواقعية الاشتراكية، والواقعية المثالية، والواقعية العلمية.. الخ من الأنواع العديدة والتي أشار إليها النقاد المتخصصون في دراساتهم المختلفة، وقس على ذلك النماذج الوجودية التي ذكرنا فيما سبق اختلاف مفاهيمها وتطبيقاتها عند كتاب تلك الفلسفة، بل إن العلماء اختلفوا أيضاً في تفسير معنى كلمة الواقع بل والحقيقة أيضاً، يقول قاسم حداد: (لأن الواقع لا يمثل كياناً ثابتاً بنية ذا بنية متماسكة ـ وإنما هو مفهوم في غاية التعقيد والتشابك ـ تتعدد أبعاده واتجاهاته وتضاريسه، المرئية وغير المرئيةـ وفق التصورات والرؤى المتعددة المتناقضة ) والواقع ـ كما يعلق عبد الله خليفة ـ مفهوم ذات ي، وليس وجوداً وكياناً موضوعياً، إنه مجرد تصور وليس (مجتمعا ً)، وبهذا تنتفي إمكانية فهمه بشكل علمي موضوعي، يستطيع كل منا أن يشكل مفهومه عن الواقع حسب الرؤى المتناقضة كافة، لقد تم إزالة الحقيقة الموضوعية هنا، ومن الطبيعي أن يظل هذا الواقع، بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة، تسهم في اكتشافه علمياً، أي أنه حتى العلم يصبح وجهة نظر ذاتية، ويمكن لأية وجهات نظر متناقضة أن تكون عملية، وبهذا يمكننا مثلاً أن نقول: إن الصراع الاجتماعي موجود، ويمكننا أيضاً أن نقول، وعلى الحالة نفسها: إنه غير موجود، ويعتبر كلا القولين علمياً، وهكذا تتم إزالة العلم باسم العلم.
وفي مكان آخر يقدم قاسم حداد رأياً آخر عن الواقع فيقول: (وكلما أوغلنا في أعماق الواقع، كلما اكتشفنا أعماقاً أكثر غوراً، وما المنجزات الفنية في التقنية والأسلوب والرؤية سوى محاولة ـ قابلة للنجاح والإخفاق ـ للإنسان بهذا الواقع وفهمه وتحليل جوهره ) ويعود عبد الله خليفة للتعليق مرة أخرى فيقول: أي أن للواقع هنا جوهراً، يمكن الوصول إليه وتحليله، وليس مفهوماً (يتمطط ) ويتشكل حسب التصورات الخاصة، أي أن للواقع وحركته قوانين مستقلة عن مزاجنا ورغاباتنا وتصوراتنا الذاتية، وحين نكتشف تلك القوانين يكون هذا هو العلم.. ومن هنا نجد ـ مما سبق ـ رأيين متناقضين: الأول، عدم قدرتنا على اكتشاف الواقع لأنه ذاتي، والثاني، يمكننا ذلك لأنه جوهر، ولكن الرأي الثاني لا يستمر طويلاً، فسرعان ما يصل إلى تعدد العلم، فبعد تلك العبارات يأتي ليقول: (ومن الطبيعي أن يظل هذا الواقع بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة، تسهم في اكتشافه علمياً ) فإننا نعود من جديد إلى العلم الذاتي، لأنه من المستحيل أن تكون هناك أكثر من نظرة علمية للعالم، وتكون كلها صحيحة وعلمية.. إنه تلاعب لغوي.. ومع إزالة مفهوم العلم والرؤية الموضوعية للعالم، أزيل الأساس المعرفي (للواقعية )، حيث لم يعد أمامها شيء حقيقي تكتشفه، وهنا يفتح الباب (للنزعة الشكلية ) (1).
لقد وقع كثير من الأدباء أسرى (الشكل ) من هذا المنطلق، وأخذوا يلعبون باللغة، وسقطوا في هوة البهارج والتقديس للألفاظ وتراكيبها، وكان ذلك على حساب المضامين الفكرية والعلمية والعقائدية، كما أن ذلك فتح الباب أمام الترويج للنزوات والانفعالات والغرائز باعتبارها ـ في إطار مدرسة التحليل النفسي ـ هي الباعث الأول والأهم للسلوك، وانغمس الأدباء في عبادة اللاوعي، حتى جنى ذلك لا على المضمون وحده، بل تخطى ذلك إلى رواسخ وأسس الشكل الفني الأصيل..
يمكننا أن ننتقل من الرومانسية والواقعية إلى الرمزية إلى اللامعقول وإلى الطبيعة والبرنانسية والعلمية وغيرها من المدارس الأدبية المختلفة لنتأكد من مدى العبث الذي يحيط بالمصطلحات، والذي لا يخلف وراءه غير مزيد من الحيرة والضياع والتخبط والإفلاس، ويمكننا ـ اختصاراً للوقت والصفحات ـ أن نحيل القارئ إلى الموسوعات النقدية سوف يتأكد له ما أشرنا إيجازاً مع ضرب المثلين السابقين، من أن موضوع المصطلحات الأدبية أو النقدية من المؤمنين بأهمية الأدب الإسلامي وقفة موضوعية..
إنني أريد أن أقول إن علينا أن نبحث عن:
مصطلحات جديدة
مصطلحات لها ارتباط وثيق بتراثنا، وبالتجاوب الأدبية والتاريخية التي مرت بنا، وبالعقيدة التي نؤمن بها، بدلاً من العيش في ظل المصطلحات الأجنبية المستوردة التي كان لها أعمق وأخطر الأثر في انحراف مسيرتنا الأدبية الإسلامية.. نعم كان لها أخطر الأثر، ويكفي أن نقول: إننا جميعاً نردد المصطلحات ونحاول أن نلبسها الزي العربي أو الإسلامي، وإذا كان هذا اضطراراً في بداية النهضة الأدبية، فإنه اليوم بات حراماً إن صح التعبير، وعلينا أن نجد في البحث عن مصطلحات جديدة بدلاً من الكلاسيكية أو الرومانسية أو الواقعية أو غيرها، أرجو ألا يستفز هذا القول الأخوة الكتاب من الإسلاميين أو غير الإسلاميين، لأن البحث عن شخصية مستقلة ليس أمراً هيناً، وإن لم نستطعه اليوم، فلا بد أن نحققه غداً بإذن الله.
وأواجه ندائي على وجه الخصوص إلى النقاد الإسلاميين، وإلى أساتذة الجامعات في العالم الإسلامي، وهذا بالتبعية يقتضي أن نعيد النظر في تراث أدٍبائنا القدامى والمحدثين الذين ارتبطوا بقيم الإسلام وتقاليد مجتمعاته السامية، واستوعبوا ثقافته وكتابه وسنة نبيه وفقهائه وأدبائه وقادة الفكر فيه.. ولن تتضح ملامح الأدب الإسلامي أو تستكمل إلا بالاهتمام بهذا الجانب الحيوي.. جانب المصطلحات الخاصة بأدبنا الإسلامي.
والله أسأل أن يفتح أمامنا أبواب التوفيق والنجاح، وأن يلهمنا الرشد إنه على ما يشاء قدير..
منقول للفائدة